الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ إِلْهَامٌ يَجْلُو عَيْنَ التَّحْقِيقِ صَرْفًا]
فَصْلٌ
قَالَ: " الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: إِلْهَامٌ يَجْلُو عَيْنَ التَّحْقِيقِ صَرْفًا، وَيَنْطِقُ عَنْ عَيْنِ الْأَزَلِ مَحْضًا، وَالْإِلْهَامُ غَايَةٌ تَمْتَنِعُ الْإِشَارَةُ إِلَيْهَا ".
عَيْنُ التَّحْقِيقِ عِنْدَهُ هِيَ الْفَنَاءُ فِي شُهُودِ الْحَقِيقَةِ، بِحَيْثُ يَضْمَحِلُّ كُلُّ مَا سِوَاهَا فِي ذَلِكَ الشُّهُودِ، وَتَعُودُ الرُّسُومُ أَعْدَامًا مَحْضَةً، فَالْإِلْهَامُ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ يَجْلُو هَذَا الْعَيْنَ لِلْمُلْهَمِ صَرْفًا، بِحَيْثُ لَا يُمَازِجُهَا شَيْءٌ مِنْ إِدْرَاكِ الْعُقُولِ وَلَا الْحَوَاسِّ، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ إِدْرَاكٌ عَقْلِيٌّ أَوْ حِسِّيٌّ لَمْ يَتَمَحَّضْ جَلَاءُ عَيْنِ الْحَقِيقَةِ، وَالنَّاطِقُ عَنْ هَذَا الْكَشْفِ عِنْدَهُمْ لَا يَفْهَمُ عَنْهُ إِلَّا مَنْ هُوَ مَعَهُ، وَمُشَارِكٌ لَهُ، وَعِنْدَ أَرْبَابِ هَذَا الْكَشْفِ أَنَّ كُلَّ الْخَلْقِ عَنْهُ فِي حِجَابٍ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّ الْعِلْمَ وَالْعَقْلَ وَالْحَالَ حُجُبٌ عَلَيْهِ، وَأَنَّ خِطَابَ الْخَلْقِ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى لِسَانِ الْحِجَابِ، وَأَنَّهُمْ لَا يَفْهَمُونَ لُغَةَ مَا وَرَاءَ الْحِجَابِ مِنَ الْمَعْنَى الْمَحْجُوبِ، فَلِذَلِكَ تَمْتَنِعُ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ، وَالْعِبَارَةُ عَنْهُ، فَإِنَّ الْإِشَارَةَ وَالْعِبَارَةَ إِنَّمَا يَتَعَلَّقَانِ بِالْمَحْسُوسِ وَالْمَعْقُولِ، وَهَذَا أَمْرٌ وَرَاءَ الْحِسِّ وَالْعَقْلِ.
وَحَاصِلُ هَذَا الْإِلْهَامِ أَنَّهُ إِلْهَامٌ تَرْتَفِعُ مَعَهُ الْوَسَائِطُ وَتَضْمَحِلُّ وَتُعْدَمُ، لَكِنْ فِي الشُّهُودِ لَا فِي الْوُجُودِ، وَأَمَّا الِاتِّحَادِيَّةُ الْقَائِلُونَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ فَإِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ ذَلِكَ اضْمِحْلَالًا وَعَدَمًا فِي الْوُجُودِ، وَيَجْعَلُونَ صَاحِبَ الْمَنَازِلِ مِنْهُمْ، وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْهُمْ عَقْلًا وَدِينًا وَحَالًا وَمَعْرِفَةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ الْمَرْتَبَةُ الْعَاشِرَةُ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ]
فَصْلٌ الْمَرْتَبَةُ الْعَاشِرَةُ مِنْ مَرَاتِبَ الْهِدَايَةِ: الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ
وَهِيَ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ كَمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ» .
وَقَدْ قِيلَ فِي سَبَبِ هَذَا التَّخْصِيصِ الْمَذْكُورِ: إِنَّ أَوَّلَ مُبْتَدَأِ الْوَحْيِ كَانَ هُوَ الرُّؤيَا الصَّادِقَةُ، وَذَلِكَ نِصْفُ سَنَةٍ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى وَحْيِ الْيَقَظَةِ مُدَّةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، مِنْ حِينِ بُعِثَ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، فَنِسْبَةُ مُدَّةِ الْوَحْيِ فِي الْمَنَامِ مِنْ ذَلِكَ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا، وَهَذَا حَسَنٌ، لَوْلَا مَا جَاءَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الصَّحِيحَةِ " «إِنَّهَا جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا» ".
وَقَدْ قِيلَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا: إِنْ ذَلِكَ بِحَسَبِ حَالِ الرَّائِي، فَإِنَّ رُؤْيَا الصِّدِّيِقِينَ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ، وَرُؤْيَا عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقَةَ مِنْ سَبْعِينَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالرُّؤْيَا مَبْدَأُ الْوَحْيِ، وَصِدْقُهَا بِحَسَبِ صِدْقِ الرَّائِي، وَأَصْدَقُ النَّاسِ رُؤْيَا أَصْدَقُهُمْ حَدِيثًا، وَهِيَ عِنْدَ اقْتِرَابِ الزَّمَانِ لَا تَكَادُ تُخْطِئُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَذَلِكَ لِبُعْدِ الْعَهْدِ بِالنُّبُوَّةِ وَآثَارِهَا، فَيَتَعَوَّضُ الْمُؤْمِنُونَ بِالرُّؤْيَا، وَأَمَّا فِي زَمَنِ قُوَّةِ نُورِ النُّبُوَّةِ فَفِي ظُهُورِ نُورِهَا وَقُوَّتِهِ مَا يُغْنِي عَنِ الرُّؤْيَا.
وَنَظِيرُ هَذَا الْكَرَامَاتُ الَّتِي ظَهَرَتْ بَعْدَ عَصْرِ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ تَظْهَرْ عَلَيْهِمْ، لِاسْتِغْنَائِهِمْ عَنْهَا بِقُوَّةِ إِيمَانِهِمْ، وَاحْتِيَاجِ مَنْ بَعْدَهُمْ إِلَيْهَا لِضَعْفِ إِيمَانِهِمْ، وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ
عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَقَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ: رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ كَلَامٌ يُكَلِّمُ بِهِ الرَّبُّ عَبْدَهُ فِي الْمَنَامِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إِلَّا الْمُبَشِّرَاتُ، قِيلَ: وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُؤْمِنُ أَوْ تُرَى لَهُ» وَإِذَا تَوَاطَأَتْ رُؤْيَا الْمُسْلِمِينَ لَمْ تَكْذِبْ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ لَمَّا أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، قَالَ «أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُتَحَرِّيَهَا فَلْيَتَحَرَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ» .
وَالرُّؤْيَا كَالْكَشْفِ، مِنْهَا رَحِمَانِيُّ، وَمِنْهَا نَفْسَانِيُّ، وَمِنْهَا شَيْطَانِيُّ، وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «الرُّؤْيَا ثَلَاثَةٌ: رُؤْيَا مِنَ اللَّهِ، وَرُؤْيَا تَحْزِينٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَرُؤْيَا مِمَّا يُحَدِّثُ بِهِ الرَّجُلُ نَفْسَهُ فِي الْيَقَظَةِ، فَيَرَاهُ فِي الْمَنَامِ» .
وَالَّذِي هُوَ مِنْ أَسْبَابِ الْهِدَايَةِ: هُوَ الرُّؤْيَا الَّتِي مِنَ اللَّهِ خَاصَّةً.
وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ، فَإِنَّهَا مَعْصُومَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ، وَلِهَذَا أَقْدَمَ الْخَلِيلُ عَلَى ذَبْحِ ابْنِهِ إِسْمَاعِيلَ عليهما السلام بِالرُّؤْيَا.
وَأَمَّا رُؤْيَا غَيْرِهِمْ فَتُعْرَضُ عَلَى الْوَحْيِ الصَّرِيحِ، فَإِنْ وَافَقَتْهُ وَإِلَّا لَمْ يُعْمَلْ بِهَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَقُولُونَ إِذَا كَانَتْ رُؤْيَا صَادِقَةٌ، أَوْ تَوَاطَأَتْ؟ .