الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَفْضَلُ مِنْ خُلْطَتِهِمْ فِيهِ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ إِذَا خَالَطَهُمْ أَزَالَهُ أَوْ قَلَّلَهُ فَخُلْطَتُهُمْ حِينَئِذٍ أَفْضَلُ مِنِ اعْتِزَالِهِمْ.
فَالْأَفْضَلُ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَحَالٍ إِيثَارُ مَرْضَاةِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَالْحَالِ، وَالِاشْتِغَالُ بِوَاجِبِ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَوَظِيفَتِهِ وَمُقْتَضَاهُ.
وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ التَّعَبُّدِ الْمُطْلَقِ، وَالْأَصْنَافُ قِبَلَهُمْ أَهْلُ التَّعَبُّدِ الْمُقَيَّدِ، فَمَتَى خَرَجَ أَحَدُهُمْ عَنِ النَّوْعِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ مِنَ الْعِبَادَةِ وَفَارَقَهُ يَرَى نَفْسَهُ كَأَنَّهُ قَدْ نَقَصَ وَتَرَكَ عِبَادَتَهُ، فَهُوَ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَصَاحِبُ التَّعَبُّدِ الْمُطْلَقِ لَيْسَ لَهُ غَرَضٌ فِي تَعَبُّدٍ بِعَيْنِهِ يُؤْثِرُهُ عَلَى غَيْرِهِ، بَلْ غَرَضُهُ تَتَبُّعُ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْنَ كَانَتْ، فَمَدَارُ تَعَبُّدِهِ عَلَيْهَا، فَهُوَ لَا يَزَالُ مُتَنَقِّلًا فِي مَنَازِلِ الْعُبُودِيَّةِ، كُلَّمَا رُفِعَتْ لَهُ مَنْزِلَةٌ عَمِلَ عَلَى سَيْرِهِ إِلَيْهَا، وَاشْتَغَلَ بِهَا حَتَّى تَلُوحَ لَهُ مَنْزِلَةٌ أُخْرَى، فَهَذَا دَأْبَهُ فِي السَّيْرِ حَتَّى يَنْتَهِيَ سَيْرُهُ، فَإِنْ رَأَيْتَ الْعُلَمَاءَ رَأَيْتَهُ مَعَهُمْ، وَإِنْ رَأَيْتَ الْعُبَّادَ رَأَيْتَهُ مَعَهُمْ، وَإِنْ رَأَيْتَ الْمُجَاهِدِينَ رَأَيْتَهُ مَعَهُمْ، وَإِنْ رَأَيْتَ الذَّاكِرِينَ رَأَيْتَهُ مَعَهُمْ، وَإِنْ رَأَيْتَ الْمُتَصَدِّقِينَ الْمُحْسِنِينَ رَأَيْتَهُ مَعَهُمْ، وَإِنْ رَأَيْتَ أَرْبَابَ الْجَمْعِيَّةِ وَعُكُوفِ الْقَلْبِ عَلَى اللَّهِ رَأَيْتَهُ مَعَهُمْ، فَهَذَا هُوَ الْعَبْدُ الْمُطْلَقُ، الَّذِي لَمْ تَمْلِكْهُ الرُّسُومُ، وَلَمْ تُقَيِّدْهُ الْقُيُودُ، وَلَمْ يَكُنْ عَمَلُهُ عَلَى مُرَادِ نَفْسِهِ وَمَا فِيهِ لَذَّتُهَا وَرَاحَتُهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ، بَلْ هُوَ عَلَى مُرَادِ رَبِّهِ، وَلَوْ كَانَتْ رَاحَةُ نَفْسِهِ وَلَذَّتُهَا فِي سِوَاهُ، فَهَذَا هُوَ الْمُتَحَقِّقُ بِ " {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] " حَقًّا، الْقَائِمُ بِهِمَا صِدْقًا، مَلْبَسُهُ مَا تَهَيَّأَ، وَمَأْكَلُهُ مَا تَيَسَّرَ، وَاشْتِغَالُهُ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِوَقْتِهِ، وَمَجْلِسُهُ حَيْثُ انْتَهَى بِهِ الْمَكَانُ وَوَجَدَهُ خَالِيًا، لَا تَمْلِكُهُ إِشَارَةٌ، وَلَا يَتَعَبَّدُهُ قَيْدٌ، وَلَا يَسْتَوْلِي عَلَيْهِ رَسْمٌ، حُرٌّ مُجَرَّدٌ، دَائِرٌ مَعَ الْأَمْرِ حَيْثُ دَارَ، يَدِينُ بِدِينِ الْآمِرِ أَنَّى تَوَجَّهَتْ رَكَائِبُهُ، وَيَدُورُ مَعَهُ حَيْثُ اسْتَقَلَّتْ مَضَارِبُهُ، يَأْنَسُ بِهِ كُلُّ مُحِقٍّ، وَيَسْتَوْحِشُ مِنْهُ كُلُّ مُبْطِلٍ، كَالْغَيْثِ حَيْثُ وَقَعَ نَفَعَ، وَكَالْنَخْلَةِ لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا وَكُلُّهَا مَنْفَعَةٌ حَتَّى شَوْكُهَا، وَهُوَ مَوْضِعُ الْغِلْظَةِ مِنْهُ عَلَى الْمُخَالِفِينَ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَالْغَضَبِ إِذَا انْتُهِكَتْ مَحَارِمُ اللَّهِ، فَهُوَ لِلَّهِ وَبِاللَّهِ وَمَعَ اللَّهِ، قَدْ صَحِبَ اللَّهَ بِلَا خَلْقٍ، وَصَحِبَ النَّاسَ بِلَا نَفْسٍ، بَلْ إِذَا كَانَ مَعَ اللَّهِ عَزَلَ الْخَلَائِقَ عَنِ الْبَيْنِ، وَتَخَلَّى عَنْهُمْ، وَإِذَا كَانَ مَعَ خَلْقِهِ عَزَلَ نَفْسَهُ مِنَ الْوَسَطِ وَتَخَلَّى عَنْهَا، فَوَاهًا لَهُ! مَا أَغْرَبَهُ بَيْنَ النَّاسِ! وَمَا أَشَدَّ وَحْشَتَهُ مِنْهُمْ! وَمَا أَعْظَمَ أُنْسَهُ بِاللَّهِ وَفَرَحَهُ بِهِ، وَطُمَأْنِينَتَهُ وَسُكُونَهُ إِلَيْهِ! ! وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ الْتُكْلَانُ.
[فَصْلٌ مَنْفَعَةُ الْعِبَادَةِ وَحِكْمَتُهَا وَمَقْصُودُهَا وَانْقِسَامُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ لِأَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ]
[نُفَاةُ التَّعْلِيلِ]
فَصْلٌ
ثُمَّ لِلنَّاسِ فِي مَنْفَعَةِ الْعِبَادَةِ وَحِكْمَتِهَا وَمَقْصُودِهَا طُرُقٌ أَرْبَعَةٌ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ.
الصِّنْفُ الْأَوَّلُ: نُفَاةُ الْحُكْمِ وَالتَّعْلِيلِ، الَّذِينَ يَرُدُّونَ الْأَمْرَ إِلَى مَحْضِ الْمَشِيئَةِ، وَصِرْفِ الْإِرَادَةِ، فَهَؤُلَاءِ عِنْدَهُمُ الْقِيَامُ بِهَا لَيْسَ إِلَّا لِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لِسَعَادَةٍ فِي مَعَاشٍ وَلَا مَعَادٍ، وَلَا سَبَبًا لِنَجَاةٍ، وَإِنَّمَا الْقِيَامُ بِهَا لِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ وَمَحْضِ الْمَشِيئَةِ، كَمَا قَالُوا فِي الْخَلْقِ: إِنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ مَا خَلَقَهُ لِعِلَّةٍ، وَلَا لِغَايَةٍ هِيَ الْمَقْصُودَةُ بِهِ، وَلَا لِحِكْمَةٍ تَعُودُ إِلَيْهِ مِنْهُ، وَلَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ أَسْبَابٌ مُقْتَضِيَاتٌ لِمُسَبَّبَاتِهَا، وَلَا فِيهَا قُوًى وَلَا طَبَائِعُ، فَلَيْسَتِ النَّارُ سَبَبًا لِلْإِحْرَاقِ، وَلَا الْمَاءُ سَبَبًا لِلْإِرْوَاءِ وَالَبْرِيدِ وَإِخْرَاجِ النَّبَاتِ، وَلَا فِيهِ قُوَّةٌ وَلَا طَبِيعَةٌ تَقْتَضِي ذَلِكَ، وَحُصُولُ الْإِحْرَاقِ وَالرِّيِّ لَيْسَ بِهِمَا، لَكِنْ بِإِجْرَاءِ الْعَادَةِ الْاِقْتِرَانِيَّةِ عَلَى حُصُولِ هَذَا عِنْدَ هَذَا لَا بِسَبَبٍ وَلَا بِقُوَّةٍ قَامَتْ بِهِ، وَهَكَذَا الْأَمْرُ عِنْدَهُمْ فِي أَمْرِهِ الشَّرْعِيِّ سَوَاءٌ، لَا فَرْقَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ، وَلَكِنَّ الْمَشِيئَةَ اقْتَضَتْ أَمْرَهُ بِهَذَا وَنَهْيَهُ عَنْ هَذَا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُومَ بِالْمَأْمُورِ بِهِ صِفَةٌ اقْتَضَتْ حُسْنَهُ، وَلَا الْمَنْهِيِّ عَنْهُ صِفَةٌ اقْتَضَتْ قُبْحَهُ.
وَلِهَذَا الْأَصْلِ لَوَازِمُ وَفُرُوعٌ كَثِيرَةٌ فَاسِدَةٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِنَا الْكَبِيرِ الْمُسَمَّى " مِفْتَاحُ دَارِ السَّعَادَةِ وَمَطْلَبُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ " وَبَيَّنَّا فَسَادَ هَذَا الْأَصْلِ مِنْ نَحْوِ سِتِّينَ وَجْهًا، وَهُوَ كِتَابٌ بَدِيعٌ فِي مَعْنَاهُ، وَذَكَرْنَاهُ أَيْضًا فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى " سَفَرُ الْهِجْرَتَيْنِ وَطَرِيقُ السَّعَادَتَيْنِ ".
وَهَؤُلَاءِ لَا يَجِدُونَ حَلَاوَةَ الْعِبَادَةِ وَلَا لَذَّتَهَا، وَلَا يَتَنَعَّمُونَ بِهَا، وَلَيْسَتِ الصَّلَاةُ قُرَّةَ أَعْيُنِهِمْ، وَلَيْسَتِ الْأَوَامِرُ سُرُورَ قُلُوبِهِمْ، وَغِذَاءَ أَرْوَاحِهِمْ وَحَيَاتِهِمْ، وَلِهَذَا يُسَمُّونَهَا تَكَالِيفَ، أَيْ قَدْ كُلِّفُوا بِهَا، وَلَوْ سَمَّى مُدَّعٍ لِمَحَبَّةِ مَلِكٍ مِنَ الْمُلُوكِ أَوْ غَيْرِهِ مَا يَأْمُرُهُ بِهِ تَكْلِيفًا، وَقَالَ: إِنِّي إِنَّمَا أَفْعَلُهُ بِكُلْفَةٍ، لَمْ يَعُدَّهُ أَحَدٌ مُحِبًّا لَهُ، وَلِهَذَا أَنْكَرَ هَؤُلَاءِ أَوْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مَحَبَّةَ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ، وَقَالُوا: إِنَّمَا يُحِبُّ ثَوَابَهُ وَمَا يَخْلُقُهُ لَهُ مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي يَتَمَتَّعُ بِهِ، لَا أَنَّهُ يُحِبُّ ذَاتَهُ، فَجَعَلُوا الْمَحَبَّةَ لِمَخْلُوقِهِ دُونَهُ، وَحَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ هِيَ كَمَالُ الْمَحَبَّةِ، فَأَنْكَرُوا حَقِيقَةَ الْعُبُودِيَّةِ وَلُبَّهَا، وَحَقِيقَةُ الْإِلَهِيَّةِ كَوْنُهُ مَأْلُوهًا مَحْبُوبًا بِغَايَةِ الْحُبِّ، الْمَقْرُونِ بِغَايَةِ الذُّلِّ وَالْخُضُوعِ، وَالْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ، فَأَنْكَرُوا كَوْنَهُ مَحْبُوبًا، وَذَلِكَ إِنْكَارٌ لِإِلَهِيَّتِهِ، وَشَيْخُ هَؤُلَاءِ هُوَ الْجَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ الَّذِي ضَحَّى بِهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ فِي يَوْمٍ أَضْحَى،