المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[فصل لطائف أسرار التوبة] - مدارج السالكين - ط الكتاب العربي - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌[هِدَايَةُ الْقُرْآنِ]

- ‌[اشْتِمَالُ الْفَاتِحَةِ عَلَى أُمَّهَاتِ الْمَطَالِبِ]

- ‌[فَصْلٌ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ]

- ‌[فَصْلٌ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ صِرَاطُ اللَّهِ]

- ‌[فَصْلٌ رَفِيقُ طَالِبِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ هُمُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ]

- ‌[فَصْلٌ عَلَّمَ اللَّهُ عِبَادَهُ كَيْفِيَّةَ سُؤَالِهِ الْهِدَايَةَ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ]

- ‌[فَصْلٌ اشْتِمَالُ الْفَاتِحَةِ عَلَى أَنْوَاعِ التَّوْحِيدِ]

- ‌[فَصْلٌ دِلَالَةٌ عَلَى تَوْحِيدِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ]

- ‌[فَصْلٌ اسْمُ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى الصِّفَةِ بِمُفْرَدِهَا وَيَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ الْمُجَرَّدَةِ]

- ‌[فَصْلٌ اسْمُ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى]

- ‌[فَصْلٌ ارْتِبَاطُ الْخَلْقِ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ]

- ‌[فَصْلٌ ذِكْرُ أَسْمَاءِ اللَّهِ بَعْدَ الْحَمْدِ]

- ‌[فَصْلٌ مَرَاتِبُ الْهِدَايَةِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ]

- ‌[الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى تَكْلِيمُ اللَّهِ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ مَرْتَبَةُ الْوَحْيِ الْمُخْتَصِّ بِالْأَنْبِيَاءِ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ إِرْسَالُ الرَّسُولِ الْمَلَكِيِّ إِلَى الرَّسُولِ الْبَشَرِيِّ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ مَرْتَبَةُ التَّحْدِيثِ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَرْتَبَةُ الْخَامِسَةُ مَرْتَبَةُ الْإِفْهَامِ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَرْتَبَةُ السَّادِسَةُ مَرْتَبَةُ الْبَيَانِ الْعَامِّ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَرْتَبَةُ السَّابِعَةُ الْبَيَانُ الْخَاصُّ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَرْتَبَةُ الثَّامِنَةُ مَرْتَبَةُ الْإِسْمَاعِ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَرْتَبَةُ التَّاسِعَةُ مَرْتَبَةُ الْإِلْهَامِ]

- ‌[الْإِلْهَامُ هُوَ مَقَامُ الْمُحَدِّثِينَ]

- ‌[فَصْلٌ دَرَجَاتُ الْإِلْهَامِ]

- ‌[الدَّرَجَةُ الْأُولَى نَبَأٌ يَقَعُ وَحْيًا قَاطِعًا مَقْرُونًا بِسَمَاعٍ]

- ‌[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ إِلْهَامٌ يَقَعُ عِيَانًا]

- ‌[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ إِلْهَامٌ يَجْلُو عَيْنَ التَّحْقِيقِ صَرْفًا]

- ‌[فَصْلٌ الْمَرْتَبَةُ الْعَاشِرَةُ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ]

- ‌[فَصْلٌ فِي بَيَانِ اشْتِمَالِ الْفَاتِحَةِ عَلَى الْشِفَاءَيْنِ شِفَاءِ الْقُلُوبِ وَشِفَاءِ الْأَبْدَانِ]

- ‌[اشْتِمَالُهَا عَلَى شِفَاءِ الْقُلُوبِ]

- ‌[تَضَمُّنُهَا لِشِفَاءِ الْأَبْدَانِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي اشْتِمَالِ الْفَاتِحَةِ عَلَى الرَّدِّ عَلَى جَمِيعِ الْمُبْطِلِينَ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ]

- ‌[الْمُجْمَلُ]

- ‌[فَصْلُ الْمُفَصَّلِ]

- ‌[فَصْلٌ وَالْمُقِرُّونَ بِالرَّبِّ سبحانه وتعالى أَنَّهُ صَانِعُ الْعَالَمِ نَوْعَانِ]

- ‌[فَصْلٌ الْمُثْبِتُونَ لِلْخَالِقِ تَعَالَى]

- ‌[فَصْلٌ فِي تَضَمُّنِهَا الرَّدَّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ مُعَطِّلَةِ الصِّفَاتِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي تَضَمُّنِهَا لِلرَّدِّ عَلَى الْجَبْرِيَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي تَضَمُّنِهَا الرَّدَّ عَلَى الْقَائِلِينَ بِالْمُوجِبِ بِالذَّاتِ دُونَ الِاخْتِيَارِ وَالْمَشِيئَةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي تَضَمُّنِهَا لِلرَّدِّ عَلَى مُنْكِرِي تَعَلُّقِ عِلْمِهِ تَعَالَى بِالْجُزْئِيَّاتِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي بَيَانِ تَضَمُّنِهَا لِلرَّدِّ عَلَى مُنْكِرِي النُّبُوَّاتِ]

- ‌[فَصْلٌ إِذَا ثَبَتَتِ النُّبُوَّاتُ وَالرِّسَالَةُ ثَبَتَتْ صِفَةُ التَّكَلُّمِ وَالتَّكْلِيمِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي بَيَانِ تَضَمُّنِهَا لِلرَّدِّ عَلَى مَنْ قَالَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي بَيَانِ تَضَمُّنِهَا لِلرَّدِّ عَلَى الرَّافِضَةِ]

- ‌[فَصْلٌ سِرُّ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ وَالشَّرَائِعِ]

- ‌[فَصْلٌ أَقْسَامُ النَّاسِ فِي الْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ]

- ‌[فَصْلٌ لَا يَكُونُ الْعَبْدُ مُتَحَقِّقًا بِإيَّاكَ نَعْبُدُ إِلَّا بِمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ وَالْإِخْلَاصِ وَأَقْسَامُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ]

- ‌[أَهْلُ الْإِخْلَاصِ لِلْمَعْبُودِ وَالْمُتَابَعَةِ]

- ‌[مَنْ لَا إِخْلَاصَ لَهُ وَلَا مُتَابَعَةَ]

- ‌[مُخْلِصٌ فِي أَعْمَالِهِ لَكِنَّهَا عَلَى غَيْرِ مُتَابَعَةِ الْأَمْرِ]

- ‌[مَنْ أَعْمَالُهُ عَلَى مُتَابَعَةِ الْأَمْرِ لَكِنَّهَا لِغَيْرِ اللَّهِ]

- ‌[فَصْلٌ أَهْلُ مَقَامِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ لَهُمْ فِي أَفْضَلِ الْعِبَادَةِ وَأَنْفَعِهَا وَأَحَقِّهَا بِالْإِيثَارِ وَالتَّخْصِيصِ أَرْبَعُ طُرُقٍ]

- ‌[فَصْلٌ مَنْفَعَةُ الْعِبَادَةِ وَحِكْمَتُهَا وَمَقْصُودُهَا وَانْقِسَامُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ لِأَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ]

- ‌[نُفَاةُ التَّعْلِيلِ]

- ‌[الْقَدَرِيَّةُ الْنُفَاةُ]

- ‌[الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ فَائِدَةَ الْعِبَادَةِ رِيَاضَةُ النُّفُوسِ]

- ‌[الطَّائِفَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ الْإِبْرَاهِيمِيَّةُ]

- ‌[فَصْلٌ سِرُّ الْعُبُودِيَّةِ وَغَايَتُهَا وَحِكْمَتُهَا]

- ‌[فَصْلٌ بِنَاءُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ عَلَى أَرْبَعِ قَوَاعِدَ]

- ‌[فَصْلٌ دَعْوَةُ جَمِيعِ الرُّسُلِ إِلَى إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]

- ‌[فَصْلٌ اللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْعُبُودِيَّةَ وَصْفَ أَكْمَلِ خَلْقِهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي لُزُومِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ لِكُلِّ عَبْدٍ إِلَى الْمَوْتِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي انْقِسَامِ الْعُبُودِيَّةِ إِلَى عَامَّةٍ وَخَاصَّةٍ]

- ‌[فَصْلٌ فِي مَرَاتِبِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ عِلْمًا وَعَمَلًا]

- ‌[فَصْلٌ مَرَاتِبُ الْعُبُودِيَّةِ وَهِيَ خَمْسَ عَشْرَةَ مَرْتَبَةً]

- ‌[عِبَادَةُ الْقَلْبِ]

- ‌[فَصْلٌ عِبَادَةُ اللِّسَانِ]

- ‌[فَصْلٌ عِبَادَةُ الْجَوَارِحِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي مَنَازِلِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ]

- ‌[مَنْزِلَةُ الْيَقَظَةِ]

- ‌[مَنْزِلَةُ الْبَصِيرَةِ]

- ‌[فَصْلٌ الْقَصْدُ]

- ‌[فَصْلٌ الْعَزْمُ]

- ‌[فَصْلٌ الْفِكْرَةُ]

- ‌[مُرَادُ الْفَنَاءِ]

- ‌[فَصْلٌ الْفَنَاءُ أَقْسَامُهُ وَمَرَاتِبُهُ]

- ‌[فَصْلٌ أَسْبَابُ الْفَنَاءِ]

- ‌[فَصْلٌ أَصْلُ الْفَنَاءِ]

- ‌[فَصْلٌ الْفَنَاءُ وَمَهَالِكُهُ]

- ‌[فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْمُحَاسَبَةِ]

- ‌[مِنْ مَنْزِلَةِ الْمُحَاسَبَةِ يَصِحُّ لَهُ نُزُولُ مَنْزِلَةِ التَّوْبَةِ]

- ‌[أَرْكَانُ الْمُحَاسَبَةِ]

- ‌[الرُّكْنُ الْأَوَّلُ الْمُقَايَسَةُ بَيْنَ مَا لِلْعَبْدِ وَمَا لِلَّهِ]

- ‌[فَصْلٌ الرُّكْنُ الثَّانِي التَّمْيِيزُ بَيْنَ مَا لِلْعَبْدِ وَمَا عَلَيْهِ]

- ‌[فَصْلٌ الرُّكْنُ الثَّالِثُ الرِّضَا بِالطَّاعَةِ وَالتَّعْيِيرُ بِالْمَعْصِيَةِ]

- ‌[فَصْلٌ مَنْزِلَةُ التَّوْبَةِ]

- ‌[وُجُوبُ التَّوْبَةِ عَلَى جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ]

- ‌[شَرَائِطُ التَّوْبَةِ]

- ‌[حَقَائِقُ التَّوْبَةِ وَعَلَامَةُ قَبُولِهَا]

- ‌[فَصْلٌ أَعْذَارُ الْخَلِيقَةِ مِنْهَا مَحْمُودٌ وَمِنْهَا مَذْمُومٌ]

- ‌[فَصْلٌ مِنْ حَقَائِقِ التَّوْبَةِ طَلَبُ أَعْذَارِ الْخَلِيقَةِ]

- ‌[فَصْلٌ دَفْعُ الْقَدَرِ بِالْقَدَرِ]

- ‌[فَصْلٌ سَرَائِرُ حَقِيقَةِ التَّوْبَةِ]

- ‌[فَصْلٌ التَّوْبَةُ مِنَ التَّوْبَةِ]

- ‌[فَصْلٌ لِطَائِفُ أَسْرَارِ التَّوْبَةِ]

- ‌[فَصْلٌ مَرَاتِبُ الذُّلِّ وَالْخُضُوعِ]

- ‌[فَصْلٌ نَظَرُ الْعَبْدِ فِي الذَّنْبِ]

- ‌[فَصْلٌ اسْتِحْسَانٌ لِبَعْضِ الْأَفْعَالِ وَاسْتِقْبَاحٌ لِبَعْضِهَا]

- ‌[فَصْلٌ دَلَالَةُ الْفِعْلِ فِي النَّفْسِ]

- ‌[فَصْلٌ غَلَطُ السَّالِكِينَ فِي الْفَرْقِ الطَّبِيعِيِّ وَالشَّرْعِيِّ]

- ‌[فَصْلٌ مَنْ زَعَمَ سُقُوطَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ]

- ‌[فَصْلٌ الْقِيَامُ بِأَمْرِ اللَّهِ]

- ‌[فَصْلٌ تَمَكُّنُ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ فِي الْقَلْبِ]

- ‌[فَصْلٌ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَشِيئَةِ وَالْمَحَبَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ حَدِيثُ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ]

- ‌[فَصْلٌ تَوْبَةُ الْعَامَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ تَوْبَةُ الْأَوْسَاطِ]

- ‌[فَصْلٌ تَوْبَةُ الْخَوَاصِّ]

- ‌[فَصْلٌ مَقَامُ التَّوْبَةِ]

- ‌[فَصْلٌ التَّوْبَةُ مِنَ الذَّنْبِ فَرْضٌ]

- ‌[التَّوْبَةُ مِنْ ذَنْبٍ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى غَيْرِهِ]

- ‌[فَصْلٌ أَحْكَامُ التَّوْبَةِ]

- ‌[فَصْلٌ الْخِلَافُ فِي اشْتِرَاطِ عَدَمِ الْعَوْدِ إِلَى الذَّنْبِ]

- ‌[فَصْلٌ الِاسْتِغْفَارُ]

- ‌[فَصْلٌ التَّوْبَةُ النَّصُوحُ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ تَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ وَمَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ]

- ‌[فَصْلٌ تَوْبَةُ الْعَبْدِ بَيْنَ تَوْبَتَيْنِ مِنْ رَبِّهِ]

- ‌[فَصْلٌ مَبْدَأُ التَّوْبَةِ وَمُنْتَهَاهَا]

- ‌[فَصْلٌ الذُّنُوبُ صَغَائِرُ وَكَبَائِرُ]

- ‌[فَصْلُ اللَّمَمِ]

- ‌[فَصْلٌ الْكَبَائِرُ]

- ‌[فَصْلٌ الْأَحْوَالُ الَّتِي تَكُونُ مَعَهَا الْكَبِيرَةُ صَغِيرَةً وَبِالْعَكْسِ]

- ‌[فَصْلٌ قُوَّةُ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ الَّتِي يُسَامَحُ صَاحِبُهَا بِمَا لَا يُسَامَحُ بِهِ غَيْرُهُ]

- ‌[فَصْلٌ فِي أَجْنَاسِ مَا يُتَابُ مِنْهُ]

- ‌[الْكُفْرُ]

- ‌[فَصْلٌ الْكُفْرُ الْأَكْبَرُ]

- ‌[فَصْلٌ الْجُحُودُ نَوْعَانِ مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ]

- ‌[فَصْلٌ الشِّرْكُ نَوْعَانِ أَكْبَرُ وَأَصْغَرُ]

- ‌[فَصْلُ النِّفَاقِ]

- ‌[فَصْلٌ الْفُسُوقُ]

- ‌[فَصْلٌ هَلْ يَضْمَنُ السَّارِقُ]

- ‌[فَصْلٌ الْإِثْمُ وَالْعُدْوَانُ]

- ‌[فَصْلٌ الْفَحْشَاءُ وَالْمُنْكَرُ]

- ‌[فَصْلٌ الْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ]

- ‌[فَصْلٌ وَمِنْ أَحْكَامِ التَّوْبَةِ]

- ‌[فَصْلٌ حُقُوقُ الْعِبَادِ]

- ‌[فَصْلٌ هَلْ مِنْ ذُنُوبٍ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ أَمْ لَا]

- ‌[فَصْلٌ تَابَ الْقَاتِلُ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ فَقُتِلَ قِصَاصًا هَلْ يَبْقَى عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْمَقْتُولِ حَقٌّ]

- ‌[فَصْلٌ فِي مَشَاهِدِ الْخَلْقِ فِي الْمَعْصِيَةِ]

- ‌[مَشَاهِدُ الْخَلْقِ فِي الْمَعْصِيَةِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَشْهَدُ الْأَوَّلُ مَشْهَدُ الْحَيَوَانِيَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَشْهَدُ الثَّانِي مِنْ مَشَاهِدِ الْخَلْقِ فِي الْمَعْصِيَةِ مَشْهَدُ رُسُومِ الطَّبِيعَةِ وَلَوَازِمِ الْخِلْقَةِ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَشْهَدُ الثَّالِثُ مَشْهَدُ أَصْحَابِ الْجَبْرِ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَشْهَدُ الرَّابِعُ مَشْهَدُ الْقَدَرِيَّةِ النُّفَاةِ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَشْهَدُ الْخَامِسُ وَهُوَ أَحَدُ مَشَاهِدِ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ مَشْهَدُ الْحِكْمَةِ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَشْهَدُ السَّادِسُ مَشْهَدُ التَّوْحِيدِ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَشْهَدُ السَّابِعُ مَشْهَدُ التَّوْفِيقِ وَالْخِذْلَانِ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَشْهَدُ الثَّامِنُ مَشْهَدُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَشْهَدُ التَّاسِعُ مَشْهَدُ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَتَعَدُّدِ شَوَاهِدِهِ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَشْهَدُ الْعَاشِرُ مَشْهَدُ الرَّحْمَةِ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَشْهَدَ الْحَادِيَ عَشَرَ مَشْهَدُ الْعَجْزِ وَالضَّعْفِ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَشْهَدِ الثَّانِي عَشَرَ مَشْهَدُ الذُّلِّ وَالِانْكِسَارِ وَالْخُضُوعِ وَالِافْتِقَارِ لِلرَّبِّ جل جلاله]

- ‌[فَصْلٌ الْمَشْهَدِ الثَّالِثَ عَشَرَ مَشْهَدُ الْعُبُودِيَّةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِهِ وَالِابْتِهَاجِ بِهِ]

- ‌[فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْإِنَابَةِ]

- ‌[مَعْنَى الْإِنَابَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهَا]

- ‌[فَصْلٌ الرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ]

- ‌[فَصْلٌ عَلَامَاتُ الْإِنَابَةِ]

- ‌[فَصْلٌ مَنْزِلَةُ التَّذَكُّرِ]

- ‌[أَقْسَامُ النَّاسِ فِيهَا]

- ‌[فَصْلٌ تُجْتَنَى ثَمَرَةُ الْفِكْرَةِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ]

- ‌[فَصْلٌ فَوَائِدُ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ وَتَأَمُّلِ مَعَانِيهِ]

- ‌[فَصْلٌ آثَارُ مُفْسِدَاتِ الْقَلْبِ الْخَمْسَةِ]

- ‌[الْمُفْسِدُ الْأَوَّلُ كَثْرَةُ الْخُلْطَةِ]

- ‌[فَصْلٌ الْمُفْسِدُ الثَّانِي مِنْ مُفْسِدَاتِ الْقَلْبِ رُكُوبُهُ بَحْرَ التَّمَنِّي]

- ‌[فَصْلٌ الْمُفْسِدُ الثَّالِثُ مِنْ مُفْسِدَاتِ الْقَلْبِ التَّعَلُّقُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَبَارَكَ تَعَالَى]

- ‌[فَصْلٌ الْمُفْسِدُ الرَّابِعُ مِنْ مُفْسِدَاتِ الْقَلْبِ الطَّعَامُ]

- ‌[فَصْلٌ الْمُفْسِدُ الْخَامِسُ كَثْرَةُ النَّوْمِ]

- ‌[فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الِاعْتِصَامِ]

- ‌[فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْفِرَارِ]

- ‌[فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الرِّيَاضَةِ]

- ‌[فَصْلٌ مَنْزِلَةُ السَّمَاعِ]

- ‌[أَقْسَامُ السَّمَاعِ]

- ‌[فَصْلٌ السَّمَاعُ الَّذِي يَمْدَحُهُ اللَّهُ]

- ‌[فَصْلٌ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَيَكْرَهُهُ مِنَ السَّمَاعِ]

- ‌[فَصْلٌ تَحْكِيمُ الْوَحْيِ فِي الْأَحْوَالِ وَالْأَذْوَاقِ]

- ‌[فَصْلٌ دَرَجَاتُ السَّمَاعِ الثَّلَاثُ]

- ‌[فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْحُزْنِ]

- ‌[فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْخَوْفِ]

- ‌[فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْإِشْفَاقِ]

- ‌[فَصْلٌ مَنْزِلَةُ الْخُشُوعِ]

الفصل: ‌[فصل لطائف أسرار التوبة]

التَّوْبَةَ، وَلَا جُزْءًا مِنْهَا، وَلَا شَرْطًا لَهَا، بَلْ هِيَ جِنَايَةٌ أُخْرَى عَرَضَتْ لَهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ، فَيَتُوبُ مِنْ هَذِهِ الْجِنَايَةِ، كَمَا تَابَ مِنَ الْجِنَايَةِ الْأُولَى، فَمَا تَابَ إِلَّا مِنْ ذَنْبٍ، أَوَّلًا وَآخِرًا، فَكَيْفَ يُقَالُ: يَتُوبُ مِنَ التَّوْبَةِ؟ .

هَذَا كَلَامٌ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَلَا هُوَ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ فِي التَّوْبَةِ عِلَّةٌ وَنَقْصٌ، وَآفَةٌ تَمْنَعُ كَمَالَهَا، وَقَدْ يَشْعُرُ صَاحِبُهَا بِذَلِكَ وَقَدْ لَا يَشْعُرُ بِهِ، فَيَتُوبُ مِنْ نُقْصَانِ التَّوْبَةِ، وَعَدَمِ تَوْفِيَتِهَا حَقَّهَا.

وَهَذَا أَيْضًا لَيْسَ مِنَ التَّوْبَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَوْبَةٌ مِنْ عَدَمِ التَّوْبَةِ، فَإِنَّ الْقَدْرَ الْمَوْجُودَ مِنْهَا طَاعَةٌ لَا يُتَابُ مِنْهَا، وَالْقَدْرَ الْمَفْقُودَ هُوَ الَّذِي يُحْتَاجُ أَنْ يَتُوبَ مِنْهُ.

فَالتَّوْبَةُ مِنَ التَّوْبَةِ إِنَّمَا تُعْقَلُ عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ.

نَعَمْ، هَاهُنَا وَجْهٌ ثَالِثٌ لَطِيفٌ جِدًّا، وَهُوَ أَنَّ مَنْ حَصَلَ لَهُ مَقَامُ أُنْسٍ بِاللَّهِ، وَصَفَا وَقْتُهُ مَعَ اللَّهِ، بِحَيْثُ يَكُونُ إِقْبَالُهُ عَلَى اللَّهِ، وَاشْتِغَالُهُ بِذِكْرِ آلَائِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ أَنْفَعَ شَيْءٍ لَهُ، حَتَّى نَزَلَ عَنْ هَذِهِ الْحَالَةِ، وَاشْتَغَلَ بِالتَّوْبَةِ مِنْ جِنَايَةٍ سَالِفَةٍ قَدْ تَابَ مِنْهَا، وَطَالَعَ الْجِنَايَةَ وَاشْتَغَلَ بِهَا عَنِ اللَّهِ، فَهَذَا نَقْصٌ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتُوبَ إِلَى اللَّهِ مِنْهُ، وَهُوَ تَوْبَةٌ مِنْ هَذِهِ التَّوْبَةِ، لِأَنَّهُ نُزُولٌ مِنَ الصَّفَاءِ إِلَى الْجَفَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

[فَصْلٌ لِطَائِفُ أَسْرَارِ التَّوْبَةِ]

فَصْلٌ

قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: وَلَطَائِفُ أَسْرَارِ التَّوْبَةِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ، أَوَّلُهَا: أَنْ يَنْظُرَ الْجِنَايَةَ وَالْقَضِيَّةَ، فَيَعْرِفَ مُرَادَ اللَّهِ فِيهَا، إِذْ خَلَّاكَ وَإِتْيَانَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل إِنَّمَا خَلَّى الْعَبْدَ وَالذَّنَبَ لِأَجْلِ مَعْنَيَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْرِفَ عِزَّتَهُ فِي قَضَائِهِ، وَبِرَّهُ فِي سَتْرِهِ، وَحِلْمَهُ فِي إِمْهَالِ رَاكِبِهِ، وَكَرَمَهُ فِي قَبُولِ الْعُذْرِ مِنْهُ، وَفَضْلَهُ فِي مَغْفِرَتِهِ.

الثَّانِي: أَنْ يُقِيمَ عَلَى عَبْدِهِ حُجَّةَ عَدْلِهِ، فَيُعَاقِبَهُ عَلَى ذَنْبِهِ بِحُجَّتِهِ.

اعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ الْبَصِيرَةِ إِذَا صَدَرَتْ مِنْهُ الْخَطِيئَةُ فَلَهُ نَظَرٌ إِلَى خَمْسَةِ أُمُورٍ:

ص: 221

أَحَدُهَا: أَنْ يَنْظُرَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ، فَيُحَدِثَ لَهُ ذَلِكَ الِاعْتِرَافَ بِكَوْنِهَا خَطِيئَةً، وَالْإِقْرَارَ عَلَى نَفْسِهِ بِالذَّنْبِ.

الثَّانِي: أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، فَيُحْدِثَ لَهُ ذَلِكَ خَوْفًا وَخَشْيَةً، تَحْمِلُهُ عَلَى التَّوْبَةِ.

الثَّالِثُ: أَنْ يَنْظُرَ إِلَى تَمْكِينِ اللَّهِ لَهُ مِنْهَا، وَتَخْلِيَتِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، وَتَقْدِيرِهَا عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَعَصَمَهُ مِنْهَا، فَيُحَدِثُ لَهُ ذَلِكَ أَنْوَاعًا مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَحِكْمَتِهِ، وَرَحْمَتِهِ، وَمَغْفِرَتِهِ وَعَفْوِهِ، وَحِلْمِهِ وَكَرَمِهِ، وَتُوجِبُ لَهُ هَذِهِ الْمَعْرِفَةُ عُبُودِيَّةً بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ، لَا تَحْصُلُ بِدُونِ لَوَازِمِهَا الْبَتَّةَ، وَيَعْلَمُ ارْتِبَاطَ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ، وَالْجَزَاءِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مُوجَبُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَأَثَرُهَا فِي الْوُجُودِ، وَأَنَّ كُلَّ اسْمٍ وَصِفَةٍ مُقْتَضٍ لِأَثَرِهِ وَمُوجَبِهِ، مُتَعَلِّقٌ بِهِ لَا بُدَّ مِنْهُ.

وَهَذَا الْمَشْهَدُ يُطْلِعُهُ عَلَى رِيَاضٍ مُونِقَةٍ مِنَ الْمَعَارِفِ وَالْإِيمَانِ، وَأَسْرَارُ الْقَدَرِ وَالْحِكْمَةِ يَضِيقُ عَنِ التَّعْبِيرِ عَنْهَا نِطَاقُ الْكَلِمِ.

فَمِنْ بَعْضِهَا: مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَنْ يَعْرِفَ الْعَبْدُ عِزَّتَهُ فِي قَضَائِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ الْعَزِيزُ الَّذِي يَقْضِي بِمَا يَشَاءُ، وَأَنَّهُ لِكَمَالِ عِزَّتِهِ حَكَمَ عَلَى الْعَبْدِ وَقَضَى عَلَيْهِ، بِأَنْ قَلَّبَ قَلْبَهُ وَصَرَّفَ إِرَادَتَهُ عَلَى مَا يَشَاءُ، وَحَالَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَقَلْبِهِ، وَجَعَلَهُ مُرِيدًا شَائِيًا لِمَا شَاءَ مِنْهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وَهَذَا مِنْ كَمَالِ الْعِزَّةِ، إِذْ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا اللَّهُ، وَغَايَةُ الْمَخْلُوقِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي بَدَنِكَ وَظَاهِرِكَ، وَأَمَّا جَعْلُكَ مُرِيدًا شَائِيًا لِمَا يَشَاؤُهُ مِنْكَ وَيُرِيدُهُ فَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا ذُو الْعِزَّةِ الْبَاهِرَةِ.

فَإِذَا عَرَفَ الْعَبْدُ عِزَّ سَيِّدِهِ وَلَاحَظَهُ بِقَلْبِهِ، وَتَمَكَّنَ شُهُودَهُ مِنْهُ، كَانَ الِاشْتِغَالُ بِهِ عَنْ ذُلِّ الْمَعْصِيَةِ أَوْلَى بِهِ وَأَنْفَعَ لَهُ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَعَ اللَّهِ لَا مَعَ نَفْسِهِ.

وَمِنْ مَعْرِفَةِ عِزَّتِهِ فِي قَضَائِهِ: أَنْ يَعْرِفَ أَنَّهُ مُدَبَّرٌ مَقْهُورٌ، نَاصِيَتُهُ بِيَدِ غَيْرِهِ، لَا عِصْمَةَ لَهُ إِلَّا بِعِصْمَتِهِ، وَلَا تَوْفِيقَ لَهُ إِلَّا بِمَعُونَتِهِ، فَهُوَ ذَلِيلٌ حَقِيرٌ، فِي قَبْضَةِ عَزِيزٍ حَمِيدٍ.

وَمِنْ شُهُودِ عِزَّتِهِ أَيْضًا فِي قَضَائِهِ: أَنْ يَشْهَدَ أَنَّ الْكَمَالَ وَالْحَمْدَ، وَالْغَنَاءَ التَّامَّ، وَالْعِزَّةَ كُلَّهَا لِلَّهِ، وَأَنَّ الْعَبْدَ نَفْسَهُ أَوْلَى بِالتَّقْصِيرِ وَالذَّمِّ، وَالْعَيْبِ وَالظُّلْمِ وَالْحَاجَةِ، وَكُلَّمَا ازْدَادَ شُهُودُهُ لِذُلِّهِ وَنَقْصِهِ وَعَيْبِهِ وَفَقْرِهِ، ازْدَادَ شُهُودُهُ لِعِزَّةِ اللَّهِ وَكَمَالِهِ، وَحَمْدِهِ وَغِنَاهُ، وَكَذَلِكَ بِالْعَكْسِ، فَنَقْصُ الذَّنْبِ وَذِلَّتُهُ يُطْلِعُهُ عَلَى مَشْهَدِ الْعِزَّةِ.

وَمِنْهَا: أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُرِيدُ مَعْصِيَةَ مَوْلَاهُ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَعْصِيَةٌ، فَإِذَا شَهِدَ جَرَيَانَ

ص: 222

الْحُكْمِ، وَجَعْلَهُ فَاعِلًا لِمَا هُوَ غَيْرُ مُخْتَارٍ لَهُ، مُرِيدٌ بِإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، فَكَأَنَّهُ مُخْتَارٌ غَيْرُ مُخْتَارٍ، مُرِيدٌ غَيْرُ مُرِيدٍ، شَاءٍ غَيْرُ شَاءٍ، فَهَذَا يَشْهَدُ عِزَّةَ اللَّهِ وَعَظَمَتَهُ، وَكَمَالَ قُدْرَتِهِ.

وَمِنْهَا: أَنْ يَعْرِفَ بِرَّهُ سُبْحَانَهُ فِي سَتْرِهِ عَلَيْهِ حَالَ ارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ، مَعَ كَمَالِ رُؤْيَتِهِ لَهُ، وَلَوْ شَاءَ لَفَضَحَهُ بَيْنَ خَلْقِهِ فَحَذِرُوهُ، وَهَذَا مِنْ كَمَالِ بِرِّهِ، وَمِنْ أَسْمَائِهِ: الْبَرُّ، وَهَذَا الْبِرُّ مِنْ سَيِّدِهِ كَانَ عَنْ بِهِ كَمَالُ غِنَاهُ عَنْهُ، وَكَمَالُ فَقَرِ الْعَبْدِ إِلَيْهِ، فَيَشْتَغِلُ بِمُطَالَعَةِ هَذِهِ الْمِنَّةِ، وَمُشَاهَدَةِ هَذَا الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ وَالْكَرَمِ، فَيَذْهَلُ عَنْ ذِكْرِ الْخَطِيئَةِ، فَيَبْقَى مَعَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَذَلِكَ أَنْفَعُ لَهُ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِجِنَايَتِهِ، وَشُهُودِ ذُلِّ مَعْصِيَتِهِ، فَإِنَّ الِاشْتِغَالَ بِاللَّهِ وَالْغَفْلَةَ عَمَّا سِوَاهُ هُوَ الْمَطْلَبُ الْأَعْلَى، وَالْمَقْصِدُ الْأَسْنَى.

وَلَا يُوجِبُ هَذَا نِسْيَانَ الْخَطِيئَةِ مُطْلَقًا، بَلْ فِي هَذِهِ الْحَالِ، فَإِذَا فَقَدَهَا فَلْيَرْجِعْ إِلَى مُطَالَعَةِ الْخَطِيئَةِ، وَذِكْرِ الْجِنَايَةِ، وَلِكُلِّ وَقْتٍ وَمَقَامٍ عُبُودِيَّةٌ تَلِيقُ بِهِ.

وَمِنْهَا: شُهُودُ حِلْمِ اللَّهِ سبحانه وتعالى فِي إِمْهَالِ رَاكِبِ الْخَطِيئَةِ، وَلَوْ شَاءَ لَعَاجَلَهُ بِالْعُقُوبَةِ، وَلَكِنَّهُ الْحَلِيمُ الَّذِي لَا يُعَجِّلُ، فَيُحَدِثُ لَهُ ذَلِكَ مَعْرِفَةَ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ بِاسْمِهِ الْحَلِيمِ، وَمُشَاهَدَةَ صِفَةِ الْحِلْمِ، وَالتَّعَبُّدَ بِهَذَا الِاسْمِ، وَالْحِكْمَةُ وَالْمَصْلَحَةُ الْحَاصِلَةُ مِنْ ذَلِكَ بِتَوَسُّطِ الذَّنْبِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ، وَأَصْلَحُ لِلْعَبْدِ، وَأَنْفَعُ مِنْ فَوْتِهَا، وَوُجُودُ الْمَلْزُومِ بِدُونِ لَازَمِهِ مُمْتَنِعٌ.

وَمِنْهَا: مَعْرِفَةُ الْعَبْدِ كَرَمَ رَبِّهِ فِي قَبُولِ الْعُذْرِ مِنْهُ إِذَا اعْتَذَرَ إِلَيْهِ بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الِاعْتِذَارِ، لَا بِالْقَدَرِ، فَإِنَّهُ مُخَاصَمَةٌ وَمُحَاجَّةٌ، كَمَا تَقَدَّمَ، فَيَقْبَلُ عُذْرَهُ بِكَرَمِهِ وَجُودِهِ، فَيُوجِبُ لَهُ ذَلِكَ اشْتِغَالًا بِذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ، وَمَحَبَّةً أُخْرَى لَمْ تَكُنْ حَاصِلَةً لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَإِنَّ مَحَبَّتَكَ لِمَنْ شَكَرَكَ عَلَى إِحْسَانِكَ وَجَازَاكَ بِهِ، ثُمَّ غَفَرَ لَكَ إِسَاءَتَكَ وَلَمْ يُؤَاخِذْكَ بِهَا أَضْعَافُ مَحَبَّتِكَ عَلَى شُكْرِ الْإِحْسَانِ وَحْدَهُ، وَالْوَاقِعُ شَاهِدٌ بِذَلِكَ، فَعُبُودِيَّةُ التَّوْبَةِ بَعْدَ الذَّنْبِ لَوْنٌ، وَهَذَا لَوْنٌ آخَرُ.

وَمِنْهَا: أَنْ يَشْهَدَ فَضْلَهُ فِي مَغْفِرَتِهِ، فَإِنَّ الْمَغْفِرَةَ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ، وَإِلَّا فَلَوْ أَخَذَكَ بِمَحْضِ حَقِّهِ، كَانَ عَادِلًا مَحْمُودًا، وَإِنَّمَا عَفْوُهُ بِفَضْلِهِ لَا بِاسْتِحْقَاقِكَ، فَيُوجِبُ لَكَ ذَلِكَ أَيْضًا شُكْرًا لَهُ وَمَحَبَّةً، وَإِنَابَةً إِلَيْهِ، وَفَرَحًا وَابْتِهَاجًا بِهِ، وَمَعْرِفَةً لَهُ بِاسْمِهِ الْغَفَّارِ وَمُشَاهَدَةً لِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَتَعَبُّدًا بِمُقْتَضَاهَا، وَذَلِكَ أَكْمَلُ فِي الْعُبُودِيَّةِ، وَالْمَحَبَّةِ وَالْمَعْرِفَةِ.

وَمِنْهَا: أَنْ يُكَمِّلَ لِعَبْدِهِ مَرَاتِبَ الذُّلِّ وَالْخُضُوعِ وَالِانْكِسَارِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالِافْتِقَارِ إِلَيْهِ،

ص: 223

فَإِنَّ النَّفْسَ فِيهَا مُضَاهَاةٌ لِلرُّبُوبِيَّةِ، وَلَوْ قَدَرَتْ لَقَالَتْ كَقَوْلِ فِرْعَوْنَ، وَلَكِنَّهُ قَدَرَ فَأَظْهَرَ، وَغَيْرُهُ عَجَزَ فَأَضْمَرَ، وَإِنَّمَا يُخَلِّصُهَا مِنْ هَذِهِ الْمُضَاهَاةِ ذُلُّ الْعُبُودِيَّةِ، وَهُوَ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ:

الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْخَلْقِ، وَهِيَ ذُلُّ الْحَاجَةِ وَالْفَقْرِ إِلَى اللَّهِ، فَأَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَمِيعًا مُحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، فُقَرَاءُ إِلَيْهِ، وَهُوَ وَحْدَهُ الْغَنِيُّ عَنْهُمْ، وَكُلُّ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَسْأَلُونَهُ، وَهُوَ لَا يَسْأَلُ أَحَدًا.

الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: ذُلُّ الطَّاعَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، وَهُوَ ذُلُّ الِاخْتِيَارِ، وَهَذَا خَاصٌّ بِأَهْلِ طَاعَتِهِ، وَهُوَ سِرُّ الْعُبُودِيَّةِ.

الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: ذُلُّ الْمَحَبَّةِ، فَإِنَّ الْمُحِبَّ ذَلِيلٌ بِالذَّاتِ، وَعَلَى قَدْرِ مَحَبَّتِهِ لَهُ يَكُونُ ذُلُّهُ، فَالْمَحَبَّةُ أُسِّسَتْ عَلَى الذِّلَّةِ لِلْمَحْبُوبِ، كَمَا قِيلَ:

اخْضَعْ وَذُلَّ لِمَنْ تُحِبُّ فَلَيْسَ فِي

حُكْمِ الْهَوَى أَنَفٌ يُشَالُ وَيُعْقَدُ

وَقَالَ آخَرُ:

مَسَاكِينُ أَهْلِ الْحُبِّ حَتَّى قُبُورُهُمْ

عَلَيْهَا تُرَابُ الذُّلِّ بَيْنَ الْمَقَابِرِ

الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: ذُلُّ الْمَعْصِيَةِ وَالْجِنَايَةِ.

فَإِذَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْمَرَاتِبُ الْأَرْبَعُ كَانَ الذُّلُّ لِلَّهِ وَالْخُضُوعُ لَهُ أَكْمَلَ وَأَتَمَّ، إِذْ يَذِلُّ لَهُ خَوْفًا وَخَشْيَةً، وَمَحَبَّةً وَإِنَابَةً، وَطَاعَةً، وَفَقْرًا وَفَاقَةً.

وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ هُوَ الْفَقْرُ الَّذِي يُشِيرُ إِلَيْهِ الْقَوْمُ، وَهَذَا الْمَعْنَى أَجَلُّ مِنْ أَنْ يُسَمَّى بِالْفَقْرِ، بَلْ هُوَ لُبُّ الْعُبُودِيَّةِ وَسِرُّهَا، وَحُصُولُهُ أَنْفَعُ شَيْءٍ لِلْعَبْدِ، وَأَحَبُّ شَيْءٍ إِلَى اللَّهِ.

فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ لَوَازِمِهِ مِنْ أَسْبَابِ الضَّعْفِ وَالْحَاجَةِ، وَأَسْبَابِ الْعُبُودِيَّةِ وَالطَّاعَةِ، وَأَسْبَابِ الْمَحَبَّةِ وَالْإِنَابَةِ، وَأَسْبَابِ الْمَعْصِيَةِ وَالْمُخَالَفَةِ، إِذْ وُجُودُ الْمَلْزُومِ بِدُونِ لَازَمِهِ مُمْتَنِعٌ، وَالْغَايَةُ مِنْ تَقْدِيرِ عَدَمِ هَذَا الْمَلْزُومِ وَلَازَمِهِ، مَصْلَحَةُ وُجُودِهِ خَيْرٌ مِنْ مَصْلَحَةِ فَوْتِهِ، وَمَفْسَدَةُ فَوْتِهِ أَكْبَرُ مِنْ مَفْسَدَةِ وُجُودهِ، وَالْحِكْمَةُ مَبْنَاهَا عَلَى دَفْعِ أَعْظَمِ الْمَفْسَدَتَيْنِ

ص: 224

بِاحْتِمَالِ أَدْنَاهُمَا، وَتَحْصِيلِ أَعْظَمِ الْمَصْلَحَتَيْنِ بِتَفْوِيتِ أَدْنَاهُمَا، وَقَدْ فَتَحَ لَكَ الْبَابَ، فَإِنْ كُنْتَ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ فَادْخُلْ، وَإِلَّا فَرُدَّ الْبَابَ وَارْجِعْ بِسَلَامٍ.

وَمِنْهَا: أَنَّ أَسْمَاءَهُ الْحُسْنَى تَقْتَضِي آثَارُهَا اقْتِضَاءَ الْأَسْبَابِ التَّامَّةِ لِمُسَبِّبَاتِهَا، فَاسْمُ السَّمِيعِ، الْبَصِيرِ يَقْتَضِي مَسْمُوعًا وَمُبْصَرًا، وَاسْمُ الرَّزَّاقِ يَقْتَضِي مَرْزُوقًا، وَاسْمُ الرَّحِيمِ يَقْتَضِي مَرْحُومًا، وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ الْغَفُورِ، وَالْعَفُوِّ، وَالتَّوَّابِ، وَالْحَلِيمِ يَقْتَضِي مَنْ يَغْفِرُ لَهُ، وَيَتُوبُ عَلَيْهِ، وَيَعْفُو عَنْهُ، وَيَحْلُمُ، وَيَسْتَحِيلُ تَعْطِيلُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، إِذْ هِيَ أَسْمَاءٌ حُسْنَى وَصِفَاتُ كَمَالٍ، وَنُعُوتُ جَلَالٍ، وَأَفْعَالُ حِكْمَةٍ وَإِحْسَانٍ وَجُودٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ ظُهُورِ آثَارِهَا فِي الْعَالَمِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا أَعْلَمُ الْخَلْقِ بِاللَّهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، حَيْثُ يَقُولُ:«لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ» .

وَأَنْتَ إِذَا فَرَضْتَ الْحَيَوَانَ بِجُمْلَتِهِ مَعْدُومًا، فَمَنْ يَرْزُقُ الرَّزَّاقُ سُبْحَانَهُ؟ وَإِذَا فَرَضْتَ الْمَعْصِيَةَ وَالْخَطِيئَةَ مُنْتَفِيَةً مِنَ الْعَالَمِ، فَلِمَنْ يَغْفِرُ؟ وَعَمَّنْ يَعْفُو؟ وَعَلَى مَنْ يَتُوبُ وَيَحْلُمُ؟ وَإِذَا فَرَضْتَ الْفَاقَاتِ كُلَّهَا قَدْ سُدَّتْ، وَالْعَبِيدُ أَغْنِيَاءُ مُعَافَوْنَ، فَأَيْنَ السُّؤَالُ وَالتَّضَرُّعُ وَالِابْتِهَالُ؟ وَالْإِجَابَةُ وَشُهُودُ الْفَضْلِ وَالْمِنَّةِ، وَالتَّخْصِيصُ بِالْإِنْعَامِ وَالْإِكْرَامِ؟

فَسُبْحَانَ مَنْ تَعَرَّفَ إِلَى خَلْقِهِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ التَّعَرُّفَاتِ، وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ بِأَنْوَاعِ الدَّلَالَاتِ، وَفَتَحَ لَهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعَ الطُّرُقَاتِ، ثُمَّ نَصَبَ إِلَيْهِ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، وَعَرَّفَهُمْ بِهِ وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 42] .

وَمِنْهَا: السِّرُّ الْأَعْظَمُ، الَّذِي لَا تَقْتَحِمُهُ الْعِبَارَةُ، وَلَا تَجْسُرُ عَلَيْهِ الْإِشَارَةُ، وَلَا يُنَادِي عَلَيْهِ مُنَادِي الْإِيمَانِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ، بَلْ شَهِدَتْهُ قُلُوبُ خَوَاصِّ الْعِبَادِ، فَازْدَادَتْ بِهِ مَعْرِفَةً لِرَبِّهَا وَمَحَبَّةً لَهُ، وَطُمَأْنِينَةً بِهِ وَشَوْقًا إِلَيْهِ، وَلَهَجًا بِذِكْرِهِ، وَشُهُودًا لِبِرِّهِ، وَلُطْفِهِ وَكَرَمِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَمُطَالَعَةً لِسِرِّ الْعُبُودِيَّةِ، وَإِشْرَافًا عَلَى حَقِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَهُوَ مَا ثَبَتَ

ص: 225

فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ - حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ - مِنْ أَحَدِكُمْ، كَانَ عَلَى رَاحِلَةٍ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ، وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا، قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ - مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ - اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ» هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ.

وَفِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوَاعِدِ الْعِلْمِ: أَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي يَجْرِي عَلَى لِسَانِ الْعَبْدِ خَطَأً مِنْ فَرَحٍ شَدِيدٍ، أَوْ غَيْظٍ شَدِيدٍ، وَنَحْوِهِ، لَا يُؤَاخَذُ بِهِ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا كَافِرًا بِقَوْلِهِ: أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَأْثِيرَ الْغَضَبِ فِي عَدَمِ الْقَصْدِ يَصِلُ إِلَى هَذِهِ الْحَالِ، أَوْ أَعْظَمَ مِنْهَا، فَلَا يَنْبَغِي مُؤَاخَذَةُ الْغَضْبَانِ بِمَا صَدَرَ مِنْهُ فِي حَالِ شِدَّةِ غَضَبِهِ مِنْ نَحْوِ هَذَا الْكَلَامِ، وَلَا يَقَعُ طَلَاقُهُ بِذَلِكَ، وَلَا رِدَّتُهُ، وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى تَفْسِيرِ الْإِغْلَاقِ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا طَلَاقَ فِي إِغْلَاقٍ» بِأَنَّهُ الْغَضَبُ، وَفَسَّرَهُ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَفَسَّرُوهُ بِالْإِكْرَاهِ وَالْجُنُونِ.

قَالَ شَيْخُنَا: وَهُوَ يَعُمُّ هَذَا كُلَّهُ، وَهُوَ مِنَ الْغَلَقِ، لِانْغِلَاقِ قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَنْفَتِحْ قَلْبُهُ لِمَعْنًى مَا قَالَهُ.

وَالْقَصْدُ: أَنَّ هَذَا الْفَرَحَ لَهُ شَأْنٌ لَا يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ إِهْمَالُهُ وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُ وَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلَّا مَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ خَاصَّةٌ بِاللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَمَا يَلِيقُ بِعِزِّ جَلَالِهِ.

وَقَدْ كَانَ الْأَوْلَى بِنَا طَيُّ الْكَلَامِ فِيهِ إِلَى مَا هُوَ اللَّائِقُ بِأَفْهَامِ بَنِي الزَّمَانِ وَعُلُومِهِمْ، وَنِهَايَةِ أَقْدَامِهِمْ مِنَ الْمَعْرِفَةِ، وَضَعْفِ عُقُولِهِمْ عَنِ احْتِمَالِهِ.

غَيْرَ أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عز وجل سَيَسُوقُ هَذِهِ الْبِضَاعَةَ إِلَى تُجَّارِهَا، وَمَنْ هُوَ عَارِفٌ بِقَدْرِهَا، وَإِنْ وَقَعَتْ فِي الطَّرِيقِ بِيَدِ مَنْ لَيْسَ عَارِفًا بِهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ.

ص: 226

فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى اخْتَصَّ نَوْعَ الْإِنْسَانِ مِنْ بَيْنِ خَلْقِهِ بِأَنْ كَرَّمَهُ وَفَضَّلَهُ، وَشَرَّفَهُ، وَخَلَقَهُ لِنَفْسِهِ، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ لَهُ، وَخَصَّهُ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَقُرْبِهِ وَإِكْرَامِهِ بِمَا لَمْ يُعْطِهِ غَيْرَهُ، وَسَخَّرَ لَهُ مَا فِي سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ وَمَا بَيْنَهُمَا، حَتَّى مَلَائِكَتَهُ - الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ قُرْبِهِ - اسْتَخْدَمَهُمْ لَهُ، وَجَعَلَهُمْ حَفَظَةً لَهُ فِي مَنَامِهِ وَيَقَظَتِهِ، وَظَعْنِهِ وَإِقَامَتِهِ، وَأَنْزَلَ إِلَيْهِ وَعَلَيْهِ كُتُبَهُ، وَأَرْسَلَهُ وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ، وَخَاطَبَهُ وَكَلَّمَهُ مِنْهُ إِلَيْهِ، وَاتَّخَذَ مِنْهُمُ الْخَلِيلَ وَالْكَلِيمَ، وَالْأَوْلِيَاءَ وَالْخَوَاصَّ وَالْأَحْبَارَ، وَجَعَلَهُمْ مَعْدِنَ أَسْرَارِهِ، وَمَحَلَّ حِكْمَتِهِ، وَمَوْضِعَ حُبِّهِ، وَخَلَقَ لَهُمُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَخَلَقَ الْأَمْرَ، وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ مَدَارُهُ عَلَى النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ، فَإِنَّهُ خُلَاصَةُ الْخَلْقِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَعَلَيْهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ.

فَلِلْإِنْسَانِ شَأْنٌ لَيْسَ لِسَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَقَدْ خَلَقَ أَبَاهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَهُ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَهُ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَظْهَرَ فَضْلَهُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَمَنْ دُونَهُمْ مِنْ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَطَرَدَ إِبْلِيسَ عَنْ قُرْبِهِ، وَأَبْعَدَهُ عَنْ بَابِهِ، إِذْ لَمْ يَسْجُدْ لَهُ مَعَ السَّاجِدِينَ، وَاتَّخَذَهُ عَدُوًّا لَهُ.

فَالْمُؤْمِنُ مِنْ نَوْعِ الْإِنْسَانِ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَخِيَرَةُ اللَّهِ مِنَ الْعَالَمِينَ، فَإِنَّهُ خَلَقَهُ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ، وَلِيَتَوَاتَرَ إِحْسَانُهُ إِلَيْهِ، وَلِيَخُصَّهُ مِنْ كَرَامَتِهِ وَفَضْلِهِ بِمَا لَمْ تَنَلْهُ أُمْنِيَّتُهُ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِهِ وَلَمْ يَشْعُرْ بِهِ، لِيَسْأَلَهُ مِنَ الْمَوَاهِبِ وَالْعَطَايَا الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ، الَّتِي لَا تُنَالُ إِلَّا بِمَحَبَّتِهِ، وَلَا تُنَالُ مَحَبَّتُهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ، وَإِيثَارِهِ عَلَى مَا سِوَاهُ، فَاتَّخَذَهُ مَحْبُوبًا لَهُ، وَأَعَدَّ لَهُ أَفْضَلَ مَا يُعِدُّهُ مُحِبٌّ غَنِيٌّ قَادِرٌ جَوَادٌ لِمَحْبُوبِهِ إِذَا قَدِمَ عَلَيْهِ، وَعَهِدَ إِلَيْهِ عَهْدًا تَقَدَّمَ إِلَيْهِ فِيهِ بِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، وَأَعْلَمَهُ فِي عَهْدِهِ مَا يُقَرِّبُهُ إِلَيْهِ، وَيَزِيدُهُ مَحَبَّةً لَهُ وَكَرَامَةً عَلَيْهِ، وَمَا يُبْعِدُهُ مِنْهُ وَيُسْخِطُهُ عَلَيْهِ، وَيُسْقِطُهُ مِنْ عَيْنِهِ.

وَلِلْمَحْبُوبِ عَدُوٌّ، هُوَ أَبْغَضُ خَلْقِهِ إِلَيْهِ، قَدْ جَاهَرَهُ بِالْعَدَاوَةِ، وَأَمَرَ عِبَادَهُ أَنْ يَكُونَ دِينُهُمْ وَطَاعَتُهُمْ وَعِبَادَتُهُمْ لَهُ، دُونَ وَلِيِّهِمْ وَمَعْبُودِهِمُ الْحَقِّ، وَاسْتَقْطَعَ عِبَادَهُ، وَاتَّخَذَ مِنْهُمْ حِزْبًا ظَاهَرُوهُ وَوَالَوْهُ عَلَى رَبِّهِمْ، وَكَانُوا أَعْدَاءً لَهُ مَعَ هَذَا الْعَدُوِّ، يَدْعُونَ إِلَى سُخْطِهِ، وَيَطْعَنُونَ فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ، وَيَسُبُّونَهُ وَيُكَذِّبُونَهُ، وَيَفْتِنُونَ أَوْلِيَاءَهُ، وَيُؤْذُونَهُمْ بِأَنْوَاعِ الْأَذَى، وَيَجْهَدُونَ عَلَى إِعْدَامِهِمْ مِنَ الْوُجُودِ وَإِقَامَةِ الدَّوْلَةِ لَهُمْ، وَمَحْوِ كُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ، وَتَبْدِيلِهِ بِكُلِّ مَا يَسْخَطُهُ وَيَكْرَهُهُ، فَعَرَّفَهُ بِهَذَا الْعَدُوِّ وَطَرَائِقِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَمَا لَهُمْ، وَحَذَّرَهُ مُوَالَاتَهُمْ وَالدُّخُولَ فِي زُمْرَتِهِمْ وَالْكَوْنَ مَعَهُمْ.

وَأَخْبَرَهُ فِي عَهْدِهِ أَنَّهُ أَجْوَدُ الْأَجْوَدِينَ، وَأَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ، وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وَأَنَّهُ سَبَقَتْ رَحْمَتُهُ غَضَبَهُ، وَحِلْمُهُ عُقُوبَتَهُ، وَعَفْوُهُ مُؤَاخَذَتَهُ، وَأَنَّهُ قَدْ أَفَاضَ عَلَى خَلْقِهِ النِّعْمَةَ،

ص: 227

وَكَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، وَأَنَّهُ يُحِبُّ الْإِحْسَانَ وَالْجُودَ وَالْعَطَاءَ وَالْبِرَّ، وَأَنَّ الْفَضْلَ كُلَّهُ بِيَدِهِ، وَالْخَيْرَ كُلَّهُ مِنْهُ، وَالْجُودَ كُلَّهُ لَهُ، وَأَحَبُّ مَا إِلَيْهِ أَنْ يَجُودَ عَلَى عِبَادِهِ وَيُوسِعَهُمْ فَضْلًا، وَيَغْمُرَهُمْ إِحْسَانًا وَجُودًا، وَيُتِمَّ عَلَيْهِمْ نِعْمَتَهُ، وَيُضَاعِفَ لَدَيْهِمْ مِنَّتَهُ، وَيَتَعَرَّفَ إِلَيْهِمْ بِأَوْصَافِهِ وَأَسْمَائِهِ، وَيَتَحَبَّبَ إِلَيْهِمْ بِنِعَمِهِ وَآلَائِهِ.

فَهُوَ الْجَوَادُ لِذَاتِهِ، وَجُودُ كُلِّ جَوَادٍ خَلَقَهُ اللَّهُ، وَيَخْلُقُهُ أَبَدًا أَقَلُّ مِنْ ذَرَّةٍ بِالْقِيَاسِ إِلَى جُودِهِ، فَلَيْسَ الْجَوَادُ عَلَى الْإِطْلَاقِ إِلَّا هُوَ، وَجُودُ كُلِّ جَوَادٍ فَمِنْ جُودِهِ، وَمَحَبَّتُهُ لِلْجُودِ وَالْإِعْطَاءِ وَالْإِحْسَانِ، وَالْبِرِّ وَالْإِنْعَامِ وَالْإِفْضَالِ فَوْقَ مَا يَخْطُرُ بِبَالِ الْخَلْقِ، أَوْ يَدُورُ فِي أَوْهَامِهِمْ، وَفَرَحُهُ بِعَطَائِهِ وَجُودِهِ وَإِفْضَالِهِ أَشَدُّ مِنْ فَرَحِ الْآخِذِ بِمَا يُعْطَاهُ وَيَأْخُذُهُ، أَحْوَجُ مَا هُوَ إِلَيْهِ أَعْظَمُ مَا كَانَ قَدْرًا، فَإِذَا اجْتَمَعَ شِدَّةُ الْحَاجَةِ وَعَظُمَ قَدْرُ الْعَطِيَّةِ وَالنَّفْعِ بِهَا، فَمَا الظَّنُّ بِفَرَحِ الْمُعْطِي؟ فَفَرَحُ الْمُعْطِي سُبْحَانَهُ بِعَطَائِهِ أَشَدُّ وَأَعْظَمُ مِنْ فَرَحِ هَذَا بِمَا يَأْخُذُهُ، وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى، إِذْ هَذَا شَأْنُ الْجَوَادِ مِنَ الْخَلْقِ، فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ، وَالِابْتِهَاجِ وَاللَّذَّةِ بِعَطَائِهِ وَجُودِهِ فَوْقَ مَا يَحْصُلُ لِمَنْ يُعْطِيهِ، وَلَكِنَّ الْآخِذَ غَائِبٌ بِلَذَّةِ أَخْذِهِ، عَنْ لَذَّةِ الْمُعْطِي، وَابْتِهَاجِهِ وَسُرُورِهِ، هَذَا مَعَ كَمَالِ حَاجَتِهِ إِلَى مَا يُعْطِيهِ وَفَقْرِهِ إِلَيْهِ، وَعَدَمِ وُثُوقِهِ بِاسْتِخْلَافِ مِثْلِهِ، وَخَوْفِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ عِنْدَ ذَهَابِهِ، وَالتَّعَرُّضِ لِذُلِّ الِاسْتِعَانَةِ بِنَظِيرِهِ وَمَنْ هُوَ دُونَهُ، وَنَفْسُهُ قَدْ طُبِعَتْ عَلَى الْحِرْصِ وَالشُّحِّ.

فَمَا الظَّنُّ بِمَنْ تَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ، وَأَوَّلَ خَلْقِهِ وَآخِرَهُمْ، وَإِنْسَهُمْ وَجِنَّهُمْ، وَرَطْبَهُمْ وَيَابِسَهُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُوهُ، فَأَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مَا سَأَلَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدَهُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ.

وَهُوَ الْجَوَادُ لِذَاتِهِ، كَمَا أَنَّهُ الْحَيُّ لِذَاتِهِ، الْعَلِيمُ لِذَاتِهِ، السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لِذَاتِهِ، فَجُودُهُ الْعَالِي مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، وَالْعَفْوُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الِانْتِقَامِ، وَالرَّحْمَةُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ، وَالْفَضْلُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَدْلِ، وَالْعَطَاءُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْمَنْعِ.

فَإِذَا تَعَرَّضَ عَبْدُهُ وَمَحْبُوبُهُ الَّذِي خَلَقَهُ لِنَفْسِهِ، وَأَعَدَّ لَهُ أَنْوَاعَ كَرَامَتِهِ، وَفَضْلِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَجَعَلَهُ مَحَلَّ مَعْرِفَتِهِ، وَأَنْزَلَ إِلَيْهِ كِتَابَهُ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولَهُ، وَاعْتَنَى بِأَمْرِهِ وَلَمْ يُهْمِلْهُ، وَلَمْ يَتْرُكْهُ سُدًى، فَتَعَرَّضَ لِغَضَبِهِ، وَارْتَكَبَ مَسَاخِطَهُ وَمَا يَكْرَهُهُ وَأَبِقَ مِنْهُ، وَوَالَى عَدُوَّهُ وَظَاهَرَهُ عَلَيْهِ، وَتَحَيَّزَ إِلَيْهِ، وَقَطَعَ طَرِيقَ نِعَمِهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِ الَّتِي هِيَ أَحَبُّ شَيْءٍ

ص: 228

إِلَيْهِ، وَفَتَحَ طَرِيقَ الْعُقُوبَةِ وَالْغَضَبِ وَالِانْتِقَامِ فَقَدِ اسْتَدْعَى مِنَ الْجَوَادِ الْكَرِيمِ خِلَافَ مَا هُوَ مَوْصُوفٌ بِهِ مِنَ الْجُودِ وَالْإِحْسَانِ وَالْبِرِّ، وَتَعَرَّضَ لِإِغْضَابِهِ وَإِسْخَاطِهِ وَانْتِقَامِهِ، وَأَنْ يَصِيرَ غَضَبُهُ وَسُخْطُهُ فِي مَوْضِعِ رِضَاهُ، وَانْتِقَامُهُ وَعُقُوبَتُهُ فِي مَوْضِعِ كَرَمِهِ وَبِرِّهِ وَعَطَائِهِ، فَاسْتَدْعَى بِمَعْصِيَتِهِ مِنْ أَفْعَالِهِ مَا سِوَاهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْهُ، وَخِلَافُ مَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ مِنَ الْجُودِ وَالْإِحْسَانِ.

فَبَيْنَمَا هُوَ حَبِيبُهُ الْمُقَرَّبُ الْمَخْصُوصُ بِالْكَرَامَةِ، إِذِ انْقَلَبَ آبِقًا شَارِدًا، رَادًّا لِكَرَامَتِهِ، مَائِلًا عَنْهُ إِلَى عَدُوِّهِ، مَعَ شِدَّةِ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ، وَعَدَمِ اسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ.

فَبَيْنَمَا ذَلِكَ الْحَبِيبُ مَعَ الْعَدُوِّ فِي طَاعَتِهِ وَخِدْمَتِهِ، نَاسِيًا لِسَيِّدِهِ، مُنْهَمِكًا فِي مُوَافَقَةِ عَدُوِّهِ، قَدِ اسْتَدْعَى مِنْ سَيِّدِهِ خِلَافَ مَا هُوَ أَهْلُهُ إِذْ عَرَضَتْ لَهُ فِكْرَةٌ فَتَذَكَّرَ بِرَّ سَيِّدِهِ وَعَطْفَهُ وَجُودَهُ وَكَرَمَهُ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، وَأَنَّ مَصِيرَهُ إِلَيْهِ، وَعَرْضَهُ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَقْدَمْ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ قُدِمَ بِهِ عَلَيْهِ عَلَى أَسْوَأِ الْأَحْوَالِ، فَفَرَّ إِلَى سَيِّدِهِ مِنْ بَلَدِ عَدُوِّهِ، وَجَدَّ فِي الْهَرَبِ إِلَيْهِ حَتَّى وَصَلَ إِلَى بَابِهِ، فَوَضَعَ خَدَّهُ عَلَى عَتَبَةِ بَابِهِ، وَتَوَسَّدَ ثَرَى أَعْتَابِهِ، مُتَذَلِّلًا مُتَضَرِّعًا، خَاشِعًا بَاكِيًا آسِفًا، يَتَمَلَّقُ سَيِّدَهُ وَيَسْتَرْحِمُهُ، وَيَسْتَعْطِفُهُ وَيَعْتَذِرُ إِلَيْهِ، قَدْ أَلْقَى بِيَدِهِ إِلَيْهِ، وَاسْتَسْلَمَ لَهُ وَأَعْطَاهُ قِيَادَهُ، وَأَلْقَى إِلَيْهِ زِمَامَهُ، فَعَلِمَ سَيِّدُهُ مَا فِي قَلْبِهِ، فَعَادَ مَكَانَ الْغَضَبِ عَلَيْهِ رِضًا عَنْهُ، وَمَكَانَ الشِّدَّةِ عَلَيْهِ رَحْمَةً بِهِ، وَأَبْدَلَهُ بِالْعُقُوبَةِ عَفْوًا، وَبِالْمَنْعِ عَطَاءً، وَبِالْمُؤَاخَذَةِ حِلْمًا، فَاسْتَدْعَى بِالتَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ مِنْ سَيِّدِهِ مَا هُوَ أَهْلُهُ، وَمَا هُوَ مُوجَبُ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا، فَكَيْفَ يَكُونُ فَرَحُ سَيِّدِهِ بِهِ؟ وَقَدْ عَادَ إِلَيْهِ حَبِيبُهُ وَوَلِيُّهُ طَوْعًا وَاخْتِيَارًا، وَرَاجَعَ مَا يُحِبُّهُ سَيِّدُهُ مِنْهُ بِرِضَاهُ، وَفَتَحَ طَرِيقَ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ وَالْجُودِ، الَّتِي هِيَ أَحَبُّ إِلَى سَيِّدِهِ مِنْ طَرِيقِ الْغَضَبِ وَالِانْتِقَامِ وَالْعُقُوبَةِ؟ .

وَهَذَا مَوْضِعُ الْحِكَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْ بَعْضِ الْعَارِفِينَ أَنَّهُ حَصَلَ لَهُ شُرُودٌ وَإِبَاقٌ مِنْ سَيِّدِهِ، فَرَأَى فِي بَعْضِ السِّكَكِ بَابًا قَدْ فُتِحَ، وَخَرَجَ مِنْهُ صَبِيٌّ يَسْتَغِيثُ وَيَبْكِي، وَأُمُّهُ خَلْفَهُ تَطْرُدُهُ، حَتَّى خَرَجَ، فَأَغْلَقَتِ الْبَابَ فِي وَجْهِهِ وَدَخَلَتْ، فَذَهَبَ الصَّبِيُّ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ وَقَفَ مُفَكِّرًا، فَلَمْ يَجِدْ لَهُ مَأْوًى غَيْرَ الْبَيْتِ الَّذِي أُخْرِجَ مِنْهُ، وَلَا مَنْ يُئْوِيهِ غَيْرَ وَالِدَتِهِ، فَرَجَعَ مَكْسُورَ الْقَلْبِ حَزِينًا، فَوَجَدَ الْبَابَ مُرَتَّجًا، فَتَوَسَّدَهُ وَوَضَعَ خَدَّهُ عَلَى عَتَبَةِ الْبَابِ وَنَامَ، فَخَرَجَتْ أُمُّهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَمْ تَمْلِكْ أَنْ رَمَتْ نَفْسَهَا عَلَيْهِ، وَالْتَزَمَتْهُ تُقَبِّلُهُ وَتَبْكِي، وَتَقُولُ: يَا وَلَدِي، أَيْنَ تَذْهَبُ عَنِّي؟ وَمَنْ يُئْوِيكَ سِوَايَ؟ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ: لَا تُخَالِفْنِي، وَلَا تَحْمِلْنِي بِمَعْصِيَتِكَ لِي عَلَى خِلَافِ مَا جُبِلْتُ عَلَيْهِ مِنَ الرَّحْمَةِ بِكَ، وَالشَّفَقَةِ عَلَيْكَ، وَإِرَادَتِي الْخَيْرَ لَكَ؟ ثُمَّ أَخَذَتْهُ وَدَخَلَتْ.

ص: 229