الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكان علي غير متمكن من ذلك لتفرق الكلمة وانتشار الرعية وقوة المعركة لأولئك، فامتنع هؤلاء عن بيعته، إما لاعتقادهم أنه عاجز عن أخذ حقهم، وإما لتوهمهم محاباة أولئك، فقاتلهم علي لامتناعهم من بيعته، لا لأجل تأمير معاوية»
(1)
.
•
تلخيص لما حدث في معركة الجمل
(سنة 36 هـ):
منذ مقتل عثمان وبدأت الفتن تلوح في الأفق، وتلقي بظلالها على من عاصرها، ويرجع أصل النزاعات والحروب التي قامت في هذا الوقت إلى الخلاف الواقع حول مسألة الثَّأر لدم عثمان،
والانتصار من قاتليه، فهذه المسألة وإن كان متَّفقا عليها بين الجميع، إلا أن الخلاف وقع بينهم في: متى تكون.
ففريق يرى أن هذا الأمر مُقدَّم على غيره، وهذا الفريق انقسم لقسمين:
القسم الأول: بايع عليَّا واعترف له بالخلافة، لكنه كان يرى أن أول واجب على عليّ: أن يثأر من القتلة قبل أي شيء، وأن يُعجِّل بالقصاص
(1)
جامع المسائل لابن تيمية (6/ 263 - 164). وانظر كذلك: مجموع الفتاوى له (35/ 72 - 73)، والفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم (4/ 124)، والصواعق المحرقة على أهل الرفض والضلال والزندقة لابن حجر الهيتمي (2/ 622).
منهم. وهذا القسم يُمثِّلُه الزبير بن العوام، وطلحة بن عبيدالله، ومن معهما. وهذا القسم هو من حاربه عليٌّ في يوم الجمل.
القسم الثاني: امتنع عن مبايعة علي حتى يتم الثأر لدم عثمان، وهذا القسم يُمثِّلُه معاوية بن أبي سفيان ومن معه من أهل الشام. وهذا القسم هو من حاربه عليٌّ في يوم صِفِّين.
وأما الفريق الآخر: فيرى أن الثأر لدم عثمان حق وواجب، ولكن الأمر في الدولة الإسلامية في هذا الوقت غير مستقر، والمطالبة بالثأر الآن ليست في قدرة الخليفة ولا في استطاعته، فقتلة عثمان منتشرون ومتغلغلون داخل الجيش، فالتأنِّي الآن والتريُّث هو الأسلم للمسلمين. وهذا الفريق يُمثِّلُه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
(1)
.
يقول ابن حزم في معرض دفاعه عن موقف عليٍّ ومن معه: «أما قولهم: إن أخذ القَوَد واجب من قتلة عثمان، المحاربين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، الساعين في الأرض بالفساد، والهاتكين حرمة الإسلام والحرم والأمانة والهجرة والخلافة والصحبة والسابقة؛ فنَعَم،
(1)
وهناك فريق ثالث اشتبه عليه الأمر، ولم يستطع الترجيح، فاعتزل الفتنة كلها، ومن هؤلاء: سعد بن أبي وقاص، وعبدالله بن عمر، وسعيد بن زيد، رضي الله عنهم جميعا.
انظر أسماء هؤلاء المعتزلين في: أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب للصلابي (ص: 523 - 533).
وما خالفهم قط عليٌّ في ذلك، ولا في البراءة منهم، ولكنهم كانوا عددا ضخما جمَّا، لا طاقة له عليهم، فقد سقط عن عليٍّ مالا يستطيع عليه، كما سقط عنه وعن كل مسلم ما عجز عنه من قيام بالصلاة والصوم والحج، ولا فرق، قال الله تعالى:{لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» ولو أن معاوية بايع عليا لقَوِيَ به على أخذ الحق من قتلة عثمان، فصحَّ أن
الاختلاف هو الذي أضعف يد علي عن إنفاذ الحق عليهم، ..... » إلى آخر كلامه هناك
(1)
.
وبهذا التلخيص يتبين لنا أن كلا من هؤلاء الصحابة الأفاضل قد اجتهد، وهم جميعا أهل لهذا الاجتهاد، فيكون للمصيب منهم أجران، وللمخطئ أجر، ولا حرج عليهم إن شاء الله تعالى.
ونعود الآن إلى القسم الأول من الفريق الأول، الذي بايع عليا، لكنه طلب بتعجيل القصاص من قتلة عثمان، فهم يرون الآن أن الأشهر تمر، وعليٌّ لم يفعل شيئا بعد في شأن هؤلاء القتلة. عندها بدأوا يفكرون في حلول بديلة.
(1)
الفصل في الملل والأهواء والنحل (4/ 126).
خرج طلحة والزبير أوَّلاً إلى مكة، فالتقيا هناك بأم المؤمنين عائشة، واتفقوا جميعا على ضرورة التعجيل بالثأر لدم عثمان، وساعدهم على التحرك لهذا الغرض: أنْ تواجد في مكة في هذا الوقت عبدالله بن عامر، وكان أمير البصرة في عهد عثمان، وكذلك تواجد يعلى بن أمية، الذي كان قد خرج من اليمن لإعانة الخليفة، وكِلا الرجلين يحثّ على الخروج، ويعرض المعونة المادية.
واتفقوا بعد تشاور بينهم على أن يبدأوا الحركة من البصرة، ثم يتوجهوا إلى الكوفة، ويستعينوا بأهلها على قتلة عثمان منهم أو من غيرهم، ثم يدعون أهل الأمصار الأخرى لذلك، حتى يُضيقوا الخناق على قاتلي عثمان الموجودين في جيش عليّ، فيأخذونهم بأقل قدر ممكن من الضحايا
(1)
.
وكانت مطالبهم في ذلك الخروج واضحة، وهي: الثأر لدم عثمان، والإصلاح، وإعلام الناس بما فعل الغوغاء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن هذا المطلب هو لإقامة حد من حدود الله، وأنه إذا لم
(1)
تاريخ الطبري (4/ 449 - 450)، البداية والنهاية (10/ 432).
يؤخذ على أيدي قتلة عثمان فسيكون كل إمام معرضًا للقتل من أمثال هؤلاء
(1)
.
ولما وصلوا إلى البصرة، خرج إليهم عثمان بن حنيف، والي عليٍّ على البصرة، فقال لهم:«ماذا تريدون؟» قالوا: نريد قتلة عثمان. فقال لهم: «حتى يأتي عليٌّ» ، ومنعهم من الدخول.
ثم خرج إليهم حُكيم بن جَبَلة، وهو أحد الذين شاركوا في قتل عثمان، فقاتلهم في سبعمئة رجل
فانتصروا عليه، وقتلوا كثيرا ممن كان معه، وانضم كثير من أهل البصرة إلى جيش طلحة والزبير وعائشة
(2)
.
بلغ عليَّا أن ثمة قتال وقع بين عثمان بن حنيف، وبين جيش طلحة والزبير، عندها جهز جيشا قوامه عشرة آلاف، وخرج من المدينة إلى الكوفة. وهنا يظهر لنا جليا أن علي بن أبي طالب هو الذي خرج إليهم ولم يخرجوا عليه، ولم يقصدوا قتاله كما تدعي بعض الطوائف ومن تأثَّر بهم، ولو كانوا يريدون الخروج على عليٍّ لذهبوا إلى المدينة مباشرة، وليس إلى البصرة
(3)
.
(1)
أسمى المطالب (ص: 542).
(2)
البداية والنهاية (10/ 436 - 439).
(3)
حقبة من التاريخ (ص: 176).
ولما وصل عليٌّ إلى البصرة، أرسل القعقاع بن عمرو للتفاوض مع طلحة والزبير، واتفق الجميع على عدم القتال، والانتظار لحين استقرار الأمر، حتى يتسنَّى لعلي تنفيذ القصاص. بيد أن هذا الاتفاق لم يصادف قبولا عند قتلة عثمان الذين تغلغلوا في جيش علي، فقد رأوا في هذا الاتفاق تمهيدا للقضاء عليهم، فباتوا ليلتهم يفكرون في كيفية إشعال الفتنة والحرب بين الجيشين، فاستقر رأيهم على أن تخرج جماعة منهم لتهجم على جيش طلحة والزبير، وتقتل بعض الأفراد منهم، ثم يولوا هاربين، وفي ظلام الليل نفَّذوا ما اتفقوا عليه.
فوجئ جيش طلحة بهجوم عليه، وقَتْلٍ في أفراده، فظنوا أن جيش عليٍّ غدر بهم، فناوشوا جيش عليّ في الصباح، فظن جيش علي أن جيش طلحة والزبير قد غدر، فاستمرت المناوشات بين الفريقين حتى كانت الظهيرة؛ فاشتعلت المعركة.
وعلى الرغم من محاولة علي لتهدئة الموقف من جهة، والزبير وطلحة من جهة أخرى؛ إلا أن نداءاتهم لم تجد آذانا صاغية، وساعد قتلةُ عثمان على إذكاء نار الحرب وتهييجها، حتى كثر القتل في الطرفين، وسالت الدماء، وتناثرت الأشلاء، وعُقر جمل أم المؤمنين عائشة، والذي سُمِّيت الموقعة باسمه، واستبسل الناس في الدفاع عنها، وقُتِل طلحة