الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والزبير رضي الله عنهما في ذلك اليوم. وردَّ
عليٌّ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إلى المدينة مُعزَّزَة مُكرَّمَة
(1)
.
•
تلخيصٌ لما حدث في معركة صِفِّين
(سنة: 37 هـ):
كان معاوية - كما قدَّمنا - من القسم الثاني من الفريق الأول، والذي امتنع عن مبايعة علي حتى يتم القصاص من قتلة عثمان، فرأى عليٌّ بعد معركة الجمل أنه يجب على معاوية وأصحابه طاعته ومبايعته، إذ لا يكون للمسلمين إلا خليفة واحد، ورأى أنهم خارجون عن طاعته، يمتنعون عن هذا الواجب، وهم أهل شوكة؛ عندها رأى أن يقاتلهم حتى يؤدوا هذا الواجب، فتحصل الطاعة والجماعة
(2)
.
ولذا أعدَّ عليٌّ جيشه، وخرج به إلى صِفِّين في الشام. ولما علم معاوية بخروج عليٍّ إليه، جهَّز جيشا وخرج به لملاقاة علي ومن معه، مُصِرَّاً بذلك على موقفه من عدم المبايعة؛ لحين تسليمه قتلة عثمان.
بدأ الأمر بين الجيشين بمناوشات يسيرة، ثم محاولات للصلح لم يُكتب لها النجاح، وأعقب ذلك حرب دامية بين الطرفين، قُتِل فيها عشرات الآلاف من الطرفين، حتى رأى بعض العقلاء ضرورة التوقُّف
(1)
انظر: تاريخ الطبري (4/ 506 - 539)، البداية والنهاية (10/ 440 - 469).
(2)
مجموع الفتاوى (35/ 72).
حقنا لدماء من بقي من المسلمين، وخوفا على النساء والذراري من فناء رجالهم، وهجوم الأعداء عليهم، فرفع جنود معاوية المصاحف على أسنَّة الرماح، مطالبين بذلك تحكيم كتاب الله بينهم، فرضي عليٌ بذلك، ورجع إلى الكوفة، ورجع معاوية إلى الشام.
انتدب عليٌ أبا موسى الأشعري ليكون نائبه في ذلك التحكيم، وانتدب معاويةُ عمرو بن العاص ليكون نائبه، ودارت بينهما مفاوضات، وردت فيها أخبار كثيرة باطلة لا يصح منها شيء
(1)
، والصحيح أن الطرفين اتفقا في النهاية على وقف القتال لأجل مُسمَّى
(2)
.
وقبل أن نغادر هذا الموطن، يحسن بنا أن نشير هنا إلى شيء من آراء العلماء في الترجيح بين اجتهاد الصحابة في هذه الفتنة:
قال ابنُ كثيرٍ: «كان عليٌّ وأصحابه أدنى الطائفتين إلى الحق من أصحاب معاوية، وأصحاب معاوية كانوا باغين عليهم، كما ثبت في صحيح مسلم
(3)
من حديث أبى سعيد الخدري قال: حدثني من هو خير
(1)
انظر هذه الروايات ونقدها في: مرويات أبي مِخْنَف في تاريخ الطبري (ص: 377 - 418).
(2)
تاريخ الطبري (5/ 5 - 64)، البداية والنهاية (10/ 491 - 559).
(3)
أخرجه مسلم (كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل، فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء، رقم 2915).
مني - يعني أبا قتادة- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار بن ياسر: «تقتلك الفئة الباغية»
(1)
.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وعليٌّ ومن معه أولى بالحق من معاوية وأصحابه، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " «تمرق مارقة على حين فُرْقةٍ من المسلمين، تقتلهم أولى الطائفتين بالحق»
(2)
، فدلَّ هذا الحديث على أن عليَّا أولى بالحق ممن قاتله؛ فإنه هو الذي قتل الخوارج لما افترق المسلمون»
(3)
.
ومع كون علي رضي الله عنه كان الأقرب إلى الحق، إلا أن بعض العلماء يرون أنه لم يصب الحق كاملا، وأن الحق كان مع من اعتزل القتال بالكلية، فإن الإصلاح كان أولى من الاقتتال، وإلا فالاعتزال.
قال شيخ الإسلام - بعد أن قرَّر أن عليَّا وعسكره أولى بالحق من معاوية وعسكره -: «لكن الفئة الباغية هل يجب قتالها ابتداء قبل أن
(1)
البداية والنهاية (9/ 193).
(2)
أخرجه مسلم (كتاب الكسوف، باب ذكر الخوارج وصفاتهم، رقم 1064) عن أبي سعيد الخدري. وكان عمّار في جيش علي، فقتله جنود معاوية، رضي الله عنهم جميعا، فعندها تبيَّن للناس أن الفئة الباغية هي فئة معاوية.
(3)
منهاج السنة (7/ 57). وسيأتي الحديث عن قتال الخوارج في الكلام عن معركة النهروان.
تبدأ الإمام بالقتال، أم لا تقاتل حتى تبدأ بالقتال؟ هذا مما تنازع فيه العلماء، وأكثرهم على القول الثاني، فلهذا كان مذهب أكابر الصحابة والتابعين والعلماء أن ترك عليّ القتال كان أكملَ وأفضلَ وأتمَّ في سياسة الدين والدنيا»
(1)
.
ثم اعتذر عن فعل عليٍّ بأنه كان إمام هدى من الخلفاء الراشدين، وأنه فعل ما فعل متأولا مجتهدا، وقد عَذَرَ النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد لما قتل الرجل الذي أشهر إسلامه لمَّا رَفَع عليه السيف، وكذلك عَذَرَ خالد بن الوليد لما قتل من قتل من بني جذيمة، لأنهم لم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، وقالوا: صبئنا؛ لأن ذلك كان تأولا منهما، ومعلوم أن عليَّا وطلحة والزبير كانوا أفضل من أسامة وخالد وغيرهما، فهم أولى بقبول العذر منهم.
وقال شيخ الإسلام: «ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن الحسن: «إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» "
(2)
، فمدح الحسن على الإصلاح، ولم يمدح على القتال في
(1)
جامع المسائل (6/ 246).
(2)
أخرجه البخاري (كتاب الصلح، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي «إن ابني هذا سيد»، رقم 2704، وكتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، رقم 3629، وباب مناقب الحسن والحسين، رقم 3746، وكتاب الفتن، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي «إن ابني هذا سيد»، رقم 7109) عن أبي بكرة.
الفتنة؛ علمنا أن الله ورسوله كان يحب الإصلاح بين الطائفتين دون الاقتتال. ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح في الخوارج: «يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وقراءته مع قراءتهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة»
(1)
، وقال:«يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق» ورُوِيَ: «أولى الطائفتين بالحق»
(2)
من معاوية وأصحابه؛ أَعْلَمَ أن قتال الخوارج المارقة أهل النهروان الذين قاتلهم علي بن أبي طالب، كان قتالهم مما أمر الله به ورسوله، وكان عليٌّ محمودا مأجورا مثابا على قتاله إياهم. وقد اتفق الصحابة والأئمة على قتالهم، بخلاف قتال الفتنة، فإن النص قد دلَّ على أنَّ ترك القتال
فيها كان أفضل، لقوله صلى الله عليه وسلم: «ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من
(1)
متفق عليه: أخرجه البخاري (كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، رقم 3611، وكتاب فضائل القرآن، باب إثم من راءى بقراءة القرآن أو تأكل به أو فخر به، رقم 5057، وكتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم، رقم 6930) ومسلم (كتاب الكسوف، باب التحريض على قتل الخوارج، رقم 1066) عن علي بن أبي طالب.
(2)
تقدَّم تخريجه.
الماشي، والماشي فيها خير من الساعي»
(1)
، ومثل قوله لمحمد بن مسلمة:«هذا لا تضره الفتنة»
(2)
، فاعتزل محمد بن مسلمة الفتنة، وهو من خيار الأنصار، فلم يقاتل لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء. وكذلك أكثر السابقين لم يقاتلوا، بل مثل سعد بن أبي وقاص، ومثل أسامة بن وزيد، وعبدالله بن عمر، وعمران بن الحصين، ولم يكن في العسكرين بعد علي أفضل من سعد بن أبي وقاص ولم يقاتل، وزيد بن ثابت، ولا أبو هريرة، ولا أبو بكرة، ولا غيرهم من أعيان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأُهْبَان بن صَيْفِي:«خذ هذا السيف فقاتل به المشركين، فإذا اقتتل المسلمون فاكسره»
(3)
، ففعل ذلك ولم
(1)
متفق عليه: أخرجه البخاري (كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، رقم 3601، وكتاب الفتن، باب تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، رقم 7081، 7082) ومسلم (كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب نزول الفتن كمواقع القطر، رقم 2886) عن أبي هريرة.
(2)
أخرجه أبو داود (كتاب السنة، باب ما يدل على ترك الكلام في الفتنة، رقم 4663) عن حذيفة بن اليمان.
(3)
أخرجه أحمد (5/ 69 رقم 20670، 20671، 6/ 393 رقم 27199، 27200، 27201) وابن ماجه (كتاب الفتن، باب التثبت في الفتن، رقم 3960) والترمذي (كتاب الفتن، باب ما جاء في اتخاذ سيف من خشب في الفتنة، رقم 2203) - واللفظ لأحمد - عن عُدَيْسة بنت أُهْبان، أن علي بن أبي طالب أتى أهبان، فقال: ما يمنعك من اتباعي، فقال: أوصاني خليلي وابن عمك، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«ستكون فتن وفرقة، فإذا كان ذلك فاكسر سيفك، واتخذ سيفا من خشب» ، فقد وقعت الفتنة والفرقة، وكسرت سيفي، واتخذت سيفا من خشب، فهذا سيفي، فإن شئتَ خرجتُ به معك، فقال عليٌّ: لاحاجة لنا فيك، ولا في سيفك.
يقاتل في الفتنة. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من
الفتن»
(1)
. وفي الصحيح عن أسامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إني لأرى الفتنة تقع خلال بيوتكم كمواقع القَطْر»
(2)
.
والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة في إخباره بما سيكون في الفتنة بين أمته، وأمره بترك القتال في الفتنة، وأنَّ الإمساك عن الدخول فيها خيرٌ من القتال»
(3)
.
(1)
أخرجه البخاري (كتاب الإيمان، باب من الدين الفرار من الفتن، رقم 19، وكتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، رقم 3600، وكتاب الرقاق، باب العزلة راحة من خلاط السوء، رقم 6495، وكتاب الفتن، باب التعرب في الفتنة، رقم 7088) عن أبي سعيد الخدري.
(2)
متفق عليه: أخرجه البخاري (كتاب الحج، باب آطام المدينة، رقم 1878، وكتاب المظالم والغصب، باب الغرفة والعلية المشرفة وغير المشرفة في السطوح وغيرها، رقم 2467، وكتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، رقم 3597، وكتاب الفتن، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ويل للعرب من شر قد اقترب»، رقم 7060) ومسلم (كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب نزول الفتن كمواقع القطر، رقم 2885) عن أسامة بن زيد.
(3)
جامع المسائل (6/ 266 - 268).
لكن يبقى لنا بعد أن عرضنا هذه الأقوال والآراء للعلماء في هذه الفتنة، أن نشير إلى أن الإمساك عمَّا شَجَرَ بين الصحابة، وذكرهم بالحسنى؛ هو مذهب أهل السنة والجماعة.
قال أبو بكر المرُّوذي: قيل لأبي عبدالله أحمد بن حنبل: يا أبا عبدالله، ما تقول فيما كان بين علي ومعاوية؟ فقال أبو عبدالله:«ما أقول فيهم إلا الحسنى»
(1)
.
وقال المرُّوذي: وسمعت أبا عبدالله، وذُكر له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«رحمهم الله أجمعين، ومعاوية وعمرو بن العاص وأبو موسى الأشعري والمغيرة، كلهم وصفهم الله تعالى في كتابه فقال: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29]»
(2)
.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ولهذا كان من مذهب أهل السنة: الإمساك عما شَجَرَ بين الصحابة،
فإنه قد ثبتت فضائلهم، ووجبت موالاتهم ومحبتهم»
(3)
.
(1)
مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي (ص: 220 - 221).
(2)
المصدر السابق.
(3)
منهاج السنة النبوية (4/ 448 - 449).