الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقوله فيما أنشدنيه شيخنا أبو الحسن الكندي «1» «2» : [الخفيف]
قد بدا ما تسر فيما تقول
…
إنما أنت عاشق لا عذول
رابني منك في ملامك تكثي
…
ر لصبري ببعضه تقليل
وحديث ملجلج فيه للقل
…
ب على السّر آية ودليل
يا رعى الله شادنا أمست الأض
…
داد فيه للحين وهي شكول
قسم البدر بيننا فله النو
…
ر وعندي محاقه والذّبول
إنما أنت مهجتي واتخاذي
…
بدلا عن حشاشتي مستحيل
ومنها:
ثروتي فوق همتي ومرامي
…
فوق طولي وساعدي مغلول
«3» وقد رواها شيخنا أبو الثناء الحلبي لأخيه الموفق «4» ، وكلاهما ثبت، ولعل الكندي أدرى بطرق الرواية.
16- ومنهم: ابن بصاقة، فخر القضاة، أبو الفتح، نصر الله بن هبة الله بن عبد الباقي بن الحسين بن يحيي الغفاري، الكناني
«5» .
كتب للناصر داود بن عيسى «1» ، ووزر وجلس معه في صدر الإيوان والطرد، ونشأ وتأدب بالشام، وأومضت له بارقة كانت تشام، ثم صرف عن وزارة الناصر عنانه، ونفض منها بنانه، لأمور نقمها، وشرور خاف نقمها، وكان يحذر سوء خلائق مالكه، وتوعر طرائق مسالكه، فطالما أظلم جوّه، وأعتم دوّه، فتسلل منه بمخيلة ذبت في السراء، ودلت على الضراء، فخاف مساورة ذلك الأرقم، وترك مساقاة الشهد به خوفا من العلقم، وكان طود حجا وحجاج، وطوق جيد وحجاج، زينة إلى فصاحة شب على إرضاعها، وسماحة تولّى حفظ مضاعها، وبلاغة كانت حلية لنظامه، وحلة لإحلاله في الصدور وإعظامه؛ ووزر جدي رحمه الله بعده، ثم عاف تلك الدولة ففارقها في ليلة قمراء مسودة، لأمور ما هذا ميقات شرحها، ولا مرقاة صرحها؛ فأما ما لابن بصاقة:
* فمن نثره قوله:
وأما الأبيات الجيمية، الجمة المعاني، المحكمة المباني، المعوذة بالسبع المثاني، فإنها والله حسنة النظام، بعيدة المرام، مقدمة على شعر من تقدمها في الجاهلية وعاصرها في الإسلام، قد أخذت بمجامع القلوب في الإبداع، واستولت على المحاسن فهي نزهة الأبصار والأسماع، ولعبت بالعقول لعب الشمول، إلا أن تلك خرقاء وهذه صناع، فإذا اعتبرت ألفاظها كانت درّا منظوما، وإذا اختبرت معانيها كانت رحيقا مختوما، جلّت بعلوها عن المغاني المطروقة، والمعاني المسروقة، ودلت بعلوها على أنها من نظم الملوك لا السوقة، فلو وجدها ابن المعتز
لأجرى زورقه الفضة في نهرها، وألقى حمولته العنبر في بحرها «1» ، وألقى تشبيهاته «2» بأسرها في أسرها، ولو لقيها ابن حمدان لاغتم فرمى قوس الغمام، وانبرى زي السهام، وتغطى من أذيال الغلائل المصبغة بذيل الظلام «3» ، ولو سمعها امرؤ القيس لعلم أن فكرته قاصرة، وكرته خاسرة، وأيقن أن وحوشه غير مكسورة، وعقبانه غير كاسرة؛ فأين الجزع الذي لم يثقب من الدرّ الذي قد ينظم ويهذب «4» ؟ وأين ذلك الحشف البالي من هذا الشرف العالي؟ فالله يكفي الخاطر الذي سمح بها عين الكمال الشحيحة، وتشفي القلوب العليلة بأدوية هذه الأنفاس الصحيحة.
وأما الأبيات فهي هذه «5» : [الكامل]
يا ليلة قطّعت عمر ظلامها
…
بمدامة صفراء ذات تأجج
بالساحل الباقي روائح نشره
…
عن روضه المتضوع المتأرج
واليم زاه قد هدا تياره
…
من بعد طول تقلّق وتموج
طورا يدغدغه الشمال وتارة
…
يكرى فتوقظه بنات الخزرج
«1»
والبدر قد ألقى سنا أنواره
…
في لجه المتجعد المتدبج
فكأنه إذ قدّ صفحة متنه
…
بشعاعه المتوقّد المتوهّج
نهر تكون من نضار مائع
…
يجري على أرض من الفيروزج
قالها الملك الناصر داود، وبعث بها إليه يعرضها عليه؛ وهي أبيات يحق لها أن توصف بجودتها وشرف قائلها، وإن لم تحل الذروة، ولا أو شكت؛ ثم نعود إلى تتمة ما نذكره:
فمن قوله:
يقبل الأرض، وينهي أنه فارق مالك رقه مرارا، وما وجد لفراقه من الألم ما وجده هذه المرة، وبعد عن جالب رزقه، فانضرّ ولا مثل هذه المضرة، حتى لقد توهم أنها فرقة الأبد، وداخله من الأسف ما لم يبق معه صبر ولا جلد، وكلما شرع في الصبر أبى الذكر أن يحدث له صبرا، وكلما سهل عليه الأمر لم يزده تسهيله إلا عسرا؛ والله تعالى يسهل من اللقاء كل صعب عسير، ويجمع شمل المملوك بمالكه وهو على جمعهم إذا يشاء قدير.
ومنه قوله:
المملوك يشافه أرض مالكه بقبول خضوعه، ويبل ترابها بوابل دموعه، ويستقل فيضها ولو أنه من سيل نجيعه، لما ناله من الحادث المؤلم الملم، والخطب المظلم المدلهم، بانتقال الولد العزيز، الملك العزيز؛ فلقد ورد المملوك من الكتاب الوارد بنعيه مشرعا كدر الموارد، عسر المصادر «2» ، وحضر منه مجمعا كثير
البوادي والحواضر، فياله ناعيا أصم الأسماع وأصماها، وأقذى العيون بل أعماها، وجرح القلوب فأدماها، وما أهمل سحب الجفون لكن أهملها وأهماها، وتبّا له من نغيص نغص الدنيا على أربابها، وإن كانت معشوقة محبوبة، وكره الحياة عند أصحابها مع أنها شهية مطلوبة، وكان الأولى بالمملوك أن يصرف عن ذكر الحادثة صفحا، ولا ينكأ بتجديده بالقرح قرحا، ولا يقصد لباب الجزع بعد انغلاقه فتحا، ولا يطلع التعزية ليلا وقد طلعت التسلية صبحا.
ومنه قوله:
وينهي ورود المثال الكريم، فوقف منه على اللفظ البليغ والمعنى البديع، وعلم عند تدبره أنه فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ
«1» ، وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
«2» وتصور أن كاتبه قد جاوز البحر فأتحفه بجواهره، بل جاور الملك فأسعفه بعساكره؛ وصدق تصوره كون ألفاظه جواهر وكنانة كتائب، وعجبت لخروج الدر من العذب حتى تذكرت أن عادة البحر العجائب؛ وأما ما أمر به من النيابة عنه في خدمة مولانا الوزير، فقد ناب عنها لكن مناب تراب التيمم عن الماء الطهور، وأنهى مشافهاته، وأدى من جملها في الساعة الواحدة ما لا يفصل في عدة من الشهور؛ وأما أحوال المملوك، فإنه من صدقات الديوان ما يعدم سوى النظر إلى طلعة مولانا التي هي عديمة النظير، ولا يشتهي غير الفوز بخدمته، وذلك هو الفوز الكبير؛ وكل هذا برفع محل مولانا لمحلي، ولأجله لا لأجلي:[الطويل]
أضمّ قضيب البان من أجل قدها
…
والثم ثغر الكاس أحسبه فاها
إلا أن المملوك قد أطال الإقامة في دار المقامة، ونال الكرامة حتى يكاد يسأم الكرامة، وله أسوة بالقائل وقد طالت حياته: سئمت تكاليف الحياة «1» ؛ وإذا أغرقت المياه وإن كانت عذبة شكيت المياه.
ومنه قوله: وينهي ورود المثال الكريم، بالنبإ العظيم الذي أصمى القلوب، وأصم المسامع، وأوقف الخواطر، وأجرى المدامع، وضيق على النفوس مجرى الصبر الواسع، وفزعت الآمال فيه إلى الكذب، فما أجدى جزع الجازع من نعي الإمام الطاهر النقي، العلم الزاهر الزكي، خليفة الله المستنصر بالله، بوأه الله جنان عدنه، وأسكنه غرفات أمنه، وانتقاله عن الغمة الضيقة إلى الرحمة الواسعة، ومصيره من الدار المفرقة إلى الدار الجامعة؛ فأظلم بها الأفق لكسوف شمس الضياء، ودجا ليل الجو لخسوف قمر العلياء، وضحيت وجوه المكارم لتقلص تلك الأفياء، وكادت تنفطر لفقده السماء ذات البروج بقضاء نحبها، وبكته بدموع قطرها من جفون سحبها، حتى خدت خدود المروج، وشقت للأرض جيوب تربها فألبسها حدادا من بياض الثلوج، فياله خطبا عم الوجود باسره بأسره، وحص جناح الإيمان بحصه بل بكسره، وعرف كل عارف بفظاعة نكره، وقضى لكل قلب بتجمع همه وتقسم فكره، وأعاد الإسلام غريبا كما بدأ أول عمره؛ لكن أقرن به الخبر الذي سر السرائر وجلّى الدياجر، وثبت القلوب بعد أن بلغت الحناجر، بولاية مولانا الإمام المحتوم الطاعة، خليفة الله في أرضه، والقائم بسنة الإيمان وفرضه، أمير المؤمنين المستعصم بالله ابن خليفته ووليه، وابن عم رسوله ونبيه، فأجلت بوائق الحادث الجلل، وقضت بانقباض الوجل، وانبساط الأجل،
وحصل العطف والتوكيد بهذا النعت وهذا البدل، فالحمد لله الذي تدارك بالجبر كسر الإسلام، وحسم بالبرء موادّ الآلام، وأزال باليقين عوارض الأوهام، وعاجل بالرتق فتق الأيام؛ فيالها دعوة أجاب داعيها كل مبصر وسامع، وأمّن عليها كل ساجد وراكع، وتليت آياتها في كل مصر جامع، وتلقّى العبد هذه النعمة بالشكر الذي استغرق غاية جهده ونهاية وسعه، وأكثر الحمد لله على ما أولى من جزيل منّه وجميل صنعه، وسارع إلى تلقي المثال الكريم باتباعه وامتثاله، وأخذ البيعة على نفسه وشيعته ورعيته، وأعلن بالدعاء لإمامه، على منابر بلاده، التي هي من إنعامه، ولولا أنه في مقابلة عدو الدين لما قنع في تأدية فرض العين بسنة النيابة، وكان يسعى إلى الباب الكريم بعزيمة وارية غير وانية، ويشفع هجرته الأولى إلى الحرم الشريف بهجرة ثانية.
ومنه قوله في توقيع لقاضي القضاة محيي الدين أبي الفضل يحيى بن الزكي العثماني «1»
:
ونحا سيرة أجداده فما عدل عنها ولا حاد، وفضل بالفضائل فما عد غيره في الجم الغفير إلا كان معدودا في الأفراد والآحاد، فإذا تولى أمرا بلغ فيه أقصى الأمل والإرادة، وإذا باشر مهما استقصى الغرض فلم يبق موضعا للزيادة؛ فرأينا أن ننوله من رتب السعادة ما رأيناه له أهلا، وأن نؤتيه منا فضلا، وأن ننصبه بين أهل بلده حاكما، وننضيه لحسم مواد المخاصمات صارما، ونحمله من أعباء المناصب ما يكون بحقوقه قائما، ويرتضى منه لتدبير عوالي المراتب طبا خبيرا، وإماما عالما.
ومن قوله في خطبة صداق المراجعة:
رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً
«1»
الحمد لله جامع الشمل بعد الشتات، وواصل الحبل بعد البتات، ومحيي الأرض بعد الممات، ومنزل الماء الثجاج من المعصرات لإخراج الحب والنبات، والعالم بما كان وما يكون وما مضى وما هو آت؛ وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، شهادة تضاعف الحسنات، وتمحو السيئات؛ وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث بالآيات البينات، صلى الله عليه وعلى آله الأبرار وأزواجه الطاهرات، صلاة باقية بعد نفاد الأزمنة وفناء الأوقات؛ وبعد:
فالنكاح من السنن التي أمر الله بها، وندب إليها، ورغّب رسوله صلى الله عليه وسلم فيها، وحض عليها، فقال تعالى في كتابه العزيز المنزل على أفضل أنبيائه ورسله، الذي لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لا يأتون بمثله:
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
«2» . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المخصوص بالشفاعة والكرامة «3» : «تناكحوا تناسلوا أباهي بكم الأمم يوم القيامة» وقد جعل الله تعالى للزوجين أن يتواصلا وأن يتقاطعا، وأن يتباينا وأن يتخالعا، ورخص لهما في المراجعة بقوله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا
«4» وكان من قضاء الله السابق علمه، وقدره المارق سهمه، ما ذكر في هذا الكتاب المقرون
بالبركة رقمه، المعجون بالسعادة ختمه، كذا وكذا.
ومنه قوله، وهو حل بيت المتنبي، وهو «1» :[الكامل]
إن القتيل مضرجا بدموعه
…
مثل القتيل مضرجا بدمائه
قتيل «2» الجفون الفواتر في سبيل حبه، كقتيل السيوف البواتر في سبيل ربه، إلا أن هذا يغسل بدموعه، وهذا يزمل بنجيعه، وهذا في حال حياته ميت يرمق، وهذا في حال مماته حي يرزق.
ومنه قوله في حل» أبيات ابن الرومي «4» : [الكامل]
وحديثها السحر الحلال لوانه
…
لم يجن قتل المسلم المتحرز
إن طال لم يملل وإن هي أوجزت
…
ودّ المحدث أنها لم توجز
شرك العقول وفتنة ما مثلها
…
للمطمئن وعقلة المستوفز
لا جناح على من شغف بفاترة الجفون، فاتكة العيون، عليل لحظها، صحيح لفظها، تعد السقام الشفاء من قربها، وتوقع الأنام في شرك من هدبها؛ وإن أثبتت طعنت من ناضر غصن رطيب بعامل ذابل، وإن رمقت رشقت عن قوس حاجب بنبل نابل، وإن نطقت فاستمع لما أنزل على الملكين ببابل، فهو السحر الحلال، مع قتله النفوس عمدا؛ والعذب الزلال؛ إلا أنه أن يزيد المرتشف له وقدا، والعاقل للعقول فلا تجد من وقوعها في عقاله بدّا، يؤمن على طويلة الملك، وكل طويل سواه مملوك، ويود سامع قليله لو أنه بالكثرة متصف، وبالزيادة
مشمول، يلهي المشتغل عن قضاء أشغاله، ويعوق عن مضي استعجاله بنزه النواظر في رياض حسنها الناظرة، وتغرق الخواطر في بحار ذهنها الزاخرة، تقيد الألباب ولو أساءت، وعهدنا الإنسان بالإحسان يتقيد، وتصيد القلوب طوعا وكرها، فاعجبوا من غزالة تتصيد.
* ومن شعره قوله «1» : [مخلع البسيط]
يقول لي ما دحوه لما
…
فازوا وما فزت بالرغائب
مالك فينا بغير عين؟
…
قلت: لأني بغير حاجب
فإن تعجبتم لكوني
…
وردت بحرا عذب المشارب
ولم أنل من نداه ريّي
…
فالبحر من شأنه العجائب
ومنه قوله «2» : [السريع]
غبت عن القدس فأوحشته
…
لما غدا باسمك مأنوسا
وكيف لا يلحقه وحشة
…
وأنت روح القدس يا عيسى
ومنه قوله في الصّوم: [الطويل]
وما خاتم طول النهار لباسه
…
وعند دخول الليل ينضى ويخلع
وأعجب شيء أن يسموه خاتما
…
وما دخلت فيه مدى الدهر إصبع
ومنه قوله في قصب السكر: [الكامل]
جعلت فداك هل لك في حبيب
…
مجيب في الوصال بلا محال
نقي الثغر معسول الثنايا
…
له ريق ألذ من الزلازل
يقام عليه حد القطع ظلما
…
ولم يسرق ولم يتهم بمال
ويعصر كعبه من غير ذنب
…
فيبدي الشكر من كرم الخلال
ومنه قوله في السيف «1» : [الطويل]
وأبيض وضاح الجبين صحبته
…
فأحسن حتى ما أقوم بشكره
شددت يدي منه على قائم بما
…
أكلفه يلقى الأعادي بصدره
إذا نابني خطب شديد ندبته
…
فيهتز منه مستقلّ بأمره
صبور على الشكوى فلو دست خده
…
على حدة فيه وثقت بصبره
«2»
ومنه قوله في الرمح «3» : [الطويل]
عصيّ ثقيل إن أطيل عنانه
…
مطيع خفيف الكلّ حين يقصّر
ترى منه أمّيّا إلى الخط ينتمي
…
ومغرى بغزو الروم وهو مزنّر
عجبت له من صامت وهو أجوف
…
ومن مستطيل الشكل وهو مدور
ومن طاعن في السن ليس بمنحن
…
ومن أرعن مذعاش وهو موقر
ومنه قوله في الإبرة: [الطويل]
ومسمومة بالضد من أخواتها
…
إذا زال عنها سمها ليس تنفع
إذا لدغت لم يدخل القلب إبرة
…
لخوف وإن كانت تمض وتوجع
ترى خلفها مهما تمشت ذؤابة
…
تجر وإن الرأس منها لأقرع
تحلت بضيق العين وهي سخية
…
لها خلع بين الأنام توزع
وإن أجل الناس قدرا وقدرة
…
ليلبس ما تنضوه عنها وتخلع
ومنه قوله في صاغرة الإراقة: [المنسرح]
يا سيدا لم تزل أوامره
…
فرضا على العبد فهو ممتثل
هل لك عند الماء في أمة
…
بيضاء حمراء ما بها خجل
إن تدنها تأت وهي صاغرة
…
أو تقصها لا يغيظها الملل
تنكحها كلما أردت ولا
…
يضجرها منك ذلك العمل
تحبل في ليلها فإن تركت
…
إلى غد زال ذلك الحبل
وهي إذا فتّشت فلا دبر
…
يولج فيه لها ولا قبل
ومنه قوله «1» : [المتقارب]
وعلق تعلقته بعد ما
…
غدا وهو من سقطات المتاع
فغرقني منه نوء البطين
…
ورواه مني نوء الذراع
ومنه قوله في المحفة «2» : [الطويل]
وحاملة محمولة غير أنها
…
إذا حملت ألقت سريعا جنينها
منعمة لم ترض خدمة نفسها
…
فغلمانها من حولها يخدمونها
لها جسد ما بين روحين يغتدي
…
ولولاهما كان الترهب دينها
فقد شبهت بالعرش في أن تحتها
…
ثمانية من فوقها يحملونها
ومنه قوله في الإبرة «3» : [الطويل]
وعارية لا تشتكي البرد في الشتا
…
على أنها منهوكة الجسم بالبرد
إذا زال عنها سمها زال نفعها
…
وكان دواء السم في ذاك بالضد
ومنه قوله في الميل: [الطويل]
ومعتدل في شكله وقوامه
…
وليس له مثل وإن كان كالغصن
يسن وإن لم يرهف السن حده
…
على أنه كالسيف سل من الجفن
ومنه قوله في المشط «1» : [الطويل]
بعض بأسنان وليس له فم
…
ويثغر أحيانا وليس بذي ثغر
رأى الزهد رأيا فاغتدى متجللا
…
على جسمه العاري بمسح من الشعر
17-
ومنهم ولده «2» ، وهو محمد بن نصر الله بن محمد بن محمد بن عبد الكريم الشيباني، أبو عبد الله
«3» * فطرة ذكاء غذي بلبانها، وغدا في ورق الشباب يهتز اهتزاز قضبان بانها؛ طلب العلياء والشبيبة ممدودة الطراف، والحبيبة غضة الأطراف، وكان دأبه في أدب يوشيه، لطرب ينشيه، بفكر ينديه، لبكر يهديه، فأهداها خفرات، وأبداها مسفرات، من غرز وسام ودرر لا تسام، نثرها نثر الجمان، ونظمها قلائد في جيد
الزمان، فقدحت الأنوار، وفتحت بين نرجس المجرة أعين النوار، فطابت بها الأيام بكر وأصائل، وطالت بسحبها الأيام غدر وخمائل، وكان مخالفا لمذهب أبيه في التيه الذي مقت لأجله، ووقت ميقات الحب لنجله.
ذكره أبو العباس ابن العطار، وقال: ولد بالموصل في رمضان، سنة خمس وثمانين وخمسمئة. وله كتاب «غرة الصباح في أوصاف الاصطباح» وكتاب «الأنوار في نعت الفواكه والثمار» «1»
وله نثر رائق، ونظم فائق.
* ومن نثره قوله:
بين المشوق وبين الحمام مناسبة في شجو تعبيره لا في شجو ضميره، فهو يعلن نحيبه تألما، وهي تعلن بعتابها ترنما، وفرق بين الأشجان الملهبة الأضالع، والألحان المطربة للمسامع، وقد زعم قوم أنها تذكر عهدا، وتجدد وجدا، وهذا شأن من كانت عهوده منسية الأيام، ومن لم يكن له من وجده حمامة لم يهتج لتغريد الحمام، ولست براض أن أرعى للإخوان عهدا يفتقر إلى تذكار، وأضمر لهم وجدا يحتاج إلى تجديد آثار، وأشواقي إليهم على النوى بين الأشواق التي تذهب بجلد الجلد، وتوري زناد الصبابة تحت الحشا الصلد، وإذا صافحت برد الموارد، وجدت حر الغليل في ذلك البرد، وإن زاد غيرها بحديث سعد، وكذلك هي في ارتياحها إليه والتياحها عليه.
ومنه قوله يصف سحابة:
خفقت بها بنود الرعود، وأطردت فيها خيول السيول؛ فالسحاب بها بين سائر ونازل، وواضع وحامل.
ومنه قوله:
ولقد وافيتها في زمن المشمش الذي له المثل السائر والذكر الدائر، فرأيت منظر أبهاء، ومخبر اشتهاء، ذا لون ذهبي وشكل كوكبي، وعرف مندلي، وطعم عسلي، فهو يتمزق للطافة جلده، ويزهي بلذة طعمه، وعظم قدّه.
ومنه قوله:
وصل الورد على يد مشبهه عرفا، ومخجله وصفا؛ وما أقول إلا أني جرت في التشبيه، فعدت على خاطري بالتنبيه، وقلت: أين الورد الذي تناله الأيدي بتناولها، وتبذله بتداولها، من ورد لا يجنى إلا بالعيون، ولا ينال إلا بالظنون؟.
ومنه قوله:
كأنما خلقت أغصانها منابر لخطباء الغرام، وصوّرت أوراقها محاجر لدموع الغمام، وخرطت أزهارها مجامر للمندل الرطب، وقدر أقحوانها فما لمؤشر الثغر العذب، والطير «1» ما بين متطلع من وكنه، وقائم على غصنه، من كل مفوّف الطيلسان، ذا طوق يزهى به على طوق العقبان، يترنم خلال أوراق الغصون، فيلتقي شأن المتيم بين الشؤون:[الطويل]
يصلن بنوحي نوحهن وإنما
…
بكيت بشجوي لا بشجو الحمائم
ومنه قوله في البنفسج والورد:
أنا حبيب النفوس، وتاج الرءوس، والعطر الموضوع في الجيوب، واللون الذي يشبه عذار المحبوب، ولئن ذممت بأن لباسي لباس السواد، فإن هذا من شيم أهل
الوداد؛ فأقبل الورد في عسكره وجنوده، خافقة ألسنة عذباته وبنوده، محمر الوجنات من الغضب، منكرا على البنفسج ما جناه من سوء الأدب، فجال في ميدان المفاخرة وصال، وهتف بالبنفسج وقال:[الكامل]
أعلي يفتخر البنفسج جاهلا
…
وإلي يعزى كل فضل ينهر
وأنا المحبب في القلوب زمانه
…
وبمقدمي أهل المسرة تفخر
كيف أطعت هوى نفسك الأمارة، حتى افتخرت بحضرة الأمارة؟ ألست صاحب الاسم المعجم، والرداء الذي ليس يعلم؟ بينا ترى ناضرا، ويرى الطرف عنك نافرا، تهلك من الفخر، إلا أن تشبه بالعذار إذا بقل، والكبريت إذا اشتعل، ولم تحظ من هذين الوصفين إلا بالصيت المذموم، لأن هذا إحراق النار، وهذا تسويد الخد الملثوم، على أن بعض البلغاء قد أنكر تشبيهك بالعذار، ونزع عنك ضعة هذا الثوب المعار، فقال:[الكامل]
ومهفهف لما بدا في خده
…
شبه البنفسج وانطفا توريده
غم البنفسج حين شوه خلقه
…
وغدا على مبيضه تسويده
لكن أنا مرتقب الأيام، ومنتظر الأعوام، وأيامي أيام الأفراح، ومراوح الأرواح، لا يشرق الربيع إلا بورودي، ولا تشبه خدود الغيد إلا بخدودي.
ومنه قوله:
وبينما الغمامة تطلق لسانها، وتذكر إحسانها، إذ عارضتها الشمس، فخرجت من أثوابها، وقالت هذه منة على الأرض، أنا أولى بها، وأنا معجزة الجبار، وعروس الفلك الدوار، ومربية الأزهار والثمار، ومصلحة ما أفسده تابع الأمطار؛ على أن للمطر يدا لا تنسى، وطبّا به جراح الرق يوسى؛ فإنه مخرج الأرض من موتها إلى نشورها، وموقد فيها مصابيح نورها، تزف إلى عرائس
الرياض وافي مهورها، ويظهر ما في بطون الأرض من الكنوز إلى ظهورها، قام بنسج أبرادها، ورد أرواحها إلى أجسادها، فهي المقدمة تهيج، وتهتز وتنبت من كل زوج بهيج.
* وأما نظمه، فلم أقف له منه على قصيدة مطولة فأذكرها متما ولا مختارا، إلا بائية مختصرة ستأتي؛ ومن مقطعاته قوله:[الرمل]
لمع البرق فهاجت لوعة
…
لفؤاد بالتجني متعب
فتخال الجو من لمعته
…
حبشيا في رداء مذهب
وهذا معنى مطروق، يشبه الليل بالحبشي، ولكن حسنته هذه التتمة التي جاءبها، ولا شيء أحسن من ردائه المذهب هنا؛ وإن نظر قول المعري، حسب الليل زنجيا جريحا.
وله: [الكامل]
في روضة سلت بها أنهارها
…
من كل ماضي الشفرتين مهند
قد صيغ فيها فضة بيد الضحى
…
وأتى الأصيل فصاغه من عسجد
وله: [الطويل]
ولم يطلع البدر السماء لأنه
…
رأى بيننا بدرا له يخجل البدر
تغنى وأسباب السرور تمده
…
وفي لفظه درّ وألحاظه سحر
وله: [الرجز]
أما ترى الليمون يب
…
دو في خلال الورق
بظاهر من ذهب
…
وباطن من ورق
تحوطه غلائل
…
من أخضر إستبرق
إذا دنا الليل لنا
…
جلا ظلام الغسق
وله في المشمش: [السريع]
والمشمش الغض الجني بدا
…
بين الغصون كأنجم السحر
إن رمت أن أجنيه يشغلني
…
طيب المشمّ ورونق النظر
«1»
سبحان خالقه وجاعله
…
نزه العيون وعسجد الثمر
وهذه الكلمة حسنة لولا كاف التشبيه في «أنجم» فإنها قذى في عين هذه العروس، ودعامة ملحقة في هذا البيت.
وأما قوله: وعسجد الثمر، فمطرب؛ وكذلك كلمة العماد «2» نثرا، وهي قوله: كأنما خرط من الصندل، أو خلط بالمندل.
عدنا إلى ابن الضياء الجزري.
وله: [الوافر]
وكمثرى حبوت به الندامى
…
تزيل تقطب الوجه العبوس
كأكواب صغار من زجاج
…
وقد ملئت بصفرة خندريس
وله: [السريع]
قد أسفر الصبح لنا عن نقاب
…
ورقت الكأس وراق الشراب
فقم بنا نشرب من قهوة
…
يلمع للشرب كلمع السراب
«3»
من قبل أن تلقط شمس الضحى
…
من أعين النرجس ورد السحاب
أما ترى الخمر وإيماضها
…
كالسيف والكأس لها كالقراب
فهزّها في كأسها هزة
…
تجن بها أثمار شرخ الشباب
وقوله: [الرجز]
وروضة طليقة حباء
…
غناءة مخضرة جنابا
«1»
ينجاب عن نورها كمام
…
ينحط عن وجهه نقابا
بات بها مبسم الأقاحي
…
يرشف من طلها رضابا
وله: [السريع]
السحب تبكي والثرى ضاحك
…
بكاء صب ملّ من جفوته
والزهر قد فتح أزراره
…
كأنه استيقظ من رقدته
وله: [الكامل]
هب النسيم على الغصون فخلتها
…
مثل الأحبة ساعة التوديع
وبكيت من وجدي وفرط صبابتي
…
حتى سقيت أصولها بدموعي
وله: [الرجز]
والشمس خلف الغيم كال
…
حسناء خلف المعجر
تبكي إذا ما احتجبت
…
من شدة التحسر
لها النعامى نفس
…
والدمع ماء المطر
تسفر أحيانا لكي
…
تحظى ببعض النظر
كأنما تنثر في ال
…
أرض نجوم السحر
أو ذهب منتثر
…
على بساط أخضر
وله: [الكامل]
نثر النسيم الطل من أغصانه
…
والروض بين مذهب ومفضض
فتخاله فوق الغدير وقد طفا
…
حببا يدور على شراب أبيض
وله: [الكامل]
والروض ساه باسم مستعبر
…
خضل بطلّ سمائه مطلول
والفصل معتدل فيا عجبا له
…
كيف النسيم يمرّ وهو عليل
وله: [السريع]
في روضة تطرب أغصانها
…
سجع طيور في ذراها فصاح
قد فتح الزّخّر أحداقه
…
[و] قبل الطل ثغور الأقاح
وتحسب الأنهار في جريها
…
قد حمت الزهر ببيض الصفاح
ودغدغ الغيث بطون الثرى
…
فابتسمت فيه ثغور الأقاح
وكلما غنت هزاراتها
…
شقت جيوب النور هوج الرياح
وله: [الرجز]
إني رأيت بالأراك هتّفا
…
تزعم أن عندها ما عندي
تبكي بلا دمع وأبكي بدم
…
شتان بين وجدها ووجدي
وله: [الوافر]
تغني يا حمامة فوق غصن
…
ثنت أعطافه ريح الشمال
فإنك كلما غردت صوتا
…
أميل من اليمين إلى الشمال
وله: [مجزوء الكامل]
زهر البهار بلونه
…
يزهو على شمس النهار
بهر العيون بحسنه
…
فلذاك سمي بالبهار
وله: [السريع]
أما ترى نرجسنا قائما
…
وهو لنا في ليلنا حارسا
قد فتح الأحداق مستيقظا
…
فظل يخشى أن يرى ناعسا
حتى إذا قبّلت من اشتهي
…
تراه من فطنته ناكسا
وله: [المنسرح]
والماء بين الرياض تحسبه
…
قد جرد البيض وهو يحميها
وكلما غنت الطيور بها
…
تراقص الزهر في نواحيها
وله «1» : [مخلج البسيط]
للروض عند الصباح طيب
…
نمت إلينا به الجنوب
واستمتع الطرف من كراه
…
فملّت المضجع الجنوب
والطير فوق الغصون يدعو
…
طاب لكم وقتكم فطيبوا
والكأس في كف ذي قوام
…
يخجل من لينه القضيب
لولا لباس يقيه طرفي
…
لكاد من لحظه يذوب
ما سعد الوالدان فيه
…
إلا لتشقى به القلوب
راح إذا الراح أبرزتها
…
صبا إلى شربها اللبيب
لها إذا الماء جال فيها
…
في قعر كاساتها وثوب
إذا سرت في عروق شخص
…
هانت على قلبه الخطوب
وقائل: تب، فقلت: كلا
…
هيهات عن شربها أتوب