الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسيري، ليعلم أنّ الأمر لغيري؛ وإلّا فمن أخذني بالمطارفي هذه الأقطار، والمصار في هذه الأمصار، لولا الشقاء؛ ألم يأتني العمر بهيجا، والرزق نهيجا نضيجا، حتّى آتيه قصدا، وأتكلّف له زرعا وحصدا، وأعارضه شيّا وطبخا، وأعرض له الشّعاب، والجبال الصّعاب، وأنزل بمناخ السّوء؛ لكنّ المرء يساق إلى ما يراد به، لا إلى ما يريد.
أما آن لهذه الأشقاص، أن يتيسر منها الخلاص؟ بعد ما سافرت وسفرت، وناظرت [ونظرت] ، وحفرت وحرثت، ونذرت وبذرت، وزرعت وعمرت؛ حمدت الله كثيرا، ورأيته مغنما كبيرا؛ وإن لم يكن من إتمام القصة بدّ، فلا غنى عن نظر كريم ومهلة، فيها مجال وتسويغ يصلح به فاسد، وقرض يتألف به شارد «1» :[الطويل]
وما كلّ يوم لي بأرضك حاجة
…
ولا كل يوم لي إليك رسول
6- ومنهم: أبو نصر العتبيّ
«2» : وهو من أصحاب الغوص البعيد، والمعاني البديعة، واللفظ السّهل، والخاطر الوقاد، والفكر الجوال، والصّوغ اللائق، والورد السائغ؛ لا يماثل بإنسان، ولا يشاكل في خراسان؛ دون كلمه سحر بابل، ونشر كابل؛ لو شاء أوهم الغواني في عقودها، والأغصان في برودها؛ وكان حفظه مع سعة مخيلته، وصفاء مصوّرته وممثّلته؛ وحفظه أحوى من بقاع الرّمل، وأحلى من اجتماع الشمل؛ وفهمه أدقّ من مدارج النّمل تمثيلا، وأرقّ من طبع صافي الماء تخييلا؛ كلمات محكمة بقوة
الأسباب، محكّمة كنشوة الرّاح للألباب؛ فآها له من خبر طواه أمسه، ومن بحر حواه رمسه، ومن حرّ أضاء ليوم «1» ، ما طلع حتى غابت شمسه.
وله كتاب «اليميني في تاريخ السّلطان محمود بن سبكتكين» «2» كأنّه روضة غناء وعقد منظوم، وأفق مكوكب، بديع الجملة، حسن المجموع.
* ومن نثره قوله قرين نصل أهداه «3» : خير ما تقرب به الأصاغر إلى الأكابر، ما وافق شكل الحال، وقام مقام المقال؛ وقد بعثت بنصل هندي، إن لم يكن له في قيم الأشياء خطر فله في قمم الأعداء أثر؛ والنّصل والنّصر أخوان، والإقبال والقبول قرينان؛ والشيخ أجلّ من أن يرى إبطال حلية الأبطال، ويردّ إقبال مستجلب الإقبال.
ومنه قوله من كتاب كتبه عن السّلطان محمود: ووصلنا إلى السومنات «4» ، فوجدناها تخفي الرياح في مساربها، وتزلّ الأبصار بين ذوائبها، بين غياض تشكو الأراقم فيها ضيق المضطرب، وصعوبة المنسرب، متكاثفة كأعراف الجياد، متداخلة كأشعار الحداد، لا تستجيب فيها الأفاعي للرّقاة، ولا يستنير البدر عندها للسّراة، في أذيال جبال تناغي كواكب الجوزاء، وخلال آجام تواري وجه الأرض عن عين السّماء، فوافينا وقد أثقل العيون كراها، وأتعب النّجوم سراها، في مدّة اتصلت كعوب أيامها، وتناسقت
فرائد نظامها؛ فأحطنا بها إحاطة القلائد بالجيد، والشذرة بالفريد، ثم اشتدّ الوغى، فخيلت المعركة سماء غمامها مثار القساطل، وبروقها بريق المناصل، ورعودها صرير السّلاح، ورشاشها صبيب الجراح؛ واستقبل المعمة من الجنود رجال، يرون الملاحم ولائم، والوقائع نقائع؛ وحطّت الرّماة أيديها في جعاب كخراطيم الفيول، مملوءة بنبال كأنياب الغول؛ وظلّت السهام تتهاوى كما تتهاوى لوامع الشّهب، وتترامى ترامي نوازع السّحب؛ والطعن يهتك ودائع الصّدور، ويرد مشارع الغموم والسّرور؛ ولم تزل الملحمة حتّى استقلّت الشمس إكليلا على الجبل، ونفّضت ورسا على الأصل، فافترق الجمعان، وضرب اللّيل بينهما بجران، إلى أن صافح الليل صباحه، ونثر النجم على الغرب وشاحه، فعادوا إلى أمسهم، وتداعوا من آثاره القيام إلى رمسهم، وصارت الأرواح تسقى بأرشية الأرماح، إلى تولّي عسكر البلد هزيما يقفوه الصّباح، وهشيما تذروه الرياح؛ يتقاسمون الهرب جماما، ولا يردون الماء إلّا لماما؛ وعسكر السّلطان في آثارهم يرميهم بالصّواعق من ظبى السّيوف البوارق، ويقذفهم بالشّهب اللّوامع من شبا الرّماح الشوارع، حتّى صار من سلم منهم إلى الأطراف ضرورة، إذ كانت جيوب الآفاق عليه مزرورة.
وما برح السّلطان يتطلّب ملكهم حتّى حصل في معتقله، وحصّله في مكمن أجله، فهدأ من الخوف سره، وختم بطابع الشقاء عمره، ثم صعد السّلطان المدينة، ودخل بيت البدّ وظفر منه ومنها بأموال طالما حفظتها صدور الخزائن مكتومة، وخنقتها خيوط الأكياس مختومة، مما أوهت في تعدادها أنامل الحساب، وأحفت بل أفنت أقلام الكتّاب، فمن ذهب وفضة، ما منهما إلّا ما يكاثر الأحجار، ويستقلّ الأمطار؛ ومن لآل كأنّما صورت من الشّمس ضياء، وخلقت لمضاهاة حبّ الغمام عدّا وصفاء؛ ومن يواقيت كالجمر قبل الخمود، والخمر بعد الجمود، ومن زبرجد كأطراف الآس نضاره، أو ورق الأقحوان غضاره؛
ومن ماس كأنّما أعارت بعضه السّنانير أحداقها، أو وهبت باقيه حوّ الشّقائق أوراقها؛ ومن ولدان كاللّؤلؤ المنثور، ونساء خلقن أنموذجا للحور، ومن أفيال كالأسود، محطومة بالأساور السّود، حكت أطوادا فارعة، وأمواجا متدافعة، تئنّ الأرض من وطء أطرافها، وتخفّ «1» من ثقل أخفافها؛ تقف كأشخاص القصور، وتتدفق كأمواج البحور، وكأنّها بيوت والخراطيم رواشنها المعلقة، وكأنها ليال افترست النّهار، فلم يبق منه إلّا ما على أنيابها من جلوده الممزقة، يراها الرّاءون هضابا ثابتة، وجبالا نابتة، في ثقل أجسام، وخفّة أقدام؛ كأنّها صدع الجبال عند طارقة الزّلزال، تناجي بصور التهويل والتفخيم، وتفتك بالأيدي والخراطيم؛ إن استدري بها في الوغى، ضربت بين النفوس والآجال بسور، وإن خفّت إلى الحروب، رأيت قلوب اللّيوث تحت أجنحة النّسور؛ فلندع هذه النّعمة التي عقدت بالنّجوم ضفائرها، وأفاضت على الشّرق بعضها وعلى الغرب سائرها، وإنّا لنرجو أمثالها، ما دامت العيون حافظة سوادها، والعواتق حاملة نجادها.
ومنه قوله: المؤمن البشر لا من ورق الشجر، إذا مات فقد فات، وليس ممّا يعود، كما يورق ما عري العود.
ومنه قوله: وهم مرابيع الكرم، وينابيع الحكم، ومصابيح الظّلم، ومجاديح الأمم، وليوث البهم، وغيوث القحم؛ سادة النّاس، وقادة الملوك يوم النّدى ويوم الباس.
ومنه قوله: وبلغ إلى حيث لم يبلغه في الإسلام راية، لم ينل به قطّ سورة ولا آية، في
فياف تضلّ في أرجائها أسراب اليعافير، وتحار في دهنائها أفواج العصافير؛ فثار عدوّ الله يستنهض من يحمل حجرا، فضلا عمن يلقم القوس وترا، أو يحسن بالسّيف أثرا؛ فلمّا قاربه في المكان، ودخل بالرّعب على قلبه العيان، كرّ راجعا على آثاره، لفت المشير موهنا بناره؛ لا زال السّلطان منصورا، ما طلع يوم من حجاب أمس، وظهرت نفس من قرارة نفس.
ومنه قوله: وأما بنو فلان، فكوتهم الأيّام بمياسمها، وداستهم اللّيالي بمناسمها؛ فإنّ في قرع باب الغيّ تعرّضا للبلاء، واستئذانا على سواء القضاء، لولا أن تداركهم فلان بلطف كالأري مشارا، ودهاء يسلخ من الليل البهيم نهارا.
ومنه قوله معزّيا: هذه مصيبة سفحت الدّموع غروبا، ونثرت قنا الأصلاب أنبوبا فأنبوبا، ونعي بها فتى الجود، ومصّ بعده الثّرى بقية الماء من العود.
ومنه قوله: ولم تكن إلّا صدمة واحدة حتّى زلّت الأقدام عن مقارّها، وتهاوت الرّقاب عن مزارّها، وجعلت تتساقط أشخاص الألوية والمطارد، وتردّ النّفوس عن ضرب السّيوف البوارد؛ وكرّت عنها للسّلطان فيول كرعن الجبال، أو كركن السّحب الثّقال، مغشّاة بتجافيف «1» لم يعوّر منها غير حدق النّواظر، وحدائد الأنياب القوافر؛ يهوّل سائسها عليها بمرهفات كالبروق الخواطر، وصفّارات كالرّعود القواصف؛ وقد نشرت عليها التّماثيل في العيان المشهود، كأنّها الأساود
السّود؛ تخيل اضطراب الرّياح فيها أنّها ترجف للإلهام، أو تنقضّ لاختطاف الهام؛ وتعالت عليها أطراف العوامل؛ في مبان كالمعاقل، كأنها آجام السّواحل، تأويها شياطين الإنس فرسانا، وعفاريت التّرك والهند مردا وشبانا، تبصّ عليهم سابغات داود كصفائح الماء، تجلوها الشّمس في وسط السّماء، فحثّ العدوّ الخيل، تحت اللّيل، حتى كاد لا تتنفّس الأرض معه بمواطئ أقدامها، ولا تشعر النّجوم بأشخاص ألويتها وأعلامها، ودنا الفريقان بعضهم من بعض، وظلّت رحى الحرب تعركهم بثفالها، وتدور عليهم بأثقالها؛ وحمل سيف الدّولة بنفسه، فتداعت الزّحوف، وتخالطت الصّفوف، وخطبت على منابر الرّقاب السّيوف، وثارت عجاجة أخذت العيون عن الأشباح، وأذهلت النّفوس عن الأرواح، ونثرت الأعناق ثم نظمتها في سلوك الرّماح، وطفقت الخيل تتردّى بجثث النفوس، وتلعب بأكر الرّءوس؛ وأما البقية فإنهم ولّوا وما ألووا، وقد دبّ الفشل في تضاعيف أحشائهم، وسرى الوهل في تفاريق أعضائهم، واستطار الخوف في مزاج دمائهم؛ فجيوب الأقطار عليهم مزرورة، وذيول الخذلان عليهم مجرورة.
7-
ومنهم الحسين بن علّي بن محمّد عبد الصّمد، أبو إسماعيل «1» ، مؤيد الدّين، فخر الكتّاب الأصبهاني، المنشئ المعروف بالطغرائّي.
الكاتب الشّاعر، الناظم النّاثر، البديع الصّنعة، الباهر الأدب، الزاهر الفضل، الطّاهر المحاسن، الدقيق المعاني، الوثيق المباني، المشهور شهرة الشّمس، الواضح
وضوح البدر، كاثر ببدائعه النّجوم الثّواقب، وبنتائج قرائحه سجوم السّحائب، فجاءت عربا أبكارا، وشهبا لا تلجّ أفكارا.
وولع بصنعة الكيميا، فشب لهبا، وصبّ أدبا لا ذهبا، وأذهب زمانا بها في العناء، وطلب الغنى من غير الغناء، فلم يجد بغيته، ولم يزد على أن صفّر وجهه، وبيض لحيته، فردّ خائبا، واشتعل رأسه شائبا؛ وطالما شمر طلب الصّنعة دروعه، وصعّد أنفاسه وقطّر دموعه، وكان من فيض السّلطان في غير البشير، وفي حبر من الإكسير، إلّا أنه تعلّق بعلم أحابر، وعلق حكم الصّنعة عن أكابر، وشدّ الأوصال، وامتدّ لأن تسمح له بالوصال، فكان لو شعر به ابن أميل، لمال إليه كلّ الميل، أو تشبه به ابن يزيد، لما كان عليه مزيد، ومع طول معاناته، وبعده تارة ومداناته، لم يحصل على غير ارتقابها، ولا ظفر من ليلى بحطّ نقابها، فكم ضيّع حاصلا، وكدّ ولم يكن واصلا.
وشعره أسير من نثره، وأيسر في حجم قدره، لأنّه إنما عانى النّثر وقد قارب أجله الانتهاء وقارب الرّحيل، ودنت شمسه من الأفول.
وهو صاحب «لاميّة العجم» التي فصّلت عرى «لاميّة العرب» وحلّت لامها، ونكّبت من شفار الشّنفرى سهامها، فلقد قوّت الشّعوبيّة، واحتمت لعصابتهم، حميّة العصبيّة، وأخذت قسرا شجر البيان، وحكمة ألسنة العرب وأدمغة اليونان، وكادت تبتزّ من دولة العرب مدينة السّلام، ولا تبقي لهم إلّا عائدة الملام، وعنوان قوله منها «1» :[البسيط]
أريد بسطة كفّ أستعين بها
…
على قضاء حقوق للعلى قبلي
والدّهر يعكس آمالي ويقنعني
…
من الغنيمة بعد الكدّ بالقفل
إنّ العلى حدّثتني وهي صادقة
…
فيما تحدّث أنّ العزّ في النّقل
لو أنّ في شرف المأوى بلوغ منى
…
لم تبلغ الشمس يوما دارة الحمل
تقدّمتني رجال كان شوطهم
…
وراء وطئي إذا أمشي على مهل
أعدى عدوّك أدنى من وثقت به
…
فحاذر النّاس واصحبهم على وجل
وإن علاني من دوني فلا عجب
…
لي أسوة في انحطاط الشّمس عن زحل
وإنّما رجل الدّنيا وواحدها
…
من لا يعوّل في الدّنيا على رجل
وقد قال لمّا ولي ديوان الطّغراء، وكان قد كبر وأفن: من فتح دكّانه بعد العصر، أي شيء يتعيش؟.
* ومن نثره قوله: وما كان إلّا أن تداعوا بالرّحيل، وقدّمت لهم النّياق للتّحويل، وإذا بقلبي قد ودّعني وسار، وهزّ جناحه الخافق وطار، فعدت- علم الله- لا أستطيع منعه، ولا أعقل فأجري لي دمعة، إلى أن بكّرت عليّ العاذلات، وهبت إليّ باللّوم قائلات: أمالك أسوة بالمحبّين الألى؟ فقلت: لا؛ فمازلن يرقعن جلدي، ويمسكن تجلّدي، وأنا لا أسكن إلى حول، ولا أطمئنّ إلى قول، حتّى غلبتني صرعة كرى، فتخيلت [أنّي] أرى خيالا عاد مخبرا، وخيالا من الحبيب زار مزوّرا؛ فإذا بتمثال الأحباب بين يديّ مصورا، فقال لي ذلك الطّيف الطّارق، تحت ستور الليل الغاسق: مالك ولهذه الحالة الشنيعة؟ أما كنت ترضى بأن يكون قلبك عندنا وديعة؟ فها خذها إليك، والسّلام عليك؛ فقلت: ناشدتك الله أيّها الخيال الزّائر، والمثال السّائر، إلّا ما تريثت، ووقفت فتلبثت؛ فما زاد على أن زال، ولا حام حتّى حال؛ ثم ولّى وما ودّع، وأشبه مشبهه في الجفاء وما أبدع.
ومنه قوله: وقد زار الغيث، وزار اللّيث، وأضاء البدر الزّاهر، ودنا الصّباح السّافر، وقدم العميد يهمي متدفقا هو والغمام، ويجري مستبقا هو والسّهام، فأيّ صدر ما تزحزح لحلوله؟ وأيّ قدر ما يصال لوصوله؟ وأي بدر ما غاب؟ وأيّ شمس ما توارى ضياؤها بحجاب؟ ولولا وقار العميد، كادت الأرض تميد، ويا لله العجب، قدم وما نزفت البحار، وإلّا ضاقت البيد!.
ومنه قوله: وكتابي هذا إليك، وعندي عليك لوث عتاب، لأمر لا يحمله كتاب، فإن آب بك المتاب، وقوّم أود ودّك الإعتاب، استرسلت معك في ذكره، وأرسلت إليك رائد سرّه؛ وإلّا طويت الدّهر على مضض ألمه، وأخليت الصّدر للممه، وتحاملت على ما بي، وصرفت عنك ودّي وعتابي.
ومنه قوله: سحابة ترسل الأمطار أمواجا، والأمواج أفواجا، سحبت على الأرض أذيالها، وعلمت افتقارها إلى نفسها، فجادت بها لها، والجود بالنّفس أقصى غاية الجود «1» ، لا سيما عوارف كرم ملأت الوجود.
* ومن شعره قوله «2» : [الطويل]
وأبيض طاغي المتن يرعد حدّه
…
مخافة عزم منك أمضى من النّصل
عليم بأسرار المنون كأنّما
…
على مضربيه أنزلت آية القتل
ومنه قوله «1» : [الطويل]
أجيراننا بالغور كيف خلصتم
…
نجيّا وأخفيتم مسيركم عنّي
لقد سمعت أذناي نجوى فراقكم
…
فلا نظرت عيناي ما سمعت أذني
أحذركم طوفان دمعي فبدّلوا
…
إذا أزف السير الرّكائب بالسفن
ففي الحيّ مرهوم الإزارين بالبكا
…
وآخر مرقوم العذارين بالحسن
ومنه قوله «2» : [الطويل]
إذا ما دجى ليل العجاجة لم يزل
…
بأيديهم جمر إلى الهند مشبوب
عليها سطور الضّرب يعجمها القنا
…
صحائف يغشاها من النّقع تتريب
وقوله في النّهر والرّوض «3» : [السريع]
يشقّها في وسطها جدول
…
[مياهه] العذبة مثلوجه
«4»
له سواق طفحت والتوت
…
تلوّي الحيّات مشجوجه
فهي رماح أشرعت نحوها
…
تطعنها سلكى ومخلوجه
«5» ومنه قوله «6» : [الكامل]
إنّي لأذكركم وقد بلغ الظّما
…
منّي فأشرق بالزّلال البارد
وأري العدى أنّ الإساءة منكم
…
خطأ وتلك سجية من عامد
ويصحّ لي قول الوشاة عليكم
…
فأردّه عنكم بظنّ فاسد
وإذا طويت هواك عنهم نمّ بي
…
وجد يدلّ على لسان جاحد
وأقول: ليت أحبتي لاقيتهم
…
قبل الممات ولو بيوم واحد
«1»
وإذا سئلت عن السّلوّ أجبتهم
…
بلسان معترف ونية جاحد:
إن لم يكن سحرا هواك فإنّه
…
والسّحر قدّامن أديم زائد
«2»
ما زلت أجهد في مودّة راغب
…
حتّى ابتليت برغبة في زاهد
«3»
ولربما نال المراد مرفّه
…
لم يسع فيه وخاب سعي الجاهد
هذا هو الرّأي الذي ضاقت به
…
حيل الطّبيب وطال يأس العائد
ولعمري ما أعرف ما أصف به هذا الشّعر، وهو الذي قلّ أن يماثل، وجلّ أن يقاس به، وهو السحر الطّاهر، والرحيق المشعشع، والرّوض الباسم، والصّباح المتألّق، وهكذا فليكن؛ ومن يقدر على هذا أو يدانيه؟
وكذلك قوله «4» : [البسيط]
بالله يا ريح إن مكنت ثانية
…
من صدغه فأقيمي فيه واستتري
وباكري ورد عذب من مقبّله
…
مقابل الطّعم بين الطّيب والخصر
وإن قدرت على تشويش طرّته
…
فشوّشيها ولا تبقي ولا تذري
ثم اسلكي بين برديه على عجل
…
واستبضعي الطيب وأتيني على قدر
ونبهيني دوين القوم وانتفضي
…
عليّ واللّيل في شك من السّحر
لعلّ نفحة طيب منك ثانية
…
تقضي لبانة قلب عاقر الوطر
وقوله «1» : [الطويل]
وحان على الشّحناء عوج ضلوعه
…
يسدّد نحوي صائبات المشاقص
يكاثر فضلي بالثّراء توقّحا
…
وفي المال للجهّال جبر النّقائص
أقول له لمّا اشرأبّ لغايتي
…
ومدّ إليها نظرة المتخاوص
وأيقظ منّي ساهرا غير نائم
…
وحرّض منّي هاجما غير حائص:
لقد فات قرن الشّمس راحة لامس
…
وأعيا مناط النّسر كفة قانص
فإن حدّثتك النفس أنّك مدرك
…
لشأوي فطالبها بمثل خصائصي
وعلمي بما لم يحو خاطر عالم
…
وخوضي على مالم ينل فهم غائص
«2»
فما عهد أحبابي على البعد ضائع
…
لديّ ولا ظلّ الوفاء بقالص
ولا أنا عمّا استودعوني بذاهل
…
ولا أنا عمّا كاتموني بفاحص
وإنّ الألى رامو اللّحاق بغايتي
…
سعوا بين مبهور وآخر شاخص
وراموا بأطراف الأنامل غاية
…
وطئت وقد أعيتهم بالأخامص
وقوله «3» : [الطويل]
صحا عن فؤادي ظلّ كلّ علاقة
…
وظلّ الهوى النجديّ لا يتقلّص
هوى ليس يسلي القرب عنه ولا النّوى
…
ولا هو في الحالين يصفو ويخلص
ففي البعد قلب بالفراق معذّب
…
وفي القرب عيش بالوشاة منغص
وإنّ خلاصا كنت أرجوه برهة
…
وكان يزيد الأمر فيه وينقص
قطعت رجائي منه مذ قال صاحبي:
…
رميّ العيون النّجل لا يتخلّص
وقوله «1» : [البسيط]
يا صاحبيّ أعيناني على سكن
…
إذا شكوت إليه زادني مرضا
ظبيّ غرير إذا حاولت غرّته
…
أرسلت طرفي سهما وانثنى عرضا
«2»
مالي وللبرق مجتازا على إضم
…
يسري ويمري جفوني كلّما ومضا
برق يلوح بنجد والحمى وطني
…
هفا بقلبي ولبّي كلّه ومضى
من مبلغ الحيّ شطّت دارهم ورضوا
…
بالجار جارا وما أرضى بهم عوضا
ما طاب عنكم فؤاد طاب قبلكم
…
عن الرّضاع تقضّى والشّباب مضى
إنّ الزّمان الذي كانت بشاشته
…
للقلب والعين ملهى بان وانقرضا
فإن نسيت فيأسا لم يدع طمعا
…
وإن ذكرت فعرق ساكن نبضا
حكّمت في مهجتي من ليس ينصفني
…
ولست أبلغ من تحكيمه غرضا
سيّان عندي وأمري صار في يده
…
قضى لغيري بجور أم عليّ قضى
حتّام أنهض جدّي وهو يعثر بي
…
أخاف أن لا يراني الجدّ إن نهضا
وقوله «3» : [الكامل]
ومليحة الحركات إن رفلت
…
في الحيّ ساعف عقدها القرط
نمّ المروط بحسنها فبدا
…
والشمس ليس يكنّها مرط
فتح الصّبا في صحن وجنتها
…
وردا يضاعف حسنه اللّقط
قالت وقد ولّت حمولهم
…
والعيس فوق جفوننا تخطو:
كان الشّباب الغضّ يجمعنا
…
فمضى وشتّت شملنا الوخط
غدر الأحبّة والشّباب معا
…
فكأنّنا لم نصطحب قطّ
وقوله «1» : [الكامل]
في القلب من حرّ الفراق شواظ
…
والدّمع قد شرقت به الألحاظ
ولقد حفظت عهودكم وغدرتم
…
شتان غدر في الهوى وحفاظ
لله أيّ مواقف رقّت لنا
…
فيها الرّسائل والقلوب غلاظ
ومرى العتاب جفوننا فتناسبت
…
تلك المدامع فيه والألفاظ
يا دار ما للرّكب حين وقوفنا
…
ما إن سقاك من الدّموع لماظ
ترك الغرام عقولهم مشدوهة
…
فظننتهم رقدوا وهم أيقاظ
عهدي بظلّك والشّباب يزينه
…
أيّام ربعك للحسان عكاظ
فيا لله ما أسرى هذه البدائع، وما أسرع تدفّق هذه البداءة، ويا لله هذا الشّاعر، لقد ركب هذه القافية الصعبة فذللها، وسلك هذه الطريقة الوعرة فسهّلها؛ ولقد حيّر الأفهام إلى أيّ هذه المعاني تسارع؟ ولأيّها تفضل؟ ومن أيّها تعجّب؟ هذا مع هذا التركيب الشّديد الأسر، واللفظ الذي اقتاد إلى هذه القافية، وسلسل نطف هذه الأبيات الصّافية، وجاء بأبياتها المشيّدة كأنها العافية، وهذا الذي تتفاوت فيه أقدار القرائح، ويظهر فيها مبلغ العلم، ويعلن به باسم قائله، وينفق سوق منشده، وأين من يقدر على مثل هذا الكلام؟ أو يتعاطى مثل هذا المدام؟ أو يصحّ معه هذا السحر، وما أظنّه إلّا الحرام؟!
ومن لطائف شعره قوله أيضا «1» : [الكامل]
يا قلب مالك والهوى من بعدما
…
طاب السّلوّ وأقصر العشاق
أو ما بدا لك في الإفاقة والألى
…
نازعتهم كأس الغرام أفاقوا
مرض النّسيم وصحّ [و] الدّاء الذي
…
يشكوه لا يرجى له إفراق
وهدا خفوق البرق والقلب الذي
…
تطوى عليه أضالعي خفّاق
وقوله «2» : [الطويل]
أجمّا البكا يا مقلتي فإنّنا
…
على موعد للبين لا شكّ واقع
إذا جمع العشاق موعدهم غدا
…
فوا خجلتا إن لم تعنّي المدامع
وجاءه مولود وقد بلغ سبعا وخمسين سنة، فقال «3» :[البسيط]
هذا الصّغير الذي وافى على كبري
…
أقرّ عيني ولكن زاد في فكري
سبع وخمسون لو مرّت على حجر
…
لبان تأثيرها في صفحة الحجر
وقوله «4» : [الطويل]
أزيد إذا أيسرت فضل تواضع
…
ويزهو إذا أعسرت بعضي على بعضي
أرى الغصن يعرى ثم يسمو بنفسه
…
ويوقر حملا حين يدنو إلى الأرض
وقوله «5» : [الطويل]
وكنت أراني مفلتا شرك الهوى
…
فقد صادني سحر العيون النّوافث
فلا تعذلوني في غرامي بعدما
…
تولّى الصّبا فالعذل أوّل باعث
ولا تبحثوا عن سرّ قلبي فإنّه
…
صفا ليس يمضي فيه معول باحث
أرى صبوات الحبّ قد جدّ جدّها
…
وقد كان بدو الحبّ مزحة عابث
وقوله «1» : [الطويل]
هي العيس قودا في الأزمة تنفخ
…
تمطّى بها من حقوة الرّمل برزخ
فلين الدّجى عن غرّة الصّبح فاغتدت
…
بحيث التقى منها وقوف ونوّخ
عليها قطاف المشي أطول خطوها
…
مدى الفتر إذ أدنى خطاهنّ فرسخ
بدور أكنّتها خدور يجنّها
…
جناح خداريّ من الليل أفتخ
فوشي خدود بالجمال منمنم
…
ومسك شعور بالشباب مضمخ
فيا صادحات الورق في الأيك أقصري
…
فمالي إذ أشكو ولا لك مصرخ
وقوله «2» : [البسيط]
تالله ما استحسنت من بعد فرقتكم
…
عيني سواكم ولا استمتعت بالنّظر
إن كان في الأرض شيء غيركم حسنا
…
فإنّ حبّكم غطّى على بصري
وقوله «3» : [الخفيف]
خبرّوها أنّي مرضت فقالت:
…
أضنى طارفا شكا أم تليدا
وأشاروا بأن يعودوا سادتي
…
فأبت وهي تشتهي أن تعودا
وأتت في خفية وهي تشكو
…
ألم الوجد والمزار البعيدا
ورأتني كذا فلم تتمالك
…
أن أمالت [عليّ] عطفا وجيدا
«4»