الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
29- ومنهم: خليل بن أيبك الصفدي، أبو الصفا، صلاح الدين
«1» هو خليلي الذي أنادي، وصاحبي إذا شكرت الأيادي، والذي أنادي منه خليل الصفاء، وصديق الوفاء، والذي أرضاني عن صنيع الليالي لما أتاني بنجومها قليلا، والذي لم أخالل سواه إلا قلت لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا
«2» ، والذي صحبت أبا الصفاء من وده الذي لم تشبه الشوائب، والخليل إلا أنه كان- لأحمد- أكثر مما كان عنده ابنه في النوائب، والذي عاقدني منه خليل صدق فما ذممت له ذماما، وأوقد لي من حميته نارا خليلية كانت بردا وسلاما، موسوية فلهذا ما تركت ظلاما، والذي لم يزل يرشد من خاطري مضللا، ويريني في صفائه ما أردت ممثلا، ويغنيني أن أقف عند سوى تصانيفه، وأقول: خليلي هذا ربع عزة فاعقلا «3» ، وملأ مسمعي بأدبه حتى قلت يكفيكما، وأغنى ناظري بكتبه فقلت: خليلي هبّا بارك الله فيكما، وقررت له وأقررت، أنه إمام المحسنين، وبايعته واتبعته وأنا من الموقنين، وبسطت يدي فبايعت ملك البلغاء خليل أمير المؤمنين، ورتعت في مراد تصانيفه أستزيرها وقنعت بمذاكرته ولم أقل: خليلي هل من رقدة أستعيرها؛ أقسم بالله وهو آكد الأيمان، وأوثق ما يقف معه أهل الإيمان، ما إن رأيت منه آدب، ولا مع
غناه عن التحصيل أدأب، ولا أظن مثله أجمع لمدحة وآبدة، وأخبار أمم باقية وبائدة لديها واقدة، ولا مقل الفراقد عن التطلع إلى هذا، وما كسا الزمان مثله ثوبيه، ولا حمل الوجود حفيا شبهه بين جنبيه، فهو محدث يحدث بالصحيح، وتروى عنه العجائب، والمعروف وكله غرائب، كم قال وكم ألجم الحصر كل لسن، وقام بالسنة وكل سنده علي وحديثه حسن، هذا على أنه حامل فقه لا ينقل إلى أوعى منه، ومتقن علم لا يؤخذ القديم والحديث إلا عنه، نعم وأنعم به من مؤرخ ينسئ الأمم وينشر الرمم، وينشد ضوال الأنباء وقد أماتها البكم، وأقبرها الصمم، فشق أصداف اللحود عن دررهم، وكشط جلد الدهماء عن غررهم، وأوجدهم فما كتب من التاريخ وجودا ثانيا، فأقاموا به أرواحا وسئلوا فقالوا فصاحا: ساقهم في تاريخه فكأنما قاموا في صعيد واحد لديه، وأتى بهم من عهد آدم وهلم جرّا إليه، أجل، وهو أجل كاتب تخضع لطرسه مهارق السحائب، ويخشع لقلمه سيف البرق المسنون، ويسقط قلبه الواجب، وأضاء أيضا له نور حكمة، يغلب فجرها الطالع مشارق الأنوار، ويغل فكرها السابق يد القيرواني «1» إن نظمت أبكار الأفكار، ويذهب التحصيل وليس من بدره المنير درهم ولا من شمسه المشرقة دينار؛ وينبو دونه مضرب السيف ولو أن الآمدي ذا الفقر ذو الفقار، فأما ابن سناء فيخفي في طي البروق إشاراته، والرازي يرزأ كتبه، وتجف في لسان القلم عباراته، وقل أن وجد في علم أقليدس مثله من يحل إشكاله، ويجل أشكاله، ويغدو من قلّ علمه الأقلودي للأرض مقسما، ولمقادير الكواكب متوسما، بل لو وصل إلى ابن واصل علمه لقنع بما فضل، أو ابن العديم جمال الدين ما عدم ما تعنّى إليه وما وصل، وكل هذا عوله على أدبه الذي هو أغض من ورق النبات، وأحسن من تذهيب الحياء فضة خدود البنات، بقريحة
أصفى من الماء، وأورى من النجوم في الظلماء، وأغرب من عنقاء، وأطرب من ورقاء.
وكتب الإنشاء مصرا وشاما فكبت، وجرت معه القرائح إلا أنها السوابق فكبت، وطاب به الواديان، وطال الناديان، وقلد الممالك ما هو أعلق بها من أطواق الحمائم، وأعبق فيها [] جنوب الغمائم.
وله التصانيف الكثيرة الكبيرة بنفسها، الأبكار التي ما أوت إلا سرادق نفسها.
* ومما كتب لي من نثره، وأتبعه من شعره قوله؛ من ذلك كتاب كتبه بشارة بوفاء النيل، وهو: ضاعف الله نعمة الجناب العالي، وسر نفسه بأنفس بشرى، وأسمعه من أنباء الهناء كل آية أكبر من الأخرى، وأقدم عليه من المسار ما يتحرز ناقله ويتحرى، وساق إليه كل طليعة إذا تنفس صبيحها تفرق الليل وتفرى، وأورد لديه من أخبار الخصب ما يتبرم به محل المحل ويتبرا؛ هذه المكاتبة إلى الجناب العالي، تخصه بسلام يرق كالماء انسجاما، ويروق كالزهر ابتساما، وتتحفه بثناء يجعل المسك له ختاما، ويضرب له على الرياض النافحة خياما، وتقص عليه من نبأ النيل الذي خص البلاد المصرية بوفادة وفائه، وأغنى به قطرها عن القطر فلم تحتج إلى مد كافة وفائه، ونزهه عن منة الغمام الذي إن جاد فلابد من شهقة رعده ودمعة بكائه، فهي الأرض التي لا يذم للأمطار في جوها مطار، ولا يزم للقطار في بقعتها قطار، ولا ترمد الأنواء فيها عيون النوار، ولا تشيب بالثلوج مفارق الطرق ورؤوس الجبال، ولا تبيت البروق ساهرة لمنع العيون من تعهد الخيال، ولا تفقد فيها حلى النجوم لاندراج الليلة تحت السحب بين اليوم وأمس، ولا يتمسك المساكين في شتائها كما قيل بحبال الشمس، وأين أرض يخمد عجاجها بالبحر العجاج، وتزدحم في ساحاتها أفواج الأمواج، من أرض لا تنال السقيا إلا بحرب، لأن القطر سهام، والضباب عجاج قد انعقد، ولا يعم الغيث
بقاعها، لأن السحب لا تراها إلا بسراج البرق إذا اتقد، فلو خاصم النيل مياه الأرض لقال: عندي قبالة كل عين إصبع، ولو فاخرها لقال: أنت بالجبال أثقل، وأنا بالملق أطبع، والنيل له الآيات الكبر، وفيه العجائب والعبر، منها: وجود الوفاء، عند عدم الصفاء، وبلوغ الهرم، إذا احتد واضطرم، وأمن كل فريق إذا قطع الطريق، وفرح قطان الأوطان إذا كسر، وهو كما يقال سلطان، وهو أكرم منتمى، وأشرف منتدى، وأعذب مجتنى، وأعظم مجتدى، إلى غير ذلك من خصائصه، وبراءته مع الزيادة من نقائصه، وهو أنه في هذا العام المبارك، جذب البلاد من الجدب وخلصها بذراعه، وعصمها بخنادقه التي لا تراع من يراعه، وحصنها بسواري الصواري، وما هي إلا عمد قلاعه، وراعى الأدب بين أيدينا الشريفة بمطالعتنا كل يوم بخبر قاعه في رقاعه، حتى إذا أكمل الستة عشر ذراعا، وأقبلت سوابق الخير سراعا، وفتح أبواب الرحمة بتغليقه، وجد في طلب تخليقه، تضرع بمد ذراعيه إلينا، وسلم عند الوفاء بأصابعه علينا، ونشر علم ستره، وطلب لكرم طباعه جبر العالم بكسره، فرسمنا بأن يخلّق، ويعلّم تاريخ هنائه ويغلّق، فكسر الخليج وقد كاد يعلوه فوج موجه، ويهيل كثيب سده هول هيجه، ودخل يدوس زرابي الدور المبثوثة، ويجوس خلال الحنايا كأن له فيها خبايا موروثة، ومرق كالسهم من قسي قناطره المنكوسة، وعلا زبد حركته، ولولا ظهرت في باطنه من بدور أناسه أشعتها المعكوسة، وبشّر بركة الفيل ببركة الفال، وجعل المجنونة من تياره المتحدر في السلاسل والأغلال، وملأ أكف الرجاء بأموال الأمواه، وازدحمت في عبارة شكره أفواج الأفواه، وأعلم الأقلام بعجزها عما يدخل من خراج البلاد، وهنأت طلائعه بالطوالع التي نزلت بركاتها من الله تعالى على العباد، وهذه عوائد الألطاف الإلهية بنا، التي لم نزل نجلس على موائدها، ونأخذ ما نهبه لرعايانا من فوائدها، ونخص بالشكر قوادمها، فهي
تدب حولنا وتدرج، ونخص قوادمها بالثناء والمدح، فهي تدخل إلينا وتخرج، فليأخذ الجناب العالي حظه من هذه البشرى، التي جادت بالمن والمنح، وانهلت أياديها المغدقة بالسح والسفح، وليتلقاها بشكر يضيء به في الدجى أديم الأفق، ويتخذها عقدا يحيط منه بالعنق إلى النطق، وليتقدم الجناب العالي بأن لا يحرك الميزان في هذه البشرى بالجباية لسانه، وليعط كل عامل في بلادنا بذلك أمانه، وليعمل بمقتضى هذا المرسوم حتى لا يرى في إسقاط الجباية خيانة؛ والله تعالى يديم الجناب العالي لقص الأنباء الحسنة عليه، ويمتعه بجلاء عرائس التهاني والأفراح لديه، بمنه وكرمه.
ومن ذلك جواب كتبه عن النائب بالشام، إلى الملك الأفضل صاحب حماة، وقد أرسل مشمشا كافوريا: لا زال إحسانه كالعلم المشهور، وجوده المنظوم يهدي من الثمرات ما هو كاللؤلؤ المنثور، وبره يتحف بما هو كالشهد في الطعم واللون، وكالنجم في الشكل والنور، وكرمه يتضوع نشرا، وكيف لا وقد جاد بما ينسب إلى الكافور؛ وينهي ورود المشرفة العالية قرين ما أنعم به مولانا من المشمش الكافوري، فوقف عليها وقابل إحسانه بشكر يشرق نورا، وثناء يدير على الأسماع كأسا كان مزاجها كافورا، وواجه جوده بحمد يتلوه منه وجه الروض بمنثوره، وتجد الألسنة لمنظومه لذة تنسي الأسماع ما قاله أبو الطيب في كافوره، ومتع ناظره بتلك الكواكب التي اتسقت من العلب في أفلاك، وتنسّقت كالدرر وما لها غير حسن الرصف أسلاك، وتأملها وهي كرات بلور اكتنفها الأصيل والشفق، وركبت حين ملأت الصدور طبقا عن طبق، فأكرم بها هدية كانت بحلل الأشجار أزرارا، ولجنات الأوراق نارا؛ كيف مكنت فروعها يد قاطفها من السلب؟ وكيف أقبلت في حلة الروع والوجل وهي طيبة القلب؟
كأنها لم تكن لقسي الغصون بنادق، ولا في رقع الأوراق بنادق، فالله يشكر
لمولانا هذا الإحسان العلوي الذي جاد بالنجم زهرا، والجود الروضي الذي ملأ العيون حسنا وملأ الصدور درا، وأدام الله أيامه التي تسبق فيها الغرائب، وتستبق إلى مكارمها الرغائب، بمنه وكرمه.
ومن ذلك جواب كتبه إليه أيضا، وقد أهدى إليه رخاما ملونا: وينهي وصول الرخام الملون الذي فتح به عين هذه الدار المكونة، وأهدى إلى روضها الذاوي أزهاره الملونة، ولا غرو فإن العيون توقظها الشموس بالأشعة من المنام، والأزهار توجد بالرياض من جود الغمام، ولو لم يكن كرم مولانا سحابا، لما جاد بألوان قوس قزح، ولو لم يكن علوه كالشمس لما انبعثت عنه أنوار تلهب شعاعها في هذه الدار وقدح، وتحاشى المملوك تشبيه ذلك بالزهر، فإن هذا أبدا يانع، وذلك يؤول إلى الذبول، أو التمثيل بالأشعة، فإن هذا أبدا مشرق، وذاك بذهاب سره يحول ويزول؛ وهذه معجزة كرم لمولانا، فإن ريش الطاووس صار له جلمدا، وقوس السحاب تجسّد له على طول المدى، فلو ناظره مباه بمحاسنه لكان له الفخر، ولو حاولت المياه أن تبليه لما بالى بما لها عليه من الزخر، ولو أجرت دموعها عليه لما لابتك، فما كل باك خنساء، ولا كل جماد صخر، ولو رأته العيون لسبحت الألسن من راح له صانعا، ولو أراد بليغ أن يقوم بحقه وصفا لوجده مانعا، والله يشكر لمولانا هذا الإحسان المديد الوافر، والفضل الأفضلي الذي أنبت في الروض أزاهر.
ومن ذلك مقامة أنشأها في الحريق الذي اتفق بدمشق، سنة أربعين وسبعمئة، وسماها «رشف الرحيق في وصف الحريق» وهي: حكى شعلة بن أبي لهب عن أبي الزناد شهاب، أنه قال: لم تزل أذني متشنفة بأوصاف دمشق، متلذذة بماء الأقلام في ذكر محاسنها من التعليق
والمشق، حتى رأيت الحزم، شد الكور إليها والحزم، فأزمعت السير، ولم أزجر الطير، وقطعت أديم الأرض بالسير، وركبت إليها مطاء الشوق قبل مطايا السوق، ولم يتلفت القلب إلى الوطن، ولا حن النجيب إلى العطن، حتى بلغتها بعد مكابدة السرى، وإثارة العجاج من الثرى، فلما حللت مغناها وجدتها:[الكامل]
بلدا أعارته الحمامة طوقها
…
وكساه حلة ريشه الطاووس
وكأنما الأنهار فيه سلافة
…
وكأن ساحات الديار كؤوس
فألقيت العصا في ساحتها، وألفيت زوال التعب في مصافحة راحتها، فما سرت فيها إلى روض إلا وأجلسني من النرجس على أحداقه، وقام السرو من السرور بين يدي على ساقه، وجرى الماء في خدمتي لكرم أخلاقه، وظللني الدوح لطيب أعراقه، ومد الغصن لي ستور أوراقه، وغنى لي الحمام على عوده، ولو تأنى أو تأبى جره بأطواقه. قال:
فشفيت سقمي بنسيمها العليل، واستروحت إلى ما نقله عن بانه وبنفسجه لا إلى ما يتحمله من الإذخر والجليل، وخلت أنه بلطف مسه يلين له الجندل، وجننت بعرفه المندلي، وما رأى الناس من جنّ بالمندل، وبردت بأنفاسه حر الصبابة والجوى، وقلت:[الكامل]
أضحى نسيم دمشق حياها الحيا
…
يمشي الهوينا في ظلال حماها
فكأنه من مائها وهضابها
…
ما داس إلا أعينا وجباها
وقطعت بها زمنا ألذ من وصال الحبيب، وأشهى إلى النفس من التشفي بأذى الرقيب، فلا أبعد الله ما في بساتينها من شجرات، ولا قدّر الكسوف على ما فيها من كواكب الثمرات، ولا دكّ هضبات أزهارها التي تضوع بطن نعمان برياها، لا بمن مشى به من الخفرات، فإنها:[الخفيف]
شوقتنا إلى الجنان فزدنا
…
في اجتناب الذنوب والآثام
قال: ولازمت جامعها الذي تحيرت العقول في تكوينه وكنهه، وحسنه الذي لم يكن فيه عيب سوى أنه لم تقع العين على شبهه، ولله من نظم درّا فيه حين قال فيه:[المتقارب]
دمشق لها منظر رائق
…
وكلّ إلى وصلها تائق
وكيف تقاس بها بلدة
…
أبى الله والجامع الفارق
فإنه يوقظ النائم، بحسن رخامه القائم، ويجلو بهيم الدجى حصّة الفجر من حصّه، وتروي لك زخرفته حديث الحسن بفصه، كم زهرت فيه ليلة النصف من ذبالة هي نجم توقد، وكم دار به دولاب كانت قناديله تدور مثل الفرقد، وكم طلع في سماء صحنه من ثريا، وكم تمنى من القمر لو كان بين نجومه فما اتفق له ذلك ولا تهيا، وكم جليت عروسه في عقود وقود، وكم تمتعت الأبصار فيه بوجوه تخجل البدر في ليالي السعود، وكم فيه من عمود قام على قاعدة، وكم به من منجور كغضون أوجه العجائز وأزراره ناهدة، وكم من أعطاف رؤيت في صحنه مائدة، وكم من طائر لرفع نسره مخفوض، وكم حسن بناء عند بنائه يعرب أنه مرفوض، كم أظهرت الصناع فيه بدائع لا يدعيها غيرهم ولا يتعاطى، وكم أبرزوا فيه من معجز لأنهم جعلوا الحجارة أوراقا والرخام أخياطا، قد عمر الله تعالى أوقاته بالذكر، وأراح قلب من يراه من الهم، وأراح عنه الفكر.
قال: فلما رأيت مجموعه المختار، وأن العيون تودّ لو نسج له من شعر جفونها أستار، قلت «1» :[الطويل]
تقول دمشق إذ تفاخر غيرها
…
بجامعها الزاهي البديع المشيد
جرى لتناهي حسنه كلّ جامع
…
وما قصبات السبق إلا لمعبد
قال: فبينا نحن ذات ليلة وقد وردنا حمى المضاجع، ودخل ضيف الطيف على مقلة الهاجع، وإذا بالأصوات تعجّ، والدعوات تلج أبواب السماء وتلجّ:[الطويل]
فلو نشدت نعشا هناك بناته
…
لمات ولم يسمع لها صوت منشد
فسألت عن الخبر ممن عبر، فقال: إن الحريق وقع قريبا من الجامع، وانظر إلى نسج الجوّ كيف انتشرت فيه عقائق اللهب اللامع؛ فبادرت إلى صحنه والناس فيه قطعة لحم، والقلوب ذائبة بتلك النار كما يذوب الشحم، ورأيت النار وقد نشرت في حداد الظلماء معصفرات عصائبها، وصعدت إلى عنان السماء عذبات ذوائبها:[من الطويل]
ذوائب لجت في علوّ كأنما
…
تحاول ثأرا عند بعض الكواكب
وعلت في الجو كأنها أعلام ملائكة النصر، وكان الواقف في الميدان يراها وهي ترمي بشرر كالقصر، فكم زمر أضحت لذلك الدخان جاثية، وكم نفس كانت في النازعات وهي تتلو: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ
«1» ولم تزل النار تأكل ما يليها، وتفني ما يستفلها ويعتليها، إلى أن ارتقت إلى المئذنة الشرقية، ولعبت ألسنتها المسودة في أعراض أخشابها النقية، وثارت إليها من الأرض لأخذ الثأر، وأصبح صخرها كما قالت الخنساء: كأنه علم في رأسه نار «2» ؛ فنكست وكانت للتوحيد سبابة، ولمعبدها المطرب شبابة، وابتلي رأسها من الهدم والنار بشقيقة، وأدار الحريق على دائرها رحيقه:[المتقارب]
وبالأرض من حبها صفرة
…
فما ينبت الروض إلا بهارا
وترقى إليها أو لو العزم من النظارة، وصبروا على النار والشعث بعد النعيم والنضارة، وكادت نارها تكون كنار القيامة وقودها الناس «1» والحجارة؛ هذا وبنفسج الظلام يذوي، ولينوفر «2» النار يشب على الماء ويقوى، حتى نثرت غصون ذوائب النار شررها في النواحي، وظننا الدخان روضة سوسن تخللها نرجس وأقاحي، وعقد الدخان سماء أخرى، وأطلع الشرار فيها كواكب زهرا، وكأن أهل دمشق دعوا طارق النيل والفرات ليقرى، وخافوا ضلاله فرفعوا له من النار في الظلماء ألوية حمرا، إلى أن أتاها البحر- لا زال نصره عجاجا، ولا برحت سيوفه تكاثر البحار أمواجا- فانكشفت لما أن رأت من وجهه سراجا وهاجا، وطفئت لما أن رأت جوده عذبا فراتا، وبأسه ملحا أجاجا، وكاثرهم بهمم أمرائه فأحكم إخمادها وتلقى بصدره من خطب الزمان ما دهى؛ ولما طلع في روض السماء ياسمين النهار، وعاد إهليلجا ما رؤي بالليل من الجلنار، وقف النادبون على الرسوم، ورأوا صنع النار التي عكست نار الآخرة، فكان لكلّ مكان منها جزء مقسوم «3» :[الطويل]
فلم يدر رسم الدار كيف يجيبنا
…
ولا نحن من فرط الجوى كيف نسأل
وأصبح باب الساعات «4» وهو من آيات الساعة، وخلت مصاطب الشهود من السنة والجماعة، وعادت الدهشة وقد آل أمرها إلى الوحشة، وحسنها البديع، وقد ثلث النار عرشه، كأن لم أر بها سميرا، ولا شاهدت من بنائها
وقماشها جنة وحريرا، قد سلط الله عليها النار التي ما لها ردة، وأحرق أزهار ثيابها الملونة بوردة؛ ونظرت إلى الوراقين وقد زال ما بها من الطرائف، وطاف عليها من الدثور والخراب طائف، فيا ضياع أوضاعها المكونة، ويا سواد وجوه أوراقها الملونة، ولمحت اللبادين وقد صارت كالعهن المنفوش، ومحيت بأيدي النار سطور كل خاتم منقوش، وأصبح أهلها كالحمائم تنوح على أقفاصها، وتود اللآلئ أنها لم تخرج إليهم من مغاصها، فما منهم إلا ربّ نعمة سلبت، أصبح بعد الجديد في خلق، أو غنيّ أمسى بعد ما ضم قفصه يكدي في الحلق، وكادت الخضراء «1» تذهب بالنار الحمراء.
قال: فلما رأيت تلك الأطلال الدائرة، ونسخ هاتيك الظلال المتصلة بالهاجرة، وخطوطها وزواياها كيف أحاط بها سوء الدائرة: قلت عند مشاهدة تلك الحال في الحال: [الطويل]
حريق دمشق قد بدا لعياني
…
ليظهر لي عند البيان معاني
غدت ناره في الجو تعلو وترتقي
…
كأن لها عند النجوم أماني
لقد ضوّأ الآفاق لامع برقها
…
وما كلّ برق شمته بيماني
وقد كاد يمحو آية الليل ضوؤها
…
ويبدي نهارا بعد ذلك ثاني
ونالت عنان الجو حتى رأيتها
…
يصرفه من تحتها بعنان
وطالت إلى نهر المجرة في السما
…
لتقصد شيّ الحوت والسرطان
فأبصر أهل النيل لما ترفعت
…
نجوم شرار في سماء دخان
كأن دخان النار غبراء مغزل
…
وكل شرار فيه مثل سنان
ولو لم تكن نار الأعادي لما غدت
…
وحنّاؤها باد بكل بنان
ولا صبغت بالزعفران قميصها
…
سرورا ولا طالت بكل لسان
قال: وما نفض الناس غبار ذلك الهدم، ولا رماد ذلك الصدع الشديد الصدم، حتى وقع بالمدرسة الأمينية «1» حريق ثان، ودهمت شقراء النار دهماء الظلام، ولم يوجد لعنانها ثان، فجمعت بين عين الوداع وسين السلام، وكانت كحمى أبي الطيب، فليس تزور إلا في الظلام «2» فيا لسوق الكفت كيف باد وفتت الأكباد؛ علكت النار لجمه، وكسفت نجمه، أين بأسه الشديد، ومنافعه التي لا تبيد؟ سكت زبره، ورفع خبره.
ويا لسوق الخيم، كيف ذهب، وعدم النصر على الكافرين، فتبت يدا أبي لهب، لقد تمسكت النار بأطنابه، وتجلد لها والنار تحت ثيابه، وأمسى وكل عمود غصنه مهصور، وكل خام وهو على البلى مقصور، كأن الشاعر قديما تخيل ما يحصل لها من الأوام، فقال: سقيت الغيث أيتها الخيام.
ويا لسوق القسي كيف محي من الوجود ونسي، لم يبق لقوس قلبها، ولم يعطها لباريها ربها، كأنما كان للنار عند القسي أوتار، وكأن نسخها كان محققا فجاءهم بقلم الطومار، أو كأن امتهانها كان معلقا بثلث الليل بعد ما رقت حواشيها ولم يقع عليها غبار، فكم قسي توفر من النار سهمها، وعظم بوهنها وهمها، وأقامتها النار بعد ما كانت حنايا، وأفنت قرنها وما اختلط بعظم أو الحوايا، لم تبطش ولها أيد، ولم تهرب ولها أرجل ولم تئنّ وهي مرنان، ولم تدفع الأذى عن نفسها ونفثها يقتل، ولم ينبسط لها إلى الدفع قبضة، ولم تصل إلى غرض، ولم ينبض لعرق وترها نبضة؛ قد قال لها لسان النار: هل سمعت بهذه الحادثة في ملحمة ابن عقب؟ أو اتصل بناؤها بقوس السحاب فانتظره وارتقب؛ كيف غفلت عن هذه النازلة، وأنت عدة قوم قليلا من الليل ما
يهجعون؟ وكيف نمت ولا عجب لمن نعس وهو ذو قرون؟
قال: فبينما هما في المناجاة، وتكرار المحاجاة، إذ جاء النار خير مالك، وأشرف من زهيت به الدول والممالك، فجاس خلال ضرامها، ودخل لظاها فتلقته ببردها وسلامها، وتتبع أثرها الذي آثر اقتلاعه واقتحمها، فتعلقت إذ تألقت في الجو، والفرار قدام الملوك طاعة، ولم ير تلك الساعة أحد أقرب منه إليها، ولا أسلط سطا منه عليها، وثب في جهاتها مماليكه وأمراؤه، وصغار بنيه وكبراؤه، فهم قوم:[الطويل]
إذا ركبوا زادوا المواكب بهجة
…
وإن جلسوا كانوا صدور المجالس
فلم ير أسهل من خمودها، ولا أسرع من إبطال حركتها وجمودها؛ ونصر- أعز الله أنصاره- هذه الملة المحمدية، وحاز بهذه المنقبة الكرامة الأحمدية.
ولما رأيت مسك هذا الختام، وأن الجيش تعالى وانحط القتام، قلت:[السريع]
جاد ليطفي النار من اسمه
…
بحر فأخفى زندها الواري
ومن يكن بحرا فلا غرو أن
…
تطفا لظى منه بتيار
وقام في الله لدفع الأذى
…
مؤيدا بالقدر الجبّار
وغير بدع أن يرد الردى
…
بمرهف الحدين بتار
لأنه سيف ولم يدخر
…
إلا لخطب طارق طار
واقتحم النار بوجه حكى
…
بدر الدجى إذ لاح للساري
فانظر إليه وهو في وسطها
…
تشاهد الجنة في النار
قال: ولم يزل الناس من أمر هذه النار في قلق، وحدس نفى عن قلوبهم القرار، ورمى جفونهم بالأرق، وحنق يود الصبح لو تنفس، والفجر معه لو انفلق، حتى أظهر الله تعالى أن النصارى قصدوا الجامع بذلك، وتخيلوا أن النار تلعب في
جوانب دمشق، وما الناس إلا هالك وابن هالك «1» ؛ وتوهموا أن فعلاتهم المذمومة تغطي مساوئها الليالي الحوالك، فعل من صوّر الصور بيده وعبدها، وكفر بالوحدانية وجحدها، وعكف على الخيانة والجناية، واعتمد على عقل أداه إلى أن الواحد تعالى ثلاثة، فتهيب بعض الناس رميهم بهذا الحجر وأعظم نسبة هذا الفعل إليهم، وفجر وخوف بانتصار الفرنج لأهل ملتهم، وإزاحة علّتهم، وكشف غمتهم، والأخذ بثأر رمّتهم؛ فقال من صدق في إيمانه، وكان من أنصار الإسلام وأعوانه «2» :[الوافر]
أعباد المسيح يخاف صحبي
…
ونحن عبيد من خلق المسيحا
فما كان إلا أن صممت العزمات السيفية، وعمت بإحسانها الشامل، حتى خلصت النفوس البريئة من هذه البرية، وأيقظت عين حزمها الراقدة، واستبدت مرة واحدة؛ ورسم بإمساك من أبرم هذا الأمر وحرره، وبيت على فعله وقرره، فأقروا بما فعلوا، ووجدوا ما عملوا، فضربوا بسياط كشطت غلظ الغلظ من جلدتهم، وأوهنت قوى شجاعتهم وجلدهم، كم فيهم من أسود اللّمّة فتق جلده الشيب، وخطّ وخطه على جنبه ما كان مخبوءا له في الغيب، وأقبل بعضهم يوبخ بعضا فيما أشار، ويتبرم هذا إذ يتبرأ ذاك من هذه الآثار، ويتسابون فيما بينهم، إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ
»
. ولقد قلت فيهم عند التشفي، والانكفاء عن عقابهم بما يكفّ الحنق ويكفي:[الكامل]
حرثت جنوبهم وشقت أرضها
…
ليلا فجاد نباتها بشقيق
وأريد تأريخ الحريق فخطه ال
…
والي على أضلاعهم بعقيق
ولما أخذ سحت أموالهم، وصرف في إيجاد ما أعدموه بفعالهم، نظر في سوء منقلبهم ومآلهم، وتمام المقابلة على تجنيس أعماله، وورد المرسوم العشرين بتسميرهم على الجمال، وإظهار ما لهذه الملة القاهرة من العز والجمال، فقضى الله تعالى فيهم أمرهم، وجعلهم آية لأهل الصليب وعبرة، وأخرجوا وطباع الورى على عدم رحمتهم مجبولة، وقدموا في حلقة الناس، فخرج كل واحد منهم بجمل وست فحولة، وأقيموا رقباء للشمس كالحرباء، فليس لهم من دونها ستر منسبل، وتنوع الناس في شتمهم، فقال: أشبعتمونا شتما «1» ، ورحنا بالإبل:[الكامل]
انظر إليهم في الجذوع كأنهم
…
قد فوقوا يرمون بالنشاب
أو عصبة عزموا الرحيل فنكسوا
…
أعناقهم أسفا على الأحباب
وطيف بهم بياض يومين، ثم أنزلوا ليجعل كل سطل منهم دلوين، فجردوا من ثيابهم، وجمع شمل السرور بتمزيق إهابهم:[السريع]
ساقهم البغي إلى صرعة
…
للحين لم تخطر على بالهم
كم أملوا المكروه في غيرهم
…
فنالهم مكروه آمالهم
وسبق السيف فيهم العذل، وقال كل مسلم لمصرعهم: تركتني أصحب الدنيا بلا أمل؛ وبقيت أشلاؤهم طريحة الحفير، وألقوا في جهنم وبئس المصير.
* ومن شعره قوله: [البسيط]
أدعوك يا موجد الأشياء من عدم
…
وصانع العالم العلوي والأرضي
إن كنت تعرض يوم الحشر لي عملا
…
فلا تقدر له طولا على عرضي
وقوله: [السريع]
يا رب إن لم ألق منك الرضا
…
عمري وحاشا فضلك الغامر
فعند حفر القبر لا تنسني
…
يا حسنه نقدا مع الحافر
وقوله: [من الوافر]
يقول الفكر لي دنست ثوب الش
…
شباب في غداة الشيب تتعب
وتغسله بدمعك كل وقت
…
وما ينقى لأن الطبع أغلب
وقوله «1» : [السريع]
لا تسأل الناس فإني امرؤ
…
ما طاب لي عرف من العرف
واقنع ولا تجمع حطاما فكم
…
في الدهر للدينار من صرف
وقوله «2» : [السريع]
لا تجمع الدينار واسمح به
…
ولا تقل: كن في حمى كنفي
ما الدهر نحويّ فينجو الهدى
…
ويمنع الجمع من الصرف
وقوله «3» : [السريع]
يا زمنا أوقعنا شؤمه
…
في محنة ليس لها كاشفه
الفضل يحتاج إلى عارف
…
والحال يحتاج إلى عارفه
وقوله: [من السريع]
لا ترع للملاق عهدا ولا
…
تصغ لما نمقه واختلق
فأنت تدري ما جنته يد الر
…
رامي على الطير برعي الملق
وقوله مضمنا «1» : [الطويل]
يقول لنا المقياس والنيل هابط
…
لنقطع آمال المنى والمطامع
«ومن يأمن الدنيا يكن مثل قابض
…
على الماء خانته فروج الأصابع»
وقوله: [السريع]
لا تطغ تلق الشر كالنيل إذ
…
طغى وزاد الأمر في هيجه
كم جاءه بالشر شرّ إلى
…
أن كسر الأضلاع من موجه
وقوله «2» : [المجتث]
لم لا أهيم بمصر
…
وأرتضيها وأعشق
وما ترى العين أحلى
…
من مائها إن تملق
وقوله: [البسيط]
لقد رأيت بمصر مذحللت بها
…
عجائبا ما رآها الناس في جيل
تسود في عيني الدنيا فلم أرها
…
تبيض إلا إذا ما كنت في النيل
وقوله: [البسيط]
قالوا: علا نيل مصر في زيادته
…
حتى لقد بلغ الأهرام حين طمى
فقلت: هذا عجيب في بلادكم
…
أن ابن ستة عشر يبلغ الهرما
وقوله «1» : [السريع]
قد زاد هذا النيل في عامنا
…
فأغرق الأرض بإنعامه
وكاد أن يعطف من مائه
…
عرى على أزرار أهرامه
وقوله: [مخلع البسيط]
قد حارب الريح نيل مصر
…
وعض من غيظه الأصابع
فجاءت الريح بانزعاج
…
كسّر من موجه الأضالع
وقوله: [الهزج]
وعين ماؤها صاف
…
كمثل الشمس في الأوج
ولم أر قبلها عينا
…
حواجبها من الموج
وقوله: [البسيط]
ركبت في البحر [يوما] مع أخي أدب
…
فقال: دعني من قال ومن قيل
شرحت يا بحر صدري اليوم، قلت [له:]
…
لا تنكر الشرح يا نحوي للنيل
«2» وقوله: [الكامل]
لك إن تغب شخص وذكر أصبحا
…
ملكين في ذاتي وذلك لائق
فخيام جفني فوق ذا مضروبة
…
ولواء قلبي فوق هذا خافق
وقوله: [السريع]
كأنما الليل إذا مادجا
…
وصدّ من قلبي به مغرى
صحيفة سودا وشخصي به
…
من انتحالي ألف صفرا
وقوله «1» : [الطويل]
أتاني وقد أودى السهاد بناظري
…
يمزق جنح الليل بارق فيه
فقلت له: يا طيب الأصل هكذا
…
أخذت الكرى مني وعيني فيه
وقوله: [الكامل]
لما رقدت أتى خيالك بغتة
…
فغدا فؤادي خافقا يتموج
«2»
لو أن صحبي شاهدوني في الكرى
…
والقلب يرقص في الخيال تفرجوا
وقوله «3» : [المتقارب]
ضممت خيالك لما أتى
…
وقبلته قبلة المغرم
وقمت ومن فرحتي باللقا
…
حلاوة ذاك اللمى في فمي
وقوله: [السريع]
عجبت إذ زارت على خفية
…
من أعلم الواشي بمسراها
هذا فضول من نسيم الصبا
…
فهو الذي ينقل رياها
وقوله: [السريع]
قلت له: زرني فلابد أن
…
يدري بنا الواشي ويغري العذول
فالريح ما تكتم سرا وما
…
يبرح ريّاك يعاني الفضول
وقوله: [السريع]
قالوا: وشى الحلي بها إذ مشت
…
إليك من قبل ابتسام الصباح
فقلت: لا خلخالها صامت
…
ثم تذكرت فضول الوشاح
وقوله «1» : [الكامل]
علم الوشاة بأن ريق معذبي
…
راح يعيد الصب بعد هلاكه
أما أنا لم يبد هذا من فمي
…
لكن هذا من فضول سواكه
وقوله: [السريع]
يقول: لما قلت هذا اللمى
…
أسكرني لما ترشفت فاك
سواك ما ذاق لمى مبسمي
…
أستغفر الله ذكرت السواك
وقوله: [المتقارب]
إذا شئت حليك أن لا يشي
…
وقد زرت في الحندس المظلم
فردي السوار مكان الوشا
…
ح وخلي سوارك في المعصم
وقوله: [الخفيف]
قال لي: لا تفه بميل قوامي
…
إن تثنى واستره خوف العيون
قلت: [إن] الصبا التي قد أشاعت
…
عنك هذا الحديث بين الغصون
«2» وقوله: [البسيط]
أقول: يا غصن هلا ملت نحو فتى
…
فؤاده طار حتى ليس يألفه
فقال: من قال: قدي مثل غصن نقا؟
…
قلت: النسيم الذي ما زال يعطفه
وقوله مضمنا: [الطويل]
أقول لغصن البان: إن كان لم يمس
…
قوامك إلا بالصبا في التنسم
فعارض حبيبي حين يثني قوامه
…
وقف وقفة قدامه تتعلم
وقوله: [من السريع]
يوهمني من لين أعطافه
…
بأنه لم يقس يوما علي
ويخدع البند إلى أن غدا
…
يربطه الخصر على غير شيّ
وقوله: [مجزوء الكامل]
لم أنسه في روضة
…
والطير يصدح فوق غصن
فأعلم الورق البكا
…
ويعلّم الغصن التثني
وقوله: [المجتث]
يهتز قدك لينا
…
وفي الحشا منه غصه
يغيب عني حينا
…
وإن أتى جاء برقصه
وقوله: [الخفيف]
أيها الأهيف الذي قد تثني
…
عطفه والتوى من اللين غصنه
لك ردف من وافر وبسيط
…
لا يرى في الربا ولا الكثب وزنه
وقوله: [المجتث]
يقول ردف حبيبي
…
وعطفه المتثني:
ما أنت يا غصن قدي
…
ولا كثيبك وزني
وقوله: [الهزج]
لقد أضعفني حزني
…
وضاعف خالقي حسنك
فها أنا لم أزن وجدي
…
لأني لم أجد وزنك
وقوله: [البسيط]
ألبستها من عناقي وهي نائمة
…
ثوبا يزر بلثم غير منفصل
يا خجلتا في غد منها إذا أخذت
…
مرآتها ورأت ما أثرت قبلي
وقوله: [المنسرح]
يا برق بلغ رسالتي فمها
…
إن أنكرتني فصف لها عللي
لأن بيني وبين مبسمها
…
ليلة زارت علامة القبل
وقوله: [مخلع البسيط]
قلت له: إن بعدت عني
…
تفضولت بيننا العواذل
أما ترانا لما اعتنقنا
…
ما دخلت بيننا الغلائل
وقوله: [الوافر]
نظرت إلى الرياض ولي مجاز
…
يؤديني إلى المعنى الحقيقي
فكم أبصرت من آس تبدى
…
وما اندملت جراحات الشقيق
وقوله: [المتقارب]
عذارك والطرف يا قاتلي
…
يحاكيهما الآس والنرجس
وقد صار بينهما نسبة
…
فهذا يدب وذا ينعس
وقوله «1» : [الخفيف]
إن عيني مذ غاب شخصك عنها
…
يأمر السهد في كراها وينهى
بدموع كأنهن الغوادي
…
لا تسل ما جرى على الخد منها
وقوله «1» : [الكامل]
أملت أن تتعطفوا بوصالكم
…
فرأيت من هجرانكم ما لا يرى
وعلمت أن بعادكم لا بدّ أن
…
يجري له دمعي دما وكذا جرى
وجاءت شتوة وشّعت بروقها حاشية السحاب، ووشّت لمم الجبال الشائبة توشية الخضاب، وهدرت رعودها الصائلة، ووفت عهودها السائلة، وتوالت مدة لا يكشط فيها سماء، ولا يكشف بأيام الثلوج المصبحة ظلماء، ودامت أياما لا تفصل فصالها عن سحائب، ولا تولد بكرة يوم إلا وهي في طفولتها شائبة النواصي والذوائب، هذا ولا تصبح صبيحة ضاحك إلا ووجه الأرض عبوس، ومعطف السماء في لبوس بؤس، وقوس السحاب ترمي بقسي مالها وتر، وغدر الثلج الصافية كالبلور كلها كدر، والسقوف وقد أرقها المطر فأنهرها، والطرق قد عرفها اللثق ونكّرها، والبرد قد اشتد كلبه، ولهذا غطى جمده الماء، ولم يشتف حتى شرب العذب البارد ممزوجا بمثل الدماء.
فكتبت إليه: كيف أصبح مولانا في هذا الشتاء الذي أقبل يرعب مقدمه، ويرهب تقدمه، ويريب اللبيب من برقه المومض تبسمه؟ وكيف حاله مع رعوده الصارخة، ورياحه النافخة، ووجوه أيامه الكالحة، وسرر لياليه التي لا تبيت منها بليلة صالحة وسحابه وأمواجه وجليده، والمشي فوق زجاجه، وتراكم مطره الحثيث، وتطاول فرع ليله الأثيث، ومواقده السود الممقوتة، وذائب جمره المحمر، وأهون بها ولو أن كل حمراء ياقوتة، وتحدر نؤيه المتصبب، وتحير نجمه المتصوب؟ وكيف هو مع جيشه الذي ما أطل حتى نصب مضارب غمامه،
وظلل الجو بمثل أجنحة الفواخت من أعلامه؟ هذا على أنه عرّى الأبنية، وحلل مما تلف ذمّه سالف الأشتية، فلقد جاء من البرد بما رض العظام وأنخرها، ودق فخارات الأجسام وفخرها، وجمد في الفم الريق، وعقد اللسان إلا أنه «1» لسان المنطيق، ويبس الأصابع حتى كادت أغصانها توقد حطبا، وقيد الأرجل فكانت لا تمشي إلا تتوقع عطبا، وأتى الزمهرير بجنود ما للقوي بها قبل، وحمل الأجسام من ثقل الثياب ما لا يعصمهم منه من قال: سَآوِي إِلى جَبَلٍ
«2» ، ومدّ من السيل ما استبكى العيون إذا جرى، واجتحف ما أتى عليه وأول ما بدأ الدمع بالكرى، فكيف أنت يا سيدي في هذه الأحوال؟ وكيف أنت في مقاساة هذه الأهوال؟ وكيف رأيت منها ما شيب بثلجه نواصي الجبال؟ وجاء من البحر فتلقف ثعبانه ما ألقته هراوات البروق من عصي، وخيوط السحاب من حبال؛ أما نحن فبين أفواج من السحب تزدحم، وفي رأس جبل لا يعصم فيه من الماء إلا من رحم؛ وكيف سيدنا مع مجامر كانون وشرار برقها القادح، وهم ودقها الفادح، وقوس قزحها المتلون؟ رد الله عليه صوائب سهامه، وبدّلنا منه بوشائع حلل الربيع ونضارة أيامه، وجعل حظ مولانا من لوافحه ما يذكيه دهنه من ضرامه، ومن سوافحه ما يولده فكره من تؤامه، وعوضنا وإيّاه منه بالصيف إذا أقبل، وأراحنا من هذا الشتاء، ومشى غمامه المتبختر بكمه المسبل.
فكتب إلي جوابا: وينهي ورود هذه الرقعة التي هي طراز في حلة الدهر، والحديقة التي تذكّر بزمن الربيع وما تهديه أيامه من أنواع الزهر، فوقف منها على الروض الذي تهدلت فروع غصونه بالأثمار، ونظر منها إلى الأفق الذي كلّ كواكبه شموس
وأقمار، فأنشأت له أطرابه، وأعلمته أن قلم مولانا يفعل بالألباب ما لا تفعله نغمات الشبّابة، وأرشفته سلافا كورسها الحروف، وكل نقطة حبابة؛ وشاهد أوصاف هذه الأيام المباركة القدوم، المتصلة الظلام فلا أوحش الله من طلعة الشمس، وحواجب الأهلة، وعيون النجوم، فما لنا ولهذه السحائب السحّابة، والرعود الصخّابة، والبروق اللهّابة، والغمائم السكابة، والثلوج التي أصبحت بحصبائها حصّابة والبرد الذي أمست إبره لغضون الجلود قطّابة، والزميتا التي لا تروي عن أبي ذر، إلا ويروي الغيث عن أبي قلابة، كلما أقبلت فحمة ظلام قدحت فيها البوارق جمرتها، وكلما جاءت سحابة كحلاء الجفون رجعت وهي مرهاء لما أسبلت من عبرتها، فما هذا طوبة «1» ، إن هذا إلا جبل ثهلان، وما هذا كانون، إن هو إلا تنور الطوفان، التي متى قطن هذه الثلوج يطرح على حباب الجبال، وإلى متى تفاض دلاص الأنهار، وترشقها قوس قزح بالنبال؟ وإلى متى تشقّق السحاب ما لها من الحلل والحبر؟، وإلى متى ترسل خيوط المزن من الجو وفي أطرافها على الغدران إبر؟ وإلى متى تجمد عيون الغمام وتلحّها البروق بالنار؟ وإلى متى نثار هذه الفضة وما يرى للنجم دينار؟ وإلى متى نحن نحنو على النار حنو المرضعات على الفطيم؟ «2» وإلى متى تبكي هذه الميازيب بكاء الأولياء بغير حزن، إذا استولوا على مال اليتيم؟ «3» وإلى متى هذا البرق تتلوى بطون حياته، وتتقلب حماليق العيون المحمرة من أسود غاباته؟ وإلى متى يزمجر عتب هذه الرياح العاصفة؟ وإلى متى يرسل الزمهرير أعوانا تصبح بها حلاوة
الوجوه تالفة؟ أترى هذه الأمطار تقلب من أزيار؟ أم ترى هذه المواليد تنتهي فيها الأعمار؟ كم من جليد يذوب له قلب الجليد، ويرى زجاجه الشفاف أصلب من الحديد! وكم من وحل لا تمشي هريرة فيه الوجى! «1» ، وكم من برد لا ينتطق فيه نوم الضحى! اللهم حوالينا ولا علينا، لقد أضجرنا تراكم الثياب، ومقاساة ما لهذه الرحمة من العذاب، وانجماع كلّ عن إلفه، وإغلاق باب القباب، وتخلل الضباب زوايا البيوت، والأطفال ضباب الضباب، كل ضبّ منهم قد لزم باطن نافقائه، وقدم بين يديه الموت بداية بدائه، قد حسد على النار من أمسى مذنبا وأصبح عاصيا، وتمنى أن يرى من فواكه الجمرات عنابا أو قراصيا، فإن كانت هذه الأمطار تكاثر فضائل مولانا، فيا طول ما تسفح، وإن كانت العواصف تتشبه ببأسه، فيا طول ما تلفح، وإن كانت البروق تحاكي ذهنه المتسرع، فيا طول ما تتألق، وإن كانت قوس قزح تتلون خجلا من طروسه، فياطول ما تتأنق، وإن كانت الرعود تحكي جوانح أعاديه، فيا طول ما تفهق وتشهق، وإن كانت السيول تجري وراء جوده، فيا طول ما تجري على طول المدى وما تلحق؛ والأولى بهذا النوء الباكي أن لا يحاكي، والأليق بهذا الفصل المبغض ألا يتعرض؛ ورحم الله من عرف قدره، وكفى الناس شره، وتحقق أن مولانا في هذا الوجود ندرة.
فأجبته: وقف لمواقع القلم الشريف ووقف عليه، وتيمن بمجرد إقباله إليه، وقبّلة لقرب عهده بيديه، وعدّه لجلاء المرّة لما أمرّه على عينيه، لا برح الشهد من جني ريقه
المعلل، والطرب بكأس رحيقه المحلل، والتيه وحاشاه منه في سلوك طريقه المدلل، والجهد- ولو كلف- لا يجيء بمثل سيره المذلل، والسحاب لا يطير إلا بجناح كرمه المبلل، والروض لا يبرز إلا في ثوب زخرفه المجلل، والبرق لا يهتز إلا في مثل ردائه المشلل، والنصر يفضي لمواضيه على حد حسامه المفلل، والفجر لولا بيانه الوضاح لما أرشد دليله المضلل، والبحر لولا ما عرف من عبابه الزاخر لما ذم على غزر المادة نواله المقلل، والفخر- ولو شمخ بأنفه- لا ينافس عقده الموشح، ولا يتطاول إلى تاجه المكلل، وفهمه فهام، وعلمه فزاد صقال الأفهام، وقصر عن معرفته فما شك أنه إلهام، وانتهى في الجواب إلى وصف أنواء تلك الليلة الماطرة، وما موهت به السحب من ذهب برقها، وقتلته الأنواء من خيوط ودقها، ونفخت فيه الرياح من جمر كانونها، وأظهرت حقيقته الرعود من سرّ مكنونها، وما تبثه عارضة ذلك العارض الممطر الذي هو أقوى من شآبيبها، وأوقى مما أرقته «1» السّماء من جلابيبها، وأسرى من برقها المومض في غرابيبها، وأسرع من سرى رياحها وقد جمعت أطواق السحب وأخذت بتلابيبها؛ وسبح الملوك من عجب لهذه البلاغة التي كملت الفضائل، وفضلت عن العلم وفي الرعيل الأول علم الأوائل، وفضلت مبدعها وحق له التفضيل، وآتته جملة الفضل وفي ضمنها التفضيل، وانطقت لسان بيانه وأخرست كل لسان، وأجرت قلم كرمه وأحرزت كل إحسان، ونشرت علم علمه وأدخلت تحته كل فاضل، وأرهفت شبا حده وقطعت به كل مناظر وكل مناضل، وقالت للسحاب: إليك- وقد طبق- إليك، فإن البحر قد جاءك؛ وللنوء- وقد أغدق- تنح، فإن الطوفان قد ضيق أرجاءك؛ وللرعد وقد صرخ: اسكت، فقد آن لهذه الشقاشق أن تسكت؛ وللبرق وقد نسخ آية الليل: استدرك غلطك، لئلا تبكت؛ أما ترى هذه العلوم
الجمة وقد زخر بحرها، وأثر في الألباب سحرها، وهذه الفضائل وكيف تفننت فنونها، وفتنت عيونها، وتهدلت بالثمرات أفنانها، وتزخرفت بالمحاسن جنانها، وهذه الألمعية وكيف ذهّبت الأصائل، وهذه اللوذعية وما أبقت مقالا لقائل، وهذه البراعة التي فاضت وكلّ منها سكران طافح، وهذه الفصاحة وما غادرت بين الجوانح، وهذه البلاغة التي سالت بأعناق المطي بها الأباطح «1» ، وهذه الحكم البوالغ، وهذه النعم السوابغ، وهذه الهمم التي ترقت بتوجهها إلى السماء، فكشفت غياية عارضها، وكفت غواية البرق وقد ولع خط مشيبه بخط عارضها، حتى جلاها وأضحاها، وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها
«2» وجلا صدأ تلك الليلة عن صفيحة ذلك اليوم المشمس، وبدل بذلك الصحو المطبع من ذلك الغيم المؤنس، وأترع غدير ذلك النهار خالصا من الرنق، وضوّع غير ذلك الثرى خاليا من اللثق، وأطلع شمس ذلك اليوم يوشع جانب مشرقها، ويوشي بذائب الذهب رداء أفقها.
كما قلت: [السريع]
كأنما اليوم وقد موهت
…
مشرقه الشمس ولا جاحد
ثوب من الشرب ولكنه
…
طرّز منه كمّه الواحد
أستغفر الله، بل ذلك بشر ذلك البشر، بل الملك الكريم وصفيحة وجهه المتهلل الوسيم، لا بل صفيحة «3» عمله وصفيحة أمله، وأنموذج راية الثناء عليه، وصنويده البيضاء وصنع يديه؛ فلله تلك اليد المقبلة، ولله تلك اليد المؤملة،
ولله تلك المواهب المجزلة، ولله تلك الراحة التي لا تقاس بأنملة، ولله ذلك البنان الساحر، ولله ذلك البيان الساخر، ولله ذلك اللسان المدرب، وذلك البحر الزاخر، ولله ذلك الإنسان الذي طال باع عمله وطار، فأوقد ضرام ذلك الصحو شعاع فهمه، وطاب جني ثمره وجناب حلمه، وطاف الأرض صيته، ونفق كاسد الفضائل باسمه؛ لقد ألبس المملوك رداء الفخار، وعرّفه العوم وكان لا يطمع أن يشق بحره الزخار، ومحى عنه صبغ دجنة تلك الليلة، وفرج عنه لباس تلك السحب وقد ضم عليه ذيله، وفرق ذلك النور المعتلج وقد جاراه جفنه، وأجرى مثله سبله، وأطلق لسانه من الاعتقال، وأنطق بيانه فقال، وحمى له هجير الذكاء فقال، ووقفه ولولا إيقافه لغبّر على آثاره في وجه من سبق.
فكتب هو الجواب: [الكامل]
جاء الجواب يزف منه فواضلا
…
ويرف في روض البيان خمائلا
أغرقت غر السحب حين وصفتها
…
يا من غدا بحرا يموج فضائلا
لو لم تكن يمناك بحرا زاخرا
…
ما أرسلت تلك السطور جداولا
ضرب من السّحر الحلال متى تشأ
…
أخرجته فيعود ضربا داخلا
ما إن جلا راويه بحر بيانه
…
إلا وزان مشاهدا ومحافلا
فمتى يروم به اللحاق مقصّر
…
والنجم أقرب من مداه تناولا
أبرزته أفقا فكل قرينة
…
برج حوى معناه أفقا كاملا
فكأنما تلك الحروف حدائق
…
أمست معانيها تصيح بلابلا
وكأن ذاك الطرس خد رائق
…
والسطر فيه غدا عذارا سائلا
مهلا أبا العباس قد أفحمتني
…
وتركتني بعد التحلي عاطلا
بالله قل لي عند ما سطرته
…
هل كنت تحسب أن تجيب الفاضلا
أقسمت لو جاراك في إنشائه
…
ما كان ضم على اليراع أناملا
حركت منك حمية عدوية
…
ملأت فضاء الطرس منك جحافلا
كم فيه من لام كلأمة فارس
…
قد هزّ من ألفات خطك ذابلا
هل شئت أن تنشي الجواب سحابة
…
تندى فجاءت منك سيلا سائلا
يا فارس الإنشاء رفقا بالذي
…
نازلته يوم الترسل راجلا
لو رام أن يجري وراءك خطوة
…
نصبت له تلك الحروف حبائلا
فاحبس عنانك قد تجاوزت المدى
…
وتركت سحبان الفصاحة باقلا
والفاضل المسكين أصبح فنه
…
من بعد ما قد راح فينا خاملا
فاسلم لتبليغ النفوس مرامها
…
فالدهر في أبواب فضلك ماثلا
كم فيك لي أمل يروق لأنني
…
أدري بأنك لا تخيب آملا
وكتبت أنا الجواب إليه: [الكامل]
وافى الكمي بها يهز مناصلا
…
ويرم صبغا للشبيبة ناصلا
سبق الظلام بها ونبه ليله
…
ولو انه في الفجر حلى العاطلا
حمراء قانية يذوب شعاعها
…
وترى حصا الياقوت فيها سائلا
حمراء قانية تحث كؤوسها
…
وقع الصوارم والوشيج الذابلا
ذهبية ما عرق عانة كرمها
…
لكنها كف الكريم شمائلا
كف كمنبجس النوال كأنما
…
دفع السيول تمد منه نائلا
كرم خليلي يمد سماطه
…
ويشب نارا للقرى وفواضلا
ولهيب فكر لو تطير شرارة
…
منه لما بل السحاب الوابلا
يذكي به في كل صبحة قرة
…
فهما لنيران القرائح آكلا
عجبا له من سابق متأخر
…
فات الأواخر ثم فات أوائلا
دانوه في شبه وما قيسوا به
…
من ذا تراه للغمام مساجلا
ماثل به البحر الخضم فإنه
…
لا يرتضي خلقا سواه مماثلا
وافت عقيلته ولو بدأ امرؤ
…
فيها استقل من البروج معاقلا
جاءت شبيه الخود في حلل لها
…
حمر بتذهيب الخدود لها حلى
قد خضبت بدم الحسود أما ترى
…
أثر السواد بها عليه دلائلا
حلل على سحبان تسحب ذيلها
…
وتجر من طرف الذبول الفاضلا
خلت الهلال يلوح طلع نقابها
…
حتى نضت فرأيت بدرا كاملا
بنت القريحة ما ونت في خدرها
…
حسن المليحة أن تواصل عاجلا
جاءت تصوغ من العناق أساورا
…
لا بل تخوض من السيول خلاخلا
قبلتها وأعدت تقبيلي لها
…
إن المتيم لا يخاف العاذلا
وأتت وجيش النوء مرهوب السطا
…
ملأ الوجود له قنا وقنابلا
والبرق مشبوب الضرام لأنه
…
صاد الغزالة حيث مد حبائلا
وأتت ورأس الطود يشكو لمة
…
قد عممت بالثلج شيبا شاملا
وكأنما نثرت قراضة فضة
…
أيدي البروق وقد خرقن أناملا
ملأت به كل الفضاء فلا ترى
…
إلا لجينا جامدا أو سائلا
والأفق كالكأس المفضض ملؤه
…
صهباء قد عقدت حبابا جائلا
أبناء يوم قد تقهقر ضوؤه
…
وبدا ذبالا في الأصائل ناحلا
والجو منخرق القميص كأنه
…
حنق يقد من السحاب غلائلا
والسيل منحدر يسيل مهندا
…
إفرنده ذهب يمد سلاسلا
لله أنت أبا الصفاء فإنني
…
ألقى خليلا منك لي ومخاللا
أنت الذي حلقت صقرا أجدلا
…
وصممت في برديك ليثا باسلا
يا من ينفق سوق كل فضيلة
…
إسأر فما أبقيت بعدك فاضلا
«1» [فكتب هو الجواب][الخفيف]
يا فريدا ألفاظه كالفريد
…
ومجيدا قد فاق عبد المجيد
«1»
وإمام الأنام في كل علم
…
وشريكا في الفضل للتوحيدي
عرف العالمون فضلك بالعل
…
- م وقال الجهال بالتقليد
من تمنى بأن يرى لك شبها
…
رام نقضا بالجهل حكم الوجود
طال قدري على السماكين لما
…
جاءني منك [عقد] در نضيد
«2»
شابه الدر في النظام ولما
…
شابه السحر شاب رأس الوليد
«3»
هو لغز في ذات خدر منيع
…
نزلت في العلى بقصر مشيد
هي أم الأمين ذات المعالي
…
من بني هاشم ذوي التأييد
أنت كنت البادي لمعناه حقا
…
حين لوحت لي بذكر الرشيد
* وهذا آخر من ختمنا به أهل قطرنا أحياء وأمواتا، ولا حفلة بمن تخطيناه فواتا، إذ كان هؤلاء هم أعيان القوم، من أول هذه الملة وإلى اليوم، ممن اشتهر لعلو قدره أو لغلو دره، وثم بقايا ما حلوا مع أحد هذين، ولا كانوا في قسميها اللذين.
وهذه جملة كافية في الكتاب المشارقة، وإنما أطلعنا من شموسهم شارقة، وهي دالة على ما بعدها من نهار يطنب في الخافقين، ويطيب ملائي النيرين الشارقين.
آخر السفر الثاني عشر من «مسالك الأبصار في ممالك الأمصار» ويتلوه إن شاء الله تعالى في السفر الثالث عشر،: فأما الكتاب المغاربة، وما لهم من نجوم غير غاربة.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه الطيبين، الطاهرين؛ حسبنا الله ونعم الوكيل. هـ «13» .