الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولمّا كان الثناء أحسن ما تدار عليه الكؤوس، وتنقش له الأقلام في الطّروس، وجب أن يطلق في هذه الحلبة الأرسان، ويستخدم في أداء فرضها اللّسان.
9- ومنهم: القاضي الفاضل: [السريع]
وليس لله بمستنكر
…
أن يجمع العالم في واحد
«1» هو منهم، لا بل هم منه؛ وكلّ ما قيل في محاسن من تقدّم، فإنّما هو عنه «2» :[الطويل]
وإن جرت الألفاظ يوما بمدحة
…
لغيرك إنسانا فأنت الذي نعني
وهو: الفاضل محيي الدّين، أبو عليّ، عبد الرّحيم بن الأشرف أبي الحسن عليّ ابن الحسن [بن الحسن] بن أحمد بن الفرج «3» ، اللّخميّ، العسقلاني المولد، عرف بالبيساني «4»
* كان سلفه من بيسان «5» ، وولي أبوه قضاء القضاة والخطابة بعسقلان،
واستخدم شاور «1» القاضي الفاضل في ديوان المكاتبات مع الموفق ابن الخلال «2» .
ومولده يوم الاثنين، خامس عشر جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين وخمسمئة. هو والله البحر الزّاخر، والبرّ الذي ما سلك طريقه أول ولا آخر، وما مثله هو ومن تقدمه إلّا مثل النّجوم طلع عليها الصّباح، والكروم أوّلها زرجون وآخرها راح؛ بل الحدائد قبل تطبيق الصّفاح، والموارد قبل تصفيق الرّياح، تقدّموا قدّامه وغرقوا في سيله، وخلقوا قبله وجاؤوا في ذيله؛ وكلّ وصف قلت في غيره، فإنّه تجربة الخاطر، هو أكثر من كل قول، وأكبر من مقدار كل طول.
لقد صادف هذا الاسم منه الاستحقاق، لفضائله التي تبلجت تبلّج الصّباح في الآفاق؛ لقد وطّد ملك الدّولة بآرائه، جمع السّيوف والأقلام تحت لوائه؛ وكان يناضل بجلادة عن حماها؛ يرتشف الزّلال من رتق قلمه، وتلتحف الظّلال بسحب نعمه؛ وله في الإنشاء تفنّن، منه ما يروع الخيل صهيلا، ومنه ما يروق عذبا سلسبيلا؛ يفتّ العنبر على سطوره، ويفوت الجوهر طلّ منثوره؛ تعقد رسائله راحا براح، وجنى جنّاته بجنى تفّاح، وتلتقط في مهارقه بنفسج من أقاح؛ أطرب من مناجاة النّدام، وأطيب من معاطاة المدام؛ طالما كتب جمانا، وكبت أغصانا، ولان فاجتنى عسلا، وقسي فانبرى أسلا، يسجع كالحمام، ويصرع كالحمام، وقد سطّرت بحسناته الصّحف، وصوّرت من حسانه ذوات القلائد والشّنف؛ وطرق النّجد والوادي، ونطق به المدّاح والحادي، وحاضر به الحاضر والبادي، وسامر به السّامر وترنم الشّادي؛ وغادر له الأرض مذهبا مذهبا، وغادى الغوادي مصوّبا مصوّبا، وسار مقرّبا، مقرّبا وصار للمشرق مشرّقا
وللمغرب مغرّبا.
فأما ما يؤثر عن أقلامه، فهو النّافث للسّحر في عقدها، والمنوّر للأبصار بكحل إثمدها؛ فضح الزهر بكلمه، وفتح الأقاليم بقلمه، وكتب فيما لا يعقبه ندم، وبارى قلمه السّيوف، ففعل أكثر منها ولم يتلطخ بدم؛ كم نكّس رماح الكفر فقصم أصلابها، وفصم أسبابها، وغزاها بأسطره ففلّ جيوشها، وثلّ عروشها، وحطّ صلبانها، وحطّم فرسانها، وأعاد بيعها مساجد، وصوامعها معابد، وبدّل الكفر بالإيمان، وأسكت النّاقوس للأذان، وعزّل مكان الإنجيل للقرآن، وقسى على القساقسة «1» وأرهب الرّهبان؛ وكاتب الخلافة، فكانت سطوره حلية شعارها، وسواد مداده سؤدد فخارها، وتأخّر السّهم وتقدّم، وخرس مجاوبه فلمّا كلّمه تكلّم؛ وحضر مواقف الحرب، فكان فارسها البطل، ورأيه سيفه الضّارب، ومواضع الحصار، وكان منجنيقه الرّامي، ويراعه سهمه الصّائب، وكان هو المحرك للعزائم النّوريّة «2» على تطهير مصر من دنس أولئك الضّلّال «3» ، ودرن تلك الأيام اللّيال، بل كانت أشد من اللّيالي، لتراكم ظلام تلك البدع، وتفاقم ضلال ذلك الدّين المبتدع.
ولقد كان وهو في ديوان تلك الدّولة يتحرّق على كشف بدعها، وكف شنعها، وكرّ جنود الله على شيعها؛ ووقفت على قصيدة كتبها إلى الشّهيد نور الدّين ابن زنكي رحمه الله، يقول فيها «4» :[الطويل]
وما بعد مصر للغنى متطلّب
…
وما بعد هذا المال مال فيكتسب
ولو أنّه في البأس يمضي أو النّدى
…
لهان ولكن في المغاني وفي الطّرب
وكانت الأجوبة النوريّة ترد عليها، فيرى بها في تلك الظّلمات نورا، ويرتّب على مقتضاها أمورا؛ ثم كانت دخول العساكر الأسدية «1» إلى مصر، باستدعاء شاور في المرّتين وفي الثّانية استقرّت قدمها، واستمرت والأيام خدمها، وهنالك علا النّجم الفاضليّ وسعد جدّه، وصال والسيوف جنده؛ وعلى ذكره ذكرت شعرا كنت قلته، جاء «2» فيه ذكره استطرادا، وهو:[السريع]
أتى بها السّاقي فيا مرحبا
…
إذ جاء بالمحمول والحامل
«3»
ببابليّ اللّحظ قد زارنا
…
بقهوة صفراء من بابل
«4»
مدامة ما عتّقت حقبة
…
إلّا من العام إلى قابل
صاغ من الدّير لإبريقها
…
قلائدا من ذهب سائل
وطوّقت في المرج تيجانها
…
بلؤلؤ في كأسها جائل
كأنّها ممزوجة لونه
…
مغيّرا من خيفة العاذل
تأخذ منّا كلّنا ثأرها
…
ومالها إلّا على القاتل
رقّت فقلنا: إنّها ريقه
…
في الكأس أو من خصره النّاحل
دقيقة المعنى على [
…
]
…
ألحاظه أو صنعة الفاضل
«5» ولمّا آثر العاضد إقامة أسد الدّين شيركوه عنده، وهو إذ ذاك مقدّم الجيوش النّورية المجهزة إليه، كتب الفاضل عنه إلى نور الدين كتابا، وقفت عليه بخطّه ومنه نقلت، ومضمونه:
من عبد الله ووليّه عبد الله الإمام العاضد لدين الله أمير المؤمنين، إلى الملك العادل، المعظم، الزّاهد المجاهد، المؤيّد، المنصور، المظفّر، نور الدّين، ركن الإسلام والمسلمين، عمدة الموحّدين، قسيم الدولة، مجير الأمة، عضد الملّة، حافظ الثّغور، غياث الجمهور، قامع الملحدين، قاهر المشركين، خالصة أمير المؤمنين؛ رفع الله به منار الدين، وأعلى بعزائمه رايات الموحدين، وأحسن توفيقه في خدمة أمير المؤمنين:
سلام عليك؛ فإنّ أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلّي على جدّه محمد صلّى الله عليه وعلى آله الطّاهرين، الأئمة المهديين، وسلّم تسليما؛ أما بعد:
فإنّه عرضت بحضرة أمير المومنين مكاتبتك التي أديت بها واجب حقه، وقمت بمفترضه، وصدرت عن قلب شفاه الدّين بهديه، من داء الضّلال ومرضه، وتؤمّلت بمقرّ جلاله ومحلّ أمانته، التي منح الله بها الدين مزية إكماله؛ فصرف إليها أمير المؤمنين سمع الإصغاء وطرفه، وعرف منها أرج الولاء الصادق وعرفه، ووقف عليك من لطيف ملاحظاته ما يديم النعم، وأهدى إليك من شريف دعواته ما إذا حصل لك جمع المسلمين عمّ.
فأما تلقيك أوامره بالامتثال، وإنابتك عن العزم الذي ضربت به الأمثال، وأضربت عنه الأمثال، وتجريدك العساكر التي شدّت من الموحّدين، وشادت مباني الدين، ونكص العدو بخبرها قبل نظرها، وانصرف عن بلاد الإسلام بأخزى خجله وأظهرها، وتقديمك عليها من ارتضاه أمير المؤمنين لارتضائك، وانتضاه في يد الحقّ تيمنا بانتضائك، وأمضى عزمه في تقليد ملكه إذ علم أن عزمه مشتق من مضائك، فقد شكر الله وأمير المؤمنين لك- أيّها الملك العادل-
هذا الأثر، وذخر لك منه حسنة لم تبسم عن مثلها ثغور الصّحائف والسّير، وميزك على ملوك الشّرق والغرب بفضل هذا النظر؛ ونصرت الدين الحنيف، والبيت الشّريف، وعند مآثرك الحسنى نشهد بها فتغني عن الإيضاح والتعريف، وهدمت الباطل حين أرست خيامه، وثبّتّ الحقّ حين هفت أعلامه، واخترت لخدمة أمير المؤمنين من هو مكان الاختيار وفوقه، وحمّلت العبء الثقيل من يستقلّ به ويحمل أوقه، وقلدت الأمر الجليل من لا يعجز قدرته وطوقه؛ ووردوا إلى الفناء النّبويّ بيض الوجوه بنصر واضح، شمّ الأنوف بتفريج غمّة «1» الخطب الكالح، جذلى القلوب بصفقة العمل الرّابح الصّالح، ظاهرة عليهم آثار آدابك الحسنى، بادية فيهم أنوار صوابك الذي ليس فيه مستثنى لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ، وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ، وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ
«2» وقد كانت جنايات من تقدم نظره «3» ، عظمت عن الاحتمال، وتجاوزت إلى الدّين بعد أن تجاوزت المال، وظهرت أمارات استنصاره بمن استنصر به بالأمس، وتعويله على ما نزّه الله أمير المؤمنين أن يكون به راضي اللّسان والنفس، لأن الله استخلفه لاستقامة كلمة جدّه، واكتفى بهديه وهدي آله عن أن يقفّى برسول من بعده، وحينئذ بدت للمشار إليه سوءاته، وأحاطت به خطيئاته، وقصّرت في مجال الحياة خطواته، ولقي عن كثب حتفه، وأصبح نكالا لما بين يديه وما خلفه؛ فهنالك أجمع أمير المؤمنين والمؤمنون على تقليد السّيّد الأجلّ، الملك المنصور وليّ الأئمة محيي الأمة، سلطان الجيوش، أسد الدّين، كافل قضاة المسلمين، وهادي دعاة المؤمنين، أبي الحارث شيركوه العاضدي، عضد الله به الدّين، وأمتع
بطول بقائه أمير المؤمنين، وأدام قدرته، وأعلى كلمته، أمر وزارته، وناط به أمانة سفارته، وأطلق يده بسيف الجهاد، وقلم الاجتهاد، وتدبير ما تحويه المملكة الفاطميّة من البلاد، وكفّله أمر خدمته التي استحقها بارتياد الرشاد، ورأى أن يكبت عدوّ الدين باصطفائه، ويكف عادية الشرك باستكفائه؛ واختار لتقدّمه عساكره، من اخترته أيّها الملك العادل لتقدّمه عساكرك، واستهدى منك هذه الجوهرة المعدومة من جواهرك، واستنزلك عن هذه الذّخيرة المصونة من ذخائرك، وآثر أن تؤثر به دولته التي تعدّ نصرتها من مآثرك؛ ولثقة أمير المؤمنين أنك تسمح له بكرائم لا يجود بها إلا من كان كريما، وتقسم بينك وبينه النجدة التي دعي بها والدك الشهيد رحمة الله عليه للدولة قسيما «1» ، أمضى هذا الرأي لمّا وضح صوابه، وانتهز فرصة هذا التوفيق لما فتح بابه، ورآه القويّ الأمين فاستأجره للإسلام وأهله، ومدّ عليهم ما كانت أعينهم ممدودة إليه من ظل عدله؛ ولما تمسك به المسلمون، لم يغلّ منه أيديهم المشدودة عليه؛ ولما اغتبط به أهل الدين، لم يصرفهم عمّا هداهم الحظّ إليه، وأمره أن يعدّ لحرب الفرنج عدّته، ويأخذ لغزوهم أهبته، ويطلبهم برا وبحرا، ويوسع لقتالهم درعا وصدرا، ويديل الإسلام من هدنة تظلّم منها إلى الله سرا وجهرا؛ وحرت «2» وأمير المؤمنين يراها مصابا يحتسب فيه عند الله جزاء، وعهد إليه أن يعمّر الأساطيل التي تقطع عن العدّ والإمداد، ويعمر سجون الدولة بالكافرين مقرّنين في الأصفاد، وأن يسكن المدن التي جنى عليها التدبير العاجز، ويثقل المعاقل التي كانت خالية المراكز؛ لتكون أيّها الملك العادل من وراء هذا العدو الكافر مستأصلا، ويكون وزير أمير المؤمنين للغارات عليه والغزوات إليه مواصلا، فيقطع في الشرك سيف الله
بحديه، ويميس الإسلام في نضرة برديه، ويبطش الحقّ في أعدائه بكلتا يديه، وغير بعيد من معونة الله أن تخفق على البيت المقدس رايات الدّولة الفاطمية، وراياتك التي تعدّ من راياتها، وتوجف عليها خيولها وخيولك التي النّصر أحد غرورها وشياتها، ونأخذ للملّة الحنيفية بطوائلها من طغاة الكفر وبغاتها، ويجري الله الدولة العلوية في النّصرة العلوية على ميراتها وعاداتها؛ فمن الآن قيل للونيّة: اذهبي، ونادى الإسلام: يا خيل الله اركبي، وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ
«1» وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ
«2» .
وأمير المؤمنين يؤثر أن تؤثر دولته بهذا السّيد الأجل لتكون أيها الملك قد نصرته نصرا دائما، وقضيت من طاعته فرضا لازما، وسررته غائبا بحاضر، ووكلت بخدمته من ينوب عنك في النّصر المتظاهر، وأن تكاتبه بإلزامه بمقامه، وتهديه إلى دولته التي اغتبطت باستخدامه، وتهوّن عليه روعة فراقك؛ فإنّها ملفتة وجهه إلى شامه، وتسليه بثواب طاعة أمير المؤمنين التي فرضها الله بصريح كلامه، وتبعثه على ارتباط عدة من عسكرك المسير معه؛ يعاضد عساكر الدولة العاضديّة، وتزداد بها القوّة، وتتضاعف الحمية.
ولولا ما منيت به البلاد من تعاقب جوائح الجدب، وتناوب قوادح الحرب، وارتفاع الأسعار وعلوه، او عزة الأقوات وغلوها، لاستزدنا قوّة إلى هذه القوّة من عساكرك المؤيدة، ولما رأينا إعادة أحد منهم، بل بذلنا لهم الإقامة المؤبدة، ولكن إقامة من تحمله البلاد وتتسع له الموادّ، ويؤدى به ما فرضه الله سبحانه من الجهاد، مما تنتظم به بمشيئة الله الميامن والمناجح، وتقرّ أعين المسلمين بما يقضيه ويقتضيه من المنافع والمصالح، ويؤدى به ما يجب لله ولرسوله في خلقه من
الحقوق والنصائح، ويستكمل به ما ابتذلته من العمل الصالح.
والله سبحانه يمدّك أيّها الملك العادل، المعظم، الزّاهد، المجاهد، المؤيد، المنصور، المظفّر، نور الدين، ركن الإسلام والمسلمين، بمزيد نصره، ويحوطك بمعقّبات من أمره، ويجعلك ممن أخلص له في سره وجهره، ويحسن عن أمير المؤمنين مجازاتك، ويديم لدولته ذبّك عن حوزتها ومحاماتك.
فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
وكتب لثلاث بقين من شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين وخمسمئة.
والعلامة بين سطريه الأولين بالخطّ العاضديّ «الله ربّي» .
فعاد الجواب النّوريّ على العاضد بامتثال ما أمر، وتكفل أسد أسد الدّين بحماية غيله واستمر، وكان ابن أخيه صلاح الدّين قد قتل شاور، وقال الفاضل:
قتل شاور وما شاور؛ قلت: وشاور وما شاور؟ وكتب بالخطّ الفاضلي عهد أسد الدين شيركوه بالوزارة، ولقّب الملك المنصور، وكتب عليه العاضد بخطّه «1» : هذا عهد لا عهد لوزير بمثله، وتقليد طوق أمانة رآك الله وأمير المؤمنين أهلا لحمله، والحجّة عليك عند الله تعالى بما أوضحه لك من مراشد سبله؛ فخذ كتاب أمير المؤمنين بقوة، واسحب ذيل الفخار بأن خدمتك اعتزّت بأن اعتزت إلى بنوة النبوّة، واتخذ أمير المؤمنين للفوز سبيلا، وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا
«2» .
ثم واتت أسد الدين منيته، وعاجله أجله، وولي ابن أخيه صلاح الدّين.
وكتب عهده بالخطّ الفاضليّ، ولقب الملك النّاصر، وكتب عليه العاضد بخطّه «1» :
هذا عهد أمير المؤمنين إليك، وحجته عند الله عليك، فأوف بعهدك ويمينك، وخذ كتاب أمير المؤمنين ناهضا بيمينك، ولمن قضى بجدّنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن أسوة، ولمن بقي بتقلبنا أعظم سلوة، تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ
«2» .
ثم كان الفاضل رحمه الله، هو الدولة الصّلاحية؛ كان كاتبها، ووزيرها، وصاحبها، ومشيرها، والحامل لكلّها، والحاكم في كلّها، والمجمرّ لبعوثها، والمتزر عند إقعاء ليوثها، والدائرة به مناطق بنيها، والسّائرة به شموس أيامها وبدور لياليها؛ فلهذا أذعنت لقلمه الرّماح، وطلبت صلح كلمه الصّفاح، وانقضت تلك الأيام وما فيها إلا بكر عشايا أو غرر صباح، ومع هذا كله كان لا يزال منكدا مبتلى، بضنى «3» قلبه وجسمه، ومرض همه وسقمه؛ يذكر هذا في كتبه وترسّلاته، وشكواه إلى إخوانه وأخدانه، ومما كتب في ذلك:
ولا يسأل سيدنا عن خاطر تزدحم فيه الأخطار، وعن ضلوع تسرح على النّار، وقلت: قد عدم الصّفاء في دار الأكدار، وجسم قد قارب أن يخلع المعار من الأعمار؛ ولقد دبّ الفناء فيّ عضوا عضوا، وأخذني الزمان جزءا جزءا، فكلّ يوم يذهب مني شيىء بعد شيء، ويكثر شبهي بالميت فيبعد عن الحي، ونعوذ بالله من نار غضبه، فإن آخر المخالط الكيّ.
قلت: ولهذا كان لا يتكلف مع السلطان سفرا في كل مرة، وإنّما كان العماد ينوب عنه؛ فإذا سافر كان هو المساير للسلطان إذا ركب، والمسامر إذا جلس، وكان إذا تأخر عن السلطان في بلد ناب عنه فيه، أو كان ردءا لمن ينوب من إخوة السّلطان وبنيه، ويكون هو القائم بالملك، القائل بالحياة والهلك.
ومما بلغ من سلطانه، ما حدّثني به أبو المحاسن بن عبد الله الكاتب المصريّ، قال: سمعت محيي الدين بن عبد الظّاهر، يحكي عن ابن قريش: أن الفاضل صحب السّلطان مرة في سفر، فنزلوا منزلا رخو الأرض كثير الطّين، وتوالى به المطر، وتعذّر السّلوك بين خيمة السّلطان وخيمة الفاضل، إلّا على من يسلكه بمشقة، فأمر السّلطان بنقل خيمته، وأن تضرب إلى جنب خيمة الفاضل، ويفتح بينهما باب حتى لا يقطع بينهما الوحل، ولا ينزعج الفاضل عن مستقره؛ وكان إذا غاب عن السّلطان تكاتبا، وبينهما مترجم بقلم توافقا على المصطلح عليه، فكانا يتكاتبان به ويتخاطبان على بعد الدّار بلسانه.
وكان القاضي الفاضل يكتب إلى سلطانه، ويشفع فيما يريد، كما يشفع الصّاحب إلى صاحبه، والصّديق إلى صديقه؛ وكان يسلّم في كتبه التي يكتبها إلى السّلطان على من أراد من أولاد السّلطان أو إخوته.
ووقفت له من ذلك على كتب كثيرة، منها ما هو بخطّ يده، ورأيت في بعضها أجوبة السلطان، وفي بعضها حروف المترجم بخطّ الفاضل، وخطّ السّلطان بإزائه.
ورأيت كتابا كتبه إلى السّلطان، وسلّم فيه على ولده الملك العزيز عثمان، وقال فيه:
والملك العزيز- أعز الله الدّين بجهاده- بين يدي المولى، مخصوص بتحية
يفضّ لديه ختامها، ويخصّ وفور الشوق غرامها «1» :[الكامل]
بتحيّة قد جئت فيها أوّلا
…
ومن اقتفاها كان بعدي الثّاني
تهدى لذي النّورين لا تخطي الضّحى
…
تسري ركائبها إلى عثمان
ورسولي السّلطان في إبلاغها
…
والنّاس رسلهم إلى السّلطان
* وأما ما يدلّ على شيء من حال أوله: فوقفت بخطه على ما صورته:
كانت بين والدي رحمه الله وبين المرتضى الطرابلسي متولي الدّيوان بعسقلان، هنات ارتضعا أفاويقها، ولزما مواثيقها، فصحبا بها الأعمار، وحكّما فيها الأغمار، فكانت حربها سجالا، وأيامها أحوالا، إلى أن قضى الله سبحانه أن سبقه والدي إلى الحمام، وفرغت منه قبله الأيام؛ فقال لي رحمه الله وقد انقطع الحبل من يده، وعلم أنّ يومه لا يدفعه إلى غده: ما أرى فلانا إلّا سيوفيك ما أسلفته، ويقضيك الوعد الذي أخلفته؛ فقلت: أرى أن يكاتب بكتاب، تثبت فيه بخطك أسطرا، وتحلب فيه من الوعظ أشطرا، وتجعله كالوصية؛ فإن الذي بينكما من العداوة، قد أشبه المودّة لطول المدّة؛ فقال: هيهات، عناء ما وراءه غناء، ورقّة لا تحلّ بها ربقة، ولو أفردت الله تعالى بقصدك لكفاك، وأنت وذاك؛ فمثّل لي هذه المعاني والأقفال، وكان الحال في عدم النفع على ما قال.
والرسالة «2» : [الطويل]
ونم بعد أخذ الثّأر عنّي فطالما
…
قطعت بي الدّنيا وأنت مسهّد
كتب العبد هذه الجملة- جعل الله لحضرة سيدنا البقاء الذي لا يحلّ الغير
ساحته، والأمد الذي لا يحصر العدد مساحته- وقد تقدّمها إلى محلّ المحاكمة، وجثا قبلها في موقف المخاصمة، ورفع الظّلامة إلى من لا يجوز عليه ولا منه الأحكام الظالمة، وأسمع داعي الرّحيل شفاها، ونأت به الدّار وشطّت نواها، ووضعت الآمال من يده عصا سراها، واستردّت الأيّام ما فرقته في جملة، وأشرفت به على مورد يطول بوارده النّهلة؛ وحسن الظن بالله تعالى قد وطّأ تحت جنبه مهادا، وآنسه عند النزول بلحده فرادى، وما سوى ذلك فمتى أخذ ضيف الكريم زادا؛ والحمد لله الذي نقل عبده من دار فناء إلى دار بقاء، ومن محلّ حجبه إلى محلّ لقاء، ومن الإقامة مع مسيء يخاف جوانبه، إلى القدوم على محسن ترجى مواهبه؛ وقد كان حكم القضاء سبق، وسهم القدر مرق، بتلك الهنات التي نال فيها ونيل منه، والأغراض التي حامت عنها وحميت عنه، والدّهر فيها يومان، والحرب بها طعمان، فيوم يكون له متحمل فيكون ظفره مشبها بالهزيمة، ويوم يكون عليه متحمل فيكون هزيمته مشبهة بالغنيمة؛ هذا وقد كانت هذه الحضرة- وطاعتها تعصيها- تكثر الجراح، وتناول يدها عنان الجماح، ويبقى لإيلامها فيه آثار الصّفاح، فما مات حتّى ماتت حقوقها، واعتلّ من طول الضراب حديدها، وقد بقي بعد أن رأت بعده، وتجاوزت في الحياة حدّه، أمران هما آخر رتبة اللّوم، وأقصى غاية الملوم، وهي الشماتة، وتلك خديعة الطبع العاجز، وطبيعة الخرق الخانز «1» ، وبديعة لا يركبها من مركبه الجنائز؛ وما لجرح بميت إيلام «2» ، وتلك سبيل لست فيها بأوحد «3» ؛ والأخرى
تتبّع الخلف بجناية السلف، وأخذ الوارث بجزيرة المورّث، وهذه محافظة في العداوة، ومطاوعة على القساوة، فيها لحكم الله ردّ ظاهر، وجرأة عليه تعجل عقبى الجائر، وسوء مقدرة لا تبعد أن يغضب لها القادر، واستئناف حرب خاسرها الرابح ومخذولها الظّافر؛ وقد أكثر الناس المدح لحفظ موات الأموات، ومصافاة أهل العظام والرّفات؛ فإمّا المكافاة وهم في كفاة اللّحود، أو المظاهرة بالعداوة لهم وهم في ضمائر القبور رقود؛ فما عهد مهده البدعة قائم، ولا على هذه الشرعة حائم، وحوشيت من أن تحشر من بين الأمة أمة وحدها، وتطيع العصبية فتجاوز سمت المروءة وتتعدّى حدّها.
هذا وقد استفتحت الخطاب ببيت، إن ألمّ بما ألمّ به في معناه، فإنه لا يريد أن يتبعه بما يشيد مبناه، وهو أنها رأت في صحائف التجارب وتواريخ الأعاجيب، أنه قل ما تقاول فحلان، وتصاول بطلان، إلا استويا في الدنيا النصيبين، وكانا إلى منهال من وردهما قريبين، وكان سابقهما طليعة التالي، وأولهما مقدّمة الثّاني؛ وإذا كان الله قد أفردها بمدّ طلق البقاء، وخلّفها لينظر كيف تعمل فيما أمتعها به من النّعماء، فالأولى أن تحفظ عبدها في أيتامه، وتخلف عليهم ما غرمه في أيامه، وتصون مخلّفيه من هتك الأستار، وحطّ الأقدار، وتشفي من لا خلاق له من الأشرار، وتعطيهم بما أطال الله من ذيول أنوائها، وتحتسب بالحسنة فيهم مع ما كثر الله من ذخائر ثوابها، ولا يزعج مخلّفوهم بالشكوى إليه في الدّار التي ثوى بها، فإنّها بحيث ترفع الظّلامة إلى قريب، من مكان قريب، وإن سمع الميت ولم يجب فإن الله يسمع ويجيب:[الطويل]
تقصّى الذي قد كان بالأمس بيننا
…
وأسكتني دهري فهل يسكت الدهر
وهو يحلّها من كل ما ارتكبت فيه، وأطاعته من موارد الأوهام إن حفظت
وصية الله تعالى السابقة لوصيته في هؤلاء الأيتام؛ فأما إن أتبعت القادحة بالقادحة، وأشبهت اللّيلة بالبارحة، فالحساب يبقى عليها مدة بقائها بعده، ويفضل به عندها ما لا تجد فضله عنده، لانقطاع عمله واتصال عملها، وإغضاء طوله وامتداد طولها، وعند الله تجتمع الخصوم «1» ، ويضرب على يد الظلوم قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ
«2» .
* وأما نثره فمنه قوله: وقد كان يقال: إن الذهب الإبريز لا تدخل عليه آفة، وأن يد الدهر البخيلة عنه كافة، وأنتم- يا بني أيوب- أيديكم آفة لا تقايس الأموال، كما أن سيوفكم آفة تقوس الأبطال، فلو ملكتم الدّهر لأمطيتم لياليه أداهم، وقلدتم أيامه صوارم، ووهبتم شموسه وبدوره دنانير ودراهم؛ وأوقاتكم أعراس، وكان بما تم فيها على الأموال مآتم؛ والجود خاتم في أيديكم، ونقش حاتم في نقش ذلك الخاتم.
ومنه قوله: أدام الله أيام الديوان العزيز ممهدة لمن رضيت «3» عنه درجات الجنة، منتثرة على من سخطت عليه كواكب الأسنة، مغرقة لمن يغرق في طاعتها بحار الأعنة، مبشرة النفس المتطامنة لولائها بأنها النفس المطمئنة، وأسبغ نعمه فإنّ النعم في ضمنها، وملأ الآمال بمنّها، وأفاض أنوارها التي قد علم قرن الشمس أنه غير قرنها، وأمضى سيوفها التي تعرب فيغرق ضمير النصر في لحنها، وأعلى آراءها التي تلتقي العداة بدرع يقينها، وتلقى الغيوب بسهم ظنها، ولا برحت راياتها
سويداوات قلوب العساكر، وأجنحة الدّعاء المحلّق إلى السماء من أفق المنابر.
ومنه قوله: سرنا وروضة السماء فيها من الزهر زهر، ومن المجرة نهر، والليل كالبنفسج تخلله من النجوم أقاح، أو كالريح شمله من الرّمح جراح، والكواكب سائرات المواكب لا معرّس لها دون الصبّاح، وسهيل كالظمآن تدلّى إلى الأرض ليشرب، أو الكريم أنف من المقام بدار الذّلّ فتغرب، فكأنه قبس تتلاعب به الرياح، أو زينة قدمها بين يدي الصباح، أو ناظر يغمضه الغيظ ويفتحه، أو مغنى يغمصه «1»
الحسن ثم يشرحه، أو صديق لجماعة الكواكب مغاضب، أو رقيب على المواكب مواظب، أو فارس يحمل على الأعقاب، أو داع به إليه وقد شردت عن الأصحاب؛ والجوزاء كالسّرادق المضروب أو الهودج المنصوب، أو الشجرة المنورة، أو الحبر المصورة؛ والثّريا قد همّ عنقودها أن يتدلّى، وجيش الليل قد همّ أن يتولّى.
ومنه قوله: وأما النيل فقد ملأ البقاع، وانتقل من الإصبع إلى الذراع، فكأنما غار على الأرض فغطّاها، وأغار عليها فاستقعدها وما تخطّاها، فما يوجد بمصر قاطع طريق سواه، ولا مرغوب مرهوب إلّا إياه.
ومنه قوله في جواب كتاب بعثه العماد الكاتب «2» في ورق أحمر، فقطعت العرب الطريق على حامله وأخذوه، ثم أعادوه:
ووصل منها كتاب بآخر جرابه، لأن العرب قطعوا طريقه، وعقّوا عقيقه، ثم أعادوه وما استطاعت أيديهم أن تقبض جمره، ولا ألبابهم أن تسيغ خمره، ولا
سيوفهم أن تكنس يتيمته، ولا عراضهم أن تأخذ لطيمته؛ فقطف ورده من شوك أيديهم، وحيا حياه الذي جلّ عن واديهم، وحضر منه حاضر الفضل الذي ما كان الله ليعذبهم بالغربة في بواديهم، وتشرف منه بعقيلة الأنس التي ما كان الله ليمتحنها بقتل واديهم، وسألته: بأي ذنب قتلت؟ وأيّ شفاعة فيك قبلت؟
فقال: عرفت الأعراب بضاعتها من الفصاحة، وتناجدت أهل نجد فكلّ صاح: يا صباحه، وقالوا هذه حقائقنا السحرية، وهذه حقائبنا الشّحريّة، وهذه عقائدنا السّرية محمولة، وهذه مواريث قيسنا وقسّنا المأمولة، فقيل لهم: إنّ الفصاحة تنتقل عن الأنساب، وإنّ العلم يناله فرسان فارس ولو كان في السحاب «1» ، فدعوا عنكم ثمرا علق بشجراته، واتركوا نهبا صيح في حجراته، وأنّ الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم؛ ثم لممته على الشعث، وأحللت به بعد الإحرام، فاستباح الطّيب وحاشاه من الرّفث.
ومنه قوله: والأسر ذلّ ما بعده عزة، وأثر السلسلة يمنع معاطف الهزّة، والملسوع يفزع من الحبل، والجريح يعلم أن الجرح باب القتل.
ومنه قوله: وقد طيّب لمماليكه الحياة في إنعامه، وهوّن عليهم الممات لثقة كل منهم باهتمامه بأيتامه؛ فالوارث يرث من أبيه النّسب، ومن كرم مولانا النشب.
ومنه قوله:
وبوّرت رماح نصلها الطّعن، فكأنها غصون قطعت أزهارها؛ ويغادر غدران الدماء فكأنها رياض عطفت أنهارها.
وقوله من رسالة يصف آمد «1» : وآمد ذكرها من العالم متعالم، وطالما صادم جانبها من تقادم، فرجع عنها مقروعا أنفه وإن كان فحلا، وفرّ عنها فريدا بهمه وإن استصحب خيلا ورجلا؛ ورأى حجرها فقدّر أنه لا يفك له حجر، وسوادها فظن أنه لا يفسخه فجر، وحميّة أنف أنفتها فاعتقد أنه لا يستجيب لزجر من ملوك كلهم قد طوى صدره على الغليل إلى موردها، ووقف وقفة المحب السائل فلم يفز بما أملّ من سؤال معهدها.
وله من أخرى يصفها: وهي العقيلة التي صدر الصّدر الأول محلأ عن ورودها، والخريدة التي حصل منها على راحة يأسه وتعب طردها؛ والمحجّبة التي كشفت ستورها، ودار لعصمتها كسوار معصمها سورها، وغلت على أنها السوداء على خطابها لأن المهج مهورها؛ ولربما نأى بجانبها الإعراض، ونبا جوهرها عن الأعراض، وطاشت دون أوصافها سهام الأغراض؛ ودرجت الملوك على حسرتها، فلم تحسر لها لثاما، ولا استطاعت لثغرها ثلما ولا له التثاما.
وله من أخرى يصف قلعة نجم «2» ، وهي من عيون الرسائل، منها: هي نجم في سحاب، وعقاب في عقاب «3» ، وهامة لها الغمامة عمامة، وأنملة
إذا خضبها الأصيل كان الهلال لها قلامة، عاقدة حبوة صالحها الدهر أن لا يحلها بفزعة، نادبة عصمة صافحها الزمن على أن لا يروعها بخلعة، فاكتنفت به عقارب منجنيقات لم تطبع بطبع حمص في العقارب، وضربتها بحجارة أظهرت فيها العداوة المعلومة في الأقارب، فلم يكن غير ثلاثة إلّا وقد أثرت فيها الحجارة جدريّا بضربها، ولم تصل إلى السابعة إلّا والنّجران مؤذن بنقبها، فاتسع الخرق على الراقع، وسقط سعده عن الطالع، إلى مولد من هو إليها طالع، وفتحت الأبراج فَكانَتْ أَبْواباً، وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً
«1» .
ومنه قوله: ومن اعتقل خصما فقد ملك قياده، وأمن شراده، وصار تحت ختمه، وحبس جسمه في حصنه، وقلبه في جسمه؛ وإذا كان الله قد أعطانا البلاد وهي آلة المقيم وأعطاهم المراكب، هي آلة الظّاعن الهارب، فقد علمنا لمن عقبى الدار؛ وقد نقلهم الله نقل قوم نوح من الماء إلى النّار، وقد وريت بمولانا للإسلام زناد، وذاك الزّناد هو السيف القاضب، [و] المستطير من شرره هو دفع الدّم السّاكب.
ومنه قوله: وعرف المملوك ما يكا بده مولانا، وكلّ يعين الله، وما تغلو الجنّة بثمن؛ ومن عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل، وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ
«2» الغمرات ثم ينجلينه «3» ؛ فإنّك نصل والشّدائد للنّصل، وكلّما اشتدّ
الخناق قوي اليقين؛ إنّ الله يريد يعظم موضع الفرح: [الكامل]
والحادثات وإن أصابك بؤسها
…
فهو الذي أدراك كيف نعيمها
«1» لا زعزعتك الخطوب يا جبل؛ كل ما يمرّ بمولانا من المغائظ ومن تثاقل الأولياء يتحمله ويحمله الله، ويعلم أن الطباع البشرية يستولي عليها الضجر، ويعلم أن الذي يطلبه من الناس أعظم من الذي يدفعه إليهم؛ فإنه يعطيهم الأموال ويطلب منهم الأرواح، ولا بدّ من تلطّف الترفيه فيمن يستنزل عن نفسه، وأين من يجود بها؟ ألا قليل ما هم:[من الوافر]
وقد كانوا إذا عدّوا قليلا
…
فقد صاروا أقلّ من القليل
«2» ومنه قوله: فسبحان من جعل آراءه في الظّلمات مصابيح، وفي المشكلات مفاتيح، ويده إذا امتطت الأقلام بارت الغمام، وإذا اتّشحت بالأعنّة بارت الريح؛ وباب مولانا ميدان العلى، ومجلسه معرض الحلى، وترابه غرر وجوه السادة الألى.
ومن أخرى في فتح بيت المقدس، شرفه الله تعالى، ومنها «3» : وأتينا المدينة من جانب، فإذا هو أودية عميقة، ولجج وعر غميقة «4» ، وسور قد انعطف عطفة السّوار، وأبرجة قد نزلت مكان الواسطة من عقر الدار، وقدّم المنجنيقات التي تتولّى عقاب الحصون، عصيّها وحبالها، وأوتر لهم قسيّها التي تضرب ولا تفارقها سهامها ولا نصالها، فصافحت السّور، فإذا سهامها في ثنايا
شرفاتها سواك، وقد قدم النّصر نسرا من المنجنيق يخلد إخلاده إلى الأرض، ويعلو علوّه إلى السّماك، فشجّ مرابع أبراجها، وأسمع صوت عجيجها، ورفع مثار عجاجها، وأسفر النّقّاب عن الخراب النّقاب، وأعاد الحجر إلى خلقته الأولى من التّراب، ومضغ سرد حجارته بأنياب معوله، وأظهر في صناعته الكثيفة ما يدلّ على لطافة أنمله، وأسمع الصّخرة الشّريفة أنينه، إلى أن كادت ترقّ لمقتله.
وله أيضا من أخرى: فنصبنا عليها المنجنيقات تمطر سماءها نبال الوبال، وتملأ أرضها بالنكاية والنّكال، وتهدّ بساريات حجارتها راسيات الجبال، وتنزل نوازل الأسواء بالأسوار، وتوسع مجال الدّوائر في الدّيار، وتخطف بخطّافاتها أعمار الأغمار؛ وتطير حمامها بكتب الحمام، وتديم إغراء سهامها في أهلها بتوفير سهام؛ وكشف النّقّابون السّور المحجوب فتهدم بنيانه، وتداعت أركانه، بتظاهر المنجنيقات عليها والنّقوب.
ومنه قوله: في ليل كموج البحر «1» ، له أنجم كحبب النّهر، قد حشر الهموم وحشدها، وهدى ضوالّها للقلوب وأنشدها، فأقول له لمّا تمطّى بصلبه «1» : قطع الله صلبك؛ ومتى أرى عمود الصّباح: قد عجّل الله عليه صلبك.
ومنه قوله: ولنا من الجيران من يجوز، ويظنّ أنه إلى الله لن يحور، ويصدّق وعد
الشيطان، وما يعده الشيطان إلا الغرور، ويصدر عنه كلّ عظيمة المورد، ويجهل أن الله عليم بذات الصدور، ويظن أنه يرث الأرض، وينسى ما كتب الله في الزّبور، وينشد ضالة الولاية بجيشه وبيته وما يقبل بيت مكسور، ولا يضمن النصر جيش مكسور.
ومنه قوله: والمسؤول أخذ دستور لمملوكه للحجّ في هذه السنة، فقد جفا بيت الله جفوة طويلة، واشتاق إلى زورة، وتمامها أن يكون المولى فيها الوسيلة، وقد تحقق المملوك أنّ المولى يلبيه ولا يحرمه، فكاد يلبّي ويحرم، ولولا أن ذكره وذكر والده كمسّ المسك، لكان على هذا العزم يتمم ويحزم، وما ينقطع مرافق خدمه ولا منافع لسانه وقلمه عن الدولة الناصرية، فقد كان حج فحشد جيوش الليل، وفوقوا سهام الأسحار، وأعانوا في تلك السنة سلطان الدّنيا وجنود النهار، وما يدّعي المملوك في الدعاء رتبة المجاب، ولكن في الحشد رتبة السمسار.
ومنه قوله: فوضعت يدا فيه وقدما على النجم، ورشفته على حر الوجد بارد الظّلم، وصرفت به عن الخاطر كل همّ، فما بشاره بعده ولا هم.
ومنه قوله: وأما خلعه الكرى على العشاق «1» ، فهي عوائد سماحة، ومن أشرق كإشراقه، فما يكون أبدا في ليله، إنما يكون في صباحه، فما ضرّه أن يهب ما لا
تدعو إليه حاجة، وأن يخلع ديباجة كراه كما يخلع ديباجه.
ومنه قوله: وهمّ بأن يأخذ من كلام سيدنا في كتابه، فيعيد إليه حلاله؛ فإنه ما وجد لفضله أوصف من وصفه، ولا أكشف لبراعته من كشفه، ثم استحيا من ريبة يسوّد لها وجوه الأقلام، وأشفق أن يأكل أموال الناس بالباطل ويدلي بها إلى الحكام «1» .
ووصف أيضا المنجنيق من رسالة، فقال: فسلّمت كأنها بنان، ونضنضت كأنها لسان، وأضاءت كأنها مارج من نار، واهتزت كأنها جان، وتقومت كأنها سنان، وانعطفت كأنها عنان، وأقدمت كأنها شجاع، وأحجمت كأنها جبان، ورمت رؤوسهم الموفّرة من أحجارها بأمثال الرءوس المحلّقة، فأعادتهم إلى الخلقة الأولى مخلقة وغير مخلقة.
ومنه قوله: وكأن الثّريا لجام مفضّض في أدهم الليل، أو غثاء حمله داهم السيل، أو جيب جود زره اللباس، أو كفّ تفصّل الأفق على الليل بقياس.
ومنه قوله: أطال الله بقاء المجلس إلى أن يقضي للكفر أعمارا، ويملك منهم رقابا وديارا، ولا يذر على الأرض منهم ديارا، ولا يصلوا أن يضلّوا العباد ولا يبلغوا أن يلدوا فاجرا كفارا؛ «2» وإلى أن يغرقهم من دمائهم في طوفان، وإلى أن يعرضهم على الجذوع فيكونوا عنده صلبان كالصلبان.
ومنه قوله: خدمة المملوك واصلة من يد الشريف فلان، وهذا الشريف قد زكى نسبه بأعمال صالحة، وعمله بسيرة ناصحة، وله عائلة هي وإن كانت غلا، فقد فسحت خطاه في الانتجاع، وبه فاقة هو وإن كان في ضائقتها فقد بعثته في الأرض على الاتساع، ولمّا قلب طرفه في سماء القصد، هدي إلى قبله مولانا التي يرضاها كل متوجه، وإلى هدف المدائح الذي تسدّد إليه سهام كل ألكن ومفوه، فإن رأى مولانا أن يشفع فيه جدّه شافع البشر، ويلين حظّه فإن حظّه كالحجارة أو أشدّ قسوة من الحجر.
ومنه قوله: «1»
ورد كتاب المجلس، ومرحبا بمقدمه وأهلا بمنجمه، والسّوق تختلف نقود صروفه، وتتنوع صنوف ضيوفه، فلابد أن تنبعض إذا انبعضت المسافات، ولو أنه إلا بمقدار ما يدنو اللقاء على الرسول السّائر، بالكتاب الصّادر، والخيال الزائر، بالحبيب الغادر، والنّسيم الخاطر، من رسائل الخواطر، ويقرّ به طرف الناظر من الصديق الحاضر؛ ووقفت على هذا الكتاب المشار إليه، وما وقفت عنه لسانا شاكرا، ولا صرفت عنه طرفا ناظرا، وبلغت من ذلك جهدي وإن كان قاصرا، واستفرغت له خاطري وما أعدّه اليوم حاضرا؛ ومما أسرّ به أن يكون في الخدمة السلطانية، أعلاها الله ورفعها، ووصلها ولا قطعها، وألّف عليها القلوب وجمعها، واستجاب فيها الأدعية وسمعها، من يكثر «2» قليلي، ويشفي في تقبيل الأرض غليلي، فإن تقبيل سيدنا كتقبيلي؛ فلو شرب صديق وأنا عطشان
لأرواني، ولو استضاء بلمعة في الشرق وأنا في الغرب لأراني، كما أنّ الصديق إذا مسته نعمة وجب عنها شكري، وإذا وصلت إليه يد منعم وصلتني، وتغلغلت إليّ ولو كنت في قبري.
ومنها «1» : وأعود إلى جواب الكتاب: الأخبار لا تزال غامضة إلى أن نشرحها، ومقفلة إلى أن نفتحها، بخلاف حال خادمها مع الناس؛ فإنّ القلوب لا تزال سالمة إلى أن تجرحها، والهموم خفيفة إلى أن ترجحها؛ وفي الخواطر في هذا الوقت أمور موجودة نجعلها في العدم، ونخرجها من الألم إلى اللّمم، ونعادي بين الأسماع والألسنة، وبين العيون والقلم؛ والقلوب بيد الله سبحانه، وعليها بالاستجارة والاستخارة، فتلك تجارة رابحة، وكلّ تجارة لا تخلو من خسارة؛ والله تعالى يجمع كلمة المسلمين على يد سلطاننا، ولا يخلينا منه ومن بنيه حلى زماننا وسيوف أيماننا، ويسعدنا من أكابرهم بتيجان رؤسنا، ومن أصاغرهم بخواتم أيماننا؛ ولقد تفرغت العزمة الفلانية لهذا الكتاب «2» ، ولو ذكرت السلطان بالعدو فيرجم كلبه، ويكفّ غربه، ويذيقه وبال أمره، ويطفئ شرار شره، ويعجل له عاقبة خسره، فقد غاظ المسلمين وعضّهم، وقتل جموعهم وفضّهم؛ ولو جعل السلطان عزّ نصره غزو هذا الطاغية مغزاه، وبلاده مستقر عسكره ومثواه، لأخذ الله الكافر بطغواه، كما أخذ ثمود بطغواه، ولأبقى ذكرا.
وقوله «3» : وللمودّة عين لا يكحلها إذا رمدت إلّا إثمد مداد الصّديق، وما في الصبر
سعة لصحبة أيام العقوق، بعد صحبة أيام العقيق؛ وقد بلغني أن ولد المذكور خدم في المجلس السلطاني، وسررت بأن يجتمع في خدمته الأعقاب والذّراري، وتطلع في أفقه الأقمار والدّراري؛ والله تعالى يحفظ علينا تلك الخدمة جميعا، ولا يعدمنا من يده سحابا ومن جنابه ربيعا، وللمودات مقرّ ما هو إلّا الألسنة، والقلوب قضاة لا تحتاج إلى بينة.
ومنه قوله يذكر كتابا جاءه في ورق أخضر: ولمّا تناولته في الحلة الخضراء، مخطرا بسريرة السراء، قلت: الله أكبر، من كان خاطره غيثا روّض، وفاض فأعشب فذهّب ففضّض، وما شككت أنّي دخلت الجنة لما فاض من أنهارها، وأفيض من سندسها، أو طلعت إلى سماء الدّنيا لما ملأ سمعي وعيني من شهبها وحرسها، ولا أنني قد جاءتني رسالة الرّوض الأرج لما فغمني من نفيس نفسها؛ فقلت لصحيفته: ما هذه اللّبسة الغريبة، والحلية الحبيبة والورقة، التي هزّت عطفيّ في ورق الشبيبة بعد رداء المشيب، والريحانة التي لا يدعيها عذار حبيب؟ فقالت «1» :[المتقارب]
شققنا مرائر قوم [به]
…
فنحن نسمّيه شقّ المراره
ومنه قوله: وكيف ما حل أهل هذا البيت، فهم في كل بيت صدوره، وفي كل مطلع نجومه وبدوره، لا تذلل أنوارهم بإشارة الأصابع، ولا تبتذل أقدارهم في مصونات المجامع؛ كأنّ الأرض بهم سماء فإنهم طوالعها، وكأن الدّنيا بهم رياض فإن أوجههم دهرها، وأيديهم مشارعها.
ومنه قوله: وقد أثمر هذا القلم أكرم الثمر وهو يابس، وأبرّ جودا على أخضر المغارس، وأتى أكله كلّ حين وكلّ وقت، وطال وإن كان القصير يقصّر عنه كل نعت؛ ووصل كتابه فأكرم به من ساق وحبيب، وخلوت به وليس علينا ولا بيننا من الأنام رقيب، وقبلت منه خدّا بل يدا، وأجلّه عن أن يكون نسيبا للنّسيب، وهزرت منه قضيب بان للعلى يجتنيها بفتكة القضيب.
ومنه قوله: والفترة مسطّرة أن ينفخ الرّوح في صريعها، ويرشّ نور الشمس على وجه صديعها، وإلّا فإنه مغشى عليه، مغشيّ بليل تحته فقد قريب بنات نعش إليه.
ومنه قوله: ومن مستهلّ ذي الحجّة ما استهل من يده كتاب، ولا استقل من تلقاء جهته سحاب، ولعل قلمه في الميقات قد أحرم، فلم يمسّ الطيب من أنفاسه، ومسح المداد عنه لتمام الإحرام بكشف رأسه، والآن فقد انقضت الأيام المعلومة، فهلّا قضى عنا الأيام التي تمادت فيها شقوة العيون المحرومة.
ومنه: وعليه السلام الطيب الذي لو مرّ بالبهيم لأشرق، أو بالهشيم لأورق، وكتبها الكريمة إن تأخرت فمأمولة، وإن وصلت فمقبولة، وإن أنبأت بسارّ فمشهورة، وإن أنبأت بسرّ فمشورة.
ومنه قوله:
وأما ما ذكره من القرض، فلم يزل القرض للذّرّية الأيوبية- أعاذها الله من الانقراض- ميسم كرمها، وعنوان علوّ هممها؛ فبيوت أموالهم في بيوت رجالهم، وعقد أيامهم في قلوب خدّامهم، والكنوز التي جعلها الماضون سبائك في التّراب، جعلها ملوكنا قلائد في الرقاب؛ فهم يتحملون بالقرض ويفتخرون؛ وإذا ادّخرت الملوك في أيدي أنفسهم مالا، فهؤلاء في أيدينا يدخرون.
ومنه قوله: «1»
وصل كتاب الحضرة، وصل الله أيامها بحميد العواقب وبلوغ المآرب، وصحبت الدّهر على خير ما صحبه صاحب، وأنهضنا بواجب طاعته فإنّه بالحقيقة الواجب، وكلّ واجب غيره ليس بواجب، من يد فلان، ورجوت أن يكون طليعة إلى الاقتراب، ومبشّرا بالإياب، ومخبرا بعودها الذي هو كعود الشّباب لو كان يعود الشباب؛ وعرفت الأحوال جملة من كتابها، وكلها تشهد بتوفيق سلطانها، وبأيامها التي تعود بمشيئته بإصلاح شأنه وشأنها، والذي مدّه ظلا يمدّه فضلا؛ فالفضل الذي في يديه في يد خلق الله، والذي أحالهم بالرزق عليه، فكيف ما دعونا له [دعونا] لأنفسنا، وكيف ما كانت أسنّة رماحه فهي نجوم حرسنا، فلا عدمت أيامه التي هي أيام أعيادنا، ولا لياليه التي هي ليالي أعراسنا «2» .
ومنه قوله: وهذا أفق لا مطار فيه إلّا للعقاب وابنه، وبحر لا مسبح فيه إلّا لمن يخرج الدّرّ من فيه ويدخل البحر في ردنه؛ وما عنيت بالبحر هنا إلّا يده الكريمة، فأمّا البحر فلم أعنه؛ وأغرقتني في البحار وأنجيتني منها، وعرّفتني وزن خواطر البلغاء،
ولولا عروض خطره لم أزنها؛ زاد الله في هذه الأنفاس، وفديت هذه العقائل التي أيامي بها أعياد ولياليّ أعراس.
ومنه قوله: وما يأتيني من المجلس من ذكر محدث يسرّ به المحدّث، وخبر يتأثّل به الآنس ويتأثث، إلّا استمعته؛ ولسمعي على قلبي المنّة، وفتحته كأنما فتحت لي أبواب الجنة، وتناولته كأنما تناولت كتابي بيميني، ورفعته فكأنما رفع التّاج فوق جبيني، وقابلته بالحمد فكأنه عرض كاتبه، وقرنته باللّثم فكأنّي ظفرت بيد صاحبه.
ومنه قوله: وأصدرت هذا الكتاب مقصورا على أجوبة كتبه التي كتبت لي عهدة الشكر، وأباحت في شهر الصّيام كؤوسها السّكر.
ومنه قوله: وكتبته وشعبان قد وصل إلى أعقابه، وقمره الممحوق قد بعثه رمضان بكتابه؛ فجمع الله لسيدنا منهما كلّ خير يستحقّ جمعه، وأعلى يده التي سألها الكرم لم تر منعه.
ومن أجوبته «1» : ورد على الخادم- زاد الله أيام المجلس وأصفاها من الأكدار، وأبقى بها من تأثيراته أحسن الآثار، وأسمع منه وعنه أطيب الأخبار، وجعل التوفيق مقيما حيث أقام، وسائرا أينما سار- كتابه الكريم، الصّادر عن القلب السليم، والطبع الكريم، والباطن الذي هو كالظّاهر، كلاهما المستقيم، ولا تزال الأخبار عندنا
محجمة، والأحاديث مستعجمة، والظّنون مترجحة، والأقوال مسقمة ومصحّحة، إلى أن يرد كتابه فيحقّ الحق ويبطل الباطل، ويتضح الحالي ويفتضح العاطل، ويعرف الفرق ما بين تحرير قائل، وتحوير فائل، فتدعو له الألسنة والقلوب، وتستغفر بحسناته الأيام من الذنوب، والشجاعة شجاعتان، شجاعة في القلب، وشجاعة في اللّسان، وكلاهما لديه مجموع، ومنه وعنه مرويّ ومسموع، وذخائر الملوك هم الرّجال، وآراء الحزماء هي النّصال، ومودات قلوبهم هي الأموال، ومجالس آرائهم هي المعركة الأولى التي ربّما أغنت عن معارك القتال؛ والله تعالى يجدّد للمسلمين به حالا يجمعهم على جهاد الكفار، ويلهمهم أن يبذلوا في سبيله النفس والسيف والدرهم والدّينار، ويزيل ما في طريق المصالح من الموانع، ويفطم السّيوف عن الدماء الإسلامية ويحرّم عليها المراضع، ويجعل للمجلس في ذلك اليد العلى والطريقة المثلى، ويجمع له بين خير الأخرى والأولى؛ والأحوال هاهنا بمصر مع بعد سلطانها، وتمادي غيبته عن سائر شأنها، على ما لم يشهد مثله في أوقات السّكون، فكيف في أوقات القلق، وعلى ما يحفظ الله به من في البلاد من الجموع، ومن في الطّرقات من الرّفق.
ومنه قوله: ومن اللّطف في كون الحضرة كتبتها عجلة، وروّجتها مرتجلة، وأصدرتها في حالة المتبذل، ولم تعرها ناظر المتأمّل، وإلّا فلو [تأنيت]«1» لأرسلت البوارق والصواعق؛ وما أصنع؟ وما كلّ من جاشت بحاره، وقذف درّة بحاره، أغرق الإخوان في لججه، وأخرس اللهجان بحججه.
ومنه قوله:
وصل كتاب الحضرة لا زالت رياض ثنائها متفاوحة، وخطرات الردى دونها متسارحة، والليالي بأنوار سعودها متلألئة، والأيام الجافية عن بقية الفضل منها متجافية؛ باركة للمجد منها فيه، يتخير إليها المكرمات إذا لم يكن لها فيه، فأنشده ضالة هدى كان لنشدانها مرصدا، ورفع له نارا موسويّة، سمع عندها الخطاب، وآنس الخبر، ووجد الهدى؛ وكانت نار الغليل بخلاف نار الخليل، فإنّها لا تقبل ندى الأجفان بأن يكون بردا وسلاما، ولا يزايدها نداها إلّا كانت أضرى ما كان ضراما.
ونعود إلى ذكر الكتاب الكريم: وسجد لمحرابه وسلّم، وحسب سطوره مباسم تبسّم، ووقف عليه وقوف المحبّ على الربع يكلمه ولا يتكلّم، ويبطل جفنه وكأنّ جمادى بدمعه وكأنّ على خدّه المحرّم؛ فالله المسؤول لها في عاقبة حميدة، وبقية من العمر مديدة؛ فإنها الآن نوح أهل الأدب، وطوفانها العلم الذي في صدرها، ولا غرو أن يبلغ عمره كعمرها، على أنها طالما أقامت الحدّ على الدّنيا حتى بلغت في حدها الثمانين، وأدبت الأيام بسلاح الحرب من سيفها وسلاح السّلم من قلمها تأديب المجانين، وما حملت العصا بعد السيف إلا وقد وضعت الحرب أوزارها، ولا استقلت بأنه موسى إلا لتفجّر الخواطر وتضرب أحجارها، وما هي إلّا رمح، وكفى بيدها لها سنانا؛ وما هي إلّا جواد يحتثّ السّنين خلفها، فتكون أناملها لها عنانا.
ومنه قوله «1» : ورد كتاب الحضرة السامية، أحسن الله لها المعونة، ويسّر لها العواقب المأمونة، وأنجدها على حرب الفئة الكافرة الملعونة، يخبر بخروج الخارج من قلعة
كذا، وما صرّح به من الخوف الذي ملأ الصّدور، والاستحثاث في مسير العسكر المنصور؛ وكلّ قضية وردت على القلوب، ففزعت فيها إلى ربّها فرجت فرجه، وأذكى لها اليقين سرجه، ولم تشرك معه غيره مستعانا، أو لم تدع معه من خلقه إنسانا؛ فما القضية وإن كانت منذرة إلّا مبشّرة، والخطّة وإن كانت وعرة إلا مبشرة؛ لا جرم أنّ هذا الكتاب أعقبه وصول خبر نهضة فلان نصر الله نهضاته، وأدّى عنه مفترضاته، واستنهض العساكر، وقوبل العدوّ الكافر، فنفس ذلك الخناق، وتماسكت الأرماق؛ وما أحسب أنّ الأمر يتمادى مع القوم؛ بل أقول: لا كرب على الإسلام بعد اليوم؛ يتوافى بمشيئة الله ولاة الأطراف، ويرقل من نفس العدوّ وسمعه ما استشعره من المسلمين من الخلاف، ويجتمعون إن شاء الله على عدوّهم، ويذهب الله بأهل دينه ما كان من فساد أعدائه في أرضه وعلوّهم؛ وقد شممنا رائحة طلب الهدنة بطلب الرسول، وبخبر هلاك ملك الألمان الذي هو بسيف الله مقتول، والموت سيف الله على الرقاب مسلول.
ومنها: فأما ما أشار إليه من القلاع التي شحنها، والحصون التي حصّنها، والأسلحة التي نقلها إليها، والأقوات التي ملأ بها عيون مقاتليها ويديها، فإن الله يمنّ عليه بأن يسره لهذه الطاعة، ورزقه لها الاستطاعة، فكم رزق الله عبدا رزقا حرمه منه، وفتح بابا من الخير وصرفه عنه؛ الآن والله ملك الملك العادل ماله الذي أنفقه، وأودعه لخير مستودع من الذي رزقه؛ وشتان بين الهمم همّة ملك ذخر ماله في رؤوس القلاع لتحصين الأموال، وهمة ملك أودع ماله في أيدي المقاتلة لتحصين القلاع «1» :[الكامل]
بيني الرّجال [وغيره] يبني القرى
…
شتّان بين مزارع ورجال
والحمد لله الذي جعل ماله «1» له مسرة، يوم يرى الذين يكنزون الذّهب والفضة المال عليهم حسرة؛ ما أحسب أحدا من هذه الأمة إن كان عند الله من أهل الشهادات بين يديه، وإن كان كريم الوفادة لديه، إلا تلقاه شاكرا لهذا السّلطان، شاهدا بما يولي هذه الأمة من الإحسان وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ
«2» .
سيحصد الزارعون ما زرعوا، والله يزيده توفيقا إلى توفيقه، ويلهم كلّ مسلم القيام بمفترض بره، ويعيذه من محذور عقوقه؛ وأنا أعلم أن الحضرة تفرد لي شطرا من زمانها المبهم، بكتاب لله تكتبه إليّ، وخبر سار تورده عليّ؛ وأنا أفرد شطرا من زماني لشكرها، وأسرّ والله لها بتوفيق الله في جميع أمرها، فإنّ الذاكر لها بالخير كثير، فزاد الله طيب ذكرها.
ومنه قوله: والمشكوّ في هذا الوقت وجع المفاصل وآلامها وأورامها، فيديّ منها في جامعة، ورجليّ منها في واقعة، وأعضائي كلّها قد رابتني بعد صحة، وصارت لما تمّ عليها من أيديّ الرّاقين والذّاكرين كأنها خرزات سبحة، ولقد سئمت تكاليف الحياة، وسهلت عليّ تخاويف الوفاة، وحملت الأيّام على ظهري حمل الحطب، فما يسوى أن تشتعل فيها نار أجل يكون من الأنفاس المزعجة ذات لهب، وما أغربت على الأيام في تهجّمها، ولا جاءتني آيات الكبر في غير موسمها؛ ومن استضاء بسراج المشيب مسته اللّيالي في ظلمها، فقد صرعتني الأمراض،
وصدعت عظمي المنهاض.
اللهم لا أشكو إلّا إليك، ولا أسأل إلّا أنت، ولا أبثّ عبادك ما بي من بلائك، إلا لأستلزم إليك الشفعاء، وأستدعي منهم الدّعاء؛ فإن دعوتك من حقّها أن ينظّف لها الوعاء؛ فأما طاحونة مدينة الجسد وهي الأسنان، فبعض السّنّ ظعن مع السّنّ، وبعضه بقي منه جذم غير مرجحنّ، وما كنت أدري ما معنى قيد الحياة إلى أن قيدتني المفاصل بوجعها، وعلّة النقرس بتسفّلها وبرفعها؛ وأنا الآن بالحقيقة في ضدّ الحياة إحساسا، ولابس جسم قد كرهته النفس لباسا.
ومنه قوله «1» : ورد كتاب المجلس السّامي، نصر الله عزائمه، وأمضى في رؤوس الأعداء صوارمه، وشدّ به بنيان الإسلام ودعائمه، واسترد به حقوق الإسلام من الكفر ومظالمه، وأخلف نفقاته في سبيل الله ومغارمه، وجعلها مغانمه؛ وكان العهد به قد تطاول، والقلب في المطالبة ما تساهل، ولمحت اشتغاله بالطاعة التي هو فيها وما كلّ من تشاغل تشاغل، فهنّأه الله بما رزقه، وتقبّل في سبيل الله ما أنفقه، وعافى الجسم الذي أنضاه في جهاد عدوّه وأخلقه، وقد وفق من أتعب نفسا في طاعة من خلقها، وجسما في طاعة من خلقه؛ فهذه الأوقات التي أنتم فيها أعراس الأعمار، وهذه النّفقات التي تجري على أيديكم مهور الحور في دار القرار؛ قال الله سبحانه في كتابه الكريم: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ
«2» .
وأما فلان وما يسره الله له وهوّنه عليه من بذل نفسه وماله، وصبره على المشقات واحتماله، وإقدامه في مواقف الحقائق قبل رجاله، فتلك نعمة الله عليه،
وتوفيقه الذي ما كلّ من طلبه وصل إليه؛ وسواد «1» العجاج في تلك المواقف بياض ما سوّدته الذّنوب من الصحائف يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً
«2» .
فما أسعد تلك الوقفات، وما أعود بالطّمأنينة تلك الرّجفات، وقد علم الله سبحانه منّي ما علم من غيري من المسلمين من الدّعاء الصّالح لكم في الليل إذا يغشى، ومن الذّكر الجميل لكم في النهار إذا تجلّى، والله تعالى يزيد لكم إيمانكم، وينصركم وينصر سلطانكم، ويصلحكم ويصلح بكم زمانكم، ويشكر هجرتكم التي لم تؤثروا عليها أهليكم ولا أموالكم ولا أوطانكم، ويعيدكم إلينا سالمين سالبين، غانمين غالبين؛ إنّه على كلّ شيء قدير.
ومنه قوله: ولا حول ولا قوة إلا بالله، قول من قعد وراء الأحباب يودّع في كل يوم حبيبا، ويعيش في الدّنيا بعدهم غريبا، كأنه النجم طلع عليه الصّباح فغابوا، وبقي منتظرا للمغيب، وصبّحه ما قد علاه من المشيب.
ومنه قوله: هذا وما تمّ بحمد الله متجدد، إلا ما تقدم ذكري له من أمراض الكبر، وأعراض الغير، وتداعي هذه البنيّة لرحيل ساكنها، وانزعاج هذه النفس إلى ما يختاره لطف الله من مواطنها، فإنّ التّسعين قد جزت عينها، وقطعت عقبها؛ وأسأل الله الخيرة في القدوم عليه، واللّطف عند الوقوف بين يديه.
ومنه قوله: وأشكو بعد قلبي جسمي، فقد ضعفت قوته، وقوي ضعفه، ونسجت عليه همومي ثوابا دون الثياب، وشعارا دون الشّعار، من الحرب الذي عادى بيني وبيني، وانتقم ببيني من جسمي، واستخدمها بحرث أرضه؛ فإن لم يكن لأرضه عجاج فلي عجيج، وإن لم يكن فيه بذار فلي من الحبّ ثمار، وإن لم يكن لي سنبلة فلي أنملة، وإن لم يكن في كل سنبلة مئة حبّة آكلها، ففي كلّ أنملة مئة حبة تأكلني؛ وقد كنت مسالما لأعضائي إلا سنّا أقرعها، فما يخلو زمن من مندماتي، أو إصبعا أعضّها فما أكثر ما على الظّالم الذي يعضّ يديه؛ فأنا أقرع أعضائي كلّها ثنيّات، وأعضّ على جوارحي كلّها أنامل وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ
«1» والحرب همّ للأجسام، والهمّ حرب للقلوب، والفكر للقلب حكّ، والحكّ للّحم فكر، وبالله ندفع ما لا نطيق «2» ؛ يا واهب العمر خلّصه من الكدر «3» .
ومنه قوله «4» : وصل الكتاب الحضرة مبشرا بالحركة الميمونة السّلطانية إلى العدو خذله الله، ومسير المسلمين نصرهم الله، تحت أعلامه أعلاها الله، ومباشرة العدوّ واستبشار المسلمين بما أسعدهم الله من الجراءة عليه، ومن إضمار العود إليه، وهذه مقدمة لها ما بعدها، وهي وإن كانت نصرة من الله، فما نقنع بها وحدها، فالهمّة العالية
السّلطانية للحرب التي تسلب الأجسام رؤوسها، والسّيوف حدّها، فإن الجنة غالية الثمن، والخطاب بالجهاد متوجه إلى الملك العادل دون ملوك الأرض وإلّا فمن؟ فهذه تشترى بالمشقّات، كما أنّ الأخرى- أعاذنا الله منها- رخيصة الثّمن وتشترى بالشهوات.
ومنه قوله: وقف الخادم على ما شرّف به طبعه، وشنّف به سمعه، وضيّق بسعته ذرعه، من الخطاب بالعتاب، الذي خفض له الجناح، واستعذب به الجراح، وأسر قلبه في قيد أسى مستطار لا يراد منه السّراح، وقذف به في لهوات ليل لم يود أن يبسم فيه ثغر الصباح، وقد علم الله أنه بريء من كل ما يوجب المذامّ، ويطلق ألسنة الذّام، وأنه لمستيقظ في حقوق الخدمة، إلا أن حظّه من أهل الكهف بطول المنام.
ومنه قوله: وأما البرد وكلبه، والهواء وغلبه، فما كتبتها إلا واليد ترتعد، والخواطر لا تتعد، والغلام يذهب شبح الفحم بما يلهب، والشرار يبقى منطفئه في خدود الثياب خيلانا، ويمنعني كما يمنعها أن تطرد في قول القلم من الطّرس خيلانا.
ومنه قوله: وأنا الآن إذا دعوت الله سبحانه، بأن يمتعني بسمعي وبصري عنيته، وإذا قلت: واجعلهما الوارث منّي، فهو الذي اخترته لذلك وارتضيته؛ وبالجملة إنّي مستحسن قول جميل، وأنقله إلى أهل الجميل «1» :[الطويل]
وما أحدث النّأي المفرّق بيننا
…
سلوّا، ولا طول اجتماع تقاليا
كذلك صحبة المجلس قد تطاولت، وكلّما ألحّ عليها الصّقال لاح جوهرها، وكلّما تكررت عليها الفصول فصّلت آياتها وسيرت سورها.
ومن كتاب كتب به إلى القاضي محيي الدين بن الزّكي «1» : بعد أن أصدرت هذه الخدمة إلى المجلس- لا عدمت عواطفه وعوارفه، ولطائفه ومعارفه، وأمتع الله الأمة عموما بفضائله وفواضله، ونفعهم بحاضره كما نفعهم بسلفه الصّالح وأوائله، وعادى الله عدوّه، ودلّ سهامه على مقاتله- ورد كتاب منه، وما بقيت أذكر الإغباب، فإن سيدنا يقابله بمثله، ولا العتاب فإنّ سيدنا يساجله بما فيض من سجله، ولا ألقي عليه من قولي قولا ثقيلا، ولا أقابل به من قوله قولا جليا جليلا، فقد شبّ عمرو عن الطوق «2» ، وشرف البراق عن السّوق، وذلك العمرو ما برح محتنكا غير أجنبي، والطوق للصبي، وذلك البراق حمى لا يقدّم إلا للنبي، ومع هذا فلا تقلّص عني هذه الوظيفة، وأعتقدها من قرب الصّحيفة، فإنّك تسكن بها قلبا أنت ساكنه، وتسرّبها وجها أنت على النوى معاينه.
ومنه قوله: يا سيدنا العماد، صبّحك الله بأيمن من فعلك، ولا أعرف فعلا منه أيمن وأحسن من وجهك، ولا أعرف وجها منه أحسن، وأحسن وجه في الورى وجه منعم «3» .
كيف أنت في هذه الرحمة التي تركتنا رحمة؟ وكيف الخركاه «1» وكيف الخيمة؟ أمّا نحن ففي خيمة من عنصرنا وهو الطين، وفي خركاه كأنّا من ضائقتها في عقد التسعين، قد حاصرتنا الأمطار، وقلّ احتفالها بالخنادق المحتفرة، وفعلت بنا ونحن المسلمون ما فعلنا بمن حاصرناه من الكفرة، فليت لنا ولو كمفحص القطاة في السعة والحفوف، وليت لنا جبلا يعصمنا من أنواع السّيول إذا جاءت ممرودة السّيوف، وقد حال الجريض دون القريض «2» ، وشغل توقّع اللّئيم عن توقيع القلم.
ومنه قوله: وقد كانت ليلة الخميس بدمشق ليلة مباركة، ما غسل ظلامها إلا السّيول لولا الصباح، ولا ابتسم صباحها إلا وقد كادت تبتسم الجبال والبطاح.
ومنه قوله: وقد جار كرم يده على أموالها، وعلم الخلائق الاشتطاط في آمالها، فما يأخذ أحدهم البدرة إلّا بكسر الخاتم منها، ولا يقبل الخلعة إلّا وقد عصبت المنشور بعصبها، ولا يركب الجواد إلّا وهو بالتبر مثقل، وبالحليّ في وجهه ورجليه أغرّ محجل، ولا يقنع بالإقطاع إلّا وباطنه قلعة وظاهره رستاق، ولا بالمنشور إلا وحاصله ثمرات واسمه أوراق؛ فقد فرّ الناس من الصنائع إلا إلى اصطناعه، ومن المعايش إلا إلى انتجاعه، وهان عليهم أن يكتبوا في قرطاس ويجاوبوا بأكياس، ووقفوا على التّراب فلحقوا بالسحاب، وغمر الجود كل دينار، حتى توارى دينار
الشمس بالحجاب.
ومنه قوله إلى العماد الأصفهاني «1» : كانت كتب المجلس- لا غيّر الله ما به من نعمه، ولا قطع منه موادّ فضله وكرمه، ولا عدمت الدّنيا خطّ قلمه وخطو قدمه، وأعاذها الله بنعمه وجوده من شقوة عدمه- تأخرت، وشق عليّ تأخرّها، وتغيرت عليّ عوائدها، والله يعيذ مما يغيرها، ثم جاءت كما جاء بيت ابن حجاج «2» :[مجزوء الرمل]
غاب ساعات ووافا
…
ني على ما كنت أعهد
وأجبته ببيت الرضيّ «3» : [الرمل]
ومتى يدن النّوى بهم
…
يجدوا قلبي كما عهدوا
كتابة لا ينبغي ملكها إلا لخاطره السّليماني، وفيضا لا يصدر إلا عن نوح قلمه الطّوفاني، أوجبت على كلّ بليغ أن يتلو وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ
«4» .
وبالجملة فالواجب على كلّ عاقل أن لا يتعاطى مالم يعطه، وأن يدخل باب مجلس سيدنا ويقول: حطّة؛ فأما ما أفاض فيه من سكون الأحوال بتلك البلاغة، فقد كدت أسكر «5» بها بما استخرجته، من المحاسن التي لو أن الزّمان الأصم
يسمع لأسمعته، ولو أنّ الحظّ الأشمّ يخضع لأخضعته؛ وبالجملة فإنّه لا يسبّ زمن أبقى من سيّدنا نعمة البقّية، التي مهما وجدت فالخير كلّه موجود، والمجد بحفيظته مشهود؛ وكما تيسرت راحة جسمه، فينبغي أن يقتدي به قلبه في راحته من همه؛ وأعراض الدّنيا متاع المتاعب، وقد رفع الله قدره، وإلّا فهذه الدّنيا وهدة إليها مصاب المصائب، والحال التي هو الآن عليها عاكف، من علم يدرسه، وأدب يقبسه، وحريم عقائل يذبّ عنه ويحرسه، هي خير الأحوال؛ فالواجب الشّكر لواهبها، والمسرّة بالإفضاء إلى عواقبها، وما ينقص شيء من المقسوم، وإن زاد عند المجلس فليس من حظّه، ولكن من حظّ السائل والمحروم؛ ولا يسمح المجلس بكتاب من كتبه على يد من الأيدي التي لا تؤدّي، فلا يؤمن أن تكون أناملها حروف التعدي.
ومنه قوله: وقد تأملت ما تفننت في وصفه حين دعيت إلى قتل الأسير، وأن القدرة المحيطة بعنقه، والأسر السادّ لسبل القتل وطرقه، أبى لها أن تشغل به بالها، ونصّ لها أن لا تنجس بدمه نصالها، فإنّ قتل الأسير ويداه مغلولة، وحبال أذرعه محبولة، قدرة ما زالت النّفوس على استقباحها مجبولة، وما كان يؤمنها أن تشخص الأبصار نحوها، وكما نظر في الطّروس كأنها تنتظر في الطروس «1» محوها، فيكون غيظ الحسام من قلمها حاملا له على أن لا يحدّ مضاء، ولا يمضي حدا، وباعثا له على أن ينثني عن عنق الكافر مرتدا، فيورثنا معشر الكتّاب عارا يعدي عرّه، وينهي العلم ما يسوءه والسيف ما يسرّه، وينفتح باب القيل والقال، ويحتاج إلى العذر الصدئ في نبوة السيف الصقيل.
ومنه قوله: وكان ينتحي لقافية الثاء المثلثة التي خضعت لأمره، وسخرت لفكره، وخفضت جناحها، وتركت جماحها، ورقت رقة الراء، وأعطته القياد الذي منعت من الكتّاب والشّعراء، وهذا ملك البلاغة السّليمانيّ؛ وهذا القلم سيد النصر اليماني، وهذا المعجز وأنا أول المؤمنين، وهذا السحر البياني وإن لم يكن السحر المبين؛ وما تصورت أن الثاء تهون هذا الهوان، ولا تنقاد في الكلم إلا أن يكون قلمه العنان، فقد صارت عروسا ونقّطها نقوط العرائس، ووجبت جنوبها، فلا جرم أنه مثل قوله: فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ
«1» وقد صرنا نبدل السين بها بغير لثغة، ونقدر على استعمالها بلاغة، وما كنا نقدر على استعمالها إلا بلغة.
ومنه قوله: وذكر الله ذلك العهد بخير ما ذكرت به العهود، ولعن الله الفرنج المخندقين، وقتل أصحاب الأخدود، فقد قطعوا طرقات المسار، وأطالوا عمر البيكار «2» ، وسكبت نار مقاساتهم الدّينار، فعجل الله إعلام الكافر لمن عقبى الدار «3» .
ومنه قوله، وكتب [إلى] ابن الزّكي «4» :
كان كتابي تقدم إلى المجلس السامي- أدام الله نفاذ أمره، وعلو قدره، وراحة سرّه؛ ونعّمه ويسّره، وأجراه على أفضل ما عوّده، وأسعد جده وأصعده،
وأحضره أمثال العام المستقبل وأشهده، ولا زال يلبس الأيام ويخلعها، ويستقبل الأهلة ويودعها، وهو محروس في دنياه ودينه، مستلئم من نوب الدّهر بدرع يقينه؛ وأعماله مقبولة، ودعواته على ظهر الغمام محمولة، والدّنيا ترعاه وهو يأبى رعيها، والآخرة تدّخر له وهو يسعى لها سعيها- من أيدي عدة من المسافرين، ولثقتي بهم ما قيدت أسماءهم ولضيق صدري بتأخير كتب المجلس ما حفظت ما جاء منه.
وما كأنّا إلا دعونا الله سبحانه دعوة الأولين أن يباعد بين أسفارنا «1» ، وأردنا أن يقطع بيننا وبين أخبارنا، فأجيبت الدعوة، ولا أقول لسابق الشقوة، بل للاحق الحظوة، فبان بأن مكابدة الأشواق إلى الأبرار، تسوق إلى الجنة ولا تسوق إلى النّار؛ وأقسم أنني بالاجتماع به في تلك الدار أبهج منّي بالاجتماع به لو أتيح في هذه الدار؛ فعليه وعليّ من العمل ما يجمع هنالك سلك الشمل ويصل جديد الحبل، فثم لا يلقي العصا «2» إلا من ألقى ها هنا العصيان، وهنالك لا تقر العين إلا لمن سهرت منه ها هنا العينان، ولا وجه يجمع اسمي مع اسمه في هذه الوصية، مع علمي بسوء تقصيري، وخوفي من سوء مصيري، ولكن ليزيد سيدنا في وظائفه وعوارفه، فلعل فعله تفضل من فضله، مما يخلصني بقربه؛ فإنني أستحقّ شفاعته لشفعة جوار قلبي لقلبه، والخواطر في هذا الوقت منقبضة، والشواغل لها معترضة، وأيام العمر في غير ما يقرض من الدنيا والآخرة «3» منقرضة؛ ومتجدد نوبة بيروت قد عمت كلّ قلب، وهاجت
للمسلمين أشواقا إلى الملك الناصر، وذكرى بما ينفعه الله به من كل ذاكر، وأخذ الناس في الترحّم على أول هذا البيت، والدعاء للحاضر والآخر، وليس إن شاء الله بآخر.
ومنه: وسيدنا يتوصى بالدار بدمشق، فقد خلت، وإنما الناس نفوس الديار، وسيدنا يحسن في كل قضية من بعد، كما أحسن من قبل، فهو الذي جعل بيني وبين الشام نسبا، وأنشبني فيه إلى أن ادخرت عقارا ونشبا، فعليه أن يرعاه ما أقناه، وينفي الشوك عن طريق اليد إلى جناه، والجار إلى هذا التاريخ ما اندفع جوره، ولا أدرك غوره، يعد لسانه ما تخلف يده، ويدّعي يومه بما يكذبه فيه غده، وأنا على انتظار عواقب الجائرين، وقد عرف الغيظ منّي، وألفاظ مجهولة ما كنت أشتهي أن أعرفها، وكشف مستور من أسباب الحرج ما يسوى أن أكشفها، لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ
«1» وأسوأ خلقا من السّيّء الخلق من أحوجه إلى سوء الخلق، وما ذكرت هذا ليذكر، ولا طويت عليه الكتاب لينشر، والسّرّ عند سيدنا ميت، وهو يقضي حقّه بأن يقبر.
ومنه قوله: ولما تأملت الكتاب الأزرق، طاعنت به الخواطر التي كنت صريع طعانها، وعقير أقرانها، ومما دلّني على الصحة نشاط الخاطر العماديّ لقافية العين، التي اطردت له متونها، وتفتحت لقلمه عيونها، واقتضى الدّعاء بأن يقرّ الله العين في يده، كما أجراها على لسانه، فتجتمع له البلاغة والغنى، وتتوفر الأولى عليه وتكون الثانية قسمة ما بيننا.
ومنه قوله: والكتب من جهتها مرتقبة لذاتها، لا لما فيها من طارئات الأحوال ومتجدداتها، ويكفي خبر صحته من الأخبار، فلينعم الماء بإطفاء النّار.
ومنه قوله: ووافى الأسطول الميمون في خمسين غرابا «1» ، طائرا من القلوع بأجنحته، كاسرا بمخالب أسلحته، فما وافى شملا إلا دعاه إلى الحين، وحقق ما يعزى إلى الغراب من البين.
ومنه قوله: وكتبت هذه الخدمة ليلا، والخاطر كالناظر كلاهما مشتمل بالظلام شعارا ودثارا، والخطرات كالأنّجم في ليلة الأسى، إن رامت الطريق فحيارى، أو رامت المسير فأسارى.
ومنه قوله: إلى أن طوى اللّيل ملاءته، ومدّ عليهم كلاءته، فإنه دعيّ مأمنه، وبينهم من مناسبة صحائفهم لسواده، ولأن الليل يدعى كافرا فقد خبّأهم في فؤاده، وخاف العدوّ تصريف العنان، فكأنما في يده منه صلّ لادغ، ورأى السيف وماء الموت يترقرق منه، فروي دلاء من إناء فارغ.
ومنه قوله: فأمّا هذه الدّنيا فإنها دار الأكدار، ومثار العثار، لا تسمح بمودّة صاحب إلا
لتعرف قدر فراقه، ولا تفسح في حبل لقاء خليل إلا لتجعله عدّة لخناقه.
ومنه قوله: فقلت لصاحبي نجواي: خذا في عرض محاسنه عليّ، لعلّي آخذ منها؛ فقالا: وما الفائدة إذا عجزت في الصلة عن أن تعيد عليه ألفاظه العائدة؟ فقلت:
ليعلم أن كل خير عندي من عنده، وأسأله الصفح عن تقصير بلاغتي عن بلوغ حدّه، وأسره بتقصيري عن مداه وإن كان هذا عهدي بودّه؛ فقالا: أرسل نفسك على سجيتها، وتعرض لنفحات صديقك، فما يبخل عليك بيلنجوجيّتها؛ فقلت: نعم على تفيهقكما في النّسبة إلى اليلنجوج «1» ، وعلى كون حروف هجائها أطول من عوج «2» .
ومنه قوله «3» : الخادم يخدم وينهي وصول كتاب كريم، تفجرت فيه ينابيع البلاغة، وتبرعت بالحكم أيدي البراعة، وجاد منه بسماء مزينة بزينة الكواكب، وهطل منها لأوليائه كلّ صوب، ولأعدائه كلّ شهاب واصب، وتجلّى فما الغيد الكواعب، وما العقود في التّرائب، وتفرق عنه جيش الهمّ، فانظر ما تفعل الكتب في الكتائب؛ وما ورد إلا والقلب إلى مورده شديد الظّما، وما كحّل به إلّا ناظره الذي عشي عن الهدى وقرب من العمى؛ وما نار إبراهيم بأعظم من نوره، ولا سروره صلى الله عليه حين نجا بأعظم في يوم وصوله من سروره؛ فحيّا الله هذه اليد الكريمة التي تنهلّ بالأنواء، وتحرك سوابغ النعماء، وتعطى أفضل
عطاء، يسرّها في القيامة، وتحوز به أفضل أنواع الكرامة؛ فأما شوقه لعبده، فالمولى أبقاه الله قد أوتي فصاحة لسان، وسحب ذيل العيّ على سحبان، ولو أنّ للخادم لسان موات، وقلبا «1» يقال له: هيهات؛ لقال ما عنده، وادّكر عهده ووده، وباح بأشواقه، وأذاع الرمز عند اعتناقه.
وأما تفضّله بكذا، فالخادم لا يقوم بشكره، ولا يبطله حقّ قدره، وقد أحال مكافأة المجلس على مليّ قادر، ومسرّة خاطره عليه يوم تبلى السرائر؛ والله تعالى يصله برزق سنيّ يملأ إناه، ويوضح له هداه، ولا يخلي المجلس من جميل عوائده، ويمنحه أفضل وأجزل فوائده، إن شاء الله تعالى.
ومنه قوله «2» : وفي الحال أطافت المقاتلة من جميع أقطاره، ولبّوا تلبية الحجيج، وكلّ من جمرة سهمه كرامي جماره، وعبرت الآجال المسماة سهاما على قناطر القسيّ المحنية، وقدحت زنودها البيض شرار جمر المنية، فصارت الأبرجة مستلئمة بسلاحها، أو كأنها بكثرة ريش السهام طائرة بجناحها، أو كأنها صدور أظهرت حسك الضغائن، أو كأنها لازدحام السّهام بها كنائن؛ إلى أن سرى داء النّقوب إلى المقاتل، ودبّ سكرها بين المفاصل، ورتب الجدران قائمة، والبلاء سائر في أعقابها، متجلدة والنار تحت بنائها، غرّارة بألحاظها، والقبح حشو نقابها؛ فلمّا كان وقت الظّهر ظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ
«3» ، ووقعت القلعة، فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ
«4» ، وتحصّنوا من نيران القضب بنيران الحطب، وقطعوا
بين المسلمين وبينهم بطوفان نار كانت القلعة سفينة إلا أنها لا سفينة نجاة بل سفينة عطب، والفرنج الملاعين من وردها عاجلا وإن منهم إلا واردها، وأقحم نفسه فيها فأحاطت بعنقه مقاودها، وبات الناس مطيفين بالحصن والنّار بهم مطيفة وعليه مشتملة، وعذبات ألسنتها «1» على وجهه منسدلة، ومن خلفه مسبلة، ولفحاتها جهنمية وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ
«2» ؛ والبلاء؛ ينادي طبرية بلسان مصابها: إيّاك أعني واسمعي يا جارة»
؛ فولجت النّار موالج تضيق عنها الفكر، وتعجز عنها الإبر، وقال الكفر: إنها لإحدى الكبر، وخولف المثل في أنّ السعادة لتلحظ الحجر «4» ، وأغنى ضوء نهاره أن يسأل معه هذا وذا ما الخبر، إلى أن بدا الصّباح وكأنه امتار منها الأنوار، وانشق الشرق وكأنه من عصفرها صبغ الإزار، فيحنئذ تقدم الخادم فأقلع بيده الأحجار من أسها، ومحا حروف البنيان من طرسها، وأدار فيها كأس المنون دهاقا، وحلّ الرءوس ضربا، وشدّ الأعناق وثاقا.
ومنه قوله: حوشي مجلس سيدنا، ولا زال من كل مكروه محاشى، ودامت الصحة تنشر له علما وتطوي فراشا، وجعل الله ليل الدّنيا بأمنه لباسا ونهارها معاشا، من مرض يمسّه، ومن ألم يحسّه ومن أن يتكدّر من العافية أنسه، وحرس الله نفسه على الإسلام، فإنه نفسه.
ومنه قوله: فلو رأيت أطناب الخيم في أعناق الأسارى يساقون بها مقرنين، لحمدت الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ
«1» ولقد شابت خضاب العجاج ما أرسلته رايات الأبرجة من ذوائب مفرقها، وأسلمت وجهها لله وقطعت ذمار خندقها.
ومن مكاتباته يتشوق إلى إخوانه وأودّائه ومحبيه وأوليائه:
ومنه قوله: فأنجدوا المسلمين يا حملة سلاح الصّلاح، وابعثوا سرايا دعواتكم فإنّا ننتظر غبّ سراها الصباح؛ فأنتم في وكر قبلتنا، فلتهن أدعيتكم خفة الجناح.
ومنه قوله: فلولا سدّ سدّته الكريمة لا نفتح على الإسلام ما انفتح من سدّ مأرب، ولولا سيفه لما وجد بعد العصا الكليمية سيف مثلها فيه مأرب، وانتظر فرصة انتهزها في بابه، فما ازدادت الأحوال إلّا ضائقة، ولا العذر إلا اتّساعا؛ والله المستعان.
ومنه قوله: وقد علم الله خدمتي للبيتين الشّريفين- بيت الله بما يعود عليه بالعمارة، وبيت النّبوّة صلوات الله على أهله بما يبقي في عقبه كلمة الإمارة- بمنى نفسه ما دونه جزّ النواصي بل حزّ الغلاصم؛ يروم أن يرتضع أخلاف الخلاف، والله له عن آل الفواطم فاطم؛ فنهض لآل رسول الله كلّ بعيد وقريب، ونصر لواء حمده حتى
الصليب، وقوبل عدوه بعدو وحسم داء ومستغيث عجيب، وحينئذ اندفع شير كوه ميمما صعيدا طيبا، وكيف لا يتيمم من عدم الماء قاصدا للقبلة ولن يدار إليها إلا من فارق الدماء.
ومنه قوله: ووقف المملوك على الأبيات النونية التي فتنته فتونا، وزخرت بحرا فصادف منه قافية النون نونا، وأشرقت عليه أبياتها أقمارا، صار القمر لحسدها عرجونا.
ومنه قوله: وحين وقف عليها وقف لها، وحين فتحها ارتج أبواب الهموم وأقفلها وتأملها، ونظر من غرائب الحسنات ما تم بها وما تم لها، فإذا فصل كنعيم أهل الجنة كلما نفد جدد، وكنفس أهل الحياة يلذّ كلما ردد؛ وسيدنا كان لسانه يده في جماح السماح، وكان لسانه في إيراد قرائح الاقتراح، كل عذب قراح.
كتب إلى بعضهم «1» «2» : [الطويل]
أأحبابنا هل تسمعون على النوى
…
تحية عان أو شكية عاتب
ولو حملت ريح الشمال إليكم
…
كلاما طلبنا مثله في الجنائب
أصدر العبد هذه الخدمة، وعنده شوق يغور به وينجد [ويستغيث] من ناره بماء الدمع فيجيب وينجد، ويتعلل بالنسيم فيغري ناره بالإحراق، ويرفع النواظر إلى السلوان فيعيدها الوجد في قبضة الإطراق، أسفا على زمن تصرم، ولم يبق
إلا وجدا تضرم، وقلبا من يد البين المشتّ تظلّم «1» :[الوافر]
ليالي نحن في غفلات عين
…
كأن الدهر عنا في وثاق
وما تنفس خادمه نفسا إلا وصله بذكره، ولا أجرى كلاما إلا قيده بشكره، ولا سار بقفر إلا شبهه برحيب صدره، ولا أطل على جبل إلا احتقره بعلي قدره، ولا مرّ بروضة إلا خالها تفتحت أزهارها عن كريم خلقه ونسيم عطره، ولا أوقد المصطلون نارا إلا ظنهم اقتبسوها من جمره، ولا نزل على نهر إلا كاثر دمعه ببحره «2» :[الطويل]
سقى الله تلك الدار عودة أهلها
…
فذلك أجرى من سحاب وقطره
«3»
لئن جمع الدهر المشتت شمله
…
فما بعدها ذنب يعد لدهره
فكيف ترى أشواقه بعد عامه
…
إذا كان هذا شوقه بعد شهره
بعيد قريب منكم بضميره
…
يراكم إذا مالم يزركم بفكره
ترحل عنكم جسمه دون قلبه
…
وفارقكم في جهره دون سرّه
إذا ما خلت منكم مجالس وده
…
فقد عمرت منكم مجالس شكره
فيا ليل لا تجلب عليه بظلمة
…
وطلعة بدر الدين طلعة بدره
ونسأل الله تعالى أن يمن بقربه، ورحاب الآمال فسائح، وركاب الهموم طلائح، والزمن المناظر بالقرب مسامح، هنالك تطلق أعنة الآمال الحوابس، ويهتز مخضرا من الشعور عود يابس «4» :[الطويل]
وما أنا من أن يجمع الله شملنا
…
بأحسن ما كنا عليه بآيس
وقد كان الواجب تقديم عتبه، على تأخير كتبه، ولكنه خاف أن يجني ذنبا عظيما، ويؤلم قلبا عليه كريما «1» :[الطويل]
ولست براض من خليل بنائل
…
قليل ولا راض له بقليل
وحاشى خلاله من الإخلال بعهود الوفاء، ومن انحلال عقود الصفاء، وما عهدت عزمة الهوى في حلبة «2» الشوق إلا من الضعفاء، وحاشية خلقه، إلا أرق من مدامع غرماء الجفاء «3» :[الكامل]
من لم يبت والبين يصدع قلبه
…
لم يدر كيف تقلقل الأحشاء
ومنه قوله في مثل ذلك «4» : كتب مملوك المولى عن شوق قدح الدمع من الجفون شرارا، وأجرى من سيل الماء نارا، واستطال واستطار فما توارى أوارا، ووجد على تذكر الأيام التي ذهبت قصارا، والليالي التي طابت فكأنما خلقت جميعا أسحارا «5» :[الطويل]
وبي غمرة للشوق من بعد غمرة
…
أخوض بها ماء الجفون غمارا
وما هي إلا سكرة بعد سكرة
…
إذا هي زالت لا تزول خمارا
رحلتم وصبري والشباب وموطني
…
لقد رحلت أحبابنا تتبارى
ومن لم تصافح عينه نور شمسه
…
فليس يرى حتى يراه نهارا
سقى الله أرض الغوطتين مدامعي
…
وحسبك سحبا قد بعثت غزارا
وما خدعتني مصر عن طيب دارها
…
ولا عوضتني بعد جاري جارا
أدار الصبا لا مثل ربعك مربع
…
أرى غيرك الربع الأنيس قفارا
فما اعتضت أهلا بعد أهلك جيرة
…
ولا خلت دار الملك بعدك دارا
وما ضرّ اليد الكريمة التي أياديها بيض في ظلمات الأيام، وأفعالها لا تقوم بمدحها إلا ألسنة الأسنة والأقلام، لو قامت للمودة بشرطها، وأمضت خط الأسى بخطها، وكتبت ولو شطر سطر ففرغت قلبا من الهم مشحونا، وأطلقت طرفا في فضاء الاقتضاء مسجونا، ونزهت ناظر المملوك في رياض مشهورة الحلى، وجلت غمومه بمكارم مأثورة العلى «1» :[الطويل]
وما كنت أرضى من علاك بذا الجفا
…
ولكنه من غاب غاب نصيبه
ولو غيركم يرمي الفؤاد بسهمه
…
لما كان ممن قد أصاب يصيبه
ولمملوكه مذ حطت بمصر أثقاله، وجهز الشام رحاله، وألقت النوى عصاها، وحلت الأوبة عراها، يكتب فلا يجاب، ويستكشف الهم بالجواب فلا ينجاب «2» :[الكامل]
يا غائبا بلقائه وكتابه
…
هل يرتجى من غيبتيك إياب
وما يصفي الله ورد الحياة من التكدير، ويحقق بلقائه أحسن التقدير وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ
«3» «4» : [الخفيف]
وزمان مضى فما عرف الأو
…
ول إلا بما جناه الأخير
أين أيامنا بظلك والشم
…
ل جميع والعيش غض نضير
وحوشي المولى أن يكون عونا على قلبه، وأن يرحل إثره الذي مذ سار سرّ به، وأن ينسيه بأغباب الكتب ساعات قربه، وأن يحوجه إلى إطلاق لسانه بما يصون السمع الكريم عنه من عتبه؛ الأخ فلان مخصوص بسلام كما تفتحت عن الورد كمائمه، وكما توضحت عن الفكر غمائمه:[الطويل]
إذا سار في ترب تعرّف [تر] بها
…
برياه والتفت عليه لطائمه
وقد تبع الخلق الكريم في الإغباب والجفوة، وأعدت عزائمه قلبا فاستويا في الغلظة والقسوة «1» :[من مجزوء الكامل]
إن كنت أنت مفارقي
…
من أين لي في الناس أسوه
وهب أن المولى اشتغل- لا زال شغله بمساره، وزمنه مقصور على أوطاره- فما الذي شغله عن خليله، وأغفله عن تدارك غليله؟ هذا وعلائقه قد تقطعت، وعوائقه قد ارتفعت، وروضة هواه قد صارت بعد الغضارة هشيما، وعهوده عادت بعد الغضاضة رميما «2» :[الخفيف]
إن عهدا لو تعلمان ذميما
…
أن تناما عن مقلتي أو تنيما
وما أولى المولى أن يواصل بكتبه عبده، ويجعل ذكره عقده، ولا يقصيه ويألف بعده، ويستبدل غيره بعده.
ومنه قوله [في] ذلك أيضا «1» «2» : [مجزوء الخفيف]
أكذا كلّ غائب
…
غاب عمّن يحبّه
غاب عنه بشخصه
…
وسلا عنه قلبه
لو أن لي يدا تكتب، أو لسانا يسهب، أو خاطرا يستملّ، أو فؤادا يستدلّ، لو صفت إليه شوقا إن استمسك بالجفون نثر عقدها، أو نزل بالجوانح أسعر وقدها؛ أو تنفس مشتاق أعان على نفسه، وظنّه استعارة من قبسه، أو ذكر محبّ حبيبا خطر في خلده، وتفادى أن يخطر به ذكر جلده «3» :[البسيط]
حتّى كأنّ حبيبا قبل فرقته
…
لا عن أحبّته ينأى ولا بلده
بالله لا ترحموا قلبي وإن بلغت
…
به الهموم فهذا ما جنى بيده
ولولا رجاؤه أن أوقات الفراق سحابة صيف تقشعها الرّياح «4» ، وزيارة طيف يخلعها الصّباح، لاستطار فؤاده كمدا، ولم يجد ليوم موعده غدا، ولكنّه يتعلّل بميعاد لقياه، ويدافع ما أعلّه بلعلّه وعساه «5» :[الطويل]
غنى في يد الأحلام لا أستفيده
…
ودين على الأيّام لا أتقاضاه
ومن غرائب هذه الفرقة، وعوارض هذه الشّقة، أن مولانا قد بخل بكتابه، وهو الذي يداوي به أخوه غليل اكتئابه، ويستعدي به على طارق الهمّ إذ لجّ في انتيابه «6» :[المنسرح]
كمثل يعقوب ضلّ يوسفه
…
فاعتاض عنه بشمّ أثوابه
وهب أن فلانا عاقه عن الكتب عائق، واختدع ناظره كمن هو كناظره عيش رائق، فما الذي عرض لمولاي حتّى صار جوهر ودّه عرضا، وجعل قلبي لسهام إعراضه غرضا؟ «1» :[البسيط]
بي منه ما لو بدا بالشّمس ما طلعت
…
من الكآبة أو بالبرق ما ومضا
وما عهدته أدام الله سعادته إلّا وقد استراحت عواذله، وعرّي به أفراس الصّبا ورواحله «2» ، إلا أن يكون قد عاد إلى ذلك اللّجج، ومرض قلبه وما على المريض من حرج؛ وأيّ ما كان ففي فؤادي إليه سريرة شوق لا أذيعها ولا أضيعها، ونفسي أسيرة غلّة لا أطيقها بل أطيعها «3» :[الطويل]
وإنّي لمشتاق إليك وعاتب
…
عليك ولكن عتبة لا أذيعها
الأخ النّظام- أدام الله انتظام السّعد ببقائه، وأعداني على الوجد بلقائه- مخصوص بالتحية الأريحية؛ ووالهفا على تلك السجية السخية، وردت منها البابلي معتقا، [وظلت من أسر الهموم بلقائها معتقا] «4» :[الطويل]
خلائق إمّا ماء مزن بشهده
…
أغادى بها أو ماء كرم مصفّقا
ومنه قوله: لو كاتبت سيّدنا بمقدار شوقي لأضجرته، ولو أغببته بمقدار ثقتي به لهجرته.
ومنه قوله: ووصف في كتابه شوقا أعانه على وصفه منه ما خذلني منّي، وأخبرني عنه وإنّما أخبرني عنّي.
ومنه قوله: كتب الحضرة لو تتابعت وطالت، عندي بمنزلة المقتنص البهجة، المبتكر اللّذة، فكيف وهي لا تصل إلّا وترا، ولا تزور إلا غبّا، ولا ترخص للهائم إلّا في النّهلة، ولا تنفّس خناق المشتاق إلا بعد المهلة، وهي في أوسع العذر لأشغالها، وفي أضيقه لأشواقي، وقد نالت بأوّل كتبها كلّ المودة، فهي لا تتعب نفسها في طلب الباقي، وأين ذلك الباقي؟ وما أشبه هذه القصّة بقول جميل «1» :[الطويل]
إذا نظرت قالت: ظفرت بودّه
…
وما ضرّني بخلي فكيف أجود
وما المراد ما يحمل فيه على الخاطر، فقد عرفت محاسنه الغرر، ولا أن يتأتّى بقدر الرّقي إلى الدراري والغوص على الدّرر؛ وعلى ذكر جميل فأحسن قوله «2» :[الطويل]
وإنّي لراض منك يا بثن بالذي
…
لو ايقنه الواشي لقرّت بلابله
ومنه قوله في ذلك أيضا «3» : إن أخذ العبد- أطال الله بقاء المجلس وثبّت رفعته- في وصف أشواقه إلى الأيّام التي كانت قصارا، وأعادت الأيام بعدها طوالا، واللّيالي التي جمعت من
أنوار وجهه شموسا، ومن رغد العيش في داره ظلالا «1» :[الطويل]
وجدت اصطباري بعدهنّ سفاهة
…
وأبصرت رشدي بعدهنّ ضلالا
وإن أخذ في ذكر ما ينطلق به لسانه من ولاء صريح، ويعتقل جنانه من ثناء فصيح «2» :[الطويل]
تعاطى منالا لا ينال بعزمة
…
وكلّ اعتزام عن مداه طليح
ولكنّه يعدل عن هذين إلى الدّعاء، بأن يبقيه الله للإسلام صدرا، وفي سماء الملّة بدرا، وفي ظلمات الحوادث فجرا، وأن يجمع الشمل بمجلسه وعراص الآمال مطلولة، وسهام القرب على نحور البعد مدلولة، وعقود النّدى بيد اللقاء محلوله، وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ
«3» «4» : [الطويل]
فقد يجمع الله الشّتيتين بعدما
…
يظنان كلّ الظّنّ أن لا تلاقيا
وما رمت به النّوى مراميها، ولا سلكت به الغربة مهاويها، ولا استجد شوقه من الجفون ما فيها «5» :[الكامل]
أغلت على السلوان شوقكم فما
…
باعت كما أمر الغرام من اشترى
ومذ فارقت تلك الغرّة البدريّة، والطلعة العزيزة، ما ظفرت بشخصه نوما، ولا بكتابه يوما، فيا عجبا حتّى ولا الطّيف طارق «6» :[من الطويل]
وأعجب له في الحرب نثر كتائب
…
بكفّ أبت في السّلم نظم كتاب
يحاسبني في لفظة بعد لفظة
…
ومعروفه يأتي بغير حساب
«1» ولو رضيت- وكلّا بأن أحمل من هذا الجفاء كلّا- لما رضي به لخلقه الرّضي، ولأخذ بقول الرضي «2» :[الطويل]
هبوني أرضى في الإياس بهجركم
…
أيرضى لمن يرجوه ما دون وصله
ومنه قوله يتشوّق «3» : [من الطويل]
فيا ربّ إنّ البين أضحت صروفه
…
عليّ ومالي من معين فكن معي
على قرب عذّالي وبعد أحبّتي
…
وأمواه أجفاني ونيران أضلعي
هذه تحيّة القلب المعذب، وسريرة الصّبر المذبذب، وظلامة عزم السّكون المكذّب، أصدرتها إلى المجلس وقد وقد في الحشا نارها، والزّفير أوارها، والدّموع شرارها، والشّوق آثارها «4» :[الكامل]
لو زارني منكم خيال هاجر
…
لهدته في ظلمائه أنوارها
وإلى «5» الله يرغب أن يجعله بالسّلامة مكنوفا، وصرف الحدثان عن ساحته مكفوفا، ووفود الرّجاء على أرجائه عكوفا، وأن يمتع الوجود بوصفه الذي هو أشرف من كلّ وحيد موصوفا «6» :[الكامل]
من كان يشرك في علاك فإننّي
…
وجّهت وجهي نحوهنّ حنيفا
وقد كان ينتظر كتابا يشرّفه ويشنّفه، ويستخدمه على الأوامر ويصرّفه، ويجتني به ثمر السّرور غضّ المكاسر ويقتطفه؛ فتأخر ولم يحدث له التأخير ظنا، ولا صرفه أن يعتقد أنّ مولاه لا تحدث له الأيام بخلا بفضله ولا ضنّا «1» :[الطويل]
ولو تصرف السّحب الغزار عن الثّرى
…
لما انصرفت عن طبعك الشّيم الحسنى
وهو ينتظر من الأمر والنّهي ما يكون عمله بحسبه، وما يثبت له عهد الخدّام بنسبه.
ومنه قوله في ذلك «2» : [الطويل]
ومن عجب أنّي أحنّ إليهم
…
وأسأل عنهم من أرى وهم معي
وتطلبهم عيني وهم في سوادها
…
ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي
كتبت والعبرات تمحو السّطور، ويوقد ماؤها نار الصّدور، وتهتك وجدا كان تحت السّتور، وترسل من بين أضلعي نفس الموتور «3» :[الخفيف]
قد ذكرنا عهودكم بعد ما طا
…
لت ليال من بعدها وشهور
عجبا للقلوب كيف أطاقت
…
بعدكم! ما القلوب إلّا صخور
وما وردت الماء إلّا وجدت له على كبدي وقدا لا بردا، ولا تعرضت لنفحات النسيم إلّا أهدى إليّ جهدا، ولا زارني طيف الخيال إلّا وجدني قطعت طريقه
سهدا، ولا خطف البارق الشّاميّ فأراه قلبي خفوقا ووقدا «1» :[المتقارب]
وأيسر ما نال منّي الغلي
…
ل أن لا أحسّ من الماء بردا
فسقى الله داره ما شربت من الغمام؛ وأيامنا بها وبدور ليالي تلك الأيام تمام «2» : [الكامل]
ذمّ المنازل بعد منزلة اللّوى
…
والعيش بعد أولئك الأقوام
وكان قد وصل منه كتاب كالطّيف أو أقصر زورا، وكالحبّ أو أظهر جورا، والرّبيع أو أبهر نورا، أو النّجم أو أعلى طورا، أو الماء الزّلال أو أبعد غورا؛ فنثرت عليه قبلي، وجعلت [سطوره قبلي]«3» بل قبلي، ووردت منه موردا «4» :[البسيط]
أهلا به وعلى الإظماء أنشده
…
لو بلّ من غللي أبللت [من] عللي
«5»
إلّا أنّه أبقاه الله ما عزّزه بثان، ولا آنس غربته، وإني وإياه غريبان «6» :[الطويل]
وكم ظلّ أو كم بات عندي كتابه
…
سمير ضميري أو جنان جناني
وأرغب إليه، لا زالت الرّغبات إليه، وأسأله لا جثم السّؤال إلا لديه، أن يلاطف بكتابه قلبي، ويمثل بمثاله أيام قربي «7» :[مجزوء الكامل]
والله لولا أنني
…
أرجو اللّقا لقضيت نحبي
هذا وما فارقتكم
…
لكنني فارقت قلبي
ومنه قوله جواب كتاب ورد عليه «1» : [الطويل]
شكرت لدهري جمعه الدّار مرّة
…
وتلك يد عندي له لا أضيعها
ورد «2» على الخادم كتاب المجلس- أعلى الله سلطانه وثبّته، وأرغم أنف عدوّه وكبته، وأصماه بسهام انتقامه وأصمته، ولا أخلى الدّنيا من وجوده، كما لم يخل أهلها من جوده، ولا عطّل سماء المجد من صعوده، كما لم يعطّل أرضها من سعوده- فقام له قائما على قدمه، وسجد في الطرس مماثلا سجود قلمه، واسترعى الله العهد على أنه تعالى قد رعى ما أودعه في ذمة كرمه، وصارت له نجران علاقة خير صرف إليها وجهه فكأنها قبلة، ودعا بني الآمال إلى اعتقاد فضل مالكها، فكأنما يدعوهم إلى ملّة؛ والله يوزعه شكر هذا الافتقاد على البعاد، ولا يخليه من هذا الرأي الجميل الذي هو عقد الاعتقاد.
ومنه قوله «3» : ورد كتاب [المجلس] ووقفت منه على ما لا يجد الشّكر عنه محيدا، وآنست به القلب الذي كان وحيدا، وعددت يوم وصوله السعيد عيدا، ووردت منه بئرا معطلة، وحللت قصرا مشيدا، ولا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
، وتلك الغاية ليست في وسعي، ولا تعلم نفس إلّا ما طرق سمعها، وتلك المحاسن ما طرق مثلها سمعي، وهذه الأوابد الأباعد ما طالها ذراعي، ولا استقلّ بها ذرعي.
ومنه قوله «1» : المملوك يقبّل التّراب الذي يوما يستفزّ بحوافز سيله، ويوما يستقرّ بحوافر خيله؛ فلا زال في يوم السيل «2» جوده سحابا صائبا، وفي يوم الحرب شهابا ثاقبا، وينهي أنّه وردت عليه المكاتبة، التي استيقظت بها آماله من وسنها، وأفادته معنى من الجنة، فإنّه أذهبت ما بالنفس من حزنها؛ وتلقّى المملوك قبلتها بالسّجود والتّقبيل، وتحلّى بعقود سطورها فهيهات بعد هذا شكوى التّعطيل، واكتحل من داء السّهد بإثمدها، وأدار على الأيام كأس مرقدها، وأسمعته نغم النّعم التي هي أعجب إلى النفس من نغمات معبدها «3» ، وأطالت الوقوف عليها بركاب طرفه، فما وقوف ركاب طرفة ببرقة ثهمدها «4» ، وضرع إلى من يشفغ وسائل المتضرعين، ويملأ مواقع آمال المتوقعين، أن يغلّ عنه كل يد للخطوب بسيطة، ويفكّ به كل رقبة للأيام بأعناق منها محيطة «5» .
ومنه قوله: وصل كتاب الحضرة السامية- لا زالت رياض نباتها متفاوحة، وخطرات الرّدى دونها متنازحة، والبركات إلى جنابها متوالية، واللّيالي بإبراز سعادتها متلالية، والأيّام الجافية عن بقية الفصل منها متجافية، تنحر إليها المكرمات إذا لم
تكن لها فئة- فأنشده ضالة هوى كانت سدى، ورفع له نارا موسوية، سمع عندها الخطاب، وأنس الخير، ووجد الهدى، وكانت نار العليل في فؤاده بخلاف نار الخليل، فإنّها لا تقبل ندى الأجفان بأن يكون بردا وسلاما، ولا يرى إلّا أضرى ما يكون ضراما؛ وشهد الله لقد كان العبد حصر القول نشوزا، منذ فارقها على تلك الصفة، فلا هو قضى من حقها فرائض لزمت، والله وتعينت، ولا الضرورة في مقامها بحيث تبلغه الشّهادة أذنت، ولا الأيام بالبعد ما أساءت، فإنّها بالقرب ما أحسنت «1» :[الطويل]
وإنّ امرءا يبقى على ذا فؤاده
…
ويخبر عنه إنّه لصبور
ونعود إلى ذكر الكتاب الكريم، فإنه سجد لمحرابه وسلّم، وحسنت سطوره فحسبها مباسم تتبسّم، ووقف عليه ووقف المحبّ على الطلل وكلمه ولا يتكلم، وهطل جفنه وقد كان جمادى، وتصفحه وقد كان على تصفّحه المحرم، وجدد له صبابة لا يصحبها أمل، وخاف أن لا يدرك الهيجا حمل «2» ، وقال الكتاب «3» :[البسيط]
إنّا محيّوك فاسلم أيّها الطّلل
…
[وإن بليت، وإن طالت بك الطّيل]
وأنشد نيابة عنها «4» : [الطويل]
وإنّ بلادا ما احتلت بي لعاطل
…
وإنّ زمانا ما وفى لي لخوّان
والله المسؤول لها في عاقبة حميدة، وبقية من العمر مديدة، فإنّها الآن نوح أهل الأدب، وطوفانها العلم الذي في صدرها؛ ولا غرو إن بلغ عمره مدّة عمرها، على أنّه يتحقق خلودها في الجنة بعملها، وفي الدنيا بذكرها، وإن الدارين تتغايران على عقائل فخرها، ولا يتأخران عن إجرائها على عادتها في رفع قدرها، وعلى أنها طالما أقامت على الدّنيا السّكرى، حين أقامت في حدّها من العمر الثّمانين، وأدّبت الأيام بسلاح الحرب من سيفها وسلاح السّلم من قلمها تأديب الخائنين، وما حملت العصا بعد السيف حتّى ألقت إليها السلم، فوضعت الحرب أوزارها، وما استقلت بآية موسى إلّا لتعجز بها أنهار الخواطر وتضرب بحارها، وما هي إلّا رمح وكفى بيدها سنانا، وما هي إلّا جواد تجنب السّنين خلفها فتكون أناملها لها عنانا.
وقوله: ولعله الآن قد عوفي من الأمرين، وقرّت بوجهه العين، وجدّد عهده بنظره، وقرّب عليه لسانه إسناد خبره، وبلّت منه غلة الحائم، ورأت منه هلال الصائم، وطالعها وجه الزمان المغضب بصفحة الباسم، ووفى مواعيد الأنس منه الضّامن الغارم؛ وهو يسلم عليه تسليم الندى على ورق الورد، ويستمدّ الوفاء من غرس ذلك العهد، ولكتاب الحضرة العالية من الخادم، موضع الطوق من الحمام، يتقلده فلا يخلع، ويعجبه فلا يكاد يسجع، ويحكيه طوقا على الأسى، إلا أنه بدرّ الدّمع يرصع؛ وإذا أنعم به فليكن مع ثقة، ويخشى أن يكون هذا الشرط له قاطعا، بل مع من اتفق فإنه كالمسك، لا يدعه العرف الضّائع أن يكون ضائعا «1» :[الكامل]
أكتبه يكتب لي أمانا ماضيا
…
وابعثه يبعث لي زمانا راجيا
إن أشتريه بمهجتي فقليلة
…
فاسمح به فمتى عرفتك مانعا
ومنه قوله: وقف الخادم على ما شرف به طبعه، وشنف به سمعه، وضيق سعة ذرعه، من العتاب الذي خفض له الجناح، واستعذب به الجراح، وأسر فيه بقيد أسى مستطاب لا يراد منه السراح، وقذف به في لهوات ليل لم يودّ أن يبتسم فيه الصباح؛ وقد علم الله أنه بريء من كل ما يوجب المذامّ، ويطلق ألسنة الملام، ومليء من الخدمة بما لا يغضي فيه عن حق سبقه لأحد من الخدام، وأنه لجواد يبذل جهده وما عليه أن يحلب الأيام، وأنه لمستيقظ من حقوق الخدمة إلا أن حظه من أهل الكهف لطول المنام، وما كان تأخره عن المكاتبات التي يخدم بها مجلسها، ويقتدح بها من الإجابة قبسها، إلّا الرغبة أن يكون مقترنا بحصول أمر، فما أسعفته الأقدار بمراده، ولا نجح رائد اجتهاده؛ وكتب هذه الخدمة حين أحصر على ما استيسر من الهدي، قد ركب من قديم الإخلال حدّ النهي، متبرئا من التقصير الذي ما هو منه ولا إليه، ومعوّلا في العذر الذي ما كان مخلوقا قبل خلق يديه؛ ووصل الأمير أن معظم الأنس بمقدميها الكريم، وقدما إلى بلاد صارت كظلّ رامة لا يريم، ولا يؤدّي يومه الجديد ما كان يؤدّيه أمسه القديم، وكيف ما حل أهل هذا البيت، فهم في كل بيت صدوره، وفي كل مطلع نجومه وبدوره، لا تذال أنوارهم بإشارة الأصابع، ولا تتبدل أقدارهم في مصونات المجامع:[البسيط]
يحميه لألاؤه ولو ذعيّته
…
عن أن يذال بمن أو ممّن الرّجل
كأن الأرض بهم سماء، فإنهم طوالعها، وكأن الدّنيا بهم رياض، فإن أوجههم زهرها، وأيديهم مشارعها؛ وما يدع العبد غاية من الخدمة لهما إلّا
بلغها واعتذر، واجتهد ورأى أنه قد قصّر، لا زالت الأيام ناظمة لعقد المجد ببقاء الواسطة، ولا برحت الجنّة العلياء مصرفة بأيديهم الباسطة.
ومنه قوله: سطّر هذه الخدمة- ثبّت الله قواعد مجده وأرساها، ولا ابتزّ أفنيته حلالها من السّعود وكساها، وقرن بالسّكون والأنوار مصبحها وممساها- في ساعة رحيل قد غرّد حاديه، وسال شطّ واديه، وكان يؤمل اجتماعا يغنيه عن تحمّل منن الأقلام وصنائعها، ويدينه من مشافهة الأنوار التي إلى اليوم ما تناست العيون فضل ودائعها، فأحصرته الأنوار دون منسكه، وعثرته الأيام بذيل العجز في مسلكه، وعزّت جناحه بما لم يستقلّ مجاذبته من شركه، فسارت الراية النّاصرية نصرها الله «1» :[الكامل]
وأقمت بعد، وللزّمان عجائب
…
منها ترحّل مهجتي ومقامي
ويعزّ عليه أن لا يتطوّف بربعه، ولا يرى الدّيار إلّا بسمعه، ورضي بما يرضى الرضى من ساكني سلعه.
ومنه قوله: وصل إلى خادم المجلس- لا زال جفن الدّهر عنه كليلا، ولا برح مجده فوق مفرقه إكليلا، ورأيه في غياهب الأمور فجرا ساطعا، وفي مفاصل الخطوب سيفا قاطعا، وشعاع صوابه في ظلام المشكلات شائعا- كتاب منه فكّ منه قفل النفس من أسرها، وحاز لها الأماني بأسرها، وتغلغل لطفا في القلوب إلى حيث مستقرّ المستودع من سرها، وجدد له لهفا لولا التماسك لهفا قلبه بأدنى أنفاسه، وتدرّع
من سهام الدهر به ولا غرو أن يدّخر لباسه لبأسه.
وأما الكتب المنعم بها على يد فلان فلم يصل شيء منها، والطرف بها معقود، والقلب إلى حيث ورودها مورود؛ ولا شبهة في أنّ الطريق كالخواطر- وما يعني إلا خواطر نفسه- مربوطة لا تنفد مسالكها، وكم طالع فكرة مظلمة لا تنجلي حوالكها، وهو من كتب المجلس- أدام الله نعمته- بين روضة قد تلاحقت غرر محاسنها، وتناسقت درر معادنها، فمن نورة في كمام، وزهرة في نظام، وثمرة في تمام، ونضرة في ضحى وعبقة في ظلام، فهو من واصلة ومتواصلة، وواقعة ومتواقعة، وطالعة ومتطلّعة، ويانعة ومتنوعة، لا خلت من صوب سحاب خاطره الرّوى يروضها ويروّضها، ويرفع مياسم الجدوب ويقضّها ويقوّضها، وما يحسب الخادم أن هذا الكتاب إلّا مساوقا لوصول الرّكاب الناصريّ إلى الشّام، فهنيئا له أن زاره السحاب الطبق والربيع الطلق، وأن أضاء بمحضره فجّ وأظلمت بمغيبه فجاج، وأن خمدت للمخافة نار واتقد للأمنة سراج وهاج، ومصر وإن كانت دارا، ما خرج عنها من الشام إلّا إلى دهليزها، فإنه عزيز عليها- والله- وعلى أهلها فراق عزيزها.
وأما حال الخادم بعد فرقة الرّكاب المشكور، فوالله لقد عرد قلبه من أمره ووعده، بما لم يف به لا من سلوه بل من صبره، وسار بعد ذلك القلب فما وجد منه عزيمة فيطالبه بموعد نصره، وما خالف عادة تسرعه، وأخلف عدة تبرّعه، إلا أنه كان في غير سفرة ما كان نفض غبارها، وفي إعلال فرقة ما كانت كفأت إسارها، ولا سيما بعد أن أطلعته الأربعون شرفها، ونصبته الخمسون هدفها، فأنكر تلك التي كان عرفها، وفارق عصر شبيبته وما وجد في المشيب خلفها، ولحق أمله ببدنه وكلاهما قد أنهج، وقربته الخمسون مع معترك «1» الستين، وكلاهما
قد أزعج؛ والله المسؤول في يقظة قلب وعين، وصحبة تبيين قبل صيحة بين؛ والله المشكور إذا عشي عن المجلس عيون الأيام ولواحظها، وأفهمه إشارات الدّنيا ومواعظها، فقد أبطل بعصاه سحرها، وفضح بقلمه سرّها، وانتضاها فقطع بها ولم تقطعه، ولبسها فخلعها ولم تخلعه، وانتظم أيامها في سلك أعوامه، وغصب أهلها حتى أنوارها، وألقى الجنا على قوامها لا على قوامه، فلا زالت في عمر وريق الأفنان، وثيق الأركان، تتزوّد كلّ يوم فيما يتزود، ويشتدّ ركنها ويتأيد ولا يتأوّد.
ومنه قوله رحمه الله: أدام الله أيام المجلس، وأيده في كلّ مقام ومقال، ووسع له كل مجال ومنال، وأنفذ له كل رسم ومثال، وحرس عهود سعوده من الانتقال والملال، ولا زال مفيد الفوائد، معروف العوارف، منصور الأنصار، ظليل الظّلال، ورفع علمه، وثبت قدمه، ونصر سيفه وقلمه، وكرم شيمه وهممه، وعزز موارد جوده وديمه، وأعدى بها كلّ وليّ على الدّهر إذا ظلمه.
ورد كتاب مولانا الذي هو مولى الكتب وسيدّها وأوحدها، ومورده على القلوب منهلها العذب وموردها، وفيه من الإنعام مالا سبيل إلى شكره، بل إلى شكره، بلسان ذكره، وما لا يقوم الخادم بواجب حقّ بشره إلى يوم نشره؛ وكان وصول الكتاب الكريم، والخادم على قلق لتأخّر الكتب وإبطائها، وشذوذ التّرسّل وتواني خواطر استدعائها، وقد قابل تأخّر الكتب المظفرية تأخّر الكتب الناصرية، وتعاونت الشّواغل على الخواطر، وتواحى طيف خيال السّكون من جانبيهما لجفوة ناظر المشفق الساهر، ولا جرم أن وصولهما صبّحت به بكرة يوم لا يومين، فكأنما كانا على ميعاد، وطرقت الليلة بتوأمين بكتابيهما، فسقيا لليلة هذا الميلاد.
ووقف المملوك على ما في الكتاب المظفريّ، ولائح الأمر أنّ المولى قد قلا مصر وجفاها، وأنه خلّى الدّيار تستوحش ممن بناها:[الوافر]
فإن ترك العراق وساكنيه
…
فقد تمنى المليحة بالطّلاق
والمولى إذا حلّ في مكان، نهضت عواثر جدوده، وطلعت طوالع سعوده، وكان بنفسه عسكرا، وبذكره عديدا مستكثرا، وجدّد من عزمه حديثا مذكّرا، ولم يحتج معه إلى جيوش في ديوان، ولا إلى سيوف في أجفان، وقام بنفسه النّفيسة مقام الفئة، وأقلق العدوّ في موطنه وحرّم عليه موطئه، والخادم خادم أغراض الخلق في هذه الدّلالة، ولسانه نائب ألسنتهم في هذه المقالة «1» :[الطويل]
[فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله]
…
ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب
ومنه قوله رحمه الله: ورد على المملوك- أدام الله ورد السّعود على الجناب الملكيّ المظفريّ، ولا زالت السّعود تصحبه، والنّوب تخدمه، والشّفاه تلثم ترابه، والسعادة تستمطر سحابه، والوفود تلتزم أبوابه، والأيام تتهيب حجابه، وتيجان الملوك تحفّ ركابه، والأقدار تقرب آرابه، والنّصر يغلب أحزابه- مواهب مولانا المسماة كتبا، وآثار سحبه التي أنبتت من الأسطر عشبا، ولحظت حظّه الحجريّ فأعجب وأعشب، وإن السعادة لتلحظ الحجر فيدعى ربّا؛ لا برحت نعمة مولانا فوق شكر الشاكرين، وكتبه راحة قلوب المنتظرين، وعقلة عيون النّاظرين، ووصل ما سيّر من الحمل إلى الخزانة على يد جامع ورفقته، في وقت الحاجة الدّاعية، والخلّة البادية، والضّرورة المتمادية، وأنفق في الحاشية والتّعدية، وفرّق في أرباب المطالب والمطامع القريبة والمتعدية، وتضاعف الشّكر لمن جمع هذا المال ووفّره، ويسّره
وسيّره، واستخدم فيه ناظره ونظره؛ وما يعدّ المملوك ما وصل إلّا موهبة صرفها إليه، ونعمة أسبغها عليه، ومنّة تقلّدها وقلد بها المنن، وصنيعة استرقّته وإن كان قد سلف استرقاقه بأوّل ثمن، فإنّه وفي بذقّة، لسانه، وبيّض وجه ضمانه، وكلّ من وصل إليه شيء من هذا البرّ شكر المولى فأكثر، وفرح بأنّ غرس الرّجاء قد أثمر، ورأى من وجوه رسله أهلة، وظنّ الإحسان عيد صيام الانتظار، فقال: الله أكبر، وتشيع سيبهم عند فيض سنيّ عطائه فتوالى فغفر؛ وبالمعروف، فلولاه لكان قد درست أعلامه، بل لولاه [لم] يعرفه، [و] لكان قد سلبت ألفه ولامه؛ وإنّ غيثا يصبح من مصر بحمص لقد أبعد مرماه، وكرم منتماه، وسما مسمّاه، وسرى طيف الخيال، ولكن إلى من لم ينم، وجرى مجرى النسيم إلا أنه ينفخ الأرواح في النسم؛ وللمملوك سبح طويل في الحمد، ولا بد أن يدخر منه ما يستأنفه عند تكملة الإنعام، على أن يشرع في الشكر عند كل مسألة، ثقة بما وراءه من الاهتمام؛ فأما العافية الشاملة لأهل الإقليم، فكيف لا تشملهم وسيف المولى الطبيب، ومهابته دون محبوب الأعداء منهم والرقيب؟
وكيف لا يأمن الغاب وهو مسبع؟ وكيف لا يتوقّى وهو مشرع؟ لا عدموا هذا الظل فإنه كثيف، وهذا الطبع فإنه شريف، وتلك الحماية فإنها الأمان، وتلك الولاية فإنها زمان لا يرجى مثله من الزمان.
ومنه قوله من كتاب إلى الملك المظفّر تقيّ الدّين «1» : أصدر المملوك هذا الخدمة من ظاهر حماة، وهو ينظر إليها نظر المحبّ إلى الحبيب، ويتذكر منها أيام الخدمة التي هي وطنه، ولو نأى عنها- وهي في
فطنه- لكان كالغريب، ولولا حياء المملوك من مصر لكان بشّرها وأهلها من قربه منهما بفرجهما القريب، ولكن لا بد من عصبية لمصر، فلا نفجؤها بمشيئة الله من ذكر يوم فراقه باليوم العصيب، وآثار المولى على قلعة بلدها بمكان التيجان من الرّءوس، وذكره بين أهلها من ناسك وخليع، يفتح المصاحف ويدير الكؤوس.
وكان ورود الركاب العالي الناصري نصره الله إليها في يوم كذا، أحسن الله تقضيه، والمرض قد أحسن الله في تقصيه، والشفاء قد أنعم الله به على سلطاننا وعلى من يليه، فيالها من نعمة لا عذر فيها للشكر إذا اعتذر، ويا لها موهبة منّة منّ الله بها، آمن الذي أمن بها وبهت الذي كفر، وياله صفو لا كدر فيه، وكلّ صافية لم تخل من كدر.
ومنه قوله: لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ
«1» فسبحانه جلّت قدرته جلّاها، وقد بلغت القلوب الحناجر، وفرّجها وقد بلغت الدّموع المحاجر، ومنّ بالسلطان على الخلق، وأقامه ليعتمّ به إن شاء الله دين الحقّ، فالمملوك يبشر مولانا- أدام الله له البشرى- بالعافية النّاصرية، وقد سار المبشّر عنّي بكتبه كما يقول المقلّل والمكثر، وقد سيّر المملوك كتابه الكريم لما فيه من زيادات، ولما تضمنه من متجددات، وعند مولانا له كتب كثيرة قد قضى منها الوطر، وقد نزه فيها النّظر، وقد وجب أن يردّ طيرها إلى وكرها، وعرائسها إلى خدرها؛ وأصدر المملوك هذه الخدمة ساعة سير السائر، كما أن المكاتبة بما قبلها قد كانت أم الكبائر؛ وغير ذلك فهو ينهي وصول كتاب مولانا، ومطالعة مولانا النّاصرية بخطّه، التي أنعم بتسييرها مفتوحة، وأفاد المملوك كلّ فائدة، بالوقوف عليها، وقد سيرّها فكان وصولها من حسن الاتّفاق، وكتابتها من سعادة
كاتبها تأتي عند العشيّ بالإشراق، لأنّ مولانا هنّأ بها عن العافية الأولى المكتوب بها، لينقطع الإرجاف، فصارت الآن هناء بعافية لا خلاف في أنها ما فيها خلاف.
ومنه قوله: أدام الله سلطان الديوان العزيز، ولا زالت كتائب أعلامه تكتب أقلامه مرفهة، وأحلام وفاقه مرشدة، وأحلام أهل خلافه مسفّهة، وسيوف عزائمه تستوعب كلّ حديث حسن، فلا تبقي إلّا أحاديث عن السّيوف مموهة، والقول بتوحيد فضل خلافته لازما، فلا يقبل شبه المعطّلة ولا تعطيل المشبهة؛ وأفعالها التي يبتغى بها وجه الله باسمه الشّريف في الملكوت الأعلى منوهة، ولا زال قوله بلغا، وأمره بالغا، وفضله سائغا، وفضل الله به سابغا، والحالي بعده للعاطل فاضحا، والحقّ للباطل دامغا، وإخلاص فطرة لا يدع للكفر شيئا غابطا، ولا للنّفاق شأنا نابغا.
الخادم يذكر أنه ورده، بل أورده من سدى الديوان، بل من أفق الإحسان، كتاب مرقوم، بل سحاب مركوم، أثبت في الأسماع، بل أنبت في الطباع، العقد النّقيّ، وأهدى إلى البصائر الصّادقة، بل أبدى للأبصار الرامقة، أي سابقة أنس، بل أي شارقة شمس، فأضاء الفضاء بنوره، وضرب بينه وبين الظلماء بسوره، فاستقلّت ملوك المعاني على سريره، ودخل الفهم حينه، ورفلت اللّيالي في حريره، ونقلته عينه في الحال إلى ضميره، فأنست معانيه بما هناك من عقائد اختصاص، وموارد إخلاص، مستقرّة في حيث لا تجري كلّ الأسرار، ولا تسري كلّ الأنوار، ولا تستودع إلا عقود التكليف، وخواطر التعريف، فألقت عصاها، ولقيت من أطاعها وما عصاها، وحلّت حيث حلّت، وجلّيت حيث جلّت، وانتدبت العزمات بمراجعتها، فهي المرآة إلّا أنّ الصّدأ مصدود على صفحتها،
وهي العينان، إلّا أن الليل والنهار سواء في وصف صحتها، وهي القلق، إلّا أنّ العيون دائمة الاستمتاع بلمحتها، وهي الرّوض، إلا أن أنفاس النسيم منافسة في العبارة عن غير نفحتها، وهي المذكرات الأنفس بالله، إلا أن أسطرها سلوكها، وحروفها درر صفحتها «1» ؛ ولا زال الخادم إلى مثل هذه الفقر فقيرا، وبها على نفسه بصيرا، وإذا أنعم بتسييرها إليه عدّها نعيما مقيما، وإذا ملكها رآها ملكا كبيرا، وما تردّ واردة من الدار العزيزة، وذلك أنّ المواصلة ما فرغوا إلى دار الخلافة إلى أن فرغوا، وإلا فطالما طمع أولهم كما طمعوا، وقديما دعوا إلى طاعتها فما سمعوا، وسمعوا فما انتجعوا؛ ولا يربّى الصغير إلا بما ربّي «2» عليه الكبير، ولا سبّ على جناية الأول إلا بما جناه الأخير، وقد كانت دولة العجم بالعراق استعلت ثم استفلت، وهبّت ثم وهنت، فتعبت رجال الليالي والأيام، وأولو تدبيرات السّيوف والأقلام بدار الخلافة، إلى أن صرفوا العدى عن موردها، وأبعدوا الأذى عن معهدها، واستقلّت الخلافة وحدها، ولزمت الأمور حدها؛ وإذا كانت المواصلة قد تقطعت بهم الأسباب، وأوصلهم حساب الحرب إلى العقاب، وتبرّأ الذين اتّبعوا من الذين اتّبعوا، وتفرّق الذين اجتمعوا بعد ما جمعوا، ففريق فرّ نازحا، وفريق قرّ مصالحا، وفريق على البعد راسل مستصلحا ومتطارحا، وفريق فتح بلده الذي كان التقليد له فاتحا، فلم يبق للمواصلة إلا أن يأووا إلى جبل يعصم من الماء، ويتعللوا بسراب بقيعة لا متعلل فيه للظمأ، ومعلوم أنهم إذا اختلبوا تلك الجهة، عادوا عود طائر نقّاق إلى عشه، واسترجعوا خاتم ملك، فربما رجع الأمر جاريا على نفسه، وما أولى ولاة المناصب، وكفاة المراتب وحملة الأمانات، وخدم سدّة السادات، إلى أن يفيقوا لهذه العمرة حق
الإفاقة، ويلحظوا طليعة هذه العواقب، ولا يهملوها إلى أن تجيء في السّاقة، فهذا في مصالح الدولة الجزئية.
فأما المصالح الكلية؛ فإن عواقبها منهم عظيمة، وبوائقها بأيديهم وأيدي قديمهم قديمة، فشدّ ما أخذوه بالأمس برا بلئيم وبرءا بسقيم، وهرب من لا حيلة فيه، فاستبيحت منه حرمة وحريم، فكم عين أزعجوا عنها إنسانها، وكم يد بانوا منها بنانها، ومنهم أولاد ابن زين الدين علي كوجك «1» ، التابع للخادم الآن، فإنّهم كشفوا منهم وجوها مصونة، وهتكوا منهم عورات أمينة، وحكّموا فيهم نظرات ظنينة، وطافوا بهم البلاد نهارا، ولم يخافوا لله غضبا، ولم يرجوا له وقارا، كذلك وجدوا آباءهم على أمة فاقتدوا بآثارهم، وعلى إيقاد نار حقد يستجمعون بهم في نارهم.
فأما الجبايات التي يأخذونها من الرعايا ظلما، وتضمين الشريعة لمن لا يمضي الله له على لسانه ولا يده حكما، واستباحة ملك الأوقاف والأيتام، والتفرقة في الحكم بين الخاص والعام، فكلّ ذلك ممام لا يسع خليفة الله إقرارهم على حيفه، ولا يعذره الله سبحانه في ترك مجاهدتهم بكتابه إلى عبده الذي جاهدهم بسيفه، ولا خفاء أنهم غابوا عن الجهاد للكفار، وحالوا بين الفرض وبين أولي القوة عليه والاقتدار، فلا يقنعون بأنهم لا يجاهدون إلى أن يمنعوا من يجاهد عنهم، وبأنهم لا يساعدون المسلمين إلى أن يساعدوا عليهم عدوّهم الكافر، فقد تولّوا الشيطان تليدا وطريفا، ووطئوا الإسلام وأهله وطئا عنيفا، فإذا جاء وعد الآخرة جاء الله بهم في زمرة الشياطين لفيفا، فإن لم يرجع إلى الخادم
فليرجع إلى قول الله تعالى: فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً
«1» .
والقوم فما أبقوا للصّلح موضعا، ولا تركوا في رجعة مطمعا، ولا تخلّفوا عن سوء بلغوه ناظرا ومسمعا؛ فالمسلم القريب استزلّوا يمينه، والمسلم البعيد استخفّوا سكينه، والكافر استنصروا سيفه، والحشيشيّ «2» استصرخوا سكّينه، والأموال التي في بلاد تقليده أكلوها وأضاعوها، وأمانات الله ابتغوا بها ثمنا قليلا فباعوها، والذّخيرة التي كانت بقلعة حلب لو أنّ لها لسانا يتكلم تظلّم، ولو أن لذهبها الذي تصرم فؤاد تضرّم، وحملت إلى الكفار فضربت بها أسنّة يطاعن بها صدور المسلمين، أو بقيت في أيديهم فضيّعت لتنتهك بما فيها حرمة الدين، ومتى استشفّ النّظر العالي حال الخادم معهم لمح أنه من مبدأ وصوله إلى الشام الذي نوى به في الكفار إقامة الجهاد، وفي الإسماعيلية إماتة الإلحاد، وفي المسلمين إزالة الفساد، شغلوه ثلاث سنين عن هذه الفرائض، وجاءته قوارص لا تحتقر وقوارض، وقد استولوا على حلب بلا حجة، وأخذوا ما فيها من الأموال بلا شبهة، وخرجوا عن اليمن المعقودة بلا معذرة، واستفزّوا من وافقهم من أمراء المسلمين بلا جريمة؛ والخادم على أن أجاب رسلهم بأنّي قد رضيت الدّيوان العزيز حكما، واخترت من اختاره الله للمسلمين قيّما، فكان هذا الجواب [سببا] أن يفرّوا إلى الفرنج، فحالفوا كفرتهم عليه، وإلى الإسماعيلية فأنهضوا مجرمهم إليه، ونازلوا طرف بلاده، وهو متوسط بلاد الكفار، فهدموا قلعة من قلاعها كانت زينة سلم ومفزع حذار، وراسلهم واستنزلهم، وقال لهم قولا لينا، أنه
يحملهم به عنه، فحملهم، ثم ما برح كلما طوى بلادهم، وجاز مدنهم، يمحضهم المناصحة، ويدعوهم إلى المصالحة؛ وممن عرضها عليهم على يده فامتنعوا، وشافههم على لسانه فما سمعوا، شيخ الشّيوخ، وإن سئل عن الشّهادة أداها، وإلى مسطوره في الدّيوان أبداها، وبعد مصدر فلان عنه حشد عليه ملوك الأقطار، وخرجوا من دمنة القرية المحصّنة والجدار، وتحرّك إليهم فتحركوا لكن قدامه لا إليه، وراح إليهم فراحوا عنه، وكان ينتظر رواحهم عليه، وقتلهم السّيف وهو في غمده، وكفى ما كان متوقعا من قبل جدّهم وقبل جدّه، وقد أخرجوه إلى أن أقطع البلاد الحلبية والجزيرية والموصلية لمن يخدم عليها، وسبقوه بين يديه إليها؛ والله سبحانه فقد أخذهم بما علم وعلموا، وتمكن منهم بما ظلموا، وما استبقاهم إلا ليكرر عليهم الرقّة، فقد رقّت لتقتل الشفار، ولا لألين القول فقد سمّى ليذبح الجزّار؛ فإن كان التعلّق بالدار العزيزة وهم يحاصرون دار السلام بأحزابهم، ويرامون التّاج الشريف بنشابهم، ويصافّون الخلفاء مصافّة المواقف، ويكاشفونهم مكاشفة المخالف، ولو تحرك اليوم متحرك كانوا له كنانة، ولكانت دارهم له خزانة، ويعلم أن الخادم ما ذهبت عنه؛ ويرجو الخادم بالموصل أن يكون الموصل إلى القدس وسواحله، ومستقرّ الكفر من القسطنطينية على بعد مراحله، وبلاد الكرج؛ فلو أن لهم من الإسلام جار لاستباح الدار، وبلاد أولاد عبد المؤمن؛ فلو أن لها ماء سيف لأطفأ ما فيها من النّار، إلى أن تعلوا كلمة الله العباسية الدّنيا، وتعود الكنائس مساجد، والمذابح المستعبدة معابد، والصّليب المرفوع حطبا طريحا في المواقد، والنّاقوس الصّهل أخرس اللهجة في المشاهد، هذا كله يجري بمشيئة الله في السيرة الناصرية، فتحلّى بها السير، ويجلّى بها الغير، ولا يكلّف الخادم مالا ولا مددا، ولا يتخلّف عن نصرة ولي الله إذ كاد أعداء الله يكونون عليه لبدا، ولا يقول أنه ينقص ما في الديوان بل يزيده، ولا يستفيده بل
يفيده، وإن استعظم هذا المأمول، واستقصر دون هذا المبذول، فالذي وقع أعظم من الذي يتوقع، والذي طلع أكثر من الذي يتطلع، والذي رأى أمس أكثر من الذي يسمع، وقد علم الله سبحانه أنه لا يريد دنيا يريدها لدنيا يتزيدها، ولكن ليقوى بها على تقوى يتزودها، فإن أعين على النّية، وإلا فقد حصل أجرها، وإن نجح جهد الإرادة في الدّنيا، وإلا فقد سرّ في الآخرة سرّها.
ومنه قوله: كلّ ما يرد على عبد المجلس- لا زلت المسارّ على جانبه واردة، والأيام بامتداد عمره واعدة- من أنفاسه العطرة، وكتبه البهجة النّضرة، ولاء رأيه التي تمطر من صدرت إليه صوب الصّواب، وتجعل لمن صدرت عنه ثوب الثواب، وتشهد له بالفضل الذي ليس له جاحد، وتذكرت بيت أبي عبادة «1» :[الطويل]
ولم أر أمثال الرّجال تفاوتوا
…
إلى الفضل حتّى عدّ ألف بواحد
ثم سلك عبده غير هذا الجدد، ولا يقف عند هذا العدد، وينشد قول الآخر:[الطويل]
وما النّاس إلا قدحة أنت زندها
…
وقطرة غيث أنت منشي سحابها
فلا عدمت دول الإسلام، وصدور الأيام، منه البقية الصالحة، والحسنة الراجحة، والسيف الذي يبلي الأيام فهي غمده، وينظم الساعات محاسن فهي عقده، وإن تأخرت خدم عبده عن مجلسه، وأمسك عن أن يقابل بدجاه نور قبسه، فقد علم أدام الله نعمته أن الطريق ليس بقاصد، والعدو ليس بواحد، وأن
الكتب لها أقوام سوء في الطرقات، يقصدونها ويرصدونها، وأن فلجات الشام قد حال دونها؛ إلّا أن الأمور بمشيئة الله، قد سفر وجه صلاحها، والليلة قد دنت من صباحها؛ والله تعالى يتم ما تعد به المخايل المتوسمة، ويحمد الإسلام وأهله عواقب هذه المخايل المتنجمة.
ومنها: وقضايا كلها توجب أن ينعكف المجلس على فرض يؤديه، ونصح يهديه ودعاء لمولى النعمة يحفيه، والله مظهر أثره ومخفيه، مع أنه لا يدفع عن منزلته العليا ودرجته الكبرى من القلب الأصمع، والروع الأروع، والعزمات التي هي كألطاف الله التي منها الواقع ومنها المتوقع، فما حصر قط في مأزق إلا سفر عن نصر تبين فيه الأرواح من ثيابها، أو عن سلم يأتي فيها البيوت من أبوابها؛ وأما القرية المسؤولة فهي من البغاث الذي لا يصيده ذلك الجارح، وإن هذا ميدان يضيق عن شأو ذلك القارح.
ومنه قوله: وصل- وصل الله المجلس السامي بأفضل وصائل نعمه، ولا أخلى الدّين من الفخر بأمس سيفه ويوم قلمه، وحمل مواقف الجهاد بثبوت قدمه وخفوق علمه، وأدام تذكار خواطر الإسلام لأيام ذي سلمه، وأمتع المجد بأيام حياته التي هي تواريخ فخره وأيام حكمه- كتاب منه كريم، وكلّ ما يصل منه ما يعدّ إلا كريما، وكلام شريف شفّ يدا كلميّة وشفى فؤادا كليما، وخطاب عذب فاض على الأعين روضا، وجرى على الأكباد نسيما، وأبان منه على الحفاظ المحفوظ في شيمته، ولا نحسبها ينساه يوم لا يسأل حميم حميما؛ أكرم كتابا نقع الغلّة فطرأ وطرا، وفرج العلة فجرى مخرا، وأوضح محجة النّور لسالكها فبدا بدرا،
وسقى ماء الفضل فزها زهرا، وسبح الله قارئه وأجرى أجرا، ومن الناس بسخط يكون للدّنيا زينا وللآخرة ذخرا؛ وقد علم الله أن العبد ليمتاح من بحرها، ويرتاح إلى ذكرها، ويستقصر سعيه، وإن كان يستوعب الأشواط ولا يرى علمه كفء نيته في الخدمة، وإن كان مستوفي الأشراط فإنه حسنة في الدهر، بالإضافة إلى أهل بيته وكلهم حسنات، وغرسة في الدهر كأنما كان آباؤهم رحمة الله عليهم من جناة الجنّات، ولقد أعجبوا وأنجبوا، فهم المعنيّون بقوله: ألكم البنون ولهم البنات «1» .
ومنه قوله: وصل- أدام الله أيام المجلس، ولا زال سيبه مسئولا، وسيفه في الحقّ مسلولا، وأمره مقتبلا ومقبولا، وعدوّه بالإحسان- أو بإساءته إلى نفسه- مقتولا، ووليّه على النّجاة في الدارين مدلولا، وبشر وجهه بجود يده رسولا، والغمام لا يطمع بأن يكون لتلك اليد في مضمار الكرم رسيلا- كتاب كريم يحمل على يد فلان، وثان «2» على يد القاضي الواصل إلى مصر، ولم تزل أيادي المجلس تتصل إلى أوليائه قربوا أو بعدوا، وقصروا في الخدمة أو اجتهدوا؛ ووقف على الكتابين الكريمين اللّذين قبلهما على أنهما يدان، واهتدى بهما على أنهما فرقدان، وإن لم يكونا يدين يقبّل ظهرهما، فإنّهما يدا نعم يجب شكرهما، وإن لم يكونا فرقدا ليل أنارا في سواد، فإنّهما فرقدا نهار أنارا في مداد؛ وما يخرج عن تلك اليد، ولا يصدر عن ذلك الصدر إلّا كلّ ما تكشف به الأنوار، وتروّح به الأسرار، ويجلب به المسار، وتجدد به المبارّ، ويبقى به شرف لا يخلق جديده جديد اللّيل والنّهار.
وأورد نجم الدين من الأحوال هناك، والضّرورات إلى الكثير والقليل، وحسن السيرة المشتملة على الجميل، وأنه بمصر أدام الله ظلّه على مشقات العفاف، ويسلك لنفسه القصد ويعطي منها الأشراف، وأن كرمه لا مادّة له ولا حاصل، ورواتب نفقاته لا أصل لها ولا واصل، وكلف خرجه لا محمول لها ولا حامل، وذكر ذلك في كلّ مشهد حضره، وفي كلّ موقف وقفه، وبين يدي كلّ كبير عرفه، ورقاه إلى العلم النّاصري فأثبته فيه ومكّنه وكشفه، وتبع هذا الفقيه نجم الدين رأي أبيه رحمه الله في خدمة هذا البيت الذي كان يتعبّد به، ولولا الغلوّ لقلت: وكان يعبده، ومضى شهيدا في جنة رحمته مستشهده، ووجب أن يلحظه المجلس بعين صاحب سابق، ومحب صادق، وذوي سريرة لا يخجل بها الواثق، وذي كفاية ينفذ في الأمور نفاذ السهم المارق؛ فما كلّ صاحب له وجاهة في كل مكان، وإن كانت له وجاهة فقد لا يكون له جنان، وإن كان له جنان فقد لا يكون له لسان، وإن كان له لسان فقد لا يكون له بيان؛ وهذا يجمع هذه الشرائط، ويحضر في عقود المجالس فيكون فيها مكان الوسائط، ويفي لسانه وقلبه بإدراك الفوائد واستدراك الفوارط؛ فهو أحقّ عبد تضمّ اليد على رقّه، وأولى وليّ يجازى بتصديقه وسبقه، على أن الآمال العظيمة، والمطالبة الكريمة تبلغ به الهمّة الفخرية بأيسر العزمات وأدنى الحرمات؛ ولم يذكر في هذه الإجابة ما ذكر من أمره، إلّا أن كثيرا من الرسل الواردين والأصحاب الوافدين، يسعى في قصد مرسله ومقصده، وهذا سعى لمرسله بمفرده، وما جعل حظّ نفسه وغاية قصده إلّا الخدمة وبلوغ غرضها، وشكر النّعمة والقيام بمفترضها؛ وإذا وردت الكتب الفخرية جددت بورودها فخرا، وفرضت على لساني مع شكره الذاتي شكرا، وعلى القلب مولاة إلى مولاة أخرى «1» ؛ وردت على المملوك مكاتبة كريمة،
رفعها حيث ترفع العمائم، ومدّ إليها كما يمدّ إلى الغمائم، وفضها بعد أن قضى باللّثم فرضها، واستمطرت نفسه سماءها فأرضت أرضها، وكاد المملوك يتأملها، لولا أن دمع الناظر إلى العين سبقه، على أنه دمع قد تكون بتلوّن الأيام في فراقه، فلو فاض لعصفر الكتاب وخلّقه، فلا أعدمه الله المولى حاضر وغائبا، ومشافها ومكاتبا، وأحله في جانب السعادة، ويعزّ على المملوك أن يحلّ من مولانا جانبا.
ومنه قوله «1» : ودر كتابه، ووقفت على ما أودعه من فضل خط وفصل خطاب، وعقائل عقول ما كنّا لها من الأكفاء، وإن كانت من الخطّاب، وآثار أقلام تناضل عن الملة نضال النّصال، وكأنها فضل سبق لما يحوزه له من حق السبق وخصل الخصال، فأعيذ الإسلام من عدمه، ولا عدم بسط قلمه وثبوت قدمه، فإنه الآن عين الآثار وأثر الأعيان، وخاطر الحفظ إلا أن الخطوب تصحب فيه خواطر النسيان، ولئن انتصر الدهر سطوا، واختصر خطوا، فإنه سيف يمان، إن قدم عهدا فقد حسن فرندا وخشن حدّا، وأجرى نهرا وأورى شررا، واخضر خميلة، وقطع للأيام جميلة، وضارب [الأيام فأجفلت عن مضاربه ضرائبها، وشردت عن عزمه غرائبها،] ، ولبسها حتى انهجت بوالي، ثم اختار منها أياما وأبى أن يلبسها ليالي.
ومنه قوله «2» : وصل كتاب الحضرة، فجعل مستقره مستقر النعمة في الصّدور، وأخرجتني ظلمات خطه إلى نور السرور، ووقفت وكأني واقف على طلل من الأحبة قد بكى عليه السحاب بطله، وابتسم له الروض عن أخبار أهله، فلم أزل
أرشف مسك سطوره ولماها، وأنزه العين والقلب بين جنيها وجناها، وأطلق عنان شوق جعلت الأقلام له أنجما «1» ، وحسبت النّقس ليلا، والكتاب طيفا «1» ، والوقوف عليه حلما، إلى أن قضت النّفوس وطرا، وحملت الخواطر خطرا، وقرنته بما ظنه سحابا ما ظنه مطرا؛ هذا على أنه قريب العهد بيد النّعماء، فإن هرب فمن ماء إلى ماء.
ومنه قوله «2» : وقف على الكتاب [و] ، جدد العهد بلثمه، لما لم يصل إلى اليد التي بعثته، وشفى القلب بضمه، عوضا عن الجوانح التي نفثته «3» :[المتقارب]
وأين المطامع من وصله
…
ولكن أعلل قلبا عليلا
ومنه قوله رحمه الله «4» : وصل كتابه، فكان من لقائه طيفا، إلا [أنه] أنس بالضّحى، وأثار «5» حرب الشوق وكان قطب الرّحى «6» :[الطويل]
تخطّى إلى الهول والقفر دونه
…
وأخطاره لا أصغر الله ممشاه
ومنه قوله يصف بلاغة كتاب «7» : كتاب إلى نحري ضممته، وذكرت به الزمن الذي ما ذممته، وأكبرت قدره، فحين تسلمته استلمته، والتقطت زهره فحين لمحته استملحته، وامتزج بأجزاء
نفسي فحين لحظته حفظته، وجمعت بينه وبين مستقره من صدري، واستطلت به مع قصره على حادثة دهري، وجعلت سحره بين سحري ونحري، واستضأت به ورشفته فهو نهاري وهو نهري؛ فإن أردت العطر بلا أثر أمسكت مسكه بيدي، وإن أردت السّكر بلا لثم «1» أدرت كأسه في خلدي؛ فلله أنامل رقمته ما أشرف آثارها، وخواطر أملته ما أشرق أنوارها! ولم أزل متنقلا منه بين روضة فيها غدير، وليلة فيها سمير، وإمارة لها سرير، ومسرة أنا لها طليق أسير، ونعمة أنا لها عبد بل بها أمير، حتّى أدبرت عنّي جيوش الأسى مفلولة، وقصرت عني يد الهم مغلولة، وملئت مني مسامع المكارم حمدا، وخواطر الصنائع ودا، وحطّ الأمل بربعي رحله، وأنبت الربيع بفنائى بقله، ولبست من الإقبال أشرف خلعة، ووردت من القبول أغزر شرعة، وانتعجت من رياض الرجاء أرجى نجعة.
ومنه قوله «2» : هذا مع عفو الخاطر، فكيف إذا استدعى المجلس خطيّة خطه فجاءت تعسل، وحشد حشود بلاغته، فأتت من كلّ حدب تنسل.
ومنه قوله «3» : ورتع في رياض بلاغته التي لم يقتطفهنّ من قبله غارس ولا جان، واجتلى الحور المقصورات في الطّروس التي لم يطمثهنّ إنس قبله ولا جانّ، وغني بتلك المحاسن غنى خير من المال، واعتقد فيها كؤوسا إذا شاء أنفق منها الجمل، وإذا شاء أمسك منها الجمال.
ومنه قوله أيضا: كتاب اشتمل على بديع المعاني وباهرها، وزخرت بحار الفضل إلا أنني ما تعبت في استخراج جواهرها، بل سبحت حتى تناولتها، وجنحت إليّ فما حاولتها، واقتبست من محاسن أوصافه، وبدائع أصنافه، نكتا استقلت أجسامها بالأرواح، وزهت جيادها بما فيها من الغرر والأوضاح، فيالله من بدائع وروائع ولطائف وطرائف! فيها ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين، وما يقرّط الأسماع وتقرظ الألسن، كأنه طرف طرف صوبه مدرار، وعلم علم منصوب في رأسه نار؛ صحّح السحر وإن كان ظنا، وفضح الدّرّ وإن كان أبرع معنى وأسنى حسنا، وأدنى مجنى وأغنى مغنى، فما ضرّت أخير زمانه مع تقدم بيانه، ولا من سبقه في عصره مع أنه قد سبق في مصره.
ومنه قوله «1» : ولله هو من كتاب لما وقفت عليه الغلّة شفاها، وحدثها الودّ شفاها، ورأت وردها كل ماء غيره شفاها «2» ، ووطئ مضاجع أنسها بعد أن كان الشوق يقلب الجنوب على شفاها «3» ؛ فلا عدم ودها الذي به عن كل مودة سلوة، ولا برحت كفاية الله تحلّها في الذّرى وتعلي قدرها في الذّروة، ولا فقد مما ينعم به أي نعمة، وما ينشيه أيّ نشوة.
ومنه قوله: كتاب كريم تبسّم إليّ ضاحكا، وظن مداه أنه قد جلا سطره علي حالكا، فما
هو إلا سواد الحدقة منه انبعثت الأنوار، وما هو إلا سويداء ليلة الوصل اشتمل على دجى تحته نهار، فلله هو من كتاب استغفر الدهر ذنب المشيب بسواده، واستدرك الزمان غلطه بسداده.
ومنه قوله «1» : كتاب تقارعت الجوارح عليه فما كادت تتساهم، فقالت اليد: أنا أولى به؛ شددت على مولاه ومولاي عقد خنصري، ورفعت اسمه فوق منبري، وقبضت عليه قبضتي، وبسطت في بسط راحته وقت الدّعاء راحتي؛ وقالت العين: أنا أولى به؛ أنا وعاء شخصه، وإليّ يرجع القلب في تمثيله ونصّه، وأنا سهرت بعد رحيله وعندي وحشة، وأنا أذكر ذكر هجير القلب عليه رشة بعد رشّة؛ فقال القلب: طمعتما في حقّي لأني غائب، وهل أنت لي يا يد إلّا خادم؟ وهل أنت لي يا عين إلّا حاجب؟ أنا مستقرّه ومستودعه، ومرتعه ومشرعه، وأنا أذكّره وبه أذكركما، وأحضره وبخدمته أحضر كما؛ فاليد استخدمتها مرة في الكتاب إليه، ومرة في ملاحظة وجهه غائبا وفي توقّع لقائه آئبا، وفي السّهد شوقا إلى قربه، والمطالعة لما يخرج أمري بكتبه من كتبه؛ فهناك سلّمنا واستخرنا، واكتفينا واستأخرنا، وكدت أرشف نقسه إلى أن أنقله إلى سويداه، لولا أنّ سواد العين قال: أنا أحوج إلى الاستهداء بهداه.
ومنه قوله: ورد كتاباه الكريمان فسرّا وبرّا، وتصرّفا في القدر فنصبا، وفي الطّرف فرفعا، وفي الأنس فجرّا، وما وقف على صدر منهما إلا شهد القلب بأنه أولى الصّدور بأن يكون صدرا، ولا أهديا إليه يدا كبرى إلا أفضيا به إلى بحر، وما دار في
خلده أن البحر يكون كلّه درّا، وتحقق ما له منه من مناب يصرفه كلّما ناب، ويؤنسه في كلّ ما راب، ويلبيه إذا دعا، ويزيده بصيرة إذا أجاب، ويصله إذا غبّ «1» ، ويحضره إذا غاب، ويبعث عزمه إذا ألبّ «2» ، ويورد أمله إذا لاب «3» ، فعلى هذا المقدمات تنتج، ومتى عرضت عوارض من الشك تزدحم، سنحت سوانح من الثقة تفرج، وقد علم ما رامت عليه هذه الأحوال التي يظنّ أنها في أعقابها وهي في مباديها، وما أسفرت عنه هذه الليالي التي تحسب أنها في بلجة غررها وهي في دهمة دآديها، وليس للمعضل من الدّاء إلا كيّه، وليس للغازي إلا الشهاب الذي يدخر به استراقه ويحسم به غيّة؛ وقد طالع الدّيوان العزيز بما يرغب في الوقوف عليه، والمشورة بما وقعت الإشارة إليه، فلم يكلّف المجلس ذلك إلا لأنّ الملتمس من التقليد لصلاح الجملة وصلاح الدّولة باد قبله، ولمحل الخلافة شرفها الله رافع قبل أن يرفع محلّه، وما شام من ذلك أمرا يصعب مثله، ولا ذخرا يتعذر بذله، ولا جيشا يخلو فناء الخلافة بأن ينقص عنها جعله، ولا عزل وال يجلّ على الإسلام عزله، ولا تجريد سيف من يد الخلافة العالية يتوقى أن لا يمضي نصله، ولم يسم إلّا إلى ما أفاده إليه ولاؤه واعتقاده، ووفقه عبده نظره واعتقاده، من أن يكون نظره شرعيا، وتصرّفه بعين الخلافة مرعيّا، وتقلّده سنيّا، وجمعه إجماعيّا، فتكون الأمور أمرا واحدا، والمناهج المختلفة القصد نهجا قاصدا، والرّايات القاعدة عن الكفار راية مستقلة، يؤنسها الانفراد، وينهضها الجهاد، ويبيّض عواقبها السّواد، لا تختلف تحتها الآراء، ولا يتشتت عندها الأهواء، ولا يعوزها النّصر في الأرض إلّا أن ينزل من السماء، ولا يحوجها التأييد إلّا أن تصحر إلى الفضاء؛ هذا إلى ما ينضاف إلى يد الخلافة وكلمتها من
بلاد بها تخصّ، ومنابر ومنائر تعلو سماؤها عليها وتنصّ، فالسعادات سمحة إن تسمحوا، والدّنيا مستفتحة إن تستفتحوا، والممتنعات ما دونها حجاب، والدين لا يصلب دون فطرته صخر، ولا يبعد دون تناوله سحاب؛ والمجلس السامي يتأمل المراد بعين الولاء، والخادمة بعين المحبة، ويعلم أن مثل الحروف المثبتة في هذا التقليد كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ، فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ
«1» وما أحراه في ذلك بتحرّيه، وما أولاه في هذا المهمّ بما يوليه، فإنّه إذا أنجز ما وعد به حسن الظّنّ، وأهدى إليه وإلى الإسلام ما يكسبه القوّة، وإلى الأمة ما يحميها الوهن، فليذهب أدام الله نعمته من ذلك بواجده ما ذهب بمثلها من الدّنيا واجد، وليقرّر المجد بعظمته ما جدّ في مثلها ما جد، وليكن أدام الله دولته مع الحق فإن الذي يدعى إليه هو الحق، والرجل الذي يعرف ما بين الرجال من الفرق.
ومنه قوله: وما برح قلمه يقوم خطيبا في محافلها، ونائبا عن مناصلها، ومعظما لشعائرها بشعارها، ومعلنا لمآثرها بآثارها، ومناضلا لأعدائها بكل قطّاعة العرى، طلّاعة الذّرى، إلى غير ذلك من توشيحة مدارس التدريس، بالدّعاء. بخلود أيامها، ونفوذ أحكامها، والرواية عن سلف الأئمة الصالح من آباء أمير المؤمنين وأجداده، والتنبيه على مناقب الدولة التي تجدع بها أنوف أعدائه وأضداده، هذا إلى أنه ربّي في ظلال الدولة العزيزة الممدودة، وتصرف في خدمها المحمودة، وأدرك الصّدور من خدامها، وأدى أمانتي اللّسان واليد في استخدامها، وهذّبته تلك الآداب إلى أن أمن العثار، واعتد الخادم به من إنعام الدولة التي حصّلت له قبل الحاجة الأقدار، وقد أضاف إلى تلك الحقوق التالدة حقا طارفا، واستأنف
إلى تلك الأسباب القديمة سببا آنفا، وهو صحبة الخادم، وكتابه عن يده، وترجمته عن معتقده، وثقته بمغيبه ومشهده، ومجادلة أعداء الدولة بلسانه ويراعه، وإبهاته أبصار أوليائها بالقول المحكوم على كل ذي لب باتّباعه؛ وله مما أقناه الإنعام الشريف، ملك بواسط في شركة أقاربه، ما برحت العناية متوفرة بعقوده، حامية لحقوقه وحدوده، مثمرة لمستغله، مزجية لدخله، مانعة الأيدي من أن تتطرق إليه، أو تتسلط عليه، وقد تجدد الآن من مفظعي المجاورين لملكه دخول في الحدود، وخروج عن المعهود، ودعوى معوزة البراهين والشّهود، والمسؤول فيه خروج الأمر بما يزيل صادق الشكوى، ويبطل كاذب الدعوى، ويردّ الحقّ ويحمي الحدود، وبيده توقيعات إمامية أجرته على ما يلتمس الآن الإجراء عليه، ولو لم يكن هذا الحدّ بيده لما استكثر الإنعام أن يصفح له عنه، ويعاد إليه، فكيف والحجج الشرعية والتواقيع الإمامية مثبتة لحقه، شاهدة بقدم ملكه وسبقه؛ والمتوقع إجابة سؤاله فقد جرده، وإن تأخرت الإجابة بالإيجاب جدّده.
ومنه قوله: أسعد الله المجلس، ولا برحت الأيام شاكرة لأيامه، والصوارم معدودة من حساد أقلامه؛ الهمّة العالية مذخورة عند المهمّات، مستضاء بأنوارها في ليالي القصد المدلهمّات، والآراء المجدية مستمدة بحمد الله من المكرمات، تسلّ بها ولا سيما إلى أهلها، ويأتيها على علم إذا أتى على الناس من جهلها، ويبتكرها بخاطر خطار، ويبتدرها بضمير فضل لا يجارى في مضمار؛ وإذا عرضت اللّبانة أنزلت بكرمه الفسيح اللبان، وحدت ركابها إلى أفناء إحسانه الذي ينتهي إليه غاية سرى الركبان؛ وقد قصد هذه الخدمة على حال تفصيل فلان في ملك له بواسط، قد استولى عليه من حادده وجادّه من المقطعين، وأضرّ به من حاز عليه
من المجاورين، ومعه من التّوقيعات الإمامية ما يوضح الإشكال، ويرشد من الضّلال، ولو لم يكن الحدّ له مستحقا، والملك بيده مسترقا، لوسعه من الإنعام ما يسع من ليس له من الخدمة المرعية، والأذمة المرئية، كما لهذا المذكور، فله في ولاء الدولة الشريفة السبب الوثيق، والعرق العريق، والسابقة التي لا تمارى، واللاحقة التي لا تجارى، والنشأة في ظلال الدار العزيزة، والتربية في أكنافها الحريزة، واستمداد العلم من بحرها، واستمطار الأدب من قطرها، واستلماح الأنوار من فجرها، والتقلّب في آلائها، والثّبوت على ولائها، والمناضلة بلسانه وقلمه الذين يلحدون في أسمائها، إلى غير ذلك من المكاتبات التي تجاهد فيها عن الدولة الناصرية حق الجهاد، ويرهف بها الأولياء ويفلّ الأضداد، ويستعطف بها القلوب النافرة، ويجمع بها الأهواء المتنافرة، ويجادل فيها بالتي هي أحسن، وبالتي هي أخشن، ويوضح حقها بالتي تثبت من أخلص، وتستخلص من أدهن؛ والمجلس السّامي عارف بقديمه وحديثه، ومكتسبه وموروثه، معرفة توجب الذّمام، وتنجح المرام، وتدخر الأيام، وتتوقع ظهور ثمرتها في أوقات القدرة؛ لا عطّل المجلس من حليها، ولا خلا من اقتطاف ما حلا من جنيها، فإنه جانب من الدولة العالية، لا ينفصل عنها ولا يخرج منها، ولا يعدّ إلا من أقطارها، ولا ينتظم القائم به إلا في أنصارها؛ وقد شرع في الشّكر ثقة بالنجح، وألقيت عصا السرى علما أنها مسبوقة الحمل بطلوع الصّبح، وتركت محاربة خواطر الشك علما أن المطالب به مذعنة إلى الصلح؛ والمجلس السامي سريعة ورده، وفلك القصد والمهمة المجدية طليعة سعده؛ ومن ورد عنايته فقد استكره الموارد، ومن جعله قبلة القصد فقد استنجح المقاصد؛ والمتوقع وصول كتاب أخيه الشاكر لإنعامه، الداعي لأيامه، بأن هذا الحد قد رفعت عنه اليد، ولئن تكاثفت الأشغال عليها، وتزاحمت المهمات لديها، فما هي لخواطرها إلا بمثابة
الصقال للسّيوف المرهفة، ومرور النسيم بالرياض المفوفة؛ فالصقل للأولى يفيدها قطعا ولمعا، والنسيم للأخرى يفيدها نفحا ونفعا، ولا شبهة في أنها مدفوعة إلى بحر أشغال متدافع، ومقذوف بها في بحر هول يرجع عنه كلّ طمع متراجع، وهي بحمد الله سابقة، للطبع فاتقة؛ فالعقبة الكؤود لا تؤود، وعزمها فيما ترقّ له الصّخور لا يجوز؛ والله تعالى يحسن إليها كما أحسن بها، ويجعل لها راحة عنده في تعبها، وخواطر المحبين لخواطر الشّعراء في كل واد تهيم، وكلما أمّل القرب يوم مسفر قد دفعه الدهر بليل بهيم، وكتابها الكريم، فينعم بها مضمنا ما يسنح من خبرها، ويعزّ من وطرها؛ والله لا يعدمني خبرها إلا بوجهها، وكتابها إلا بنظرها.
ومنه قوله: ما أصدرت هذه الخدمة إلى مجلس الحضرة العالية، لا زالت الأيام خدّامها لخواطرها، والأسماع نطاقا لجواهرها، والطّروس ساحلا لزواجرها، والمسارّ سارية إلى سرائرها، والأيام قاضية بكلّ قاضية عليهم، تخفض من محلهم وترفع من محلّها، وتعقد لها عقدة عز تعجز أيديهم عن حلّها، من ثغر الإسكندرية حماه الله، عند الوصول إليه لخدمة الضريح المعظمي، الذي حل فيه ملك الكرماء، ولزيارة القبر الحافظي، الذي حلّ فيه ملك العلماء؛ والله تعالى يؤجر الكافة في الفجيعة بالعلم والكرم، على أن الحضرة العمادية أولى ألي الكرم، والعلم فلا تشتكي العدم، ولابد أن أخرج إلى مراد هذه الخدمة وثبا كخروج البحتري في مدائحه، وأن أهزّ عزمها لأمر مهم تثاب في تسبيب مناجحه، ولا أطيل بذكره فإنه في الخدمة الناصرية الصادرة عني في معنى الفقيه ابن سلامة، وهي تفعل ما يقوم الله عز وجل بأجره، وأقوم أنا بشكره، وما بعده مما يبيّض الصحيفة على أنها نظيفة، ومما يتوصل إلى المراد الجليل منه بفكرتها الدقيقة اللطيفة، وقد ضاق وقتي عن مكاتبة أعزيه بمقتضاها، فأسألها إن كان الرّكاب العزّيّ أدام الله أيامه،
ونصر أعلامه، بالعسكر المنصور، فتعرض عليه الفضل من المطالعة، ولا أقول:
ويهزّ عزمه، فإنه سيف قاطع لذّاته، يستحيل أن يرى إلّا قاطعا، ومولى يرى الثواب من لذاته، فلا يمكن أن يرى إلى داعيه إلّا مسارعا؛ ومن عوّل على خطابه في الأسفار التي تملأ الغرائر، ولا تستقلّ بها الأباعر، فإني أعوّل في خطابها على اللفظة المعرضة، ومن استدعيت عزائمه بالمماشاة والمصافحة؛ فإنني أستدعي عزمها باللحظة الممرضة، لا زالت مساعيها مقرونة بالمساعد، وهممها موفية لما كلفته عنها الظنون الحسنة المواعد
* ومن شعره قوله «1» : [الكامل]
إنّ البنان الخمس أكفاء معا
…
والحلي دون جميعها للخنصر
وإذا الفتى فقد الشّباب نشاله
…
حبّ البنين ولا كحبّ الأصغر
واخصص بوسم تحيّتي من لم أبح
…
لك باسمه ولعله لم يذكر
ممن أودّ لها الرّدى لا عن قلى
…
وتودّ لو أبقى بقاء الأدهر
ومنه قوله «2» : [الكامل]
ذكرت وجوهكم والبدر يسري
…
كلا البدرين مسكنه السحاب
سقاني الله قربك عن قريب
…
دعاء طال واختصر الخطاب
ومنه قوله «3» : [البسيط]
تفدي اللّيالي التي بالسّعد تسخطني
…
تلك اللّيالي التي بالقرب ترضيني
كانت بكم فرعاها الله تضحكني
…
فأصبحت لارعاها الله تبكيني
يا بعدها غاية للشوق غائلة
…
من غور مصر إلى علياء جيرون
أودعتم مسمعي مكنون درّكم
…
فهاكم درّ دمعي غير مكنون
ومنه قوله «1» : [البسيط]
من أين أنت ومن- يا ريح- أين أنا
…
الجدّ خلقي ومن أخلاقك العبث
ما جئت مبعوثة بل جئت باعثة
…
همّي ولا خاطر في الهمّ منبعث
لبثت في الحب عمرا لا أحصّله
…
كفتية الكهف لا يدرون ما لبثوا
كرّوا اللّواحظ بحثا عن محاسنه
…
وما دروا أنّهم عن حتفهم بحثوا
ومنه قوله «2» : [الكامل]
زار الصّباح فكيف حالك يا دجى
…
قم فاستدمّ بفرعه أو فالنّجا
رأت الغصون قوامه فتأوّدت
…
[و] الرّوض أنشر نشره فتأرّجا
يا زائري من بعد يأس ربما
…
تمنى المنى من بعد إرجاء الرّجا
أترى الهلال ركبت منه زورقا
…
أو لا فكيف قطعت بحرا من دجى
أم زرتني ومن النّجوم ركائب
…
فأرى ثرياها تريني هودجا
لعبت جفونك بالقلوب وحبّها
…
والخدّ ميدان وصدغك صولجا
منها:
لا أرتجي إلّا الكرامة وحدها
…
فالمال قد أعجلته أن يرتجى
تتلو اللّيالي سورة من فضلكم
…
فتقيمها شعراؤكم أنموذجا
منها:
ناران: نار قرى ونار وقائع
…
لله درّك مطفئا ومؤجّجا
باشرت بشرك لا بمنّة شافع
…
فغنيت يا شمس الضّحى أن أسرجا
ومنه قوله «1» : [البسيط]
قاتل بغير سلاح الهجر إن له
…
ضربا تسيل دموعي منه وهي دم
كتمت ما بي في وجهي دلائله
…
والهمّ نار فقل لي كيف ينكتم؟
وقوله «2» : [الوافر]
وميدن خدّه لخيول لثمي
…
وصولج صدغه والخال أكره
تلفت بشعره وسمعت غيري
…
يقول: سلمت من تلفي بشعره
بكيت عليك ملء العين حتّى
…
بقيت بأدمعي في الشّمس عصره
«3» وقوله «4» : [الرجز]
ممسحة نهارها
…
يجنّ ليل الظّلم
كأنّها مذ خلقت
…
منديل كمّ القلم
ومنه أخذ شافع «5» قوله «6» : [الوافر]
وممسحة تناهى الحسن فيها
…
فأضحت في الملاحة لا تبارى
ولا نكر على القلم الموافي
…
إذا في وصلها خلع العذارا
والأصل قول ذي الرّئاستين «1» : [المنسرح]
ممسحة تكتم الظّلام فما
…
تبديه إلا سوافر الظّلم
تؤدع فيها الأقلام فضلة ما
…
تنفقه في مصالح الأمم
عدنا إلى الفاضل:
ومنه قوله «2» : [الكامل]
منعت دموع العين من أطلالي
…
لأرى صنيع الدّهر بالأطلال
ومن المساءة ما يكون مسرّة
…
ما الدّمع إن حجب المكاره غال
ومنه قوله «3» : [البسيط]
أيا بدر قد أسهرت عيني فارقد
…
وشاهدت ما جاهدت يا نجم فاجهد
إذا لم تعاين في الصباح مسرّة
…
فلا تحسبنّ الليل ليس بسرمد
ويا عاذلي رفقا كفاني صدوده
…
فإن شئت فانقص من ملامك أوزد
تمازج في خديه ماء وجمرة
…
تمازج دمعي في الهوى وتوقّدي
وقوله «4» : [الطويل]
وفوا غير أنّ السّمهريّ وأنّه
…
يجار بأيديهم شكا للمهنّد
لهم في الوغى أغصان سمر كأنّما
…
تحفّ إذا أجروا الدّماء بمورد
وقوله منها «1» : [الطويل]
جمعت الذي فيهم وزدت عليهم
…
فأنت كمعنى ناظم متولد
وما فوق ما قد نلته من زيادة
…
بل الله أولى بالزّيادة فازدد
وقوله «2» : [الخفيف]
لاح وفي خدّيه ديباجة
…
طرّزها الشّعر بلبلاب
باب سلوّي دونه مغلق
…
وصدغه الزّرفين للباب
يا مانعي حتّى مواعيده
…
من لي بوعد منك كذّاب
وقوله من مرثيّة في أخيه «3» : [الطويل]
خليليّ قد أبصرت عيشي بعده
…
كأنّي قد أبصرت عيشي من بعدي
وقد كنت أشكو البعد والقرب يرتجى
…
فكيف أكون اليوم في اليأس والبعد
وكان أجلّ الخطب عندي صدّه
…
فمن لي وطوبى لو رجعت إلى الصّدّ
إذا ما فقدت الأنس ممّن تحبّه
…
فنفسك لا المحبوب أفجع بالفقد
وقوله منها:
فنيت أسى لمّا بقيت مكارما
…
فأصبحت في دار وأصبحت في لحد
ليهنك من بعد الرّدى باقي الثّنا
…
وإن كنت من تحت الثّرى بالي البرد
وقوله «4» : [البسيط]
أشكو إليك جفونا عينها أبدا
…
عين تترجم عن نيران أحشائي
كأنّ إنسانها وافى بمعجزة
…
فكان من أدمعي يمشي على الماء
وقوله من قصيدة «1» : [الكامل]
إنّ الشّجاعة وهي من أوصافه
…
غلبت عليه وهي من أسمائه
«2»
يقري الطّيور طعانه فضيوفه
…
تنتابه من أرضه وسمائه
وقوله من قصيدة «3» : [الخفيف]
لا تحدّث سواك نفس بفضل
…
ذاك رجع عن الأماني بعيد
وقوله منها:
وانجلت مصر إذ تجلّى عروسا
…
وكأن الأهرام فيها نهود
وقوله:
أنا من قائم الحسام نذير
…
فهو إن قام فالرّؤوس حصيد
هو كأس وسكرة الموت قالت:
…
ذلك منّي ما كنت منه تحيد
«4»
ومتى يلفظ العدوّ بقول
…
فعليه منه رقيب عتيد
«5» وقوله:
وإذا رشت بالأيادي جناحي
…
فمعاني العلاء ممّا أصيد
وقوله من أبيات «1» : [الطويل]
سأشكر عن شكري نداه لعلّه
…
يقوم لها ذنبي بأحسن عذره
إذا أنا بعد الجهد قصّرت شاكرا
…
فقد صار للتّقصير ذنبي كشكره
وقوله «2» : [الطويل]
إذا أنت أعطيت اللهى بذريعة
…
فلا تشكرن إلّا لتلك الذّرائع
وقوله من مرثية في أخيه «3» : [مجزوء الكامل]
أأخيّ هوّنت الحما
…
م فكان يضعف عنه عزمي
لم لا أهونه وقد
…
قدّمت روحي قبل جسمي
وقوله «4» : [من الكامل]
وإذا اجتليت عقود أسطره
…
ظفر الهوى بمراشف لعس
وقوله «5» : [البسيط]
ما حلّ هذا الهوى إلّا لأرتحلا
…
ولا سرى الدّمع إلا عن هوى نزلا
ولا بعثت خيول الدّمع خلفكم
…
إلّا لتلحق قلبا فيكم رحلا
يا ربع ما أنت إذ زمّت رحالهم
…
للبين أوّل صبّ ألبسوه بلى
لقد تمثّلت في ترك الجواب بهم
…
فما تجيب كما كانوا لمن سألا
وقفت فيه فقال النّاس من سقمي:
…
أما ترى طللا يستخبر الطّللا
وقوله «1» : [الكامل]
أسديّ أفكار إذا ليل الأسى
…
أرخى دجاه فرأيه السّرحان
هذا وكم لك في الوغى من عزمة
…
بكّرن من ثقة بها العقبان
تغدو خماصا [مثل] ما قد مثّلوا
…
في حربه وتروح وهي بطان
«2»
وعلمت أنّ حديث كسرى بعده
…
زور فلم يتشامخ الإيوان
لو عاش شاهنشاه أيقن أنّه
…
ملك الدّسوت وأنّه الفرزان
تلك التواقيع التي هي جنّة
…
أقلامه في دوحها أغصان
أمنصّل الرّمح الطّويل بكوكب
…
من ذا يطاعن والسّماك سنان
وقوله:
والشّمع فوق البحر تحسب أنّه
…
من لجه قد أطلع المرجان
والماء درع والشّموع أسنّة
…
ولها إذا خفق النّسيم طعان
وقوله:
يا مالكي أنبتّ ريشي بالندى
…
لكنّني ما قصدي الطّيران
وقوله:
ضاقت معاذرهم إلى ضيفانهم
…
لكن رحبن منازل وجفان
يغدون عندهم بأعلى أعين
…
ودّت تكون جفانها الأجفان
وقوله من أبيات «3» : [الطويل]
ركبنا رياحا من كرائم خيله
…
نؤمّ سحابا من سماء سماحه
فقل لليالي الخطب: طولي أو اقصري
…
فإنّا على وعد السّرى من صباحه
ولمّا نضا الأستار عن نور وجهه
…
تغطيت من دهري بظلّ جناحه
وقوله من قصيدة «1» : [البسيط]
أستودع الله في أظعانهم قمرا
…
إليه لو ضلّت الأقمار يحتكم
عندي سهاد وعند الهاجرين كرى
…
فالليل مشترك بيني وبينهم
وقوله منها يرثي بني رزّيك:
بأيّ وجه يراني النّاس بعدهم
…
حيّا ويا أسفا إن قلت بعدهم
أبكي الذي زال عند التّاج دولته
…
إذا بكى الناس من زلّت به القدم
أعزز عليّ بأن ظلّت ديارهم
…
تسدى الهموم بها أو تندب الهمم
وما لبست دموع العين عاطلة
…
إلّا وفيض دمي في ردنها علم
إن ينهدم بكم للدّهر بيت علا
…
فإنّ بيت رثائي ليس ينهدم
معنى من الكرم المهجور فزت به
…
وفي الرّثاء لمن لا يرتجى كرم
وكان حقكم لو كان لي قبل
…
أن ينصر السيف لا أن ينصر القلم
وقوله «2» : [الطويل]
نفينا سواد اللّيل عن دولة الهدى
…
فلا راية سودا ولا أمّة سودا
وبين مجازاة ضربنا وجزية
…
فمن طائع أدّى ومن خالع أودى
وقوله من قصيدة «3» : [الكامل]
تلك الرياض إذا تهجّر حادث
…
لم تلق إلّا ظلّها وجناها
لمع النّضار بها فقلنا: شمسها
…
وجرى اللّجين فخلته أمواها
وقوله منها:
نظروا الخيول فأثبتت نظراتهم
…
غررا عليها وقد وسمن جباها
ولربّ هاتفة دعتهم للوغى
…
جعلوا صليل المرهفات صداها
هي كالموارد في العيون وطالما
…
نقعوا بهامات الكماة صداها
هي في بحار يديه أمواج ترى
…
ونفوس من قتلته من غرقاها
لا بل زناد جهنّم في كفّه
…
منها فكلّ مكذّب يصلاها
لو أنّ أرضا مرة فدت السّما
…
كانت عداها في الخطوب فداها
ومن المحدث نفسه بلحاقها
…
فدع الحديث عن الذي ساواها
وقوله من أبيات «1» : [الطويل]
حمائم قد حثّت زجاجات أدمعي
…
فما خلت إلّا أنّهنّ حوائم
وما درج الكثبان مرّ نسيمها
…
بلى درج الكثبان ما أنا لاثم
ولمّا مررنا بالرّسوم تنفّذت
…
بها للهوى في العاشقين المراسم
بكينا فغطّى الدّمع أنوار أعين
…
ومن عجب أنّ الدّموع كواتم
وقوله من أبيات «2» : [من الكامل]
يا من إذا ما المال جاز بأرضه
…
يصفرّ خوف فراقه أن ينهبا
يلقى إليه فلا يليق بكفّه
…
فكأنّما يلقى عليه ليحسبا
وقوله «1» : [الطويل]
برأيكم أمسى الزّمان مدارا
…
وكان مخوفا قبلكم ومدارى
وربّ طليق قد أسرتم بكفّكم
…
كذا طلقاء المكرمات أسارى
وقوله منها:
سأنصف أصناف القوافي بمدحه
…
فإنّ القوافي في علاه غيارى
فإن أبصروا في الطرس أثر مداده
…
فذلك سبق قد أثار غبارا
يفيض لنا كفّا ولله مقلة
…
فتجتمع الأنواء منه غزارا
وتقدح نار الحرب من أزند الظّبا
…
فترسل من فيض الدّماء شرارا
وقوله من أبيات «2» : [البسيط]
ليهنئ الملك ما أظهرت من همم
…
للجدّ والجود من نار وجنّات
تحمي وتهمي بعين أو بجود يد
…
فالنّاس ما بين رعي أو مراعات
مواصل المجد لا ينفكّ من شغف
…
والوصل ينقص من بعض الصّبابات
هذي البدايات قد نلت السّماء [بها]
…
فما يظنّ العدى هذي النّهايات
عطاء من لا يظنّ الجود يفقره
…
وحرب من لا يظنّ الحرب تارات
الله جارك والآجال كاشرة
…
من القواضب في عصل الثّنيات
وقد تداعت بها الأبطال واعترفت
…
والطّعن بينهم مثل التّحيات
وقد تهادت سيوف الهند إذ خضبت
…
كالشّرب حين تهادى بالزّجاجات
فكم بردت بماء السّيف غلّتها
…
والسّيف ماء لنيران الحزازات
وقوله من أبيات «3» : [الطويل]
أمستصحبا قلبي وكان محلّه
…
وإن كان من جور الفراق محيلا
إذا ما جرى جفني دما بمدامعي
…
علمت بأنّ القلب راح قتيلا
وقوله «1» : [الطويل]
لئن نالت الأملاك ملكا بحظّها
…
فقد نلتم ما نلتم بمساع
وهذا عيان المجد فيكم فما الذي
…
يزيدكم مدّاحكم بسماع
دفعت الأذى عنّا ومتّعت بالمنى
…
وما كانت الدّنيا لنا بمتاع
وو الله ما كلّفت في المدح كلفة
…
وهل هو إلّا الصّدق وهو طباعي
وقوله من أبيات في الشّيب «2» : [الوافر]
أرى شيبي معاري فيه بعضي
…
لبعض إنّ ذاك لشرّ سرّ
فلا تنكر له تعبيس وجهي
…
فقد أعطى تبسّمه لشعري
وقوله من أبيات «3» : [مجزوء الكامل]
بالله يا قمر التّمام
…
أما لهجرك من محاق
أنسيت في نور الكما
…
ل وبتّ في نار احتراقي
وقوله من أبيات في ذكر الرّماح «4» : [الكامل]
تمشي بها سرجا ويومك مظلم
…
فترى الذّوابل نصّلت بذبال
مثل الصّلال تحوف نفث طعانها
…
يستلئم الغازي ثياب صلال
ويجرّها طورا ويصلى حرّها
…
فيكون محتطبا وطورا صال
وقوله من أبيات «1» : [الطويل]
فإن تكتسي يا دار ثوبا من الصّبا
…
فلا تلبسي من أدمعي غير معلم
من تكتم الأشواق ما بين نائم
…
نموم ودمع بالدّماء منمنم
وقوله من أبيات «2» : [الكامل]
وإذا أفاض الصّبّ صبّ دموعه
…
أغنى الدّيار عن الحيا المتهلّل
ما دام وجه ينجلي عن روضة
…
فعليّ عين تنجلي [عن] منهل
وقوله «3» : [الكامل]
من ثغره وحليّه ونسيمه
…
ما لا تقوم بكتمه الظّلماء
ومتى يفوز بما تمنّى عاشق
…
وجميع ما يهوى له أعداء
لك من نسيبي فيك روض يانع
…
تجري عليه من دموعي الماء
رتعت جفوني من سناك بجنّة
…
وتبوّأت منه بحيث تشاء
وقوله «4» : [الطويل]
بروحي من روحي إليه مسوقة
…
وقلبي من قلبي عليه مقطّع
وأهل الهوى في القلب عيني وعينه
…
وكلّ بلاء عنهما يتفرّع
وقوله في عمارة سور عكّا «5» : [السريع]
ميزان أعمالك لا شكّ في
…
رجحانه والحقّ لا يشتبه
بالحجر الأسود إذ صنته
…
والحجر الأبيض إذ صنت به
وقوله من قصيدة «1» : [البسيط]
أأنت في الأرض أم فوق السماء ففي
…
يمينك البحر أم في وجهك القمر
يقبّل البدر تربا أنت واطئه
…
فللتّراب عليه ذلك الأثر
نأى به الملك حتّى قيل: ذا ملك
…
دنا به الجود حتّى قيل: ذا بشر
في كلّ يوم لنا من مجده عجب
…
وكلّ ليل لنا من ذكره سمر
نظرت في نجمه فالسعد طالعه
…
لا ينقضي وعلى أمواله سفر
أبا الفوارس والآباء مشفقة
…
وهم بنوك وما تبقي ولا تذر
تلقى عروس المنايا وهي حاسرة
…
وخدّها فيه من فيض الدّما خفر
والضّرب بالبيض من آثاره عكن
…
والطعن بالسّمر من آثاره سرر
وربّ ليلة خطب قد سريت بها
…
وما سرى كوكب فيها ولا قمر
سمت العويص بعزم ماله ضجر
…
أو بالبعيد يباع ما به قصر
وأنت في جيش رأي لا غبار له
…
ترمي العداة بقوس ما لها وتر
هي الحروب التي لا السيف منثلم
…
فيها ولا الذّابل الخطّيّ منأطر
سرنا وسار شجاع وهو يقدمنا
…
وعزمنا آمر والدّهر مؤتمر
وكان زجر اسمه فيه الحياة لنا
…
والذّكر إنّ الشّجاع الحيّة الذّكر
كان الحسام يمانيّ الهوى معنا
…
فما أضرّ بنا إن أصفقت مضر
وبت والموت طيف قد ألمّ بنا
…
فما ثنى الطّيف إلّا ذلك السّهر
سقى بك الله دنيانا فأخصبها
…
والعدل يفعل ما لا يفعل المطر
لمّا استقلت ستور الملك لاح لنا
…
ملك به الجود عين والثّنا أثر
في كعبة للنّدى لو حلّها ملك
…
تهيب النّطق حتّى قيل: ذا حجر
وسائل لي ما العلياء؟ قلت له
…
في فعله الخير [أ] وفي قوله الخبر
ما أنصفت مجده نظّام سيرته
…
إنّ الذي ستروا فوق الذي سطروا
نال السّماء بأطراف القنا فبدت
…
من النّصول عليها أنجم زهر
لا يحدث النّصر في أعطافهم مرحا
…
حتّى كأنّهم بالنصر ما شعروا
أجروا دماء العدى بين الرّماح فما
…
يقال: عندهم ماء ولا شجر
ترى غرائب من أفعال مجدهم
…
يردّها الفكر لو لم يشهد النّظر
خلائق في السماوات العلى زهر
…
منها تنير وفي روض النّهى زهر
النّاس أضيافكم والأرض داركم
…
فهو المقام فلم قالوا: هو السّفر
ما أنصف الشّكر لولا أن يسامحنا
…
فأنت تطنب جودا وهو يختصر
وقوله من أبيات «1» : [الكامل]
سأل اللّوى وسؤاله تعليل
…
ومن المحال بأن يجيب محيل
يا دار جهد جفوننا وضلوعنا
…
لك بالبكاء وبالأسى مبذول
زرّت عليه من الرّياض ملابس
…
خيط الغمام لوشيها محلول
رقّ العذول لما رأى من حالتي
…
فاليوم عاد إليه وهو رسول
أو ما تراني حاملا من بعده
…
ثقل الأسى فكأنني محمول
من لي بحظّ بالفضائل عارف
…
فيحقّ حينئذ لي التفضيل
أغمد لسانك أن يقول فإنه
…
عضب أحاط بجانبيه فلول
وامنعه من نفثاته وكفى بها
…
فمن الكلام أسنّة ونصول
كفّل زمانك أن يغيّر كلّ ما
…
أنكرته فكفاك منه كفيل
وقوله «1» : [الطويل]
أمنّا على الملك اللّيالي بعد ما
…
أمدّ بسعد النّاصر المتناصر
إمام أقرّوا جوهر الملك عنده
…
ولا عجب للبحر صون الجواهر
ديار العدى من نقعه ودمائهم
…
كربع الهوى ما بين ساف وماطر
يلاقيهم بالسيف والطّير طاعما
…
فهم منهما بين الرّدى والمقابر
يقول لنا درّا ويندى سماحة
…
فما البحر إلّا بين كفّ وخاطر
ولما انثنت منّا عليه خناصر
…
جعلنا حلى تختيمنا للخناصر
لأفنت ظباكم في الوغى وصفاتها
…
دماء الأعادي أو دماء المحابر
فيا عجبا للملك قرّ قراره
…
بمختلفات من قناك الشّواجر
طواعن أسرار القلوب نواظر
…
كأنك قد نصّلتها بنواظر
تمدّ إلى الأعداء منها معاصما
…
فترجع من ماء الكلى بأساور
وقوله منها في الخيل:
لها غرر يستضحك النّصر وجهها
…
وتفهم منها العين معنى البشائر
وقوله منها في ذكر القصيدة:
إذا ما أتت تختال بين سطورها
…
فهنّيتها عذراء ذات ضفائر
هي السائرات الخالدات بمجده
…
وسائر ما يؤتى به غير سائر
وقوله من قصيدة «2» : [الطويل]
ورثت المعالي عن أبيك شريعة
…
وقمت بها في فترة البخل مذهبا
إذا ما كسوت الوفد للجود ملبسا
…
فقد لبسوه بالبشاشة مذهبا
لو انّ زيادا كان أدرك عصره
…
لكان يرى أيّ الرّجال المهذّبا
«1»
يقطّع عمر اللّيل عمر سجوده
…
فلله محراب حوى منه محربا
وفي فقر عافية إليه وسيلة
…
كفى باعثا للسّيل أن يتصوّبا
وقوله «2» : [الطويل]
يقول ولو أنّ الليالي خصومه
…
ويمضي ولو أنّ النّجوم مطالبه
محاربه تثني على صلواته
…
ولكن على الأعقاب يثني محاربه
ومنها:
جنائب في بحر العجاج سفائن
…
فإن حرّكت للرّكض فهي جنائبه
وقد خفقت راياته فكأنها
…
أنامل في عمر العدوّ تحاسبه
وقوله «3» : [الكامل]
لو كنت جاوبت الحمائم نائحا
…
قال الوشاة: أضاع سرّك بائحا
«4»
سل طائرا صدع الفؤاد بسحرة
…
أتراه غرّد صادعا أم صادحا
يا ضعف من أمسى الفريسة في الهوى
…
وغدا الحمام له هنالك جارحا
وقوله «5» : [البسيط]
يا ليلة بات فيها البدر معتنقي
…
والنّاس بالبدر والظّلماء في شغل
بتنا نفضّ عقودا للحبيب فإن
…
فصّلتها فبتشذير من القبل
قل في الزّلال إذا وافى على عطش
…
فقد دللت على التفضيل بالجمل
وقوله من أبيات «1» : [الوافر]
وبالأشعار نعرف قائليها
…
كما حدّثت عن نجر بنجل
سبقت بها فقد صارت لقوم
…
محارب والذي بعدي مصل
وقوله «2» : [مجزوء الرمل]
سقّني يا بدر شمسا
…
كلّلوها بالثّريا
واجعل الظّلماء شمسا
…
كلّما دارت وفيّا
إنّما الكاسات تيجا
…
ن لها العيش محيّا
وهي نار جعلوها
…
حين يعيي الهمّ كيّا
قد طوينا إذ أديرت
…
بردة الظّلماء طيّا
كانطواء الخوف عنّا
…
حين ولّى الله طيّا
«3» وقوله من قصيدة «4» : [الخفيف]
يا غزالا له السّيوف حجاب
…
في فؤادي أضعاف تلك الحجب
ما عهدنا والنّائبات كثير
…
أنّ ضيفا يضام بين العرب
أغليلا والماء فوق الثنايا
…
وهوانا بين القنا والقضب
أين تلك الرّسوم أين تراها
…
تبعت في الرحيل إثر الرّكب
أترى يا زمان أنت معنّى
…
برباها كمثل قلب الصّبّ
زفرت بالصّبا صدور اللّيالي
…
وبكت بالحيا جفون الشّهب
وقوله من قصيدة «1» : [الكامل]
لو لم يعطّل خاطري من سلوة
…
ما كان خدّي بالمدامع حال
أودعته قلبي فخان وديعتي
…
فسواده في خدّه بالخال
فعل السّقام بمهجتي وجوارحي
…
أفعال حصن الدّين بالأموال
لم يبق في أيّامه من فتنة
…
للنّاس إلّا فتنة بجمال
«2»
تسمى الرّماح قنا فأمّا بعدما
…
صارت بكفّك فالرّماح عوالي
وقوله «3» : [الطويل]
أساكن أكناف المقطّم دعوة
…
تداعت بها الألفاظ وهي دموع
يقولون: درياق الهوى الدّمع إن جرى
…
فذا الدّمع يجري واللّسيع لسيع
أبى الحزن لي من أن أماكس في الهوى
…
فحزنك يشدي والدّموع تبيع
وقوله «4» : [مجزوء الكامل]
دع عينه لعنائها
…
فشفاؤه في دائها
العين من أعدائه
…
والقلب من أعدائها
هذا ونيران الهوى
…
مشبوبة من مائها
قمريّة قمريّة
…
في حسنها وغنائها
القلب كاره نأيها
…
والسّمع عاشق نايها
ولقد رضيت بقتلتي
…
إن كان ذاك برأيها
«1» وقوله من قصيدة «2» : [مجزوء الكامل]
يا مالك الحسنين وال
…
حسنين من خلق وخلق
لو لم يكن من فضل مد
…
حي فيك إلّا فضل صدقي
ما ضرّ جهل الجاهلي
…
ن ولا انتفعت أنا بحذقي
وزيادتي في الحذق فه
…
ي زيادة في نقص رزقي
وقوله من مرثية «3» : [البسيط]
تبكي عليك عيون أنت قرّتها
…
وما قضى الحقّ باكي البحر بالخلج
في كلّ شدة دهر لم تزل فرجا
…
[فأ] عظم الله أجر النّاس بالفرج
وقوله «4» : [البسيط]
قالوا: جرى قلمي في مدح غيركم
…
لا والّذي علّم الإنسان بالقلم
وما خلوت بذكراكم وكان معي
…
ثان يثلّث ذكراكم سوى الكرم
وقوله من أبيات «5» : [الطويل]
إذا هزّ فيها صارم البرق خلته
…
يروّع من تلك الجداول أرقشا
يمدّ عليها المدّ سورا مفضّضا
…
ويرجعه طورا سوارا منقّشا
«6»
ويرجعه سهما إلى مقتل الثرى
…
فيسري بأوراق الغصون مريّشا
هوى كسماح الصّالح الملك الذي
…
نكتّمه والشّمس ليس لها غشا
يقتّل حيات الحقود من العدى
…
بحيّات سمر بالأسنّة نهّشا
وينصبها إن يرتقوا السّحب سلّما
…
[ويرسلها] إن ينزلوا القلب الرّشا
«1»
فأوسطها أولى من العين بالهدى
…
وأطرافها أولى من الهمّ بالحشا
غنينا عن التّشبيب قدّام مدحه
…
فأذهل وصف اللّيث من وصف الرّشا
وقوله «2» : [البسيط]
وكيف أحسب ما يعطي العفاة وما
…
حسبت بعض الذي ما زال يعطيني
الكتب تشكره عنّا ولا عجب
…
ما تشكر السّحب إلّا بالبساتين
«3» وقوله «4» : [المتقارب]
وأغيد لمّا دجا عتبنا
…
تبدّى على الخدّ منه الشّفق
صفا فوق خدّيه جمر الصّبا
…
فكان الحباب عليه العرق
وقوله «5» : [الكامل]
أمّا المشيب فإنّه قد أبرقا
…
وكأنّني بسحابه قد أغدقا
فابرز إليه أبيضا في أبيض
…
لا تذكرن زمن النّفار من النّقا
كان الهوى خلّ الصّبا وصديقه
…
حتّى تلا شيبي وآن تفرّقا
وقوله «1» : [المديد]
أيّ شأن لا يباح به
…
بعد ما قد باح لي شأن
وكلام الصّبّ أدمعه
…
لك والأفواه أجفان
أدمعي والحبّ إن حكموا
…
فهو دعوى وهي برهان
ما زها من قبل معطفه
…
فوق غصن البان بستان
جلّنار الوجنتين له
…
من ثمار الصّدر رمّان
كيف أرجوهم وعندهم
…
حرمات الحبّ أضغان
ومنها:
وله سيف كناظره
…
حارس للخلق يقظان
عاد كفر الكافرين إذا
…
ما رأوه وهو إيمان
يتداعى إذ دعوت به
…
[حين] يلقى الشّرك أوثان
للظّبا الأجفان نعرفها
…
ولهذا السّيف آذان
وهو مرآة يبين بها
…
من ضمير الضّدّ أضغان
ومنها:
قم لتملا من نفوسهم
…
ورماح الخطّ أشطان
وخدود الأرض مشرقة
…
من دم والخيل خيلان