المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌11- ومنهم: نصر الله بن محمد بن محمد، ضياء الدين، أبو الفتح، ابن الأثير الجزري، الكاتب - مسالك الأبصار في ممالك الأمصار - جـ ١٢

[ابن فضل الله العمري]

فهرس الكتاب

- ‌[الجزء الثانى عشر]

- ‌مقدمة التحقيق

- ‌1- وأما أبو إسحاق فهو الصابي

- ‌4- أبو الفرج، عبد الواحد بن نصر بن محمد، القرشيّ المخزومي، المعروف بالببغاء

- ‌5- ومنهم: بديع الزّمان الهمذاني

- ‌6- ومنهم: أبو نصر العتبيّ

- ‌8- ومنهم: أبو عليّ، الحسن بن عبد الصمد بن أبي الشّخباء العسقلاني

- ‌9- ومنهم: القاضي الفاضل: [السريع]

- ‌10- ومنهم: محمّد بن محمّد، عماد الدّين، أبو حامد القرشيّ، الأصبهانّي، الكاتب

- ‌11- ومنهم: نصر الله بن محمّد بن محمّد، ضياء الدّين، أبو الفتح، ابن الأثير الجزريّ، الكاتب

- ‌12- ومنهم: ابن زبادة، قوام الدين، أبو طالب، يحيى بن سعيد بن هبة الله ابن علي بن زبادة الشيباني

- ‌13- ومنهم: شهاب الدين النسائي، أبو المؤيد، محمد بن أحمد بن علي بن عثمان بن المؤيد الخرندزي

- ‌14- ومنهم: ابن أبي الحديد، عز الدين، عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن محمد الحسين بن أبي الحديد، المدائني، أبو حامد

- ‌15- موفق الدين، القاسم بن هبة الله، أبي المعالي

- ‌16- ومنهم: ابن بصاقة، فخر القضاة، أبو الفتح، نصر الله بن هبة الله بن عبد الباقي بن الحسين بن يحيي الغفاري، الكناني

- ‌18- ومنهم: ابن قرناص، محيي الدين

- ‌19- ومنهم: ابن العجمي، كمال الدين، أحمد بن عبد العزيز الحلبي، أبو العباس

- ‌20-[ومنهم] : ابن الأثير الحلبي، تاج الدين، أبو جعفر، أحمد بن سعيد

- ‌21-[ومنهم] : شهاب الدين، أبو محمد [يوسف] بن كمال الدين أبي العباس أحمد بن عبد العزيز بن العجمي

- ‌22- ومنهم: أحمد بن أبي الفتح محمود الشيباني كمال الدين، أبو العباس

- ‌23- ومنهم: محمد بن عبد الله، شرف الدين، أبو محمد بن فتح الدين أبي الفصل، ابن القيسراني، القرشي، المخزومي

- ‌24- ومنهم: محمود بن سلمان بن فهد، الحلبي، الكاتب، شيخنا العلامة، حجة الكتاب، فرد الزمان، شهاب الدين، أبو الثناء

- ‌25- ومنهم: عليّ بن محمد بن سلمان بن حمائل، الشيخ الإمام، جمال الدول، علاء الدين، أبو الحسن

- ‌27- ومنهم: عبد الله بن علي بن محمد بن سلمان، عرف بابن غانم، جمال الدين، أبو الفضل، المقدسي

- ‌28- ومنهم: زين الدين الصفدي، أو حفص، عمر بن داود بن هارون بن يوسف الحارثي

- ‌29- ومنهم: خليل بن أيبك الصفدي، أبو الصفا، صلاح الدين

- ‌فهرس المترجمين

- ‌فهرس المصادر المعتمدة في الحواشي [المخطوطة والمطبوعة]

الفصل: ‌11- ومنهم: نصر الله بن محمد بن محمد، ضياء الدين، أبو الفتح، ابن الأثير الجزري، الكاتب

كريم أو كغصن أو كبدر

بلحظ أو بقد أو جبين

تبسّم درّها عن أقحوان

وأزهر وردها في ياسمين

وقوله «1» : [الطويل]

قفوا وسلوا عن حال قلبي وضعفه

فقد زاده الشّوق الأسى فوق ضعفه

أرقت فجفني ما يريق سوى دمي

كأنّ الهوى أوصى جفوني بنزفه

‌11- ومنهم: نصر الله بن محمّد بن محمّد، ضياء الدّين، أبو الفتح، ابن الأثير الجزريّ، الكاتب

«2» .

* متكبر، نفخ في غير ضرم، وبذخ «3» بالسّمن وشحمه ورم، ولم يلتفت الدّهر إليه بعطفه، ولا أقبل عليه ببعض عطفه، حتى شمخ شمما، ونطق خرسا، وأصغى صمّا، وكانت له مخيلة ظهرت بارقتها، وبهرت سارقتها، شرب بودقها الهيام، وضرب ببرقها الغمام الخيام؛ وقد كان بالموصل، وشبابه مسودّ اللّمم، محتدّ الهمم، في درس يباكره ويغاديه، ويسقيه ماطره بروائحه وغواديه، فملأ الحفظ خاطره حتّى اندفق، وكلأ الحظّ سائره حتى توقّد الشفق، فقالب الأسود، وقارب أن يسود، لولا عجب ردّاه، وردّ وجهه عن الطريق فما أداه، فوقع إذ أسفّ، وتكدّر إذ شفّ، واتصل بالخدمة الأفضليّة فغمط به فضلها، وقبض بسببه

ص: 269

ظلّها، فلم يحمد أحد له ولا لسلطانه فعلا، ولا عدّ له ولا للأفضل «1» فضلا، وجلس للنّاس وقد لبس رداء الكبرياء، وسلب بحمقه وقار الكبراء، فأحرج الصّدور عليه وعلى ملكه، وأحوج المقدور بما لديه إلى مهلكه، فتميّزت الخواطر عليه غيظا، وأبرزت الضّمائر له برد القلوب قيظا، فأودع النّفوس ودائع الحنق، وأترع له الدهر العبوس مشارع الرنق، وخرج من دمشق في صناديق المطبخ مختبئا حين أخرج الأفضل منها، وكان ينتقص الفاضل والعماد وسائر الكتّاب، ويحط قدر الأفاضل، ويسخر بالنّاس، ويتوقف في قضاء الحوائج، ويحمل ملكه على جفاء أهله وقطع ذوي رحمه، ويبعد بينه وبين أقاربه، فلهذا مقت، وغضّ طرفه وبهت؛ وفيه يقول الشّهاب فتيان «2» :[مجزوء الرجز]

متى أرى وزيركم

وما له من وزر

يقلعه الله فدا

أوان قلع الجزر

وفيه يقول ابن عنين «3» : [الوافر]

كأن قفا الوزير عروض سوء

يقطع بالبسيط وبالمديد

قذال لا يزال النّعل فيه

كمنزل أحمد بن أبي الحديد

وكان كاتبا مطّلعا، مترويا بالعلوم مضطلعا، إلّا أنه كان متكلفا متطبعا، ومتعجرفا متصنّعا، وكان يتعاطى أكثر مما يستحقّ.

ص: 270

وله تصانيف، منها «المثل السّائر» و «الوشي المرقوم» و «المعاني المبتدعة» وأمثلها «المثل السّائر» وقد عمل عليه موفّق الدين [ابن] أبي الحديد «1» كتابا سمّاه «الفلك الدّائر على المثل السّائر» وعمل آخر كتابا على كتاب [ابن] أبي الحديد سمّاه «القطع الدّابر على الفلك الدّائر» «2»

وكلام هذا الرجل- أعني الضّياء- وإن كان محكم الصنعة، ناظرا إلى دقائق المعاني، فإنّه في غاية التكلّف، لاعتماده على معاني النّاس، وإكثاره من الحلّ والاقتباس، وقد بنى كتابه المسمى «بالوشي المرقوم» على هذا؛ وعليه كانت طريقته، في كلامه ومنحاه في قوله، لا يكاد يسمع له من النظم إلّا ما قلّ. مولده يوم الخميس، العشرين من شعبان، سنة ثمان وخمسين وخمسمئة بالجزيرة «3» .

* ومن نثره قوله في وصف كريم:

فلان يغار من جود غيره إذا جاد، ويرى الأفضلية في المكارم إلّا في وحدة الانفراد، فصديقك الذي يحب محبة الله في ودّه، ولا يتعدّى الخجل إلى الثقة بعهده؛ ولو أعطينا الرّشد كما كنا نأسى على ما يختلف على تغييره المساء والصّباح، وكان كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ

«4» .

ص: 271

ومنه قوله في وصف البلاغة:

إذا نزل من سماء فكري ماء، سالت أودية بقدرها، واهتزت رياض بزهرها، وليست الأودية إلّا خواطر الأفهام، ولا الرّياض إلّا وشائع الأقلام.

ومنه قوله:

وفي الآباء عوض عن الأبناء، وفي الأسّ خلف لما يستهدم من شرفات البناء، وقد قيل: إنّ في سلامة الجلّة هدر للنيب «1» ، وإذا سلمت طلعه البدر، فأهون بالأنجم إذا انكدرت للمغيب؛ وما دام ذلك المعدن باق، فالقضب كثيرة وإن أودى منها قضيب.

قلت «2» : لو قال: الدّوح، أو الأصل، أو ما شابه ذلك، كان أنسب من قوله: المعدن، وأكثر ملاءمة مع قوله قضيب.

ومنه قوله:

وفلان قد خبر الدّهر في حلب أفاويقه، ونقض مواثيقه، فهو لا يرد الماء إلّا بماء، ولا يهتدي في مسرى أرض إلّا بنجوم سماء؛ ومن شأنه أن يرد الأمور برأيه ولا يبعث فيها رائدا، وإذا قيل: إنّ فلانا ذو كيد، قال: من الكيد أن لا يدعى كائدا.

ومنه قوله:

لقونا وقد أشرعوا الأسنّة التي شاركتهم في الأسماء، وإذا أوردت أروتهم من غليل الحقد كما يتروى من شرب الدماء، لكن ذادها عن الورد ما هو أصلب منها عودا، في يد من هو أمضى منهم جدا وأسعد جدودا، وإذا لاقت الرّيح

ص: 272

إعصارا، زالت عن طريقه، وضاق ذرعها بمضيقه.

ومنه قوله:

رأيت أجمة ولا ليث يحمي تلك الأجمة، بل رأيت بيض عقاب تحضنه رخمة، وليس المشار إليه إلّا نائما في صورة يقظان، وهو كزيد وعمرو إذ تجري عليهم الأفعال وهما لا يشعران.

ومنه قوله:

وفلان قد جعل الرّأي دبر أذنه، ووضع جفير «1» السّيف تلقاء جفنه، ولم يعرّج على لهو فيقول «2» : اليوم خمر وغدا أمر، ولا يصغي إلى مسير فيأخذ بقول زيد ولا عمرو، فهو مطلّ على مغيبات الأمور، غير غافل بتمام الأعقاب إذا تمت له الصّدور.

ومنه قوله: الغناء يخفّ بكثير من الأوزان، والنّظر في هذا إلى الأثر لا إلى العيان، ولا عجب أن يوزن الواحد بجميع الورى، ولهذا قيل: كلّ الصيد في جوف الفرا «3» .

ومنه قوله: كم في الأرض من شمس تخجل لها شمس السّماء، وتتضاءل إليها تضاؤل الإماء، وتعلم أن ليس لها من محاسنها إلّا المشاركة في الأسماء؛ فلربما طلعت في الليل فقال النّاس: هل يستوي بياض النّهار وسواد الظّلمات، ولا عجب للعيون إذا رأتها أن تظنّ ذلك في أحلام النوم، أو يخيل لها أن

ص: 273

يوشع «1» في القوم.

ومنه قوله:

ولقد رأيته فرأيت العالم في واحد، وعلمت أنّ الدهر للنّاس ناقد، وما أقول إلّا أنّ الله ردّ به الأفاضل إلى معاد، ثم وضعه موضعه «2» ، فذلك من جملة الأعداد في الاعتداد، لكن [إن] كان ذنبي خطأ، فقد جاءت معذرتي عمدا، ولا عقوبة مع الاعتذار، ولو كان الذّنب شيئا إدّا، والمقدرة لا تسيغ للكريم أن يمضي غيظا أو يطيع حقدا.

ومنه قوله:

الأحوال شبيهة بالأبدان في عوارض سقمها، وكلّ داء من أدوائها له علاج إلّا ما كان من سأمها وهرمها، وقد قيل: إنّ الطّب هو معالجة الأضداد بالأضداد، ولهذا لا يطبّ مرض الآمال إلّا بجود الأجواد، وفي شهود الجناية من الأشراف ظلم للسّادات لا تعدّه النّفوس من ظلمها، ولربّما كلم السّوار يدا فذهب فخر زينتها بألم كلمها، ولهذا هانت جناية بني عبد المدان، وضرب بها المثل في شرف المكان، والنّاس في المنازل أطوار، فمنهم أنجاد ومنهم أغوار.

ومنه قوله:

بازيّ «3» أشهب، تفخر السوابق بأنها له سميّة، وترتمي الطير في جو السّماء وهي له رميّة، كأنّما يجلو القذى عن عقيقتين، ويظلّ من توحشه

ص: 274

وإيناسه من خليقتين، ومن أدنى صفاته أن يقال: هذا خلق من الرّياح، في صورة ذي منسر وجناح، وقد لقب بالبازي لكثرة وثوبه، وما غدا لمطلب صيد ففاته شيئ من مطلوبه، ولقد تكاثرت قلوب الطير لديه في كلّ حال، حتّى شبّه رطبها ويابسها بالعناب والحشف البال» .

ومنه قوله في المطر:

وانحلّ بها خيط السماء، حتى استوى ريّ بطونها للظّماء، ولكنّه للريح التي حبته بما حبا، ولم يكن مسك طلّه معتصرا إلّا من كافور الصّبا.

ومنه قوله:

ولقد سنّوا دروع الحديد على مثلها، ولولا اتقاء البغي لرأوا حمل العار في حملها، فإذا صافحتها أسنّة الحرضان «2» ، رأيت أشخاص الكواكب في غدران.

ومنه قوله في لئام:

أصلح الإفساد، وردّ البلاد؛ وقد استذأبت نقادها «3» ، واستجبلت وهادها «4» ، ووردت وعولها بحيث ترد آسادها!.

ومنه قوله:

فعلم ذلك جهل لا يرعّ «5» منه عنف الملامة، وداء لا يكفي في تقليل دمه

ص: 275

الفصد للحجامة، بل اليد لمن وضع السّيف فيه موضع العصا، ومن عمى الضلالة ما لا يبصر إلّا بسفك الدّم، ومنه ما يبصر بتسبيح الحصا.

ومنه قوله:

وكم لطيف الخال من يد يبذلها، وصاحبة يمنعها، ولطالما سمح برؤية عين لا يراها، ونجوى حديث لا يسمعها، فياله من باطل أشبه في مراره حقا، وأوهم القلب أنه داواه وما داوى، والغليل أنه شفاه وما أشفى.

ومنه قوله:

قليل الاحتفال بالخطوب المختلفة، وإذا انتقلت أحوال الزّمان، كانت حاله غير منتقلة؛ فعلمه يطلّ على أفكاره، ويرى الأمر الخفيّ من خلف أستاره، ولا تبلغ الأنجاد والأغوار مدى أنجاده وأغواره، فهو اليقظ الذي هجع النجم وهو لا يهجع، والماضي الذي يجزع السيف ولا يجزع، والمعافى المضروب له المثل بأنّه لا يخدع.

ومنه قوله:

ريعان العمر تشترك فيه نهضة الأجسام والهمم، ولهذا كان شباب العلى في الشّباب، وهرمها في الهرم، وما تشابها في اللفظ إلّا لتشابههما في المعنى، وكلاهما ذو رونق في حسنه، إذا اجتمعا زادا حسنا؛ وما أقول إلّا أن بين سواد الشّعر والسّؤدد غراسا، كما أن بينهما في التسمية جناسا.

ومنه قوله:

من كل بطل يزحم غوارب الأهوال بغاربه، ويلقى وجوهها الكريهة بجانبه، ولطالما كافحها في الحرب، حتى نفضت وقائعها غبارا على ذوائبه، فهو يقدم فيها إقدام من ليس له أجل، ولا يرى للخدّ الأسيل حسنا، لا يخدّ من الأسل.

ص: 276

ومنه قوله:

تماثلت فرائد عقودها وثغرها، فلا يدرى أنظمت حلية نحرها في تبسّمها، أم حلية مبسمها في نحرها؛ فلو انتثرت تلك الفرائد في اللّيل البهيم، لا لتقطت حبّات العقد النّثير في ضوء العقد النّظيم.

ومنه قوله:

إذا نظر الخادم إلى حبسه المقتنى من خدمة الديوان العزيز لم يحتج إلى أوّلية مجد قديم، ولا إلى فضيلة سعي كريم، فالحظوظ مقتسمة في تلك الأبواب بلثم التراب؛ ولو عقلت النّجوم، كما يزعم قوم، لنزلت إليها خاضعة الرقاب، وقالت لها: أنت أولى بمكان السّماء الذي منه مطلع الأنوار ونشوء السّحاب.

ومنه قوله في رؤوس علّقت على قلعة:

ولم يكن بناؤها إلا بعد أن هدّمت نفس الأعناق، كأنّما أصيبت بجنون فعلقت عليها القتلى مكان التّمائم، أو شينت بعطل فعلقت مكان الأطواق.

ومنه قوله: لم تكسه المعركة نسج غبارها، حتّى كسته الجنّة نسج شعارها، فبدّل ثوب أحمره بأخضره، وكأس حمامه بكأس كوثره.

ومنه قوله في وصف الحياء:

الحياء لباس يتّقى وجه الكرم بوقائه، وهو له كاللّحاء الذي يبقى العود ببقائه.

ومنه قوله:

لو أردت دوام الدّهر على حال واحدة ما دام، والبأساء والضّراء خيالات

ص: 277

أحلام، فما ينبغي لك أن توليه حمدا ولا ذما، فإنّك تتقلّد منه يدا ولا يدا، ولا تشكو منه ظلما ولا ظلما.

ومنه قوله:

ولئن صبرت فلأن الجزع لا يفيد ردّ الفائت، ولقد علمت أنّ للمصائب أجرا، ولكنه لا يفي بشماتة الشامت.

ومنه قوله:

مررنا عليهم مرور الأمحال، وأمّيناهم وهم رجال بلا أرض، وتركناهم وهم أرض بلا رجال، ولقد مشت المنايا في دمائهم حتى ظلت حسرى، وشبع السيف منهم حتّى تفزر بطنه، وشرب الرّمح حتى تأوّد سكرا، ولم يبق للإسلام في عقده غلّ إلّا شفاه، ولا عنده دين إلّا استوفاه.

ومنه قوله:

في الحرب إذا أيتم «1» السّيوف من الأغماد، فقد أيتم الأولاد من الآباء وأثكل الآباء الأولاد، فلا يرى أدهم نقع إلّا وهو ببياضها أبلق، ولا أحمر دم إلّا بحدّها مهرق، فهو مصارع النّفوس، ومطالع السّعود والنّحوس، والنّار التي عبدت من قبل المجوس.

ومنه قوله:

لا يكون الكريم كريما، حتى يكون لنفسه غريما، فإنّ العطايا حقوق واجبة على أقوام، وإذا لم يجد الغمام بمائه فأيّ فائدة في كثرة ماء الغمام؟.

ص: 278

ومنه قوله:

توانى عنه رسل النّجاح، ووكلت به عزمة أوقفته على رجل وأنهضته بجناح، وتمنعه من الإتيان على عجل، إنّ القضاء على مهل.

ومنه قوله:

هوّنت نفسي حتّى صرت أصرّفها كما أشتهي، وأنهاها وآمرها فتأتمر وتنتهي، ومن صفاتها أنّها لا تمنى من غيرها بزاجر، وقد استوت حالتها في باطن من الأمر وظاهر.

ومنه قوله:

جمع المال فقر لا غنى، وهو كشجرة لا ظلّ لها ولا جنى، وصاحبه لا يستفيد به إلّا ذمّا، ولا يستزيد بالسعي له إلا همّا، واليسار على هذه الحال هو عين الإملاق «1» ، والذّهب والحجر سواء إذا لم تتصرف فيه يد الإنفاق، وفضيلة المال داء الأعراض، كما أن فضيلة الزاد داء الأجساد؛ وعلاجهما شيء واحد، في الوقوف على درجة الاقتصاد.

ومنه قوله:

وصنائع المعروف تورث من الثّناء خلودا، وتكون لغير ذوي الجدود جدودا، تبتنى العلياء بما يفنى ولا يبقى، وترقى بصاحبها إلى منال النجم وهو لا يرقى؛ والسّعيد من جعل ماله نهبا للمعالي لا للّيالي، وعرضة للمآثر لا للذّخائر، ومن نال الدّنيا فاشترى آخرته ببعضها، وأقرض الله من مواهبه التي دعاه إلى قرضها، فذلك الذي فاز بالدّارين، وحظي فيها برفع المنارين.

ص: 279

ومنه قوله:

سارية تمشي لثقلها مشي الرّداح، ويكاد يلمسها من قام بالراح «1» ، وما نتجت نتاجا إلّا أسرّت في ضمنه حمل أقاح، ولا أظلمت إلّا أضاء البرق في جوانبها، فتمثّلت ليلا في صباح، فهي مسودّة مبيضّة الأياد، مقيمة وهي من الغواد، نوامة على طول سهرها بالوهاد، فكم في قطرها من ديباجة لم تصنع أفوافها، ولؤلؤة لم تشق عنها أصدافها، ومسكة لم تخالط سرر الغزلان أعرافها؛ فما مرت بأرض إلّا أحيتها بعد مماتها، ووسمتها بأحسن سماتها، وغادرت غدرانها فائضة من جهاتها، ومثلها والنّبت مطيف بها بالأقمار المتعلقة بأردية ظلماتها.

ومنه قوله:

فلان قد كشف عن مقاتله، وعرض بجهة الأدلّة نفسه على قاتله.

ومنه قوله:

وقلمه هو يراع نفث الفصاحة في روعه، وكمنت الشجاعة بين ضلوعه، فإذا قال أراك نسق الفرند في الأجياد، وإذا صال أراك كيف اختلاف الرّماح بين الآساد؛ طورا ترى نحلة تجني عسلا، أو شفة تملي قبلا، وطورا ترى إماما يلقي دروسا، وآونة تنقلب ماشطة تجلو عروسا، ومرة ترى ورقاء تصدح في الأوراق، وأخرى ترى جودا مخلّقا بخلوق السّباق؛ وربما تكون أفعوانا مطرقا، والعجب أنّه لا يزهى إلا عند الإطراق؛ ولطالما نفث سحرا، أو جلب عطرا، وأدار في القرطاس خمرا؛ وتصرف في وجوه الغناء، فكان في الفتح عمر وفي الهدى

ص: 280

عمّارا وفي الكيد عمرا «1» ، فلا تحظى به دولة إلا فخرت على الدول وقالت:

أعلى الممالك ما يبنى على الأقلام لا على الأسل، والقلم مزمار المعاني، كما أن أخاه في النّسب مزمار الأغاني؛ وكلاهما شيء واحد في الإطراب غير أن أحدهما يلعب بالأسماع، والآخر يلعب بالألباب.

ومنه قوله:

وقلمه هو الذي إذا قذف بشهب بنانه رأيت نجوما، وإذا ضرب بشبا حدّه رأيت كلوما، وإذا صور المعاني في ألفاظها رأيت أرواحا وجسوما، ولطالما قال فاستخفّ موقّرا وكسا وقارا، وأطال فوجدت إطالته بحلاوته إقصارا، فهو دقّ المعاني المخترعة، يستخرجها من قليبها، ويبرزها في ثوبها القشيب، وليس خلق الأثواب كقشيبها، يجتني معانيه من ثمرات مختلفة طعمها، وينسج ألفاظه من ديابيج مؤتلفة رقمها.

ومنه قوله في ذم كاتب:

لا يمشي قلمه في قرطاس له إلّا ضلّ عن النّهج، ولا يصوغ لفظا إلّا قيل: ربّ حدث من الغم كحدث من الفرج، ولكن ما كل من تناول قلما كتب، ولا كل من رقا منبرا خطب، والدّعاوى في هذا المقام كثيرة، ولكن ليس القنا كغيرها من القصب.

ومنه قوله «2» :

وكان بين يدي شمعة تعمّ مجلسي بالإيناس، وتغنيني بوحدتها عن كثرة الجلاس، وينطق لسان حالها أنّها أحمد عاقبة من مجالسة النّاس؛ فلا الأسرار

ص: 281

عندها بملفوظة، ولا السّقطات لديها بمحفوظة؛ وكانت الريح تتلعّب بلهبها، وتختلف على شعبه بشعبها، وطورا تقيمه فيصير أنملة، وطورا تميله فيصير سلسلة، وتارة تجوفه فيصير مدهنة، وتارة تجعله ذا ورقات فيتمثل سوسنة، ومرة تنشره فينبسط منديلا، ومرة تلفّه على رأسها فيستدير إكليلا؛ ولقد تأملتها فوجدت نسبتها إلى العنصر العسليّ وقدّها قدّ العسّال، وبها يضرب المثل للحليم، غير أن لسانها لسان الجهال ومذهبها مذهب الهنود في إحراق نفسها بالنّار، وهي شبيهة العاشق في انهمال الدّمع، واستمرار السّهر، وشدّة الاصفرار.

ومنه قوله:

ولقد عدا السّحاب طوره إذا هطل في بلدة هو بها مقيم، لكن عذره أنّه أتى متعلّما، وقد جرت العادة بإفادة التعليم، وما أقول: إنّه يقابل ذاك الوجه النّدي إلّا بوجه قل ماؤه، ولو استحيا منه حقّ الحياء لما هطلت سماؤه، وأنّى يقاس فيض كرم السّحاب بفيض كرمه، أو ديمه الدائمة بإقلاع ديمه.

ومنه قوله:

إذا رفعت الخطوب أعناقها، لقيها من رأيه بسعد الذّابح، وإن بقي ليلها غشيه من عزمه بالسّماك الرامح، فهو يسفك دماءها، ويجلو ظلماءها، ولهذا ترى وقد أجفلت عن طريقه، فرجعت عن حرب عدوّه إلى سلم صديقه.

ومنه قوله في اليأس والطّمع: إن نظر إلى اليأس والطمع، وجدا سواء في جدوى الإعطاء، ولا فرق بينهما إلا في روح التعجيل وكرب الإبطاء، ومن هاهنا عجّل اليأس غنى والطّمع فقرا، وأوسع صاحب هذا ذما، وصاحب هذا شكرا.

ص: 282

ومنه قوله: إذا فاز المرء من اليقين بحظه، ولحظ الدنيا بقلبه لا بلحظه، علم أن عطاياها عارية مردودة، وأنّها وإن طالت مدّة وجودها فإنّها مفقودة، وما ينبغي له حينئذ أن يسر بالشيء المعار، وينقل له من دار المتاع إلى دار القرار.

ومنه قوله:

وكانت الدّنيا به مسرورة، فطوى عنها لباس السّرور؛ وكانت الزّلفى له بحياته، فانتقلت الزّلفى إلى أهل القبور؛ وما أقول إنّه كان للأرض إلّا بمنزلة الأرواح من الأجساد، ولا شك أن السّماء حسدتها على الاختصاص به مما اعتادت من حسد الحساد، فبماذا يمدحه المادح وقد أسلمه العيان إلى الخبر؟ وإن قيل: لولا النّبي لم تخلق شمس ولا قمر، قلت: ولولا موته لم تخسف شمس ولا قمر.

ومنه قوله:

وكيف يظلم ذاك اللّحد وبه من أعمال ساكنه أنوار؟ أم كيف يجدب وبه من كف فيضه سحاب مدرار؟ أم كيف يوحش والملائكة داخلة عليه ببشرى عاقبة الدار؟ أم كيف يخفيه طول العهد على زواره وطيب ترابه هاد للزّوار؟ وا أسفي كيف أطأ على الأرض وهو في بطنها ملحود؟ أم كيف ترعى «1» نجوم السّماء وما هو بينها موجود؟. أم كيف أعدّ أسماء البحار وليس في جملتها معدود؟ أم كيف أحمد من بعده عيشا ولم يكن العيش إلا به محمودا؟

ومنه قوله:

ص: 283

العفو عن المذنب عقوبة لعرضه، وإن نجا بسلامة نفسه، وخيانته هي التي تلبسه من غضاضتها ما لم يبلغه العقاب بلبسه؛ وقد قيل: إنّ الرّفق بالجاني عقاب، والإحسان إليه متاب؛ ولا شكّ أنّ بسطة القدرة تذهب بالحفيظة، وتزيل وجد الصّدور المغيظة، وشيم المولى تحبّ أن يكون رضاها شفيعا إلى غضبها، وإن نبضت منه بادرة سهم، ردتها شيمة التغمد على عقبها، فلا شافع إليها إلا وسيلة كرمها، ولا ذمة عندها إلا الاستذمام بحرمها.

ومنه قوله:

إذا ادعت له الأوصاف رتبة فضل، شهد شاهد من أهلها، وكفته وراثتها عن آبائه أن يشارك البعداء في فضلها، وأحق الناس بالمعالي من كان فيها عريقا، ولا يكون المرء خليقا بها إلا إذا كان أبوه بها خليقا، وإذا زكت أصول الشجر زكت فروعه، ولا يعذب مذاق الماء إلا إذا طاب ينبوعه.

ومنه قوله:

وأكرم بيديه التي تسمح بدية القتيل، ويرى الكثير من عطائها بعين القليل، وما كل من شاء استمرت يده بالسماح، وقد تحجم عنه من تقدم على مكروه الصفاح، على أنه قد قيل: إن بين التسميتين إخاء، فالسخاء يكون نجدة، والنجدة تكون سخاء؛ ومصداق هذا القول اجتماعهما لليد الكريمة التي ألفت إنجاح الوعد وإنجاح الوعيد، وضمنت أرزاق الناس وأرزاق الحديد، وقالت في الندى: هل من صاد في الوغى: هل من مزيد؛ فالساري إلى أبوابها لا يصل إليه في نهج السرى، وهو مهتد منها على قبس القراع أو قبس القرى.

ص: 284

ومنه قوله في وصف هملاج «1» :

له في العربية حسب أصلها، وفي العجمية نسب جهلها، فهو من بينهما مستنتج، لا ينسب إلى الضبيب «2» ولا إلى أعوج «3» ، سديد الحملة، شديد الجملة، لا يشان بالغلو، ولا يتعب راكبه بفرط العلو، أثبت من الصافنات صبرا، وأوطأ ظهرا، وأطوع للتصريف، وأسلم في الهيكل والوظيف، رحب اللبان، عريض البطان، سلس العنان، طوع الكرة والصولجان؛ قد استوت حالتاه بادنا ومضطمرا؛ فإذا أقبل خلته مرتفعا، وإذا أدبر خلته منحدرا، كأنه دمية محراب، أو درة هضاب، فهو مخلّق بخلوق المضمار، وبدم السّرب والصوار «4» ، بناصية شائلة، وغرة سائلة، كنوارة في شقيق، ولؤلؤة في عقيق، يثنى عليه بأفعاله، لا بعمه وخاله؛ وإذا كان الكريم في كل جنس، فهو كريم جنسه؛ وإذا كانت العراب بأنسابها، أبناء أمهاتها، فهو ابن يومه لا ابن أمسه، كأنما ألقى لجامه على سالفة عقاب، أو شد حزامه على بارقة سحاب.

ومنه قوله في الخيل والسير:

ولما دهم نزلنا للاستراحة، والهجير قد أخذ في الاستعار، وقذف بالدرك الأسفل من النار؛ والحرباء قد لجأ إلى ظل المقيل، وسمح بمفارقة عين الشمس وهو بها عين البخيل؛ فلم يكن إلا مقدار وضع الرجل من الركاب، ومصافحة الجنب لصفحة التراب، حتى قيل: قد فجأتكم عصابة من أهل العبث، تشد في

ص: 285

ضرائها، وتجنب نقعها من ورائها، وقد فرطت أجيادها بأعنّتها، وطاولت هواديها بأسنتها، فغدت حينئذ نجزة من الخيل، تدرك ما كانت له طالبة، وتفوت ما كانت منه هاربة، لا تمل من موالاة الدروب، وهي عند النزول كمثلها عند الركوب؛ فلما استويت على ظهرها، عقدت مع الريح عقد الرهان، وعرضت عليها حكم الشقراء والميدان، ثم قلت: إن استشعرت مسابقتي، فقد جئت شيئا فريا؛ وتلوت قوله تعالى: وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا

«1» وما كان إلا هنيهة حتى حال الركب للرواح عند الإظهار، واستسلفت المدى بالتقريب قبل الإحضار، وجئت القران فلقيته منها بصدر يطارد الأمواج مطاردة الفجاج، وعين لا يروعها هبوات الماء كما لا يروعها هبوات العجاج؛ فتلك فرسي التي أعدّها لكل مخوفة، وهي حوت في كل معبر، وظليم في كل تنوفة.

ومنه قوله في الناقة والفرس:

سرت وتحتي بنت قفرة، لا تذهب السرى بجماحها، ولا تستزيد الحادي من مراحها، فهي طموح بإثناء الزمام، وإذا سارت بين الآكام قيل: هذه أكمة من الآكام، ولم تسم جسرة إلا أنها تقطع عرض الفلا كما يقطع الجسر عرض الماء، ولا سميت حرفا إلا أنها جاءت لمعنى في العزائم لا لمعنى في الأفعال والأسماء، وخلفها جنيب من الخيل، يقبل بجذع، ويدبر بصخرة، وينظر من عين جحظة، ويسمع بأذن جسرة، ويجري مع الريح الزعزع، فيذرها وقد ظهر فيها أثر الفترة، وما قيد خلفها إلا وهو يهتدي بها في المسالك المضلة، ويطأ على آثارها فيرقم وجوه البدور بأشكال الأهلة؛ هذا والليل قد ألقى جوانبه فلم يبرح، والكواكب

ص: 286

قد ركدت فيه فلم تسبح، وإنما أود لو زاد طوله، ولم تظهر غرة أدهمه ولا حجوله، فقد قيل: إنه أدنى المبعد، وأكتم الأنوار، ودل عليه القول النبوي «1» «بأن الأرض تطوى فيه ما لا تطوى في النهار» ، وما زلت أسير مرتديا بثوبه حتى يكاد أن ينضو لون السواد، وظهر ذنب السرحان فأغار على سرح السماء كما يغير السرحان على النقاد، فعند ذلك نهلت العين من الكرى نهلة الطائر، ولم يكن ذلك على ظهر الأرض المطمئنة، وإنما كان على ظهر السائر.

ومنه قوله في الخاطر:

الخاطر كالضرع، إن حلبته طف، وإن تركته جفّ.

ومنه قوله:

لا ريب في أن لحاظ النواظر كمتون البواتر، وإنما اشتركت جفونهما في الأسماء، لاشتراكهما في سفك الدماء.

ومنه قوله في الحكمة:

عقل المرء من حول ماله، وماله من حول صبره؛ فإذا افتقرت يده ذهبت بعقله، وإذا صبرت نفسه ذهبت بفقره.

ومنه قوله:

فروا وقد علموا أن العار مقرون بالفرار، لكنهم رأوا كلمه الأعراض أهون من كلمه الأعمار، وتلك نفس خدعت بالحياة الذليلة التي الموت ألذ منها طعما، وليس الموت إلا في أن تلاقي النفس ذلا، أو تفارق جسما؛ ولربما يسلا المهزوم

ص: 287

بقول القائل: إن الأسد يغلبه «1» الأسود، وإن الحرب ليست بمضاء العزائم، وإنما هي بمضاء الحدود؛ وهذا القول مسلاة كاذبة لهم مكذوبة، ولولا العزم لم تر حصون مفتتحة، ولا جموع محزوبة، وبالجد يدرك الجد، ولولا القدح لم ينفث الزند، ولمّا جيء بأسرى القوم مننّا عليهم بإطلاق السراح، وقاتلت عنهم شيمة الصفح إذ لم تقاتل عنهم شيمة الصفاح، وحمية الآباء لا تقتل من لم يحوه مكر الطراد، ولا حمية صهوات الجياد؛ وأي فرق بين الأسير في عدم الدفاع، وبين أشباهه من ذوات القناع؟

ومنه قوله:

وما زال يزعج ديار الكفر بغزواته، حتى لم تهن حاملة بإتمامها، ولا متعت عينها بلذة منامها؛ فاسم القرور من نسائهم منسوخ بغارة المقربات الجياد، ولذيذ النوم بأرضهم مسلوب بإيقاظ جفون البيض الحداد.

ومنه قوله في بليغ:

إذا ارتجل أتته المعاني غير مكرهة ولا محرجة، وأبرزها كوامل الصور غير مخدجة، وإن تروى تهافتت على توقد خاطره تهافت الفراش، وجاءته سوانح وبوارح حتى تقول «2» : تكاثرت الظباء على خراش.

ومنه قوله في تكذيب أهل النجوم:

ولقد أوهم أهل التنجيم بالتسيير والتقويم، والحكم على أفعال العليم

ص: 288

الحكيم، فأخبروا عن النجوم في سعودها ونحوسها، بما لم تخبره من نفوسها، وقضوا في ترتيب أبراجها، واختلاف مزاجها، وحكموا على حوادث العمر من حال وجوده إلى عدمه، في سعادته وشقائه وصحته وسقمه، وأشباه ذلك من الزخارف، التي نصبوها حبائل للاكتساب على غير ذوي الألباب، وكلها أضغاث أحلام، وأوضاع لا تخرج عن خط الأقلام.

ومنه قوله:

ولم أبك إلا عصر الشباب الذي هو في الأعمار بمنزلة الربيع من الأعوام، وما كنت أعرف كنه أمره حتى مضى، فرحلت معه الحياة بسلام «1» ، فالأيام فيه غوافل، والسنون لقرب عهدها مراحل، ولم أقض وطرا إلا خلفت أندى منه مرتعا، وأحسن مرأى ومسمعا؛ أيام لا أعاقر خمرة إلا لمى، ولا وردة إلا خدا، ولا نقلا إلا فما، ولكأني ما كنت «2» قمرا حلف إلا بالقدود وهيفها، والجفون ووطفها، وليالي الذوائب وسدفها، ووجوه الأقمار التي لا تشاب بكلفها، ولا يرى في غرر الشهور ولا منتصفها؛ فأصبحت قد بدلت غريب الأحوال بأليفها، وعوضت من نضرة الأوراق بيبس خريفها، فولى الصبا الآن بسلام، ولوعة ينبي بها الدمع السجام.

ومنه قوله فيمن قصر:

ولتقر تفاح الخدود، فلست من تقبيله غرا، ولا من عضه، اللهم غفرا، وقد ينطق المرء بما يكون فيه لسانه آثما وفعاله برا، ولولا حكم الفصاحة لما ذكرت بانة ولا علم، ولا وقف المتغزل بأقواله موقف التهم.

ص: 289

ومنه قوله: كما عود الطير من جزر أعدائه تتبعه أسرابا، واستسقى سحابها ما تحته من سحاب خيله، فاستسقى سحاب سحابا، ولقد مرت عليه الشمس فضعفت أن تحرق جناحا، أو تحمي بحرّها سلاحا، فلم يلق بين الريش فرجة ينثر فيها دراهمها، ولربما خالسها النظر إذا هزت قوادمها.

ومنه قوله في الاستعطاف:

المولى إذا لين له غلب على أمره، وأزيلت مغيظة صدره، وهذه خليقتان من البعيد الذي يمسه بلحمة، ولا يمت إليه بحرمة، فما للظن بالقريب الذي فاز بمزية الشركة في عرفة؛ وفضل الجوار لاحق أوجب من حقه، فكيف نسي المولى عادة كرمه، ووضع وجوه قومه تحت قدمه، وجعلهم حصائد سيفه وقلمه؛ وحاشاه أن يقطع رحما أوصاه الله بوصلها، ويعضد شجرة أصله الكريم من أصلها، ويزعم بأنهم أخرجوه عن معهود خلائقه، وبدلوا أنواء غيوثه بمخيلة صواعقه؛ ولكنهم شفعوا للذنب بالاعتذار، وعلموا أن خيط أرشيتهم لا يؤثر في كدر البحار؛ وقد قدر المولى، والمقدرة تصغر كبار الذنوب، وتذهب ترات القلوب، فإن نقم منهم أنهم جمعوا قلة الآداب إلى إدلال ذوي الانتساب، فتلك سنة سنها حكمه، وجبلهم عليها حلمه، وما يتحدث الناس أن الكريم عاد عن عادة إغضائه، ورجع في حكم قضائه؛ وأول راض سيرة من يسيرها «1» ؛ فليسبل المولى عليهم ستر فضله، وينجز إساءة فعلهم بإحسان فعله، وليأخذ بأدب الله وأدب رسله في الإعراض عن الجاهل وجهله؛ ويعلم أن قوم المرء كنانته التي بها

ص: 290

يناضل، وذروته التي بها يطاول، وإذا لم يحمل ما يريب من أدانيه رمته أقاصيه، ولابد للإنسان من طاعة ومعصية، ومن أجل طاعته تغفر معاصيه إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ

«1»

وبعد، فإذا شاء المولى أن يقتل حرّا فليعف عن زلله، فإن إصابة عرضه أشد من إصابة مقتله.

ومنه قوله: سليب المدائح أبهج حسنا من الغصون المسكوة بأوراقها، والحمائم المتحلية بأطواقها، فهو عار من اللباس، مكسو من المحامد التي صاحبها هو الكاسي.

ومنه قوله في ذم الود المتكلف:

خير الود ما عطف عليك اختيارا، لا ما أعدته بالعتاب اقتسارا؛ فإن شيمة التبرع كحسن التأدب غير مجلوب، والإنجاح في الطلب إتعاب لوجه المطلوب، إلا أن خير الود ودّ تطوعت به النفس لا ود أتى وهو متعب.

ومنه قوله:

والشيب يعيد جدة الشباب وهي أخلاق، وهو على كراهة لقائه مكروه الفراق، فواها لنزوله، وآها لرحيله، وسحقا له بديلا من الشباب، وسحقا لبديله.

ومنه قوله في الهجو:

لم أر له في حظوظ المساعي من قسم، كأنه فيها واو عمرو أو ألف بسم «2» ،

ص: 291

فهو لا يزال منكرا غير معروف، فإما زائد لا حاجة إليه وإما محذوف.

ومنه قوله:

السر أمانة لا تباع، ووديعة لا تضاع؛ فالعين تكاتم القلب فيها ما تبصره، والقلب يكاتم اللسان ما يضمره، وإذا حوفظ على السر هذه المحافظة، فقد ألقي في مهولة لا يرام اطلاعها، ونيط بصخرة أعيا الرجال على كثرة المحاولة انصداعها.

ومنه قوله في قتال قوم كانوا بجبل، ثم نزلوا فهزموا:

وبعد، فإن العساكر ركبت لارتياد موقف الحرب، واختيار المصعد السهل في الجبل الصعب، لتكون على بصيرة من أمورها، ولتأتي البيوت من أبوابها لا من ظهورها، فانبسطت كتائبها في كل منخفض ومنحدر، ومزلزل ومستقر، فحينئذ نفخ الشيطان في أنفه وساقه إلى حتفه، فبرز بمن قبله من الجنود، ونزل عن قلل الأوعال إلى مصطحر الأسود، وكان حزن الخطب في أحزانه، وتباعد مناله في تباعد مكانه، فلما أسهل أسهل النصر في طلبه، وأمكن يده من سلبه؛ لا جرم أنهم ردوا على الأعقاب، ونسفوا نسف الريح السحاب، فلم يكن لهم سلاح أوقى من الفرار، ولا عاصم إلا الجبل الذي عصم من طوفان السيف وما عصم من طوفان العار.

ومنه قوله: وثار بين أيدينا سرب ظباء مدرب على القنص ومقانصه، عارف بغوائله ومخالصه، وقد طرق مكانه حتى لم يهن بمرتعه ومشرعه، ولا أمن نبوة مصرعه، وكبس منه ما تمتع برؤية أشباهه من الفرقدين، ولم ينس الفجيعة بإلفه الذي خر

ص: 292

لفمه واليدين، فلما أحس بنا طار خيفة حتفه، وكاد أن يخلف ظله من خلفه، فأرسلنا عليه سلس الضريبة، ميمون النقيبة، منتسبا إلى نجيب من الفهود ونجيبة، كأنما ينظر من جمرة، ويسمع من صخرة، ويطأ من كل برثن على شفرة، وله إهاب قد حيك من ضدين بياض وسواد، وصور على أشكال العيون، فتطلعت إلى انتزاع الأرواح من الأجساد، وهو يبلغ المدى الأقصى في أدنى وثباته، ويسبق الفريسة فلا يقنصها إلا عند التفاته، وقد علمت الظباء أن حبائلها في حبل ذراعه، وأن نفوسها مخبوءة بين أضلاعه، فلم يكن إلا نبضة عرق، أو ومضة برق، حتى أدرك عقيلة من تلك العقائل، فأناخ عليها بكلكله، ووقف بإزائها ينتظر وصول مرسله.

ومنه قوله:

والتاريخ معاد معنويّ يعيد الأعصار وقد سلفت، وينشر أهلها وقد ذهبت آثارهم وعفت، ويستفيد به «1» عقول التجارب من كان غرا، ويلقى آدم ومن بعده من الأمم وهلم جرا، فهم لديه أحياء وقد تضمنتهم بطون القبور، وعنه غيب وقد جعلتهم الأخبار في عدة الحضور؛ ولولا التاريخ لجهلت الأنساب، ولم يعلم الإنسان أن أصله من تراب، وكذلك لولا [التاريخ] لماتت الدول بموت زعمائها، وعمي عن الأواخر حال قدمائها، ولم تخطّ علما بما تداولته في الأرض من حوادث سمائها؛ ولمكان العناية إليه لم يخل منه كتاب من كتب الله المنزلة، فمنها ما أتى بأخباره المجملة، ومنها ما أتى بأخباره المفصلة، وقد ورد في التوراة في سفر من أسفارها، وتضمن تفصيل أحوال الأمم السالفة ومدد أعمارها.

ص: 293

وقد كان العرب على جهلها بالقلم وخطه، والكتاب وضبطه، تصرف إلى التواريخ جل دواعيها، وتجعل له أوفر حظ من مساعيها، فتستغني بحفظ قلوبها عن حفظ مكتوبها، وتعتاض برقم صدورها عن رقم مسطورها، كل ذلك عناية منهم بأخبار أوائلها، وإبانة فضائلها؛ وهل الإنسان إلا ما أسسه ذكره وبناه؟

وهل البقاء بصورة لحمه ودمه لولا بقاء معناه؟.

ومنه قوله:

الخادم يعود المولى من شكاة جسمه، والناس يعودون الخادم من شكاة همه؛ وإذا مرض المولى المنعم سرى مرضه إلى عبيده وخدمه، فهم مشاركوه في اسم مرضه، وإن خالفوه في صورة ألمه؛ وقد تمرض أرواح المرض أجساد، ويشتركان في كل شيء حتى في عيادة العواد.

ومنه قوله في السير:

ولقد سرت مسير الأخبار، وأخذت بمطالع الليل والنهار، حتى عدمت رفقة ورفقا، وصيرت للغرب غربا وللشرق شرقا.

ومنه قوله:

إذا وقفت بالدار تسائل أحجارها، وتبكي آثارها، فإنك لا تبكي التراب، بل الأتراب، ولا تندب الآثار الحائلة، بل الأحباب الزائلة، ولا فائدة في سلامك على الطلل الذي لا يعي خطابا، ولا يرد جوابا، فإنما تخاطب أصداء لا تملك إعادة ولا إبداء؛ وإذا شغلت نفسك بسؤال التراب والجندل، فلا فرق بين سؤال من لا يجيب، وجواب من لا يسأل.

ومنه قوله قريب منه:

ص: 294

ولقد قصد منه كريما لم تزل معاهد أكنافه معهودة، ومن مواهبه أن تكون قاصدة قبل أن تكون مقصودة؛ من يسأله غير درجات المعالي فقد قدح في مواهبه، وحط من مراتبه؛ أمسك المال وجعل حادث هلاكه في ضمن إمساكه، فلو حلف سائله أن يصافح السحاب لبر في يمينه بمصافحة يمينه، وليس هذا من المجاز الذي يتوسع في مقاله، بل هو من حقيقة القياس الذي يحمل على أشباهه وأمثاله.

ومنه قوله: وبأيديهم كل لدن شدته في لينه، وتمكن النصر منوط بتمكينه، فما منهم إلا من اعتقل ما يماثله قدا، ويناسبه جدا، فإذا مثلت شكولها وشكولهم قيل:

صعاد، في أيدي صعاد وإذا مثل غناؤها وغناؤهم قيل: أساود في أيدي آساد؛ ومن صفاتها أنها لا تنشد [إلا] إذا كانت قصائد، ولا تجور إلا إذا كانت قواصد، قد أدبها الثقاف من عهد فطامها، وكانت منابت التراب من شرابها، فأصبحت منابت الترائب من طعامها، فهذه هي الرماح التي تعلقها أيدي الأبطال، وتأوي منها إلى معاقل بذلك الاعتقال.

ومنه قوله:

مننّا عليهم من الأسلاب بالبيض القواطع، ليجعلوا حليها أساور في أيدي البيض ذوات البراقع «1» ، وحلية السيف لا تحسن إلا بكف يكون به ضاربا لا له حاملا، وإذا عطل في موقف الجهاد، فالأولى له أن يجعل عاطلا، فخفنا أن ينشدهم قول أبي العتاهية «2» :[الهزج]

ص: 295

فصغ ما كنت حليت

به سيفك خلخالا

فما تصنع بالسيف

إذا لم تك قتالا

ومنه قوله:

ولقد تعقبت الأيام نقصها بإتمامها، ونقضها بإبرامها، ونسي نعي ميتها ببشرى حيها، ونشرت المكارم التي كانت طويت، فوفى أنس نشرها بوحشة طيها، وأصبح عزاء الناس مستدركا بالهناء، وعوضوا عن كنز الغنى بكنز الغناء، حتى استرجعت العبرات ما جادت به من سحاب مزنها، واستبدلت ببرد مسرتها من حرارة حزنها.

ومنه قوله في الحلم:

إذا حكمت قدرته في الذنوب كان العفو لها عاتقا، وإذا أحب الشفعاء أن يشفعوا إليه كان كرمه لهم سابقا، فلا بارقة في بوارقه إلا وهي مغشية بغمامة حلمه، ولا بادرة من بوادره إلا وهي محبوسة في قبضة كظمه؛ وعلى هذا فإن الجاني غير مقتصر لديه إلى إقامة الأعذار، ولا إلى التوبة التي تستر عورة الإصرار، فيوشك أنه تخلق بخلق الله سبحانه في عموم المغفرة، ورأى أن لا أثر يبقى في صدر المغيظ إذا تولت إذهابه يد المقدرة.

ومنه قوله في الخمر:

سقيت مغارسها بالسرور بدلا من الماء، وجمع لها بين وصفين من تذكير الأفعال وتأنيث الأسماء، وما سجنت في دنها إلا لما عندها من النفار، وكانت حمراء اللون فألبسها السجن ثوب الاصفرار، وقد شبهت بالنار الموسوية في تألق ضرامها، وبالنار الخليلية في بردها وسلامها، وإذا نظر إليها وإلى زجاجها أشكل الأمر بينها وبين الزجاج، وقيل: هذا سراج في كأس أم كأس في سراج؟

ص: 296

ومنه قوله:

النفوس تؤثر الخير تكلفا والشر طبعا، وهي مجبولة على حب الشهوات قلبا ولسانا وبصرا وسمعا، لكن للتدريج أثر في تقويم الاعوجاج، واصطناع الياقوت من أحجار الزجاج، ولهذا استخرج من أوراق الشجر وشائع الديباج.

ومنه قوله في المدح:

إذا أفضت في الثناء عليه، تنافس النظم والنثر في الاستقلال بأوصافه، وما منهما إلا من فض ختام طيبه ونشر مطاوي أفوافه، فما ترى في مديحي لمولانا من حسن فليس لها مخلوقا، بل من أوصاف سيدنا مسروقا:[البسيط]

إذا القصائد كانت من مدائحهم

يوما فأنت لعمري من مدائحها

ومنه قوله:

المال يكون في خزائن أربابه صامتا، وإذا خرج في العطايا صار ناطقا، فيا قبحه في أيديهم حبيسا، ويا حسنه عنهم آبقا، ولم يسمع قبله بآبق أفاد صاحبه حمدا، وبنى له مجدا.

ومنه قوله في قريب منه:

جود مولانا قد هون على الناس مشقة الاغتراب، وأراهم من نعيم الإنعام ما حبب إليهم فراق الأحباب، فما منهم إلا من يحمد خطوب الأيام التي أخرجته من دياره، ونقلته عما لم يؤثر الانتقال منه إلى ما لقيه من إيثاره؛ فمثال بابه الكريم بقتلى الأيام، كمثل الجنة بقتلى الحمام؛ فلو علم داخل الجنة أنها تكون له مصيرا، لاستعذب كأس الحمام وإن كان مريرا؛ وذلك كما قال ابن الخياط «1» :

ص: 297

[البسيط]

لأشكرن زمانا كان حادثه

وصرفه بي إلي معروفكم سببا

ومنه قوله:

إذا حكمت سيوفنا في أموال العدى، حكمت فيها وسائل الندى، فهى طالبة ومطلوبة، وسالبة ومسلوبة، إلا أنها تأخذ ما تأخذه اقتسارا، وتعطي ما تعطيه اختيارا، فلها بسطة الغالب ومنّة الواهب.

ومنه قوله في شكر منعم:

إذا تقابلت مدائحي وسجاياه، رأيت مرآة صقيلة، تقابل صورة جميلة، فلولا هذه ورونق صقالها لما تمثلت تلك على هيئة جمالها؛ وأنا أول من طبع مرآة من الكلام، وصور الأخلاق فيها بصور الأجسام.

ومنه قوله:

وردت إشارة سيدنا أن أنظم في فلان قصيدا، يكون في نظمه فريدا، وقد علم أن أحرار الكلام وردت أن لها عزة الأحرار، وهي كالنفوس الأبية في الاستعلاء والاستكبار، فإذا كلفت مدح لئيم صدت مجانبة، وذهبت مغاضبة، ولهذا أبى كلامي وهو الحر في نسبه، الكريم في حسبه، أن يمدح من عرضه حرّاق قادح، وفريسة جارح، وطعمة هاج لا مادح؛ ولطيمة الطيب لا تلتئم بالكنيف، وصورة الشوهاء لا يزين منها التسوير والتشنيف.

ومنه قوله في قلم:

أخرس وهو فصيح الإيراد، وأصم وهو يسمع مناجاة الفؤاد، لا ينطق إلا إذا قطع لسانه، ولا يضحك إلا إذا بكت أجفانه.

ص: 298

ومنه قوله في تفضيل الإحسان على الثناء:

الشكر أخف من الإحسان وزنا، وصاحبه يستبدل الذي هو خير بالذي هو أدنى، ولقد ربحت صفقته إذا باع أقوالا وحاز أموالا، وأعطى كلمات خفافا وأخذ عروضا ثقالا؛ ومن زعم أن شكر الشاكر أفضل من موهبة الواهب فقد أغلى القول فيما ليس بغال، وأتى ويده السفلى من مكان عال؛ وأيّ فضل لمن غايته أن يكون مجازيا لا موازيا، ومعاملا لا معادلا؟ وإذا أنصف علم أنه جاء أخيرا، ولا فرق بينه وبين من أعطي أجره فصار أجيرا، وما أرى الشكر إلا حديثا يذهب في الرياح لو لم تقيده مكارم السماح، فلا حاجة مع لسانها إلى الشاكر، وإذا نطقت الحقائب فقد أغنت بنطقها عن مديح الشاعر «1» .

ومنه قوله:

الخادم لا يشكو الأقوام، ولكن يشكو الأيام؛ فإن المعدى على قدر العدوى، والمشكو إليه على قدر الشكوى؛ وممّا يشكوه منها أنها تبادهه ولا تواجهه، وتسارره ولا تجاهره، ولو كان لها شخص للقيه بعزم مولانا فقارعه، أو أرهبه باسمه الكريم فوادعه؛ وهي عبيده، تجني وهو المطلوب بجنايتها، وإذا رأت بأحد عناية من جاهه قرنتها بعنايتها؛ والمملوك يطالب مولانا بأرش «2» جراحها، ويسأله عناية تكف من غرب جماحها.

ومنه قوله في سرى النياق:

كم للركاب من يد لو علمتها لجعلت تراب أخفافها للعيون إثمدا، وخطط

ص: 299

منازلها للجباه مسجدا؛ فهي الحاملة أعباء الهمم، والممكّنة من نواصي النعم.

ومنه قوله: جوده بعيد على الأمل، غير مفتقر إلى العذل، وإذا احتفل فهو نهر طالوت الذي حلل للغرفة لا للنهل.

ومنه قوله في كريم:

لا يضرب بين ماله حجابا وبين السائلين، وإذا عذل على الجود أجاب بقوله تعالى: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ

«1» .

ومنه قوله في الاقتصاد في طلب الرزق:

الإنسان في كفالة الله يرزقه غير واثق، وهو في كل طريق إليه سالك ولكل باب فيه طارق، وكثيرا من يأتيه الرزق وهو عن طلبه نائم، ويقعد عن ابتغائه وهو إليه قائم، ولا يصرف الأقدار إلا القادر على خلقها، وكم من دابة مرزوقة وهي ضعيفة عن حمل رزقها.

* قلت: ذكرت بهذه الكلمة دعاء كتاب كتبه ابن عبد الظاهر عن الملك الظاهر إلي وزيره بأن يربع «2» دواب الحرس، وكان قد أمر بإخصائها، لإزعاجها له بالنهيق، ثم رآها فرحمها، فأمر بذلك؛ والدعاء:

ولا زال يشكره غرب البلاد وشرقها، وحمامها وورقها، وما من دابة في الأرض إلا على الله- وعلى حسن تدبيره- رزقها «3» .

ص: 300

عدنا إلى ابن الأثير:

ومنه قوله في ذكر الخدمة:

لو ساغ لوليّ من أولياء الديوان العزيز أن يمت بولائه، أو يدل بما أبلاه في الخدمة من حسن بلائه، لكان لسان الخادم في هذا المقام أكرم صدقا، أو مكانه منه أشرف حقا، لكن ليس لقائم بخدمتها أن يمن بقيامه، كمن ليس لمسلم أن يمن بإسلامه؛ والخادم وإن أمسك عن ذكر خدمه، فقد نطقت بها شهرة سماتها، وأصبحت مواقفها في المواقف أبكارا، ونطق البكر في صماتها، ولم تزل معروضة بالديوان العزيز، وكل وقت إبان وقتها، وهي كالآيات التي لا تأتي منها إلا كانت أكبر من أختها.

ومنه قوله:

ولطالما أورى الاغتراب عزا، وأثار من السعادة كنزا، حتى إن الله جعله سنة في أنبيائه ورسله، ونهج لهم سبيل العز بسلوك سبله، كسنة الغربة اليثربية، في الهجرة النبوية، وما أوجسه من القوة بعد الفرار، والكثرة بعد ثاني اثنين إذ هما في الغار؛ والتقليل سبب للسكون، والشهادة داعية لهدوء العيون، ولو لزم السيف غمده لم يبن أثر مضاربه، ولا خدمه لسان في نظم شاعره ولا نثر خاطبه، وبالاغتراب عذب ماء البحر لما فارق السحاب.

ومنه قوله:

له القلم الذي يصرع الخطب الجليل بضعفه، ويسبق الحرف الأمون «1»

بحرفه، وإذا نكس رأسه رأيت أبهة الخيلاء في عطفه، فهو يجل بأسا ويدق

ص: 301

جسما، ويمج من لسانه شهدا وسمّا، فإذا ارتقى أنامله قيل: خطيب رقا منبرا، وإذا اهتز في يده كأنّه جانّ ولى الخطب مدبرا.

ومنه قوله:

لو ذهب الحزن بالدمع وانهماله، لكان الصبر بصاحبه أحرى، ولو لم ينل به أجرا، فكيف وصلوات الله ورحمته من ثوابه، وما اعتاض المرء صبرا عن المصاب، إلا كان فيه عوض عن مصابه.

ومنه قوله:

المكر ضراب من تحت الثياب، وسيفه لا يقطع إلا وهو في القراب، وصاحبه يلقى بوجه الأحباب، وهو كالجبل الذي تحسبه جامدا وهو يمر مرّ السحاب، يفرق الجموع وقد كادت تكون عليه لبدا، ويجعل قوتها أضعف ناصرا وكثرتها أقل عددا، ويستغني بلين كيده عن شدة أيده، وكثيرا ما يطعن أقرانه قبل الطعان، ويفاجئهم بالذعر وهم من الأمن في صوان.

ومنه قوله في التضرع إلى قريب مضايق:

أنا أسأله بالرحم التي أمر الله باتقائه واتقائها، وتكفل بالإسقاء يوم القيامة لمن تكفل بإسقائها، واشتق لها لكرامتها عليه اسما من اسمه، وقسم لواصلها ببسط العمر والرزق اللذين هما من أفضل قسمه، فلا تتركني أتأوه بقلب المتألم، وأجهر بلسان المتظلم، وأن أصله بسهام الدعاء القاصدة، وأحاكمه إلى صراعة البغي التي ليست عن الباغي براقدة، وأتمثل بقوله تعالى: إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ

«1» ويعز عليّ أن ألقاه بهذا القول

ص: 302

الذي أنا فيه غير مختار، ولئن كان من المحظور النهي عنها، فالمحظور يباح لمرتكبه عند الاضطرار.

ومنه قوله في تذكير بعض الطغاة:

تذكير الطاغي من سنة الله التي خلت في عباده، وإن عسر نقله عما جبلت عليه فطرة ميلاده، وقد أمر موسى بتذكير فرعون مع أنه لم يستفد ذكرى، بل زاد إلى طغيانه طغيانا وإلى كفره كفرا.

ومنه قوله: ونصبت المجانيق فألقت عصيها وحبالها، وصبت على أقطار البلد نكالها، فسجدت لها الأسوار سجود السحرة لفعل العصا، وبادرت بالإيمان لها مبادرة من أطاع وما عصى، فلم يكن إيمانها إلا بعد إذن الأحجار، التي ما أذنت لمشيد إلا أخذ في البوار، وخر من الأقطار، وأصبح كشجرة اجتثت فوق الأرض مالها من قرار.

ومنه قوله في كتاب:

ورد كتابه فطلع طلوع الصباح السافر، على المدلج الحائر، لا بل أقبل إقبال الحياة على الأجساد، والحيا على السنة الجماد، فعظم موقعه أن يزال باليد أو ينال بالنظر، أو يوصف بأنه ثاني المطر، أو ثالث الشمس والقمر.

ومنه قوله، رسالة في البندق:

من المآرب ما يفعل طالبه، ويرتاح ناصبه، ويشترك فيه الناس، فكل منهم صاحبه كالقنص الذي هو للخاصة نهزة مراح، وللعامة صفقة أرباح، وهو جامع لرياضة أجسام ومسرة أرواح؛ وسأذكر موقفا وقفته وموسما عرفته، تخلسه الدهر إذا عرفته؛ وذلك أني في زمن الربيع، والأرض ديباجة، والسماء زجاجة، والجوّ

ص: 303

قد أصبح بأنفاس الرياض معطرا، والشمس قد ضربت في أرجائها عمودا، فاخضر اخضرارا معصفرا، ولقد أصاب من مثل العام شخصا، وجعل الربيع بمنزلة ثغره النسيم، أو عمرا وجعله بمنزلة شبابه الوسيم، وقد زاد عندي حسنا أني أصبحت في هذا اليوم أصحب أخاه الذي شابهه في اعتدال زمانه، لا في تلون ألوانه، وناسبه في طيب شيمه، لكنه أسخى منه في فيض كرمه، وهو مولانا الملك الذي سعيه مشتقّ من لقبه، وسبقه إلى المعالي كسبق المنتمي إليه من نسبه، والمسمون بالملك كثير، غير أن هذا الاسم لا يختص إلا به «1» :

[الكامل]

ملك زهت بمكانه أيامه

حتى افتخرن به على الأيّام

وكان المنتظم بخدمته في هذا اليوم غلمان كأنهم لؤلؤ منظوم، وهو أشرف خادم لأشرف مخدوم، ومقامهم في الحسن سواء، فلا يقال فيهم: وما منا إلا له مقام معلوم، وكلهم قد تأهب للطرد تأهبه للطراد، وهم متقلدون قسي البندق مكان النجاد، فإذا تناولوها في أيديهم قيل: أهلة طالعة من أكفّ أقمار، وإذا مثل غناؤها وغناؤهم قيل: منايا مشوقة بأيدي أقطار؛ وتلك قسيّ وضعت للعب لا للنضال، ولردى الأطيار لا لردى الرجال، وإذا نعتها ناعت قال: إنها جمعت بين وصفي اللين والصلابة، وصيغت من نوعين غريبين، فحازت معنى الغرابة، فهي مركبة من حياة ونبات، ومؤلفة منهما على بعد الشتات، فهذا من سكان البحر وسواحله، وهذا من سكان البر ومجاهله، ومن صفاتها أنها لا تتمكن من البطش إلا حين تشدّ، ولا تنطلق في شأنها إلا حين تعطف وترد؛ لها بنات أحكم تصويرها، وصحح تدويرها، فهي في لونها صندلية الإهاب، وكأنما صنعت لقوتها من حجر لا من تراب، فإذا قذفتها الأطيار قيل: ويصعد من الأرض من

ص: 304

جبال فيها من برد، ولا ترى حينئذ إلا قتيلا، ولكن بالمثقل الذي لا يجب في مثله قود، فهي كافلة من تلك الأطيار بقبض نفوسها، منزلة لها من جو السماء على أم رؤوسها، فما كان إلا أن ابتدر أولئك الغلمان طلقا من الرمي، يأتي على اختيار المختار المنايا ذات أسماع وأبصار، وإذا عرض له السّرب لم يخش فوت خطأ ولا فوت قرار، فمن بين دراجة أدرجت في ثوب دمائها، وحمامة حمّ عليها نزع دمائها، ومن كروان فجع بينهم فراخه، وإوزة ودّت لو لجأت إلى الصائد ومكيد فخاخه، فلم يضرنا مع ذلك فقد المنتخب من الجوارح، وكان اليوم كيوم المحصب «1» من كثرة الذبائح، وشهدت في خلال هذا المنتزه من لطائف اللذات ما يغلو على مستامه، ولا يجيله خاطر المنى في أوهامه، وإذا تذكرته النفس أعاد آخر طعمه أوله، وقالت: ترى الدهر نام عنه أو أغفله، على أنه لا يستغرب مواتاة مثله لمثل هذا السلطان، الذي الأيام له عبيد، ولا تمضي إلا ما يريد، ومن أكرم نعم الله عليّ أن أصبحت من خدمه معدودا، وعلى خدمته محسودا فلهذه النعمة أن أمسكها إمساك الشكور، وأصاحبها مصاحبة الغيور، وقد كنت بالأمس أنذر لها نذورا، وأنا الآن واف بتلك النذور، والسلام.

ومنه قوله من كتاب كتبه في معنى كتاب فاضلي، كتبه إلى الظاهر يعزيه بوالده؛ وكان جرى حديث هذا الكتاب في بعض المجالس فاستحسن، وطلب الجماعة الحاضرون أن يعارض بمثله، فأملى هذا الكتاب عليهم، وكان المتوفى قد مات وقت الصباح:

كتب المملوك كتابه هذا في ساعة أفلت الشمس فيها عند الصباح، وذهبت بروح الدنيا التي ذهبت بذهابها كثير من الأرواح، وتلك ساعة ظلت بها

ص: 305

الألباب حائرة، وتمثلت فيها الأرض مائرة، والجبال سائرة، وأغمد سيف الله الذي كان على أعدائه دائم التجريد، وخفت الأرض من جبلها الذي كان يمنعها أن تميد، وأصبح الإسلام وقد فقد ناصره، فهو أعظم فاقد لأعظم فقيد، وليس أحد من الناس إلا وقد أصم سمعه الخبر، وأصيب في سواد القلب والبصر، وقال وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول عمر، ولما غلبت على الدفاع عنه ألقيت بيدي إلقاء مكسور الجناح، واستنجدت الدموع والدموع من شر السلاح، ونظرت إلى العساكر حوله ولا غناء لها عن كثرة السيوف والرماح، وقد ودعته وداع من لا مطمع له في إيابه، وحال الترب بيني وبينه فصار بعيدا مني على اقترابه، وبرغمي أن يمشي لي قلم بعزائه، وأن أكاتب به أعز أعزائه، وليس عندي صبر حتى أحثّ على مثله، ولو كنت من رجاله لغلبني الأسى بخيله ورجله، والذي يستنطقه المولى من رأي فإن هذه الرزية أخرسته عن الكلام، وتوفته مع مخدومه الذاهب فاستويا جميعا في الحمام، ولكن في وصية عبد الملك لأولاده ما يغني عن الآراء واستنطاقها، وقد ضرب لهم مثلا في الاجتماع والافتراق باجتماع القداح وافتراقها؛ والسلام.

ومنه قوله ما كتبه إلى الأفضل عليّ عند عوده إلى الديار المصرية المحروسة:

وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ

«1»

يقبل الأرض بالمقام الشريف العالي المولوي السلطاني الملكي الأفضليّ النوريّ، جعل الله الليالي والأيام من جنده، وأظهر آيته في اعتلاء أمره وتجديد جده، ووهبه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، وعقد له لواء نصر لا شركة للناس في عقده؛ ويهنئ مولانا بأثر نعم الله المؤذنة له باجتبائه، حتى بلغ أشده واستخرج كنز آبائه، ولو أنصف لهنأ الأرض منه بوائلها والأمة بكافلها، خصوصا أرض

ص: 306

مصر لأنها قد حظيت بسكناه، وغدت في بحرين من فيض البحر وفيض يمناه، فأصبحت تشمخ بأنفها، وتسمو بطرفها، وتجير من الأيام وصدفها، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها، أو سيقت إليه الجنة بنضارتها وسرورها «1» :

[الكامل]

ما زلت تدنو وهي تعلو عزة

حتى توارى في ثراها الفرقد

وقد كان منتهى أمل الأولياء أن تعود الضالة إلى ربها، وتفك الطريدة المغصوبة من يد عضبها، فأتى فضل الله بما لم يؤمله أمل الآمل، وعوض عن القطرة الواحدة بسحاب هاطل، وهذه نعمة يضيق عنها مجال القول المعاد، ويسرع بياضها في سواد الحساد؛ فلو غدت الجباه ساجدة، والقلوب حامدة، والأيدي ترفع الدعاء بادئة وعائدة، لما وفى ذلك بحقها، ولا أخرج الأعناق من عهدة رقها؛ وأحسن ما فيها أنها زارت على غير ميعاد، وحثت ركابها من غير سائق ولا حاد، وتخطت وقد ضرب دونها بسور من صدور الظبا ورؤوس الصعاد، فلم يكن لأحد فيها منة سوى الله الذي قرب بعيد أسبابها، وفتح مستغلق أبوابها، وأبرزها على حين غفلة من حجابها، فيجب على مولانا أن يختزنها بالإنفاق، وأن يقيدها بالإطلاق، وأن يقص أجنحتها لتظل طائرة في الآفاق؛ والمملوك في هذه الوصية كصيقل نصل له من جوهره صقال، وعاصر سحاب له من نفسه انهمال.

ومنه قوله في المجانيق:

ونصب المجانيق فأنشأت سحابا يخشى محلها، ولا يرجى وبلها، فما سيقت إلى بلد حي إلا أماتته، ولم تأته إلا أتاه أمر الله إذ أتته، فلم تزل تقذف

ص: 307

السور بصوبها المدرار، وتنزل عليه جبالا من برد غير أنها من أحجار.

ومنه قوله في التوكل:

وألطاف الله لا يعرفها إلا من عرف الله فوفاه حقه، ولم يكن ممن ضرب له مثلا ونسي خلقه.

ومنه قوله:

وأفتى قوم بوقار المشيب بغير علم فضلوا وأضلوا، وما أراه إلا محراثا للعمر، ولم تدخل آلة الحرث دار قوم إلا ذلوا.

ومنه قوله في الحث على الصدقة:

إنما الصدقة لمن قمصه الفقر لباسا، فستر ذلك اللباس، وكان لا يفطن به فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس، والنار تتقى بشق تمرة، وما سد رمقا لا يطلق عليه اسم قلة، وإن لم يكن موصوفا بكثرة.

ومنه قوله في عيادة مريض:

ولما بلغ المملوك خبر شكاته، هيض منه ما ليس بمهيض، وأصبح وهو الصحيح أشد شكوى من المولى وهو المريض، وقد ودّ لو وقاه، وتلك أقصى درجات الوداد، ولم يق إلا نفسه بنفسه، وقد تجتمع النفسان في جسد من الأجساد، ولقد ناجى المملوك نفسه: إن هذه الشكاة لا تلبث إلا تلبث الزائر عند المزور، وإنها لم تأت إلا لتظهر ما عند الناس من مودات الصدور، فكم من أيد بالدعاء ممدودة، ونذور عند الله ليست بمعدودة، ولقد أخذ المملوك بالخبر النبويّ، فجعل الصدقة طبيبا، وتقالّ بأحاديث منام لم يحدث بها إلا لبيبا أو حبيبا.

ص: 308

ومنه قوله: وهم سيوف الله التي إذا جردت زالت الهام عن مناكبها، واستوى في القتل نفس مضروبها وضاربها، فما عليها جاهدت صابرة محتسبة ما كان من موارد هلكها، ولا ألم عندها للكلوم إذا جاءت يوم القيامة، ولونها لون دمها وريحها ريح مسكها.

ومنه قوله في عدم قبول توبة باغ:

التوبة وإن جبت ما قبلها، فإنها معتبرة ممن ندم على ما فات، وأخلص فيما هو آت، وأما من يظهر أمرا ويبطن خلافه فإنه لا يلج بابها، ولا يرجو ثوابها.

ومنه قوله:

الفراسة تقرب عيونها، وتصدق ظنونها، والإنسان شر مكنون، يظهره الاختيار، ويخفيه الاختبار، وقد عولنا في ولاية فلانة على فلان، وما أهلناه لها حتى توسمنا منه ما نتوسم من الصالحين، وعضدنا رأينا فيه برأي من عندنا من الناصحين.

ومنه قوله:

فلان يومه في الصحبة كغده، ولسانه في العفاف كيده، لا يحفر لأخيه قليبا، ولا يكون على عوراته رقيبا.

ومنه قوله:

مواقيت الحمد مقسومة على مواقيت النعم، ولكلّ منهما قسمة منه وإن تفاوتت في أقدار القسم، ولا نعمة أعظم من سعادة المثول بالديوان العزيز الذي يرغب إليه ويرهب، ويقرأ فضله في السماء ويكتب، ويحجب لمهابته عن

ص: 309

الأبصار، ويداه عنها لا تحجب؛ والعبد يحمد الله على هذه النعمة حمدا لا يزال جديدا، وليس فوقها غاية في الزيادة حتى يسأل مزيدا، ولو أمن إنكار أمير المؤمنين لخرّ بهذا المقام ساجدا، وهو يسجد له طائعا كما يسجد لله عابدا:

[المتقارب]

طلبنا رضاه بترك الذي

رضينا له فتركنا السّجودا

ولو بصر مخدوم العبد بمكانه لحسده على مواضع رجله، ورأى العلياء وهي شراك لنعله، وقال: يا ليتني فزت بمثل هذا الحظ الذي ليس شيء كمثله، وكيف لا يحسد وقد وقف بموقف يقرب من الجنة ويباعد من النار، ويقمص الواقف به رداء فخر لا يخلق على تطاول الأعمار، ويعطيه أمانا من زمنه حتى يصبح وله على الزمن الخيار، ولا جناح عليه أن ملكته مخيلة الإعجاب، وأن رأى السماء فوقه وهي منال يد في الاقتراب، ولولا أنه بصدد أداء الرسالة التي يحملها لبسط من عنانه، وانتهى إلى غاية ميدانه.

الآن ينهي خدمة مخدومه الذي له في الأولياء نسب كريم، وعرق قديم، يقول الاستحقاق: وأنا به زعيم، ومن أحسن أوصافه أنه لا يمتّ بما عنده من عقيدة في الطاعة ناصعة من الأكدار، راقية كل يوم إلى درجة تحتاج في التي قبلها إلى الاستغفار، ولئن حصل بذلك على مراضي أمير المؤمنين فإنه لا يني فتورا، ولكنه يأخذ بالقول النبوي فيقول: «ألا أكون عبدا شكورا.

وله شعر ذكره ابن العطار «1» ، منه قوله «2» :[الطويل]

ص: 310

رضيت بما ترضى به لي محبة

وقدت إليك النفس قود المسلم

ومثلك من كان الفؤاد شفيعه

يكلمني عنه ولم يتكلم

وقوله: [المنسرح]

لا طرق الداء من بصحبته

يصح منا الرجاء والأمل «1»

لا عجبا أن نقيكم حذرا

نحن جفون وأنتم مقل

وقوله: [الطويل]

وساءلتموه بعدكم كيف حاله

[و] ذلك أمر بين ليس يشكل

فعن قلبه لا تسألوا فهو عندكم

وأما عن الجسم المخلف فاسألوا

وقوله «2» : [مجزوء الرجز]

ثلاثة تجلو الفرح

كيس وكوب وقدح

ما ذبح الدنّ بها

لكن للهمّ ذبح

وقوله: [الطويل]

وأهيف تحكيه الغزالة مقلة

وجيدا ويحكيها لنا في شماسه

أعار قضيب البان لين انعطافه

فأهدى إليه حلة من لباسه

وقوله: [البسيط]

لولا الكرام وما سنّوه من كرم

لم يدر قائل شعر كيف يمتدح

وهذا البيت عكس قول أبي تمام «3» : [من الطويل]

ص: 311