الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عما قليل تتجلى في حللها النضرة، وتتبين أنها لا ما عداها الدنيا إذ هي الخضرة.
24- ومنهم: محمود بن سلمان بن فهد، الحلبي، الكاتب، شيخنا العلامة، حجة الكتاب، فرد الزمان، شهاب الدين، أبو الثناء
«1»
* جبل أدب لا مطمع في ارتقائه، وبحر علم لا مطمح إلا إلى ما يؤخذ من تلقائه؛ رقى السماء وتلقى من ربه كلمات علم بها الكتّاب الأسماء؛ ناضلت الدول بأقلامه، وكلمت ملوك العدى بكلامه، فحظي ببرها، وخطب لحفظ سرها، وتقدم باستحقاقه، واستعبد الكلام الحر باسترقاقه، وأقام بالشام ثم بمصر فطاب به الواديان كلاهما، وأغدق نوؤهما وكلؤهما، وكان كاتبا لا يعرف له نظير، ولا يعرف مثله في الزمن الأخير، تعين بدمشق فكان للكتاب والدا، وتفرد بمصر فبقي سهما في الكتابة واحدا، وكان بابل سحر، وعنبر شحر، وعانة مدام، وغاية إقدام، وغابة أسد ذي ظفر دام، لم يزل نجي ملك همام، ورسيل بحر وغمام، بكتب طالما أينعت روضة زهر وأفق سماء، نرجسه الثريا ومجرته النهر؛ وكان لا يرضى بدارات الأقمار لزهره كمامة، ولا بالهلال لظفر قلمه قلامة، بأدب دق على الأدباء، ورق فنسب الجفاء إلى الصهباء، فأشفق الشفق أن يكون لكؤوس كلمه مدامة، ودخان الند أن يكون على عنبر سطوره غمامة، وكان في الديوانين يتصدى لمهمات الإنشاء، فكم أطال لوجوه الأيام غررا، وقلد أعناق
الممالك دررا، من تقاليد لو شيدت العماد لماماد، أو حبا بفضلها الفاضل لأنطق الجماد، أو أثرت ابن الأثير لاستغنى مما يثير، أو بنى على أبكارها ابن بنان لما ضم له على قلم بنان، أو خلّت شيئا لابن الخلال، لتاه بكرم الخلال، أو خصت ابن أبي الخصال بخصلة لطال بها وصال، وكسر على النصال النصال، إلى نظم وطئ بأخمصه الطائيين، وأفنى بخلود الذكر مدة الخالديين، بما أهدي إليه وترك الكندي مضللا، وخلى العزيز في قومه ابن أبي سلمى مذللا، حتى لو وسم عبيد بولائه في القريض لما قال: حال الجريض «1» ، فأما في توليد المعاني ففات ابني هاني «2» ، ونهض جده وسقط صريع الغواني؛ فمن نسيب نسي به القديم، وغزل ذكر به كل غزال ورئم كل ريم، ورثاء أسكت النائحتين الديلمي وذا النسب الصميم «3» ، وتشبيه ثلّث الملكين ابن المعتز [و] تميم «4» ، إلى تباس «5» أرهب العسكري في «الصناعتين» ، وفلك جرض «6» الراغب والجاحظ في البراعتين، وكان في كل منهما إماما، وسح في كل منهما غماما، بسجع كم غازل على أيكه حماما، وأعطى الغواني على حلي ذماما، وشق على لبة النهر أطواقا، وأرخى على أنامل الغصون أكماما؛ ثم ولي بدمشق صحابة ديوان الإنشاء، وأطلع في الصباح نجوم العشاء.
وهو شيخي في الأدب، وإن لم يكن لي أبا مثل أب، لزمته منذ قدم دمشق حتى مات، أقرأ عليه وأقرئ مما لديه، ومن حواصله أنفقت وجمعت وفرقت،
وسددت إلى الغرض وفوقت؛ وأقول ولا أخشى: فمهما وصفته به من المحاسن صدقت، لأن الرجل أشهر من الشمس، وذكره أسير من «قفانبك» ، قد أنجد ذكره وأتهم، وأعرق وأشأم، وغنى به الملاح والحادي، وغني به سكان الجبل والوادي، هذا إلى ما له من المشاركة في علم الحديث، وحفظ المتون والرجال، والاطلاع على آراء الناس ومذاهب الأمم في الملل والنحل، وفرق الخلاف ومواضع الاختلاف، وضبط التاريخ، واستحضار الوقائع، وذكر نوب الدهر، وتصاريف الزمان، وأيام العرب والعجم، ومعرفة النسب ودول الخلفاء والملوك وأحوال الوزراء والكتاب والشعراء، ومشاهير الأمة والأعيان من أهل كل علم، والمقدمين في كل فن والمبرزين في كل صنعة، وأسماء الكتب المصنفة والمجاميع المؤلفة، وإجادة النظر في معرفة الخطوط، والإلمام بكتابة المكاتيب الحكمية والشروط، إلى معرفة الأمثال الجاهلي منها والمولد، والملوكي والسوقي، وأمثال الخواص والعوام، والعربي منها والعجمي، والأصل في ضرب كل مثل، مع إتقان قوانين الديوان مما لم يجمعه سواه، ولو تفرد بواحد منه كفاه، وبه انتفع كتاب زمانه وتخرجوا عليه، وتدربوا بين يديه.
أخذ الفقه عن ابن المنجّا، والنحو عن ابن مالك، والأدب عن ابن الظهير؛ وتنقل في الوظائف، وطلبه عمي إلى الديار المصرية بعد محيي الدين بن عبد الظاهر على معلومه، وكتب بين يدي الوزير ابن السلعوس، وقل أن كتب مدة مقامه بالحضرة مهم جليل إلا من إنشائه؛ وعين لقضاء الحنابلة بمصر فامتنع، حتى بعث إلى دمشق صاحبا لديوان الإنشاء، وأقام بها حتى مات.
ومن تصنيفه كتاب «حسن التوسل إلى صناعة الترسل» و «منازل الأحباب» و «أهنى المنائح في أسنى المدائح» من نظمه في المديح الشريف النبوي، زاده الله
شرفا، ولم يكن مثله في إعطاء كل مقام حقه موفّى، من غير زيادة ولا نقص؛ وذكر ملاحم الحروب على إفراط التهويل، في رقة الغزل، للطف تخيله، ودقة تحيله، واستعاراته، وغرائب تشبيهاته.
ومن نثره قوله في توقيع لابن جماعة، بتدريس المدرسة المجاورة للشافعي:
وهو يعلم أن ذكر هذه البقعة سار في الآفاق، جار على ألسنة الرفاق، قدر شامية الشام ونظامية العراق، وأنها جمعت من العلماء أعلاما، ومن الأمة أئمة، لولا شرف البقعة لتفرقوا في الأرض هداة وحكاما، فلا يقف في العلم عند غاية، وليجد في طلب النهاية، وإن لم يكن للعلم نهاية، وليمثل نفسه ماثلا بين يدي من نسبت إليه، ويقيم روحه مقام من جلس للقراءة عليه، وليبث ما استودعه من أسرار مذهبه ليسبر عنه من معدنه، وينقل الفضل إلى الأوطان من مظنته وموطنه، وليلق بها عصا السرى، فإنها منزلة لا ينوي من بلغها سيرا، وليحمد الله على ما وهبه من بضاعته، فإنه من يرد الله به خيرا. «1»
ومنه قوله في تقليد وزير:
وليبدأ بالعدل، فإن الله قدمه على الإحسان، وحلى بهما أيامنا، ويجانب الظلم وأهله، فإن الله أرهف بمحوه من الوجود سيوفنا وأقلامنا، ويقرنه بالإحسان، فإن الله رفع بهذا منار ملكنا وأعلى بذا أعلامنا، ويمد خزائن الأموال بمكنون تدبيره، ويعد لمهمات الدولة القاهرة ذخائر تصرفه الجميل وحسن تأثيره، وليزن ذلك بالرفق، فإنه مع الخبرة أجدى من العنف وأجدر، وإذا رام المنبتّ بلوع الغاية، فإن المتثبت أقوى منه على ذلك وأقدر، فإن النماء مع العدل كفرسي رهان، وليس الخبير من حصل الأموال بالظلم بل من حصلها والحق عزيز
والباطل مهان، وليتحر الحق المحض فيما أمر بأخذه رفقا ويناقش على حقوق بيت المال، فإنهما سواء من أخذ لغيره باطلا أو ترك له حقا، وليجتهد في عمارة البلاد، فإنها على الحقيقة معادن الأرزاق، وكنوز الأموال التي لا ينفدها الإنفاق.
ومنه قوله:
وقلدته مهابتنا سيفا يلمع مخايل النصر من غمده، وتشرق جواهر الفتح في فرنده، وإذا سابق الأجل إلى قبض النفوس، عرف الأجل قدره فوقف عند حده؛ ومتى جرده على ملك من ملوك العدى، وهنت عزائمه، وعجز جناح جيشه أن تنهض به قوادمه، وعلم أن سيفنا على عاتق الملك الأغر نجاده، وفي يد جبار السماوات قائمه.
ومنه قوله:
وسرنا بالجيش الذي لا يدرك الطرف حده، ولا الوهم عده، وكأن ذوائب السحاب عذب بنوده، وكأن شوامخ الآكام مناكب أبطاله ومواكب جنوده، وما قصد عدوا إلا ونازلهم قبل خيلهم خياله، وقضى عليهم وعده ووعيده، قبل أن ترهف أسنته أو ترعف نصاله؛ وإذا لمع حديده وخفقت عذبه وبنوده، قيل هذا غمام تلهبت بوارقه، ودمدمت صواعقه؛ أو بحر تلاطمت أمواجه، أو سيل غصت به فجاجه، وعكس أشعة الشمس اضطرابه وارتجاجه، وما علا جبلا إلا وألحق صعوده إليه جريه بالصعيد، وما منع الريح مواجهته إلا لتسمع صهيل خيله بأقصى الروم من أقصى الصعيد.
ومن قوله:
وما رهج العدو المخذول بالحركة ورمي الصيت؟ فإن عدة العاجز الصياح،
وقوة الجبان في القول، والقول يذهب في الرياح؛ وقد علموا أنهم ما قدموا إلينا إلا وكان أحد سلاحهم الهرب، ولا طمعوا في النجاح وكان لهم في غير الحياة أرب، يبالغون في الاحتشاد، والجازر لا يهوله كثرة الغنم، ويستكثرون من السواد، ووجود من لا ينفع أشبه شيء بالعدم، فقوتهم ضعيفة، ووطأتهم خفيفة، وثباتهم أقصر من حل العقال، وصبرهم أسرع من الظل في الانتقال، وخيولهم لا تطيع أمر أعنتها إلا في الفرار، ورماحهم لا تحمل كل أسنتها إلا للخور والانكسار، وسهامهم لا عهد لها بالمقاتل، وصفاحهم كل شيء من القصب غيرها يمكن وصفه بأنه قاتل؛ فإن دلاهم الشيطان بغروره، فسيبرأ منهم سريعا، وإن أطمعهم في اللقاء فستردهم كلام سيوفنا كأقسام الكلام الثلاثة:
هزيما أو أسيرا أو صريعا.
ومنه قوله رسالة طردية:
لا زال يمنه يستنزل العصم من معاقلها، ويسمع السهام الصم ما تحدث به حركات الطير عن مقاتلها، ويلجئ ضواري الوحش إلى سيوف أوليائه لترقرق ماء الفرند فيها بمناهلها، وينهي أنه سار إلى ما واجه وجه إقباله، متيمنا بسعده الذي ما برح يعتلق بحباله، ومعه:
من الجوارح كل بازي شديد الأسر، صحيح على ما اتصف به من الكسر، ينظر من بهار، ويخطر في ليل رقم به أديم نهار، ذي صدر مدبّج، ورأس متوج، ومخلب خطوف، ومنسر كصدغ معطوف، أسرع من هوج الرياح، وأقتل من عوج الصفاح، ينحط على الطير من عل، ويسبق إلى مقاتل الوحش كل رام من بني ثعل.
ومن الضواري كل حام أسبق من السهم، وأخف في الوثبة من الوهم، ذي
صدر مجدول وساعد مفتول، وأنياب عصل، وظفر أقطع من نصل.
ومن الفهود كل أهرت الشدق، ظاهر الحدق، بادي العبوس، مديّر الملبوس، شثن البراثن بأنياب كالمدى، ومخالب كالمحاجن، قد أخذ من الفلق الغسق إهابا، وتقمص من السماح والبخل جلبابا، يضرب المثل في سرعة وثوب الأجل به وبشبهه، وتكاد الشمس مذ لقبوها بالغزالة لا تطّلع على وجهه، يسبق إلى الصيد مرامى طرفه، ويفوت لحظ مرسله إليه، فلا يستعمل النظر إلا وهو في كفه، وتتقدمه الضواري إلى الوحش، فإذا وثب له تعثرت من خلفه.
ومعنا غلمة نحن بسهامهم منها أوثق، وهم بإصابة شواكل المراد من كل ما ذكر أحذق؛ إذا أخذ كل منهم حنيته أرانا القمر في القوس، وإن نظم رميته قيل: هذا حبيب وإن لم يكن ابن أوس «1» ، فما لاح طائر إلا وله من السهام أجل، ووراءه من رجل الجوارح زجل؛ إن أخطأ هذا أصاب هذاك، وربما كان لهما «2» استهام في تحصيله واشتراك؛ وإن سنح وحش، فالسهام أدنى إلى وريده من قلادة جيده، فإن فات فالكلب أعرف باختلاسه منه بكناسه، وأسرع إلى احتباسه من رجع أنفاسه، وإلا فالفهد أسرع إلى لحاقه من أجله، وألزم لعنقه لو كان يعقل من عمله، وظللنا بين قدير معجل، وقديد مؤجل، نمش بأعراف الجياد كفوفنا «3» ، ونقري من صواف الطير وأصناف الوحش ضيوفنا، وكنا بين صيد تحصل وآخر يترقب، وغدونا «4» :[الطويل]
كأن عيون الوحش حول خبائنا
…
وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب
وقد أرسلنا إليه من ذلك ما يتحقق به إن نمته أمارنا وأوري نارنا، ويستدل به على حسن ظفرنا في سفرنا، وإنارة توفيقنا في طريقنا؛ والله تعالى لا يخلي منه مكان تأييد، ويبلغه من السعادة فوق ما يريد.
ومنه قوله:
وإن المخذولين أقبلوا كالرمال، واصطفوا كالجبال، وتدفقوا كالبحار الزواخر، وتوالوا كالأمواج التي لا يعرف لها الأول من الآخر، فصدمتهم جيوشنا المنصورة صدمة بددت شملهم، وعلمت الطير أكلهم، وحصرتهم في الفضاء، وطالبت أرواحهم الكافرة بدين دينها فأسرفت في القضاء، وحصدت سيوفنا المنصورة ما يخرج عن وصف الواصف، وكانوا كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، وأحاطت بهم كتائبنا المنصورة فلم ينج منهم إلا من لا يؤبه لهم من فريقهم، وقسمتهم جيوشنا المؤيدة من الفلوات إلى الفرات، بين القتل والأسر، فلم يخرج عن تلك القسمة غير غريقهم، وأعقبتهم تلك الكسرة أن هلك طاغيتهم أسفا وحسرة وحزنا على من قتل من تلك المقاتلة، وأسر من تلك الآسرة، وأماته الرعب من جيوشنا المنصورة فجاءة، واستولى عليه الوجل، فجاءه من أمر الله ما جاءه.
ومنه قوله مما كتب بمآل ملك سيس «1» :
وتبادر إلى الطاعة قبل أن يبذلها فلا تقبل، ويتمسك بأذيال العفو قبل أن يرتفع دونه فلا تسبل، وتعجل بحمل أموال القطيعة، وإلا كان أهله وأولاده في
جملة ما يحمل إلينا، ويسلم ما عدا عليه من فتوحنا، وإلا فهو يعلم أنها وجميع ما تأخر من بلاده بين أيدينا.
ومنه قوله:
هذه المكاتبة إلى فلان، لا زال مأمون الغرة، مأمول الكرة، مجتنيا حلو الظفر من كمام تلك المرّة المرّة، راجيا من عواقب الصبر ما يسفر له مساء تلك المساءة عن صبح المسرة، واثقا من عوائد نصر الله بإعادته ومن معه في القوة والاستظهار كما بدأهم أول مرة، أصدرها وقد اتصل به بناء ذلك المقام الذي أوضحت فيه السيوف عذرها، وأبدت به الكماة صبرها، وأظهرت فيه الحماة من الوثبات والثبات ما يجب عليها، وبذلت فيه الأبطال من الجلاد جهدها، ولكن لم يكن الظفر إليها، وكان عليهم الإقدام على غمرات الحرب الزبون، والاصطلاء بجمرات المنون، ولم يكن عليهم إتمام ما قدّر أنه لا يكون، فكابرت رقاب الأعداء في ذلك الموقف السيوف، وكاثرت أعدادهم الحتوف، وتدفقت بحارهم على جداول من معه، ولولا حكم القدر لانتصفت تلك الآحاد من تلك الألوف، فضاق بازدحام الصفوف على رجاله المجال، وزاد العدد على الجلد، فلم يفد الإقدام على الأوجال مع قدوم الآجال، وأملى للكافرين بما قدّر لهم من الإنظار، وحصل لهم من الاستظهار، وعوضوا بما لم يعرفوه من الإقدام على ما ألفوه من الفرار وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ
«1» وقد ورد أنهم ينصرون كما ننصر، وإذا كانت الحروب سجالا، فلا ينسب إلى من كانت عليه، إذا اجتهد ولم يساعده القدر، أنه قصر، مع أنه قد أشهر ما فعله في مجاله من الذب عن رجاله، وما أبداه في قتاله من الضرب الذي ما تروّى فيه خصمه إلا
بدره بارتحاله، وأن الرماح التي امتدت إليه أخرس سفه ألسنة اسنتها، والجياد التي قدمت عليه جعل طعنه أكفالها مكان أعنتها، فأثبت في مستنقع الموت رجله «1» ووقف وما في الموت شك لواقف «2» ، ليحمي خيله ورجله، حتى يجيز أصحابه إلى فئة مأمنهم، وأقام نفسه دونهم دريئة لمن بدر من سرعان القوم أو ظهر من مكمنهم، وهذا هو الموقف الذي قام له مقام النصر إذ فاته النصر «3» ، والمقام الذي أصيب فيه من أصحابه آحاد يدركهم أدنى العدد، فقد فيه من أعدائه مع ظهورهم ألوف لا يدركهم الحصر؛ وكذا فليكن قلب الجيش كالقلب، يقوى بقوته الجسد، وإذا حقق اللقاء فلا يفرعن كناسه إلا الظبي، ولا يحمي عرينه إلا الأسد، وما بقي إلا أن تعفو الكلوم وتثوب الحلوم، وتندمل الجراح، وتبرأ من قلوب المضارب صدور الصفاح، وتنهض لاقتضاء دين الدّنى من غرمائه المعتدين، وتبادر إلى استنجاز وعد الله، فإن الله يمحّص المؤمنين ويمحق الكافرين؛ والليث إذا جرح كان أشد لثباته، وأمد لوثباته؛ والموتور لا يصطلى بناره، والثائر لا يرهب الإقدام على المنون في طلب ثأره، والدهر ذو دول، والزمان متلون، إن دجت عليكم منه بالقهر ليلة واحدة، فقد أشرق لكم منه بالنصر ليال أول؛ فالمولى لا يلتفت إلى ما فات، ويقبل بفكره على تدبير ما هو آت، ويعد للحرب عدته، ويعجل أمد الاستظهار ومدته، ولا يؤخر فرصة الإمكان، ولا يعد ذكر ما مضى فإنه دخل في خبر كان، ولا يظهر بما جرى عجزا،
فإن العاجز من ظن أنه يصيب ولا يصاب، ولا يتخذ غير ظهر حصانه حصنا، فلا حرز أمنع من صهوة الجواد، ولا سلم أسلم من الركاب؛ وليعلم أن العاقبة للمتقين، ويدرع جنة الصبر ليكون من النصر على ثقة، ومن الظفر على يقين؛ فإن الله مع الصابرين، ومن كان الله معه كانت يده الطولى، وإذا لاقى عدو الله وعدوه فليصبر لحملته، فإن الصبر عند الصدمة الأولى؛ والله تعالى يكلؤه بعينه، ويمده بعونه، ويجعل الظفر على عدوه موقوفا على مطالبته له بدينه.
ومن قوله في مثله على الطريق المعتاد في ذم المهزوم:
هذه المكاتبة إلى فلان، أقاله الله عثرة زلته، وأقامه من حفرة ذلته، وتجاوز له عن كبير فراره من جمع عدوه على قلته؛ بلغنا أمر الواقعة التي لقي فيها العدو بجمع قليل غناؤه، ضعيف بناؤه، كثيف في رأي العين جمعه، خفيف في المعنى وقعه ونفعه، أسرع في مفارقة المحال من الطل في الانتقال، وأشبه في مماثلة الوجود بالعدم من طيف الخيال؛ يحفّون منه بقلب واجب، ويهتدون من تجريبه وتهذيبه برأي بينه وبين الصواب حاجب، ويأتمون منه بمقدم يرى الواحد ممن عدوه كألف، ويتسرعون منه وراء مقدم يمشي إلى الزحف ولكن إلى خلف، جناح جيشه مهيض، وطرف سنانه غضيض، وساقة عسكره ظالعة، وطلائعه كالنجوم ولكن في حال كونها راجعة، تأسف السيوف بيمينه على ضارب، وتأسى الجنائب حوله إذ تعد لمحارب فتغدو لهارب، وإنه حين وقعت العين على العين، وأيقن عدوه لما رآه من عدده وعدده بمعاجلة الحين، أعجل نصول العدى عن وصولها، وترك غنيمة الظفر لعداه بعد أن أشرف على حصولها، تناديه ألسنة الأسنّة الكرة الكرة، ولا يلتفت إلى ندائها، وتشكو له سيوفه الظمأ وقد رأت موارد الوريد فيعيدها إلي الغمود بدائها؛ فمنح عدوه مقاتل رجاله، وأباحهم كرائم مال جنده وماله، وخلى لهم خزائن سلاحه التي أعدها لقتالهم،
فأصبحت معدة لقتاله، فنجا منجى الحارث بن هشام «1» ، وآب بسلامة أعذب منها- لو عقل- شرب كأس الحمام، واتسم بين أوليائه وأعدائه بسيمة الفرار، وكان يقال: النار ولا العار، فجمع له فراره من الزحف بين النار والعار، وعاد بجمع موفور من الجراح، موقر من الإثم والاجتراح، لا علم بما جرى عند أسيافهم، ولا شاهد بمشاهدتهم الوغى غير مواقع الظبا في أكتافهم، فبأي جنان يطمع في معاودة عدوه، وهذا قلبه وهؤلاء حزبه؟
وذلك القتال قتاله، وذلك الحرب حبه؟ وبعد، كان له حمية يتطهر آثارها، أو أريحية فيشب نارها، أو أنفة فستحمله على غسل هذه الدنية، وتبعثه على طلب غايتين، إما شهادة مريحة أو [عيشة] هنية؛ والله تعالى يوقظ عزمه من سنته، ويعجل له الانتصاف من عدوه قبل إكمال سنته.
ومنه قوله:
فكم مل ضوء الصبح مما يغيره، وظلام النقع مما يثيره، وحديد الهند مما يلاطمه، والأجل منا يسابقه إلى قبض الأرواح ويزاحمه.
ومنه قوله:
وكفى السيوف فخرا أنها للجنة ظلال، وإلى النصر مآل، وإذا كان من بيان الحديث سحر، فإن بيان حديثها عمن كلمته هو السحر الحلال.
ومن قوله في قريب من معناه:
حسب ألسنته الأسنة شرفا، أن كشف خبايا القلوب يذم إلا منها، وأن بث
أسرار الضمائر تكره روايته إلا عنها، فمكرر حديثها في ذلك لا يفضي إلى الملال، وإن لم يكن حسن حديثها الذي يسحر الألباب مما يحل، فليس في الحيث سحر حلال.
ومنه قول في قريب من معناه إلا أنه جعله في البلاغة:
البلاغة تسحر الألباب حتى تحيل العرض جوهرا، وتخيل الهواء المدرك بالسمع لانسجامه وعذوبته في الذوق نهرا، لكنه سحر لم يجن قتل المسلم المتحرز «1» ، فنتأول في حله؛ وإذا كان من الحديث ما هو عقلة المستوفز «1» ، فهذه أنشوطة نشاطه البليغ، وحل عقال عقله.
ومنه قوله:
خطه شكر للعقول، وفتنة تشغل المطمئن بملاحة المرأى المكتوب عن فصاحة المسموع المقول، ولو لم يكن البيان سحرا لما تجسدت منه في طرسها هذه الدرر، ولو لم يكن بعض السحر حلالا، لما انجلى ظلام النقس عما يهدي به من هذه الأوضاح والعذر.
ومنه قوله مما كتب به إلى أمير سرية:
ولا زال أخف في مقاصده من وطأة ضيف، وأخفى في المطالبه من زورة طيف، وأسرع في تنقله من سحابة صيف، وأروع للعدي في تطلعه من سلة سيف، حتى تعجب عدو الدين في الاطلاع على عوراته، من أين دهي وكيف؟
وتعلم أن أول قسمة اللقاء حصل عليه في مقاصده الحيف، أصدرناها إليه نحثه
على الركوب بطائفة أعجل من السيل، وأهول من الليل، وأيمن من نواصي الخيل، وأقدم من النمر، وأوقع على المقاصد من الغيث المنهمر، وأروع في مخاتلة العدى من الذئب الحذر، على خيل تجري ما وجدت فلاة وتطيع راكبها مهما أراد منها سرعة أو أناة، تتسنم الجبال الصم كالوعل، وإذا جارتها البروق غدت وراءها تمشي الهويني كما يمشي الوجي الوحل «1» ، وليكن كالنجوم في سراه، وبعده ذراه؛ إن جرى فكالسهم، وإن خطر فكالوهم، وإن طلب فكالليل الذي هو مدرك، وإن طلب فكالجنة التي لا يجد ريحها مشرك؛ حتى يأتي على عدو الدين من كل شرف، ويرى جمعه من كل طرف، ولا يسرف في الإقامة عليه، إلا إذا علم أن الخير في السرف؛ وليحرز جمعهم، ويسبق إلى التحرز منهم بصرهم وسمعهم، وينظرهم بعين منعها الحزم أن ترى العدد الكثير قليلا، وصدها العزم أن ترى العدو الحقير جليلا، بل ترى الأمر على قصه، وتروي الخبر على نصه، وإن وجد مغرورا فليأخذ خبره، وإن قدر على الإتيان بعينه، وإلا فليذهب أثره، ولا يهج فيما لديه نار حرب إلا بعد الثقة بإطفائها، ولا يوقظ عليه عين عدو، مهما ظهر له أن المصلحة في إغفائها، وليكشف من أمورهم ما يبدي عند الملتقى عورتهم، ويخمد في حالة الزحف فورتهم، وليجعل قلبه في ذلك ربيئة طرفه، وطليعة طرفه، وسرية كشفه؛ والله تعالى يمده بلطفه، ويحفظه بمعقبات من بين يديه ومن خلفه.
ومما كتبه إلى بعض نواب الثغور:
أصدرناها ومنادي النفير قد أعلن بيا خيل الله اركبي، ويا ملائكة الرحمن اصحبي، ويا وفود الظفر والتأييد اقربي؛ والعزائم قد ركضت على سوابق الرعب
إلى العدى، والهمم قد نهضت إلى عدو الإسلام فلو كان في مطلع الشمس لاستقربت ما بينها وبينه من المدى، والسيوف قد أنفت من الغمود فكادت تنفر من قربها، والأسنة قد ظمئت إلى موارد القلوب، فتشوقت إلى الارتواء من قلبها، والكماة وقد زأرت كالليوث إذا دنت فرائسها، والجياد قد مرحت لما عودتها من الاشتغال بجماجم الأبطال فوارسها، والجيوش وقد كاثرت النجوم أعدادها، وسايرتها للهجوم على أعداء الله من ملائكته الكرام أمدادها، والنفوس قد أضرمت الحمية للدين نار غضبها، وعداها حر الإشفاق على ثغور المسلمين عن برد الثغور وطيب شنبها، والنصر قد أشرقت في الوجود دلائله، والتأييد قد ظهرت على الوجوه مخايله، وحسن اليقين بالله في إعزاز دينه قد أنبأت بحسن المآل أوائله، والألسن باستنزال نصر الله لهجة، والأرجاء بأرواح القبول أرجة، والقلوب بعوائد لطف الله بهذه الأمة مبتهجة، والحماة وما منهم إلا من استظهر بإمكان قوته وقوة إمكانه، والأبطال وليس فيهم من يسأل عن عدد عدوه بل عن مكانه، والنيات على طلب عدو الله حيث كان مجتمعة، والخواطر مطمئنة بكونها مع الله بصدقها، ومن كان مع الله كان الله معه، وما بقي إلا طي المراحل، والنزول على أطراف الثغور نزول الغيث على البلد الماحل، والإحاطة بعدو الله من كل جانب، وإنزال نفوسهم على حكم الأمرين الأمرّين، من عذاب واصل وهم ناصب، وإحالة وجودهم إلى العدم، وإحالة السيوف التي إن أنكرتها أعناقهم فما بالعهد من قدم، واصطلامهم على أيدي العصابة المؤيدة بنصر الله في حربها، وابتلاؤهم من حملاتها بريح عاد التي تدمر كل شيء بأمر ربها.
فليكن مترقبا لطلوع طلائعها عليه، متيقنا من كرم الله تعالى استئصال عدوه الذي إن فر أدركته من ورائه، وإن ثبت أخذته من بين يديه، وليجتهد في
حفظ ما قبله من الأطراف وضمها، وجمع سوام الرعايا من الأماكن المخوفة ولمها، وإصلاح ما يحتاج إلى إصلاحه من مسالك الأرباض المتطرفة ورمها؛ فإن الاحتياط على كل حال من آكد المصالح الإسلامية وأهمها، فكأنه بالعدو وقد زال طمعه، وزاد ظلعه، وذم عقبى مسيره، وتحقق سوء منقلبه وضميره، وتبرأ من الشيطان الذي دلاه بغروره، وأصبح لحمه موزعا بين ذئاب الفلاة وضباعها، وبين عقبان الجو ونسوره، ثقة من وعد الله الذي تمسكنا منه باليقين، وتحققنا أن الله ينصر من نصره، وأن العاقبة للتقين.
ومنه قوله:
هذه المكاتبة إلى فلان- أتبع الله ما ساءه من أمرنا مع العدو بما يسره، وبلغه عنا من الانتصاف والانتصار ما يظهر من صدق الصفاح وألسنة الرماح سره وأراه من عواقب صنعه الجميل ما يتحقق به أن كسوف الشمس لا ينال طلعتها، وأن سرار القمر لا يضره- توضح لعلمه أنه ربما اتصل به خبر تلك الوقعة التي صدقنا فيها اللقاء، وصدمنا العدو صدمة من لا يحب البقاء، وأريناه حربا لو أعانها التأييد فللت جموعه، وأذقناه ضربا لو أن حكم النصر فيه إلى النصل أوجده مصارعه وأعدمه رجوعه، وحين شرعت رياح النصر تهب، وسحاب الدماء من مقاتلهم تصوب وتصب، وكرعت الصفاح في موارد نحورهم، وكشفت الرماح خبايا صدورهم، ولم يبق إلا أن تستكمل سيوفنا الريّ من دمائهم، وتقف صفوفنا على ربوات أشلائهم، وتقبض بالكف من صفحت الصفاح عن دمه، وتكف بالقبض يد من ألبسته الجراح حلة عندمه، أظهروا الجزع في عزائمهم، وحكموا الطمع في غنائمهم، فحصل لجندنا إعجاب أعجل سيوفنا أن تتم هدم بنيانهم، وطمع منع فوارسنا أن تكف عن النهب إلى
أن نصير من ورائهم، فاغتنم العدو تلك الغفلة التي ساقها المهلكان العجب والطمع، وانتهز فرصة الكرة التي أعانه عليها المطمعان إبداء الهلع وتخلية ما جمع، فانتثر من جمعنا بعض ذلك العقد المنتظم، وانتقض من حزبنا ركن ذلك الصف الذي أخذ فيه الزحام بالكظم، وثبت الخادم في طائفة من ذوي القوة في يقينهم، وأرباب البصائر في دينهم، فكسرنا جفون السيوف، وحطمنا صدور الرماح في صدور الصفوف، وأرينا تلك الألوف كيف تعد الآحاد بالألوف، وحلنا بين العدو وبين أصحابنا بضرب يكف أطماعهم، ويرد سراعهم، ويعمي ويصم عن الآثار والأخبار أبصارهم وأسماعهم، إلى أن نفسنا للمنهزم عن خناقه، وأيأسنا طالبه من لحاقه، ورددناه عنه خائبا بعد أن كانت يده متعلقة بأطواقه، وأحجم العدو مع ما يرى من قلتنا عن الإقدام علينا، ورأى منّا جدّا كاد لولا كثرة جمعه يستسلم به إلينا، وعادوا ولنا في قلوبهم رعب يبيتهم وهم الغالبون، ويدركهم وهم الطالبون، ويسلبهم رداء الأمن وهم السالبون؛ وقد لمّ الخادم شعث رجاله، وضم فرقهم بذخائر ماله، وأمدهم بنفقات حلت أحوالهم، وأطلقت في طلب عدوهم أقوالهم، وسلاح جدد استطاعتهم، وأعان شجاعتهم، وخيول تكاد تسابقهم إلى طلب عدوهم، وتحضهم على أخذ حظهم من اللقاء، كأنها تساهمهم في أجر رواحهم وغدوهم، وقد نضوا رداء الإعجاب عن أكتافهم، واعتصموا بعون الله وتأييده لا بقوة جلدهم، ولا بحدة أسيافهم، وسيعجلون العدو إن شاء الله عن اندمال جراحه، ويتعجلون إليه بجيوش تسوؤه طلائعها في مسائه، وتصبحه كتائبها في صباحه، والله تعالى لا يكلنا إلى جلدنا، ولا ينزع أعنة نصره من يدنا.
ومنه قوله مما كتبه على لسان مولود إلى أبيه، ولم يكتب به:
يقبل الأرض ابتداء بالخدمة من حين ظهر إلى الوجود، وتشوقا إلى امتطاء
صهوات الجياد بين يدي سيده قبل المهود، وتمنيا أن يكون أول شيء يقع عليه نظره من الدنيا وجه مولانا الذي تعلو بنظره الجدود، وتتيمن برؤيته كواكب السعود، وينهي أنه يعجل السوق على صغره، وكأن كمال المسرة به أن يقع نظر مولانا الشريف عليه قبل البشرى بخبره، لتلقى عليه أشعة سعادة مولانا في ساعة ظهوره، ويكسى قبل أن تلقى عليه الملابس من إشراق محيّاه حلل نوره، ويكون أول ما يلج مسامعه صوت مولانا يحمد ربه على الزيادة في خدمه، وتكثير من يضرب بين يديه في الحرب بسيفه، ويقف في السلم أمامه على قدمه؛ فإن من يكون نجل مولانا تنطق بالنجابة مخايله، وتدل على الشجاعة سماته قبل أن تدل عليها شمائله؛ والهلال سيصير في أفقه بدرا منيرا، والشبل سيعود كأبيه أسدا هصورا؛ والله تعالى يهب العبد عمرا يبلغ به من طاعة مولانا ما يجب عليه، ويرزقه عملا صالحا يتقرب به إلى ربه وإليه.
ومنه قوله رسالة كتبها في البندق «1» :
الرياضة- أطال الله بقاء الجناب الفلاني، وجعل حبه كقلب عدوه واجبا، وسعده كوصف عبده للمسار جالبا، وللمضار حاجبا- تبعث النفس على مجانبه الدعة والسكون، وتصونها عن مشابهة الحمائم في الركون إلى الوكون، وتحضها على أخذ حظها من كل فن حسن، وتحثها على إضافة الأدوات الكاملة إلى فصاحة اللسن، وتأخذ بها طورا في الجد وطورا في اللعب، وتصرفها في ملاذ السمو في المشاق التي يستروح إليها التعب، فتارة تحمل الأكابر والعظماء
في طلب الصيد على مواصلة السرى، ومقاطعة الكرى، ومهاجرة الأوطار، ومهاجمة الأخطار، ومكابدة الهواجر، ومبادرة الأوابد التي لا تدرك حتى تبلغ القلوب الحناجر، وذلك من محاسن أوصافهم التي يذم المعرض عنها؛ وإذا كان المقصود من مثلهم جدّ الحرب، فهذه صورة لعب يخرج إليه منها، وتارة تدعوهم إلى البروز إلى الملق، وتحدوهم في سلوك طريقهم مع من هو دونهم على ملازمة الصدق ومجانبة الملق، فيعتسفون إليها الدجى إذا سجى، ويقتحمون جرف النهار إذا انهار، ويتنعمون بوعثاء السفر في بلوغ الظفر، ويستصغرون ركوب الخطر في إدراك الوطر، ويؤثرون السهر على النوم، والليلة على اليوم، والبندق على السهام، والوحدة على الالتئام.
ولما عدنا من الصيد الذي اتصل بعلمه حديثه، وشرح له قديم أمره وحديثه، تقنا إلى أن نشفع صيد السوانح برمي الصوادح، وأن نفعل في الطير الجوانح بأهلة القسي ما تفعل الجوارح، تفضيلا لملازمة الارتحال، على الإقامة في الرحال، وأخذا بقولهم:[البسيط]
لا يصلح النفس إذ كانت مدبّرة
…
إلا التنقل من حال إلى حال
فبرزنا وشمس الأصيل تجود بنفسها، وتشير من الأفق الغربي إلى جانب رمسها، وتغازل عيون النور بمقلة أرمد، وتنظر إلى صفحات الورد نظر المريض إلى وجوه العوّد «1» ، فكأنها كئيب أضحى من الفراق على فرق، أو عليل يقضي بين أصحابه بقايا مدة الرمق، وقد اخضلت عيون النّور لوداعها، وهم الروض بخلع حلّته المموهة بذهب شعاعها:[البسيط]
والطل في أعين النوار تحسبه
…
دمعا تحير لم يرقأ ولم يكف
كلؤلؤ ظل عطف الغصن متشحا
…
بعقده وتبدى منه في شنف
يضم من سندس الأوراق في صرر
…
خضر ويجني من الأزهار في صدف
والشمس في طفل الإمساء تنظر من
…
طرف غدا وهو من خوف الفراق خفي
كعاشق سار عن أحبابه وهفا
…
به الهوى فتراءاهم على شرف
إلى أن نضى المغرب عن الأفق ذهب قلائدها، وعوضه عنها من النجوم بخدمها وولائدها، فلبثنا بعد أداء الفرض لبث الأهلة، ومنعنا جفوننا أن ترد النوم إلا تحلة.
ونهضنا وبرد الليل موشع، وعقدة مرصع، وإكليله مجوهر، وأديمه معنبر، وبدره في خدر سراره مستكن، وفجره في حشا مطالعه مستجن، كأن امتزاج لونه بشفق الكواكب خليطا مسك وصندل وكأن ثرياه لامتداده معلقة بأمراس كتان إلى صم جندل «1» :[الطويل]
ولاحت نجوم الليل زهرا كأنها
…
عقود على خود من الزنج تنظم
محلقة في الجو تحسب أنها
…
طيور على نهر المجرة حوّم
إذا لاح بازي الصبح ولت يؤمها
…
إلى الغرب خوفا منه نسر ومرزم
«2» إلى حدائق ملتفة، وجداول محتفة، إذا حس النسيم غصونها اعتنقت عناق الأحباب، وإذا فزّك من المياه متونها انسابت في الجداول انسياب الحباب، ورقصت في المناهل رقص الحباب، وإن لثم ثغور نورها حيته بأنفاس المعشوق،
وإن أيقظ نواعس ورقها غنته بألحان المشوق؛ فنسيمها وان، وشميمها لعرف الجنان عنوان، ووردها من سهر نرجسها غيران، وطلها في خدود الورد منبعث، وفي طرر الريحان حيران، وطائرها غرد، وماؤها مطرد، وغصنها تارة يعطفه النسيم إليه فينعطف، وتارة يعتدل تحت ورقائه فتحسب أنها همزة على ألف، مع ما في تلك الرياض من توافق المحاسن، وتباين الترتيب؛ إذ كلما اعتل النسيم صح نشر الروض، وكلما خر الماء شمخ القضيب:[الكامل]
وكأنما تلك الغصون إذا انثنت
…
أعطافها رسل الصبا أحباب
فلها إذا افترقت من استعطافها
…
صلح ومن سجع الحمام عتاب
وكأنها حول العيون موائسا
…
شرب وهاتيك المياه شراب
فغديرها كأس وعذب نطافها
…
راح وأضواء النجوم حباب
تحيط بملق «1» نطافها صاف، وظلال دوحها ضاف، وحصاها لصفاء مائها في نفس الأمر راكد، وفي رأي العين طاف؛ إذا دغدغها النسيم حسبت ماءها بتمايل الظلال فيه يتبرج ويميل، وإذا اطردت عليه أنفاس الصبا، ظننت أفياء تلك الغصون فيه تارة تتموج وتارة تسيل، فكأنه محب هام بالغصون هوى، فمثّلها في قلبه، وكأن النسيم كلف غار من دنوها إليه فميّلها عن قربه «2» :[مجزوء الكامل]
والسرو مثل عرائس
…
لفت عليهن الملاء
شمرن فضل الأزر عن
…
سوق خلا خلهن ماء
والنهر كالمرآة تب
…
صر وجهها فيه السماء
وكأن صواف الطير المبيضة بتلك الملق، خيام أو ظباء بأعلى الرقمتين قيام، أو أباريق فضة رؤوسها لها فدام، ومناقيرها المحمرة أوائل ما انسكب من المدام، وكأن رقابها رماح أسنتها من ذهب، أو شموع أسود رؤوسها ما انطفأ، وأحمره ما التهب، وكنا كالطير الجليل عده، وكطراز العمر الأول جده:[الكامل]
من كل أبلج كالنسيم لطافة
…
عف الضمير مهذب الأخلاق
مثل البدور ملاحة وكعمرها
…
عددا ومثل الشمس في الإشراق
ومعهم قسي كالغصون في لطافتها ولينها، والأهلة في نحافتها وتكوينها، والأزاهر في ترافتها وتلوينها؛ بطونها مدبجة، ومتونها مدرجة، كأنها الشولة «1»
في انعطافها، أو أرواق الظباء «2» في التفافها، لأوتارها عند القوادم أوتار، ولبنادقها في الحواصل أوكار، إذا انتصبت لطير ذهب من الحياة نصيبه، وإن ينصب لرمي بدت لها أنه أحق بها من نصيبه، ولعل ذاك الصوت زجر لبندقها أن يبطئ في سيره، أو يتخطى الغرض إلى غيره، أو وحشة لمفارقة أفلاذ كبدها، أو أسفا لخروج بنيها عن يدها، على أنها طالما نبذت بنيها بالعراء، وشفعت لخصمها التحذير بالإغراء:[البسيط]
مثل العقارب أذنابا معقدة
…
لمن تأملها أو حقق النظرا
إن مدها قمر منهم وعاينه
…
مسافر الطير فيها وانبرى سفرا
فهو المسيء اختيارا إذ نوى سفرا
…
وقد رأى طالعا في العقرب القمرا
ومن البنادق كرات متفقة السرد، متحدة العكس والطرد، كأنها خلطت من المندل الرطب، أو عجنت من العنبر الورد، تسري كالشهب في الظلام، وتسبق
إلى مقاتل الطير مسددات السهام: [البسيط]
مثل النجوم إذا ما سرن في أفق
…
عن الأهلة لكن نورها راء
ما فاتها من نجوم الليل إذ رمقت
…
إلا ثبات يرى فيها وأضواء
تسري فلا يشعر الليل البهيم بها
…
كأنها في جفون الليل إغفاء
وتسمع الطير إذ تهفو قوادمه
…
خوافقا في الدياجي وهي صماء
تصونها جراوة «1» كأنها درج درر، أو درج غرر، أو كمامة ثمر، أو كنانة نبل، أو غمامة وبل، حالكة الأديم، كأنما رقمت بالشفق حلة ليلها البهيم:[السريع]
كأنها في وصفها مشرق
…
تنبت منه في الدجى الأنجم
أو ديمة قد أطلعت قوسها
…
ملونا وانبعثت تسجم
فاتخذ كل لها مركزا، وتقاضى من الإصابة وعدا منجزا، وضمن له السعد أن يصبح لمراده محرزا:[السريع]
كأنهم في يمن أفعالهم
…
في نظر المنصف والجاحد
قد ولدوا في طالع واحد
…
وأشرقوا من مطلع واحد
فسرت لها من الليل علينا من الطير عصابة، أظلتنا من أجنحتها سحابة، من كل طائر أقلع يرتاد مرتعا، فوجد ولكن مصرعا، وأسفّ يبغي ماء جماما، فورد ولكن سما منقعا، وحلق في السماء يبغي ملعبا، فبات هو وأشياعه سجدا للقسي وركعا، فتباركنا بذلك الوجه الجميل، وتداركنا أوائل ذلك القبيل.
فاستقبل أولنا تمّا «1» تمّ بدره، وعظم في نوعه قدره، كأنه برق كرع في غسق، أو صبح عطف على بقية الدجى عطف النسق، تحسبه في ائتلاف المنى غرّة نجح، وتخاله تحت أذيال الدجى طرّة صبح «2» ، وعليه من البياض حلة وقار، وله كرة من عنبر فوق منقار من قار، له عنق ظليم، والتفاتة ريم، وسرى غيم يصرفه نسيم:[المتقارب]
كلون المشيب وعصر الشبا
…
ب ووقت الوصال ويوم الظفر
كأن الدجى غار من لونه
…
فأمسك منقاره ثم فر
فأرسل عن الهلال نجما، فسقط منه ما كبر بما صغر حجما، فاستبشر بنجاحه، وكبر عند صياحه، وحصله من وسط الماء بجناحه.
وتلاه كيّ «3» نقي اللباس، مشتعل شيب الراس، كأنه في عرانين شيبه لا وبله كبير أناس «4» ، إذا سفّ في طيرانه فغمام، وإن خفق بجناحه فقلع له بيد النسيم زمام، ذو غببة «5» كالجراب، ومنقار كالحراب، ولون يغر في الدجى كالنجم، ويخدع في الضحى كالسراب، ظاهر الهرم، كأنما يخبر عن عاد، ويحدث عن إرم:[الكامل]
إن عام في زرق الغدير حسبته
…
مبيض غيم في أديم سماء
أو طار في أفق السماء ظننته
…
في الجو شيخا عائما في ماء
متناقض الأوصاف فيه خفة ال
…
جهّال تحت رزانة العلماء
فثنى إليه الثاني عنان بندقه، وتوخاه فيما بين أصل رأسه وعنقه، فخر كمارد انقض عليه نجم من أفقه، فتلقاه الكبير بالتكبير، واختطفه قبل مصافحة الماء من وجه الغدير.
وقارنته إوزة، حلتها دكناء، وحليتها حسناء، لها في الفضاء مجال، وعلى طيرانها خفة ذات التبرج، وخفر ربات الحجال، كأنما غبت في ذهب، أو خاضت في لهب، تختال في مشيها كالكاعب، وتنأى في خطوها كاللاعب، وتعطو بجيدها كالظبي الغرير، وتتدافع في سيرها مشي القطاة إلى الغدير «1» :[الطويل]
إذا أقبلت تمشي بخطرة كاعب
…
رداح وإن صاحت فصولة خادم
وإن أقلعت قالت لها الريح ليت لي
…
خفا ذي الخوافي أو قوى ذي القوادم
فأنعم بها في البعد زاد مسافر
…
وأحسن بها في القرب تحفة قادم
فلوى الثالث جيده إليها، وعطف بوجه قوسه عليها، فلجت في ترفعها ممعنة، ثم نزلت على حكمه مذعنة، فأعجلها عن استكمال الهبوط، واستولى عليها بعد استمرار القنوط.
وحاذتها لغلغة «2» تحكي لون وشيها، وتصف حسن مشيها، وتربي عليها بغرتها، وتنافسها في المحاسن كضرتها؛ كأنها مدامة قطبت بمائها، أو غمامة شفت عن بعض نجوم سمائها:[السريع]
بغرة بيضاء ميمونة
…
تشرق في الليل كبدر التمام
وإن تبدت في الضحى خلتها
…
في الحلة الدكناء برق الغمام
فنهض الرابع لاستقبالها، ورماها عن فلك سعده بنجم وبالها، فجدت في العلو مغذة، وتطاردت أمام بندقه، ولولا طراد الصيد لم تك لذة «1» ؛ وانقض عليها من يده شهاب حتفها، وأدركها الأجل لخفة طيرانها من خلفها، فوقعت من الأفق في كفه، ونفر من في بقايا صفها عن صفه.
وأتت في إثرها أنيسة «2» آنسة، كأنها العذراء العانسة، أو الأدماء الكانسة، عليها خفر الأبكار، وخفة ذوات الأوكار، وحلاوة المعاني التي تجلى على الأفكار، ولها أنس الربيب، وإذلال الحبيب، وتلفت الزائر المريب من خوف الرقيب، ذات عنق كالإبريق، أو الغصن الوريق، قد جمع صفرة البهار إلى حمرة الشقيق، وصدر بهي الملبوس، شهيّ إلى النفوس، كأنما رقم فيه النهار بالليل أو نقش فيه العاج بالآبنوس؛ وجناح ينجيها من العطب، يحكي لونه المندل الرطب، لولا أنه حطب:[المتقارب]
مدبجة الصدر تفويفه
…
أضاف إلى الليل ضوء النهار
لها عنق خاله من رآه
…
شقائق قد سيجت بالبهار
فوثب الخامس منها إلى الغنيمة، ونظم في سلك رميه تلك الدرة اليتيمة، وحصل بتحصيلها بين الرماة على الرتبة الجسيمة.
وأتى على صوتها حبرج «3» يسبق همته جناحه، ويغلب خفق قوادمه
صياحه، مدبّج المطا، كأنما خلع حلة منكبيه على القطا، ينظر من لهب ويخطو على رجلين من ذهب:[المتقارب]
يزور الرياض ويجفو الحياض
…
ويشبه في اللون كدر القطا
ويهوى الزروع ويلهو بها
…
ولا يرد الماء إلا خطا
فبدره السادس قبل ارتفاعه، وأعان قوسه بامتداد باعه، فخر على الألاءة كبسطام بن قيس «1» ، وانقض عليه راميه، فحصله بحذق، وحمله بكيس.
وتعذر على السابع مرامه، ونبا به عن بلوغ الأرب مقامه، فصعد هو وترب له إلى جبل، وثبت في موقفه من لم يكن له بمرافقتهما قبل، فعن له نسر ذو قوائم شداد، ومناقير حداد، كأنه من نسور لقمان بن عاد «2» ، تحسبه في السماء ثالث أخويه، وتظنه في الفضاء قبته المنسوبة إليه، قد حلق كالفقراء رأسه، وجعل مما قصر من الدلوق الدكن «3» لباسه، واشتمل من الرياش العسلي إزارا، واختار العزلة فلا تجد له إلا في قنن الجبال الشواهق مزارا، قد شابت نواصي الليالي وهو لم يشب «4» ، ومضت الدهور وهو من الحوادث في معقل أشب:[الطويل]
مليك طيور الأرض شرقا ومغربا
…
وفي الأفق الأعلى له أخوان
له حال فتاك وحلية ناسك
…
وإسراع مقدام وفترة وان
فدنا من مطاره، وتوخى ببندقه عنقه، فوقع في منقاره، فكأنما هدّ منه
صخرا، أو هدم به بناء مشمخرا «1» .
ونظر إلى رفيقه مبشرا له بما امتاز به عن فريقه؛ وإذا به قد أظلته عقاب كاسر، فكأنما أضلت صيدا أفلت من المناسر، أو حطت فسحاب انكشف، وإن أقامت فكأن قلوب الطير رطبا ويابسا، لدى وكرها العناب والحشف، «2» بعيدة ما بين المناكب، إذا أقلعت لجت في علو، كأنما تحاول ثأرا عند بعض الكواكب «3» :[المتقارب]
ترى الطير والوحش في كفها
…
ومنقارها ذا عظام مزاله
فلو أمكن الشمس من خوفها
…
إذا طلعت ما تسمت غزاله
فوثب إليها وثبة ليث قد وثق من حركاته بنجاحها، ورماها بأول بندقة فما أخطأ قادمة جناحها، فأهوت كعود «4» صرع، أو طود صدع، قد ذهب بأسها، وتذهب بدمها لباسها، وكذلك القدر يخادع الجو عن عقابه، ويستنزل الأعصم من عقابه، فحملها بجناحها المهيض، ورفعها بعد الترفع في أوج جوها من الحضيض، ونزلا إلى الرفقة، جذلين بربح الصفقة.
فوجد التاسع قد مر به كركي طويل السفار، سريع النقار، شهي العراق،
كثير الاغتراب، يشتو بمصر ويصيف بالعراق، لقوادمه في الجو هفيف، وأديمه لون السماء طرأ عليها غيم خفيف، تحنّ إلى صوته الجوارح، وتعجب من قوته الرياح البوارح، له أثر حمرة في رأسه كوميض جمر تحت رماد، أو بقية جرح تحت ضماد، أو فص عقيق شقت عنه بقاء ثماد، ذو منقار كسنان، وعنق كعنان، كأنما ينوس على عودين من آبنوس:[السريع]
إذا بدا في أفق مقلعا
…
والجو كالماء تفاويفه
حسبته في لجة مركبا
…
رجلاه في الأفق مجاذيفه
فصبر له حتى جازه مجليا، وعطف عليه مصليا، فخر مضرجا بدمه، وسقط مشرفا على عدمه؛ وطالما أفلت لدى الكواسر من أظفار المنون، وأصابه القدر بحبة من حمأ مسنون، فكثر التكبير من أجله، وحمله راميه على وجه الأرض برجله.
وحاذاه غرنوق «1»
حكاه في زيه وقدره، وامتاز عنه بسواد صدره، له ريشتان ممدودتان من رأسه إلى خلفه، معقودتان من أذنه مكان شنفه «2» :[السريع]
له من الكركي أوصافه
…
سوى سواد الصدر والراس
إن شال رجلا وانبرى قائما
…
ألفيته هيئة برجاس
«3» فأصغى العاشر له منصتا، ورماه ملتفتا، فخر كأنه صريح الألحان، أو نزيف بنت الحان، فأهوى إلى رجله بيده وأيده، وانقض عليه انقضاض الكاسر على صيده.
وتبعه من المطار صوغ «4»
كأنه من النضار مصوغ، تحسبه عاشقا قد مدّ
صفحته، أو بارقا قد بث لفحته:[السريع]
طويلة رجلاه مسودة
…
كأن منقاره خنجر
مثل عجوز رأسها أشمط
…
جاءت وفي رقبتها معجر
«1» فاستقبله الحادي عشر ووثب، ورماه حين حاذاه من كثب، فسقط كفارس تقطر عن جواده، أو وامق أصيبت حبة فؤاده، فحمله بساقه، وعدل به إلى رفاقه.
وأقرن به مرزم «2»
له في السماء سمي معروف، ذو منقار كصدغ معطوف، كأن رياشه فلق اتصل به شفق، أو ماء صاف علق بأطرافه علق:[الهزج]
له جسم من الثلج
…
على رجلين من نار
إذا أقلع ليلا قل
…
ت برق في الدجى سار
فانتحاه الثاني عشر متمما، ورماه مصمما، فأصابه في زوره، وحصله من فوره، وحصل له من السرور ما خرج به عن طوره.
والتحق به شبيطر «3»
كأنه مدية مبيطر، ينحط كالسيل، ويكر على الكواسر كالخيل، ويجمع من لونه بين ضدين، يقبل منهما بالنهار ويدبر بالليل، يتلوى في منقاره الأيم تلوي التنين في الغيم:[البسيط]
تراه في الجو ممتدا وفي فمه
…
من الأفاعي شجاع أرقم ذكر
كأنه قوس رام عنقه يدها
…
ورأسه رأسها والحية الوتر
فصوب الثالث عشر إليه بندقه، فقطع لحيه وعنقه، فوقع كالصرح الممرد أو الطراف الممدد.
وأتبعه عناز «1»
أصبح في اللون ضده، وفي الشكل نده، كأنه ليل ضم الصبح إلى صدره، أو انطوى على هالة بدره:[البسيط]
تراه في الجو عند الصبح حين بدا
…
مسود أجنحة مبيض حيزوم
كأسود حبشي عام في نهر
…
وضم في صدره طفلا من الروم
فنهض تمام القوم إلى التتمة، وأسفرت عن نجاح الجماعة تلك الليلة المدلهمة، وغدا ذلك الطير الواجب واجبا، وكمل به العدد قبل أن تطلع الشمس عينا أو تبرز حاجبا، فيالها ليلة حصرنا بها الصوادح في الفضاء المتسع، ولقيت فيها الطير ما طارت به من قبل على كل شمل مجتمع، وأصبحت أشلاؤها على وجه الأرض كفرائد خانها النظام، أو شرب كأن رقابهم من اللين لم يخلق لهن عظام، وأصبحنا مثنين على مقامنا، منثنين بالظفر إلى مستقرنا ومقامنا، داعين المولى جهدنا، مدّعين له قبلنا أوردّنا، حاملين ما صرعنا إلى بين يديه، عاملين على الشرف بخدمه والانتماء إليه:[الطويل]
فأنت الذي لم يلف من لا يودّه
…
ويدعو له في السر أو ندّعي له
فإن كان رمي أنت توضح طرقه
…
وإن كان جيش أنت تحمي رعيله
والله تعالى يجعل الآمال منوطة به وقد فعل، ويجعله كهفا للأولياء وقد جعل.
ومنه قوله مما كتبه جوابا عمن قيل من ادعى إليه في البندق: ولا زالت قدمة فضله مذهبة الفواتح بالفتوح، منبضة بالنجوم عن قوس عزم،
مذ تشبه به هلال الأفق لم يجسر نسر السماء الطائر أن يلوح، منبئة عن فتكات اهتمام، لا ذو الجناح أمامه بناج، ولا يسلم منه مثار الوحش الجموح، مطرزة حلة الظلام برداء شفق، نشره في الأفق من صوب صابية دم الطير المسفوح، صدرت هذه المكاتبة تتلقى بالقبول وجه قصده الجميل، وتقابل سعد طائره الميمون بواجب الود الجليل، ويثني على عزمه الذي ما برح يسري في بردة اليمن إلى رواتبه كل فخار، ويثني أعنة الثناء إلى هممه التي استخارت التوفيق في الادعاء إلى قديم مجدنا الذي تتشرف به الأقدار، فجاد وتشكر سداد مقصده الذي لا يخفي مواقع إصابته الليل، واشتداد ساعده الذي أسبل الجناح على رجل حامله في الأفق إسبال الذيل، معلمة أن مكاتبته الكريمة وردت منبئة عن طروقه مظان الاسترواح، وسراه إلى مواطن النجح التي يحمد فيها عند الصباح، في رفقة من أولياء دولتنا، ما فيهم إلا من حسبه في الولاء صميم، وحديث مجده في إصابة مواقع الصواب في الخدمة قديم، مرهفا عزمة ما رأى نجوم أهلتها النسر الطائر إلا أصبح كأخيه واقعا، ولا نهضت إلى باسط جناح تهينه في أفق السماء إلا خرّ بين يديه متواضعا، وأن السعد هيأ له مقاما يستنزل فيه عظيم الطير من عواصم الأفق، وتسلك فيه رسل قوسه إلى أرواح ذوات الجناح المحلقة في الفضاء أقرب الطرق، وأنه حين مرّ به من اللغالغ صفّ قد أوثق بعضه القدر، وأوثق أوله بدرة عزمه، والبدر لمن بدر، أرسل أعزه الله عن كبد القوس ابنها فأنت، وخطب إلى نفس تلك العصبة من الطير نفسها فما ضنت، وصرع لغلغة مليحة مليحة، فأصابها في أقوى قوادمها إصابة صحيحة صريحة، فأهوت إلى بين يديه من مكامن مكانها، وحملها القديم الذي أشار إليه رافعا بالقسم بعلي لشأنها فتمنى كل تم «1» لو حصل كما حصلت، وود كل صوغ «1» لو صيغت عيونه في جملة
حليها التي فصلت، وأنه ادعى لنا بهذه النسبة التي تثنت بالقبول أحكامها، وتقضى بانتساج الأواصر حكامها، وقد علم بذلك جميعه، وأفضنا في شكره، وأفضينا إلى غاية الثناء الجميل عند ذكره، وسررنا ببلوغ الوطر وحصول الظفر، وتفاءلنا أنه كذلك ينزل على حكم سيوفنا كل من كفر، وقابلنا ذلك بوجه القبول المبتهج، وأمضينا حكم هذا الانتماء الملتحم والانتساب الممتزج، ومن أولى منه بهذا الفخر الذي انتضمت عقوده، وتقابلت في أفق مجده سعوده؛ فليأخذ حظه من بشرى هذا القبول وبشره، حبرة خبره الذي يتضوع الوجود بنشره، والله تعالى يجعل مطالبه مقرونة بالنجاح، قادمة إليه بأنباء السعود على أوثق قوادم وأثبت جناح.
ومنه قوله في النيل:
وأجرى الخلق على عوائد كرمه، وأجرى لهم بقدرته من حجب الغيب مواد نعمه، وأعلى لديهم موارد نيلهم، حتى ما كان يشرب معروق ساقه من نيلهم بتناول الماء بفمه، وأمر البحر فأقبل بالفرج القريب من الأمد البعيد، وأذن له في الرفع عن محله، فسجد على الترب شكرا وتيمم الصعيد، وإن لم يبق به الآن على وجه الأرض صعيد، وأقبل بعد تقصير عامه الماضي بوجه عليه حمرة الخجل، وعزم سبق سيفه إلى المحل العذل بالأجل، وحزم أدرك الجدب موجه قبل أن يقول سآوي إلى جبل، واستظهار على كل ما علا من الأرض حتى إن الهرمين باتا منه على وجل، ومهد الأرض التي كانت ترقبه فهوّلها المنظر على الحقيقة، ووطئ بطن الثرى فنتج الخصب بينهما، وذبح المحل في العقيقة، وتجعد على الآكام فخيل للعيون أنها تسيل، وشيب مفارق الثرى ببياض زبده، وعادة بياض الشيب أن يخضب بورق النيل، فيستقبل نعم الله التي سيسم الأرض وسمها،
ويولي النعم وليها، ويأتي بالركاب أتيّها، حتى تغص بالنعم تلك الرحاب، ويظن لعموم ذي البلاد الشامية أن نيل مصر ركب إليها على السحاب.
ومنه قوله في مثله:
صدرت، ونعم الله قد عمت، وآلاؤه مع تحقق المزيد قد تمت، والسيل قد بلغ في تتبع بقايا القحط الربى، والنيل قد عمّ بنيله حتى كلل مفارق الآكام، وعمم رؤوس الربى، وحمى الأرض من تطرق المحول إليها فأصبحت منه في حرم، وظهرت به عجائب القدرة، ومنها أن ابن ستة عشر بلغ إلى الهرم، وبث جوده في الوجود، فلو صور نفسه لم يزدها على ما فيه من كرم «1» ، وتلقت منه النفوس أبهج محبوب طرد ممقوتا، ووثقت من حمرته بالغنى والمنى، إذ لم يدر أياقوتا يشاهد أم قوتا، وجرى في الوفاء على أكمل ما ألف من عادته، وظهر بإشراقه وعموم نفعه، ظهور الشمس، فألقى على الأرض أشعة سعادته، وبلغ الله به المنافع فزعزع الجبال الشم ولم يتجاسر على الجسور، وأقطع الخصب الأرض كلها، فله كل بقعة مثال مرأى ومنشور منشور، وبعث إلى كل عمل من سراياه جنوده عارضا مغضبا على المحل، ما يخطر إلا وسيفه مشهور، وجرى الأمر في التحليق على عوائد السرور، وعلقت ستارة المقياس لا للإخفاء على عادة الأستار بل للإشاعة والظهور، واستقر حلم المسرة على السنن المعهود، وعاذ الناس به عند مرورهم إذ ذاك برحمة الله يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ
«2»
وها هو الآن يرفع إلى كل تلعة على جناح النجاح، ويخيف السبل وما عليه حرج، ويقطع الطرق وليس عليه جناح.
ومنه قوله يبشر بركوب السلطان بعد تقطر كان حصل له عن جواده: ولا زال مبشرا من النصر بما يقر عين الهدى، ويكمد قلوب العدى، وينذر أهل الكفر من ركوبنا اليوم بطلائع ركابنا عليهم غدا، ويسر حزب الإيمان من أخبار موكبنا الشريف بيوم كفر الدهر ذنب إساءته بالأمس وافتدى.
صدرت تخصه ببشرى عمت بشائرها، وسرت بالمسرات الكاملة بوادرها، وتأرجت الأرجاء، فلولا أمانة الكتب لقيل: تمت بأسرار السرور ضمائرها، وطارت بها محلقات التهاني في الوجود، ووجب بسببها وجوب سجود الشكر على كل مؤمن يتعبد عند تجدد النعمة بفرض السجود، وذلك أنه قد علم ما كان حصل من تأخر ركوبنا هذه الأيام، بسبب ما كان حصل من التقطر الذي كانت عاقبته بحمد الله مأمونة، وكبوة الجواد بحسن المآل فيه ميمونة «1» ، بما ألفنا من عوائد تأييد الله وعونه مضمونة، وكان تأخر الركوب في تلك المدة اللطيفة لموافقة آراء الحكماء في خدمة المزاج، وملاطفة العلاج، وقد منّ الله سبحانه وتعالى في كمال الصحة، وشمول العافية، وزوال البأس وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها
«2» ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس، وسطرناها مبشرة بركوبنا الذي خضعت له أعناق الكفر والشقاق، وسارت به ركائب البشائر ونجائب التهاني في الآفاق، وضاقت به فجاج الأرض بأولياء الطاعة، فلولا سلوكهم آداب الخدمة في الترجل بين أيدينا زلزل ركض خيلهم بمصر أطراف العراق، فكان ركوبنا في موكبنا المنصور يوم كذا، وكان يوما مشهودا، ووقتا من مواسم الزمن معدودا، ربت فيه النعم على الحصر، ورفل به الدين في حلل التأييد والنصر، وسرى إلى أرواح العدى رعبه، وعزّ به في كل أفق دين الإسلام وحزبه، وتحقق به
العدو الذي أملى له أن حركته حركة الذبيح، وجمعه الذي ألفه الشيطان بغروره للتكسير لا للتصحيح، وتضاعف شوقه إلى الجناب العالي في ذلك الموكب الذي أخذ فيه الأولياء من المسرة بأوفى القسم وأوفر النعم، ورفلوا فيه في مطارف الحبور، واتخذوه بينهم عيدا سموه عيد السرور، وقد عجلنا بإعلامه بذلك لعلمنا بمحبته الصادقة، وموالاته التي هي بمحض الصفاء ناطقة، ولأنّا نعلم مضاعفة سروره بها، وأدائه نذور الشكر بسببها، فليسر الأولياء بإشاعتها، وتتقدم بضرب البشائر في وقتها وساعتها؛ والله تعالى يضاعف إقباله، ويبلغه من النعم أمنيته وآماله.
ومنه قوله في تقليد لنائب البيرة «1» بالاستمرار: وعلم العدو أنه الندب الذي كثرت في سبيل الله أيامه، وما قصده العدو إلا وتمنى الذهاب، وحث للهرب الركاب، وقنع من الغنيمة بالإياب، وولى جمعهم الأدبار، ولم يعد إلى أهلهم سوى الأخبار، وما أقدموا عليه إلا وقد جعل الرعب من بين أيديهم سدا، ومن خلفهم سدا، فهم لا يبصرون، وما قاتلوه بعد ما قابلوه إلا أن الله طمس على قلوبهم، وإخوانهم يمدونهم في الغيّ ثم لا يقصرون، وكم أرسلوا في أيامه إلى الثغر السوابق، فضرب بينهم بسور، وطارت إليهم من كنانة بأسه حمام الحمام بأجنحة النسور، وسرت سراياه في بلاد العدو فسبقها الرعب إليهم، وأحاط النهب بما لديهم، واستولى عليهم الذعر حتى صاروا يحسبون كل صيحة عليهم، واطلع على خفايا أحوالهم، فما أجمعوا أمرا إلا وعلموا به إذ يأتمرون، ولا مكروا مكرا إلا أظهره الله عليهم، والله أعلم بما يمكرون.
وكان فلان هو الذي ما شام معه العدو بارقة ثغر إلا وأمطرتهم «2» من الوبال
بوابل، وأوقعهم من النكال في كفة حابل، فاقتضت الآراء الشريفة أن يزداد أمره تمكنا، وقدره تحليا بالنعمة وتزينا، وسره استقرارا بعلو رتبته وتوطنا، وثغره تحسبا، بما افترّ من النعمة وتحصنا، ولذلك رسم بالأمر الشريف، لا زالت الثغور بمهابته تبتسم، والجنود تتحكم بسطواته في ذخائر العدى وتقتسم، أن نجدد له هذا التقليد الشريف باستمراره في النيابة بالبيرة على أجمل عوائده، وأكمل قواعده، لنهوضه في مصالح الإسلام والمسلمين بما أحصى الله ونسوه، وإجراء عليه بما ألفه سلفنا الطاهر من رشد كفايته وأنسوه، ولأنهم غرسوه في هذا الثغر لتنتمي به المصالح، ويتعين أن يتعاهد بالإحسان سقيا ما غرسوه؛ فليتلق هذه النعمة بباع الشكر المديد، ويبرق بعلو الهمة إلى المزيد من فضل الله عليه، فإن لديه المزيد، ويجرد على من جاوره من العدى سيف عزمه، فإن نصر الله بأسيافنا أقرب إليه من حبل الوريد، ويجعل سراياه طلائع جيوشنا المنصورة، فإنها قد تكون بأقصى الممالك، وما هي من الظالمين ببعيد، ويكون متيقظا للعدو في حال سكونه، فإنه قد يتحامل الجريح ويتحرك الذبيح، والحازم من تراه في الأمن في درعه «1» ، فلا تبدو ليلة إلا وهو لها متيقظ في العدو وإن غفل، مشمّرا له عن ساق العزم وإن أسبل ملابس غروره ورفل، فإنه إذا فعل ذلك لم يلحقه ندم ولا لوم، والخاسر من جلبت عليه تعب سنة راحة يوم، وليكن وله من الكثافة في كل فريق فرقة ناجية، ومن القصاد بكل طريق عصبة بأسرار القلوب مناجية، ليعلم ما يأتي وما يذر، وإذا لم يأت بعدوه حراك فما يضر مع الأمين مبيته على حذر، وليضم الأطراف التي يطمع العدو بها في فرصة يختلسها أو دنية يفترسها، وليتعاهد منه رجال الثغر بالإحسان الذي يؤكد طاعتهم، ويجرد قوتهم في
الجهاد واستطاعتهم، فإنهم رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وتقربوا بالجهاد في سبيله إليه، ولا يدع بالثغر مملوكا نصرانيا، فإنه يطلع على الأسرار، ويتطلع إلى الكفار، ولعبد مؤمن خير من مشرك، أولئك يدعون إلى النار.
ومنه قوله: وينهي أنه أرسل طيها قصيدة تنوب عن حضوره، وتعتذر لقصوره، وتنبئ عن مساهمة خاطره لخاطره الكريم في مساءته وسروره:[الطويل]
ومن سر أهل الأرض ثم بكى أسى
…
بكى بعيون سرّها وقلوب
ولما سام المملوك قلمه السعي في ذلك، مال إلى النفور، وجنح وقال:
ما عادتي أن أسعى إلى هذا الجناب الشريف إلا في التهاني والمدح؛ فقال له المملوك: إن مساء تلك المساءة أوجب أجرا، واستقبل من المساء فجرا؛ فكتب ما يقف الخاطر الشريف على مضمونه، ويتحقق به أن لمضمار حقه مدى تقف جياد القرائح من دونه.
ومن قوله: يقبل الأرض رافعا مجاب الدعاء، فاسحا مجال الولاء، ناشرا على أعطاف الطروس حلل الثناء، مبشرا نفسه والمسلمين، بما منّ الله به من قدوم مولانا تحت ألوية الظفر والنصر، محبوا بيمن العزمات التي قسمت أعداء الله وبلادهم بين الحصد والحصر، متوسلا إلى الله تعالى أن يجعل عزماته المرهفة في سبيل الله، حيث سلكت ملكت، وسيوفه المجردة على أعداء الله، أين سفرت من الغمود سفكت.
ومنه قوله من توقيع حسبة: وبعد، فإن أولى ما أنعم فيه نظر الاختيار، وأمعن فيه تدبر الارتياد
والاعتبار، أمر تعم الأمة منافعه، وتتم به بركات الرزق الذي تدر بالتقوى منابعه، ويزال به الغش عن الأمة في الملابس والمطاعم، ويذاد به البخس في المكيال والميزان اللذين هما من أظهر المضار وأخفى المظالم، وتراعى به الهيئات الدالة على إتمام المروءة وإكمالها، وتدحض به النقائص التي تنتقد على أرباب المكانات في أقوالها وأعمالها؛ ولما كانت الحسبة هي الأمر الذي اشترك عموم نفعه، والمعنى الذي نبه على حصول الاضطرار إليه في إباحة الشيء ومنعه، والسبب الذي يحسم به مواد الأذى في التعرض إلى البيوع الفاسدة، والإقدام على مزج الأقوات النافقة بالكاسدة، والتحرز من الغش في الأشياء التي لا يترك صانعها هو وأمانته، ولا يقنع منها بسوى اليقين، وإن غلبت على واضعها عفته وصيانته، فإن البلوى بها قد تعم، والحزم بها في ترك التقليد؛ وإذا كانت الأفراد لا تظهر مع الهيئة الاجتماعية، فبين من يتحراها بالمباشرة، وبين من يتلقاها بالقبول، بون بعيد؛ فلذلك يتعين أن يكون مباشرها ممن هدته العلوم الدينية إلى ما يعتمد من مصالح لا يخرج فيها عن حكمها، وحدته القواعد الشرعية إلى ما يستند إليه فيها من عوائد لا يعدل بها عن وسمها الشريف ورسمها.
وكان فلان هو معنى هذه الألفاظ المجملة، وسرّ هذه المقاصد التي كان يحتاج إيضاحها من ذكره إلى التكملة، وبتجاربه للفضائل قوة في الحق لا تستفزها الرقى، واستقامة في الإنصاف لا تميلها الأهواء عن سنن التقى؛ ورسم بالأمر الشريف أن يفوض إليه نظر الحسبة الشريفة، تفويضا يمضي حكمه في مصالحها، ويجمل نظره في داني الأمور ونازحها؛ فليفعل في ذلك ما تقتضيه هذه الرتبة من منع احتكار، وقطع أسعار، وتفقد ما يصنع من منسوج ومرقوم ومشروب ومطعوم ومجلوب ومخزون ومكيل وموزون ومعدود ومذروع وباق على هيئته ومصنوع، ويجعل لذلك حدا في الجودة معلوما، وقدرا في القيمة
مفهوما، ووصفا في العلو والدنو والتوسط بينهما مرسوما.
ومنه قوله توقيع خطابة: وبعد، فإن صهوات المنابر لا تستقل بكل راكب، ولا تستقر إلا تحت كل فارس يزاحم شرف علمه الكواكب بالمناكب، ولا تذعن إلا لمن إذا امتطى أعوادها أطال في المعنى وأطاب، وإذا قال: أما بعد لم تختلف الآراء في أنه دل على الحكمة بفصل الخطاب، وإذا ذكر بأمر الله أصحب كل قلب جامح، وغض كل طرف طامح، ورد كل عبد عن طاعة ربه نازح، وأصغى من صغى منه إلى قول مشفق في الله صالح، وخرجت الموعظة منه على لسان صادق فلم تعد حبات القلوب، وتتبع كلامه أدواء الضمائر فشفاها، ولا داء أوجع من الذنوب، ووثقت النفوس في أنه قول إمام عصره فتلقته بالتسليم، وجلست العلماء تحته للاقتداء بفوائده، فكان على الحقيقة فوق كل ذي علم عليم؛ وأحق المنابر بارتياد من يصلح لاقتعاد غاربها، وأولاها بالصدود عمن برز في صورة خاطبها، ما كان من أعظمها رفعة، وأكرمها بقعة، وأفخمها جماعة وجمعة، وأقدمها شهرة في الآفاق وسمعة، وأعجبها بناء وأنباء، وأحملها عن أئمة الأمة أثقالا وأعباء، وأكثرها زجلا بالتلاوة والأذكار، وأعمرها بالقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار؛ ولما كان المسجد الجامع بدمشق المحروسة هو الذي زاحم الأرض المقدسة بمنكبيه، فلو كان للمساجد الثلاثة رابع لشدت إليه الرحال، وتحقق بالرفعة التي لا تسامى أن نور المشكاة تشرق من أرجائه فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ* رِجالٌ
«1» تعين أن نختار لها من هو رجل المنابر، وبطل المحابر، وهو فلان الذي شفت مواعظه القلوب وأثمرت بالتقى، واستلت سخائم الصدور، واستقرت من المصلي على النقا،
ورسم بالأمر الشريف أن يفوض إليه الإمامة بالمسجد الجامع بدمشق المحروسة، والخطابة بمنبره الكريم، عملا بالأولى في التقديم، واحتياطا للإمامة التي هي أثبت دعائم الدين القويم، فليحل هذه الرتبة التي لم تقرب لغيره جيادها، وليحل هذه العقيلة التي لا تزان بسوى العلم والعمل أجيادها، ويرق هذه الهضبة التي يطول إلا على مثله صعودها، ويلق تلك العصبة التي تجتمع للاقتداء به حشودها؛ ويعلم أنه في موقف الإبلاغ عن الله تعالى لعباده، والإنذار بما ورد عن الله ورسوله على مراد الله ورسوله لا مراده؛ وتحت منبره من الأعيان من إن تلقّ غيره القول بتقليده تلقاه بانتقائه وانتقاده؛ فيعتصم بالله في قوله وفعله، ويتيقن أن الكلمة إذا خرجت من القلب لا تقع إلا في مثله، وليجعل خطبة كل وقت مناسبة لأحوال مستمعيها، متناسبة في وضوح المقاصد بين إدراك من يعي غوامض الكلام ومن لا يعيها، وليوشح خطبته بالدعاء لإمام عصره، ومالك أمصار الإسلام مع مصره، وللأمة بعموم تخصيصه وحصره، وهو يعلم أنه يكون في المحراب مناجيا لربه، واقفا بين يدي من يحول بين المرء وقلبه، فليلجأ إلى الله تعالى في الإعانة بالإخلاص على هول مقامه، ويسأله التثبيت بالعصمة في مستقره ومقامه، وليراع من وراءه من أهل التكليف، وتكثّر جماعتهم بتجنب ما نهى النبي صلى الله عليه وسلم معاذا من ترك التخفيف، ولينظر في عموم استطاعتهم دون خصوصها؛ فإن فيهم العاجز وذا الحاجة والضعيف، وليحافظ على فروض الكفايات الوازعة، والسنن التي ينادى لها: الصلاة جامعة، وليغرس في كل قلب حبه، ليقوموا إلى الائتمام به وهم فارهون، وليعمل في البداة في ذلك بصلاح نفسه، فقد جعل صلى الله عليه وسلم ممن لا تجاوز صلاتهم آذانهم من أم قوما وهم له كارهون.
وله مما كتبه على قصيدة:
فليس فيها بيت دخل في شفاعة أخيه، ولا معنى يثبت على غير قواعد الصحة أواخيه، ولا كلمة يصلح في مكانها سواها، ولا قافية أوهى السناد ركنها أو أضعف الإقواء قواها، وكل بيت منها بيت قصيد يعقد بالخناصر عليه، أو سلك فريد يشار ببنان البيان إليه، أو مقر معنى رئيس تجلس نفائس المعاني بين يديه.
* وأما نظمه، فمنه:[البسيط]
هذا ولم يبق لي في لذة أرب
…
إلا اجتماعي بأصحابي وألزامي
وأين هم خلفوني مفردا ونأوا
…
فبت أسهر أجفاني لنوّام
وأين نيل مرامي من لقائهم
…
ضاق الزمان وهيّا سهمه الرامي
ومنه قوله: [الكامل]
ملك يوطد ركنه من ملحد
…
أو معند بجداله وجلاده
ألف الوقائع والسرى دون الكرى
…
فقصور لذته ظهور جياده
يروي لسان سنانه في حربه
…
خبر المدرّع عن صميم فؤاده
متيقظ العزمات يعجل بأسه
…
جيش العدو بها عن استعداده
ومنه قوله: [البسيط]
بانوا بقلبي وقلبي سار يتبعه
…
فلست أطمع منهم في خيال كرى
ويح المحب الذي سارت أحبته
…
عنه ولم يقض من توديعهم وطرا
وخلفوه يناجي الركب بعدهم
…
فلا يبلّغه عن ركبهم خبرا
بانوا فصوّح نبت الروض بعدهم
…
هذا وقد غادروا دمعي به غدرا
ومنه قوله يعزي ببنت: [الطويل]
وكم أوجه قد غبن في ظلمة الثرى
…
ولم يرها في ظلمة الليل كوكب
ولا كالتي في المجد خالات أمها
…
رقية بنت الهاشمي وزينب
ومنه قوله «1» : [المتقارب]
رأتني وقد نال مني النحول
…
وفاضت دموعي على الخد فيضا
وقالت: بعينيّ هذا السقام
…
فقلت: صدقت وبالخصر أيضا
ومن قوله: [الكامل]
ورأيته في الماء يسبح مرة
…
والشعر قد رفت عليه ظلاله
فظننت أن البدر قابل وجهه
…
وجه الغدير فلاح فيه خياله
ومنه قوله «2» : [السريع]
وسرت به في البحر جارية
…
سوداء يسبق سيرها الشهبا
لو أن حكم البحر طوع يدي
…
لأخذت كل سفينة غصبا
ومنه قوله: [الطويل]
أقول له والغصن يشبه قده
…
أداعبه والظبي يحسب إياه:
أفيك سوى ذا الوجه تسبي به الورى؟
…
فقال: وهل في البدر إلا محياه
ومنه قوله «3» : [الطويل]
مضوا فاسترد الدهر أنسي الذي مضى
…
كأن له عندي بقربهم قرضا
وبانوا فآلى البان لا مال بعدهم
…
ولا عانقت أغصانه بعضه بعضا
ومنه قوله: [السريع]
هنّئت بالطفل الذي استرجعت
…
به العلى ما ضاع من دينها
تكاد تخفى الشمس إن قابلت
…
طلعته خوفا على عينها
ومنه قوله: [الرمل]
دع فؤادي والصبا إن الصبا
…
عالجت سكر فؤادي فصحا
وأعد لي ذكر من حل الحمى
…
فعسى يرجع قلب نزحا
يا أخلائي ومن حسّن لي
…
كلفي فهو الذي قد نصحا
أرشدوني هل قضى حق الهوى
…
من ببذل الروح فيه سمحا
ومنه قوله يرثى شيخه مجد الدين بن الظهير: [الطويل]
بكته معاليه ولم ير قبله
…
كريم مضى والمهلكات نوادبه
ولا غرو أن تبكي المعالي بشجوها
…
على المجد إذ أودى وهن صواحبه
أما والذي أرسى ثبيرا وحلمه
…
لقد طاش حلمي يوم زمّت ركائبه
وقفنا وقد جد الوداع عشية
…
فممسك دمع يوم ذاك وساكبه
أنودع نفس المجد بيتا مصرعا
…
طويلا على زواره متقاربه
ظننت بأني مخلص في وداده
…
وأخطأ وهمي، أسوأ الظن كاذبه
رجعت وأمسى الجود يصحب نفسه
…
إلى رمسه فالجود- لا أنا- صاحبه
ومنه قوله «1» : [الكامل]
قل لي عن الحمّام كيف دخلتها
…
يا صاحبي لتسر خلا مشفقا
أدخلتها وأولئك الأقوام قد
…
شدوا المآزر فوق كثبان النقا؟
ومنه قوله يصف قناة احتفرت وأنبط ماؤها لقرية المعيصرة: [البسيط]
أعرتها نظرة غراء لو لمحت
…
سحائب الصيف لانهلت غواديها
فأصبحت مثل ظهر الأرض باطنها
…
نورا كأن الثريا ركبت فيها
يكاد يقطعها الساري على فرس
…
ركضا وليس تدانيه أعاليها
تبدو على الترب من بطن الثرى فترى
…
تقبل الأرض إجلالا لمنشيها
ومنه قوله: [المتقارب]
إذا دغدغتني أيدي النسيم
…
فملت وعندي بعض الكسل
فسل كيف حال قدود الملاح
…
وعن حال سمر القنا لا تسل
ومنه قوله يمدح المنصور لاجين أيام نيابته بالشام، ويذكر إحراقه نصرانيا تعرض إلى مسلمة في رمضان:[الكامل]
يا من به وبرأيه وروائه
…
بلغ المراد الدين من أعدائه
يا كافل الإسلام قبلك لم يقم
…
هذا المقام سواك من كفلائه
أرسلتها بالعدل أحسن سيرة
…
بك يقتدي من كان من أكفائه
وغضبت للإسلام غضبة ثائر
…
لله غير مشارك في رأيه
وحميت سرح الدين من متخلس
…
رجس يسن الغدر في استخفافه
أخفى سراه للحريم ومادرى
…
أن الإله وأنت من رقبائه
جمع الخيانة والخنا في الأرض وال
…
إشراك بالرحمن فوق سمائه
فأمرت أمرا جازما بحريقه
…
ورأيت أن القتل دون جزائه
طهرت من دمه الثرى وقذفته
…
في النار إذ هي منتهى نظرائه
ورفعت قدر السيف عنه وإنه
…
ليجل عن تنجيسه بدمائه
أرعبت أهل الشرك منه فكلهم
…
يلقى خيالك واقفا بإزائه
وسلبتهم طيب الحياة فمن غفا
…
ألفى دبيب النار في أعضائه
أو لو تخيل في المقام بحرمة
…
خشي الحريق ومات في أعقابه
يا داعي الإسلام صنت السرب أن
…
تدنو كلاب الشرك من ضعفائه
ما غرت إلا للإله وخلقه
…
من فتك شر عبيده بإمائه
واستشهد الشهر الشريف فإنه
…
يثني بما أبديت في أثنائه
عظمت حرمته وأهلكت الذي
…
لم يرع حق الله في آنائه
فاسلم لهذا الدين تحرس سربه
…
وتغص جفن الشرك منك بمائه
فاشكر إلهك بالذي ألهمته
…
فيما فعلت يزدك من نعمائه
ومنه قوله يهنئ بإبلال من مرض: [مجزوء الكامل]
صحت بصحتك الأماني
…
وضفت بها حلل التهاني
وجرى شفاؤك والسرو
…
ر كما جرى فرسا رهان
برء أتى وضنى مضى
…
فهما علينا نعمتان
ولكل يوم سجدة
…
للشكر لا بل سجدتان
ومنه قوله في وداع الحجرة الشريفة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام:[الكامل]
يا سيد الثقلين دعوة من أتى
…
يسعى إليك ولو على الأجفان
فارقت ربعك أولا لأداء ما
…
كتب الإله علي في القرآن
ورجعت أضحك للتواصل مرة
…
أخرى وأبكي للفراق الثاني
ومنه قوله وقد أشرف على مكة المعظمة: [الطويل]
أقول لصحبي والفيافي كأنها
…
صحائف خطت بالمطي سطورها
دعوا طيّ عرض البيد بالسير والسرى
…
فهذا حمى ليلى وهاتيك دورها
ومنه قوله: [الرمل]
قاتل الله رفيقا بالحمى
…
أنفد الأدمع واستبقى الغراما
غار من برق الثنايا فسقى
…
وجنة الصب ولم يسق البشاما
وكئيب في الحمى تحسبه
…
ظله الناحل وجدا وسقاما
يرقب الأرواح إن هبت صبا
…
علّها أن تبلغ الحيّ السلاما
ومنه قوله: [الطويل]
كأني بكم والبيد تطوى لديكم
…
وقد فزتم دون المتيم باللقا
وقد عبرت عن وجدكم عبراتكم
…
إذ الدمع منك ثم أفصح منطقا
ومنه قوله: [الطويل]
سلوا الركب هل مروا بجرعاء مالك
…
وهل عاينوا قلبا تركت هنالك
وأحسبه ما بين سلع إلى قبا
…
أقام وإلا فهو ما بين ذلك
ومنه قوله: [الطويل]
إذا البرق من تلقاء كاظمة عنا
…
أذاب الحشا منّا وذاد الكرى عنا
حسبناه إيماض الثغور على النقا
…
وليس به لكنه قارب المعنى
متى قال حادينا رويدا فبينكم
…
وبين الحمى مقدار يومين أو أدنى
وهبنا له شطر الحياة فإن أبى
…
ولم يرضه ما قد وهبنا له زدنا
ومنه قوله: [الخفيف]
هل لحي إلى اللقاء سبيل
…
وجيوش الفناء فينا تجول
أو يلذ المقام ثاو بدار
…
ليس يدري متى يكون الرحيل
مزمع للمسير عنها ولا زا
…
د وإن كان فهو نزر قليل
شغّلته وفرّغت من لهاها
…
يده فهو فارغ مشغول
ومنه قوله: [مجزوء الكامل]
ولي الدجى وكأنكم
…
بسنا الصباح وقد تنفس
وغدا رداء دجى تدث
…
ر بالكواكب وهو أطلس
علق الظلام بذيله
…
فكأنه ثوب مقندس
والشمس تبدو في المور
…
رد أولا ثم المورّس
كالخود تجلى في الثيا
…
ب تظل تخلعها وتلبس
ومنه قوله: [البسيط]
تبدي السماء لنا معنى الحمى بسنا
…
ناء قريب سفور الوجه محتجب
إذا ظمئنا توهمنا مجرتها
…
نهرا طفت فيه أكواب من الشهب
كأنها روضة حفت أزاهرها
…
بجدول من نمير الماء ذي شعب
أو حلة من بديع الوشي معلمة
…
بالنور معقودة الأزرار من ذهب
ومنه قوله: [الطويل]
عسى وقفة بالركب يا حادي الركب
…
لأسأل ما بين المحامل عن قلبي
فعهدي به لما استقلت ركابكم
…
وقد قال للساري إلى طيبة سربي
«1»
وقد تقعد الأقدار من قل حظه
…
على أنه وافي الهوى واقر الحب
ولكنني لم أتهم في تأخري
…
على كثرة الأسباب شيئا سوى ذنبي
ومنه قوله «2» : [الطويل]
أسرّوا إلى ليلى سراهم فما انجلا
…
وبات كطرفي نجمه وهو حيران
كلانا غريق في الدموع وفي الدجى
…
كأن دموع العين والليل طوفان
«1» ومنه قوله «2» : [الطويل]
كأن الدراري والنجوم ودارة
…
حوته وقد زان الثريا التئامها
حباب طفا من حول زورق فضة
…
بكف فتاة طاف بالراح جامها
كأن سهيلا والنجوم وراءه
…
صفوف صلاة قام فيها إمامها
ومنه قوله في الرثاء: [الطويل]
أبحر الندى طود المعالي وإنه
…
ليغني عن التصريح باسمك من يكني
حللت برغمي في الرغام وإنه
…
لمن تحته يبلي ومن فوقه يضني
أمر على مغناه كي يذهب الأسى
…
كعادته الأولى فيغري ولا يغني
وأقسم أن الفضل مات لموته
…
ويخطر في ذهني أخوه فأستثني
ومنه قوله: [الطويل]
شربت بكأس ما رآها أخو أسى
…
ولا ذاقها قبلي محب ولا بعدي
فكرر بسمعي ذكر سفح طويلع
…
وبان المصلى منعما واحد لي وحدي
ومنه قوله: [الكامل]
بانوا وخلفني الأسى في ربعهم
…
أبكي الطلول مصرحا ومعرضا
ولو استطعت فراقها لتبعتهم
…
فزمامها بيدي وما ضاق الفضا
ومنه قوله وهو من باب المغايرة: [الكامل]
ولقد ذكرتك والفوارس نحونا
…
تترى فمدرع وآخر حاسر
فنسيت حبك عند ذاك مخافة
…
ووددت أني في الهزيمة طائر
ومنه قوله: [البسيط]
من حاتم عنده واطرح [به] فبه
…
في الجود لا بسواه يضرب المثل
«1»
أين الذي بره الآلاف يتبعها
…
كرائم الخيل ممن بره الإبل
لو مثّل الجود سرحا قال حاتمه:
…
لا ناقة لي في هذا ولا جمل
ومنه قوله: [البسيط]
يا راكب الناقة الوجناء مشتملا
…
ثوب الظلام كنجم لاح في أفق
يؤم قبل ازدحام الركب طيبة كي
…
يطفي الجوى أو يروي غلة الحرق
كن لي رفيقا لأسعى نحوها عجلا
…
إما على صحن خدي أو على حدقي
عساك تحيي بما توليه من كرم
…
روحي وتدرك ما تلقاه من رمقي
وإن أتيت فقل: خلفت مرتهنا
…
بالشوق يأتيك إن طال المدى وبقي
ومنه قوله: [المتقارب]
بلغت مرادي ونلت المنى
…
وزاد سروري وزال العنا
فماذا الذي أرتجي بعد ذا
…
وهذا الرسول وهذا أنا
فبشراك بشراك يا ناظري
…
تملّى وإياك أن تغبنا
فحيث التفت رأيت الرسول
…
وآثاره من هنا أو هنا
تملّى فهذا مكان الحبيب
…
وهذا التواصل قد أمكنا
وخل الدموع إلى وقتها
…
وإن حسن الدمع عند الهنا