الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1- وأما أبو إسحاق فهو الصابي
«1»
* وإن كان منهم وفي طبقته غير بعيد عنهم، ولكنه جوال الذكر في الكتاب، مشهور شهرة [الشمس] في يوم الصحو، تكلم وما تكلف، وتقدم ومن قبله تخلف؛ جرى على سجيته في الطباع ودعا عاصي البيان فأطاع، ولم يقف مع السجع يرسف في قيوده، ويكلف فكره فوق قدرته، فجاء بالعاطل الحالي، وتقدم على أهل العصر الخالي، وكان حلو الجنى عذب المشارع لا يرنق مورده، ولا يطفأ موقده؛ وهو في الكتاب بمنزلة امرئ القيس في الشعراء، إمام القوم وحامل لوائهم، وكان يحفظ القرآن الكريم وينتزع منه الآيات ويستشهد بها، وكانت بينه وبين الشريف الرضي «2» صداقة مؤكدة، ورثاه لما مات برثاء أسمع الخافقين، وطلع في المغربين والمشرقين؛ وأوله «3» :[الكامل]
أرأيت من حملوا على الأعواد
…
أرأيت كيف خبا ضياء النادي
فاسمع بهذا الرثاء ما أعظمه وأفخمه!، ولا سيما من مثل هذا الشريف القائل،
واستدل به على ما لهذا الرجل من الفضائل؛ عود عبق أرجه وهو حطب، وذمي «1» رقا المنبر فضله وخطب، عقد ندّه سماء من دخان، وأدار مداما من دنان، وكتب دنّه عن الملوك البويهية قرار بأولئك القساور، وزار النجوم وسلب الأهلة الأساور، فضرب النحر بالأسداد، وكايل البحر بالأمداد، وأبدع عجبا وأبعد، فساكن عجما وجاور عربا؛ وتوفي سنة أربع وثمانين وثلاثمئة.
* ومما له قوله: له يد برعت في الجود بنانها، ونظم الدر بيانها، فحاتم كامن في بطن راحتها، وسحبان مستتر بنمارق فصاحتها؛ فلها يد في كل يد، ومنة في كل عنق، وقرط في كل أذن، وسمط في كل مهرق «2» ؛ لها كل يوم مزيد، وعبد الحميد عبد الحميد.
وقوله من عهد لقاض «3» : وأمره إن ورد عليه أمر يعييه فصله، ويشتبه عليه وجه الحكم فيه «4» ، أن يرده إلى كتاب الله عز وجل ويطلب فيه سبيل المخلص منه؛ فإن وجده وإلا في الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أدركه وإلا استفتى فيه من يليه من ذوي الفقه والفهم، وأهل الدراية والعلم، فما زال الأئمة والحكام والسلف الصالح وطراق
السنن الواضح يستفتي واحد منهم واحدا، ويسترشد بعضهم بعضا لزوما للاجتهاد، وطلبا للصواب، وتحرزا من الغلط، وتوقيا من الشطط؛ قال الله تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ
«1» .
* [وأمره]«2» أن لا ينقض حكما حكم به من كان قبله، ولا يفسخ من تقدمه، وأن يعمل عليه ولا يعدل عنه، ما كان داخلا في إجماع المسلمين، وسائغا في أوضاع الدين؛ فإن خرج عن الإجماع أوضح الحال فيه لمن بحضرته من الفقهاء والعلماء، حتى يصيروا مثله في إنكاره، ويجمعوا معه على رده، وحينئذ ينقضه نقضا يشيع ويذيع، ويصير به الأمر [إلى]«3» واجبه، ويعود معه الحق إلى نصابه؛ قال الله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ
«4» .
* [وقوله في رحلة صيد] : «5»
واعتمدت في الصيد «6» على من يحضرني من أوليائه، على قوة أبدانهم ونشاطها، ورياضة خيلهم وانبساطها، والزمان ساقطة جماره «7» ، مفعمة أنهاره، ونحن غبّ سحاب أقلع بعد الارتواء، وأقشع بعد الاستغناء، والرياض زاهية بحمرائها وصفرائها، تائهة بعوانها وعذرائها، وما نرد منها حديقة إلا استوقفتنا نضارتها واستنزلتنا غضارتها، وخيلنا تشتاق
الصيد وهي لا تطعمه، وتحن إليه كأنها تقضمه، وعلى أيدينا جوارح مؤللة المخالب والمناسر، مدربة النصال والخناجر، سابغة الأذناب، كريمة الانتساب؛ إذ وردنا ماء زرقا جمامه، طامية أرجاؤه، يبوح بأسراره صفاؤه، ويلوح في قراره حصباؤه، وأفانين الطير به محدقة، وغرائبه عليه محلقة، متغايرة الألوان والصفات، مختلفة اللغات والأصوات؛ فلما أقبلنا عليها، أرسلنا الجوارح كأنها رسل المنايا أو سهام القضايا، فلم نسمع إلا مسمّيا، ولم نر إلا مذكّيا؛ وانطلقنا بعد ذلك نعتام في الطير ونتخير ونقترح ونتحكم؛ فاختطفنا ببراثننا ما طار منه وانتشر، وأخذنا بجوارحنا ما لاح منه واستتر؛ فاهتدت إليها تستدل عليها بالشميم، وتهتدي إليها بالنسيم؛ فلم يفتنا ما برز، ولا سلم منا ما احترز، ثم عدلنا من مطائر الحمام إلى مسارح الآرام، وأمامنا أدلة فرهة يهتدون، ورواد «1» مهرة يرشدون، حتى أفضينا إلى أسراب كثيرة العدد، متصلة المدد، لاهية بأطلائها، راتعة في أكلائها؛ ومعنا فهود أخطف من البروق، وألقف من الليوث، وأجدى من الغيوث، وأمكن من الثعالب، وأدبّ من العقارب، وأنزى من الجنادب، خمص البطون، رقش المتون، خزر الأحداق، هرت الأشداق، غلب الرقاب، كاشرة عن أنياب كالحراب، تلحظ الظباء من أبعد غاياتها، وتعرف حسها من أقصى نهاياتها، فأقبلنا من تجاه الريح عليها، وأغذذنا المسير نحوها وإليها، ثم وثبنا لها الضّراء، وشننا عليها الغارة الشعواء، وأرسلنا فهودنا، وجرت خيلنا في آثارها كاسعة لأذنابها، فألفينا كلا منها على ظبي قد افترشه، وصرعه فعجعجه «2» ؛ وأوغلنا من بعد في اللحاق، وقص آثار ما ند وبعد؛ وقد انتهت النوبة إلى الكلاب والصقور، ومعنا منها كل عريق المناسب نجيح المكاسب، حلو
الشمائل، نجيب المخايل، أغضف الأذنين «1» ، أسيل الخدين، أبي النفس، ملتهب الشد، لا يمس الأرض إلا تحليلا وإيماء، ولا يطالها إلا إشارة وإيحاء؛ وكل صقر ماض كالحسام، قاض كالحمام، مشتط في مطالبه، خفيف النهضة في مآربه، سريع الوثبة فيما يريد، ثقيل الوطأة على ما يصيد؛ فما لبثنا أن أشرفنا على يعافير «2» متطرفة، ويحامير «3» متعرفة، فخرطنا القلائد والشناقات «4» ، فمرت متوافقات مترافقات، قد تباينت في الصور والأجناس، وتآلفت في الإرشاد والالتماس؛ فسبقت الصقور إليها ضاربة وجوهها، عاكسة رؤوسها، ولحقت الكلاب بها منشبة فيها، مدمية لها؛ فبادرناها مجهزين، وغنمناها ما يزين، ثم أخذنا في صيد ما يقرب ويخفّ، وتحصيل ما يلوح ويستدفّ «5» ؛ فلاح لنا قنبر، فأطلقنا عليه يؤيؤا «6» ، فغاب عن الأبصار، واحتجب «7» عن الأنصار، وصار كالغيب المرجم والظن المتوهم، ثم خطفه «8» ووقع به، وهما كهيئة الطائر الواحد؛ وعدنا وفي حبائلنا الصيد والصائد، ورجعنا والشمس مصبوبة للغروب، مؤذنة بالمغيب، والجو في أطمار مبهجة في أصائله، وشفوف مورسة من غلائله؛ فالله ينصر مولانا في دقيق الأغراض وجليلها، ويقضي له بالظفر في جسيم المطالب وضئيلها.
[وقوله من أخرى] : «1»
مآرب الناس منزلة بحسب قربها، وأولاها بأن يعتده الخاصة ملعبا والعامة مكسبا: الصيد الذي هو رائض الأبدان، وجامع لشمل الإخوان؛ ولما كانت الجوارح المثمنة، ليست لكل الناس ممكنة، بل لمن عظم شأنه وحاله، وجمّ نسبه وماله، جعلت القول مقصورا على قسي البندق، التي لا تتعذر على مكثر ولا مملق؛ وأنا أكتفي في ترغيب من كان عنه منحرفا، وتثبيت من كان إليه متشوفا، بوصف موقف منه شهدته في بعض ظواهر مدينة السلام، وهناك غيضة ذات ماء أزرق، وشجر مرجحنّ «2» مورق؛ فبينا أنا قائل فيها، ومنتزه في نواحيها، وقد تأودت في حلل الورد شجراؤها، وتفاوحت بروائح المسك أنوارها، إذ أقبلت رفقة قبل الدرور والشروق، وشمرت عن الأذرع والسوق، مقلدين خرائط تحمل من البندق الموزون الملوم، ما هو في الصحة والاستدارة كاللؤلؤ المنظوم، كأنما خرط بالجمر، فجاء كبنان الفهر؛ وقد اختبر طينه، وملك عجينه، كافل مطاعم حامليه، محقق لآمال آمليه، ضامن لحمام الحمام، متناول لها من أبعد مرام؛ يعرج إليها وهو سمّ ناقع؛ ويهبط إليهم وهو رزق نافع؛ وبأيديهم قسي مكسوة «3» بأغشية السندس، مشتملة منها بأفخر ملبس، مثل الكماة في جواشنها «4» ودروعها، والجياد في جلالها وقطوعها؛ حتى إذا جردت من تلك المطارف، وانتضيت من تلك الملاحف، رأيت منها قدودا مخطفة رشيقة، وألوانا معجبة أنيقة، صلبة المكاسر والمعاجم، نجيبة المنابت والمناجم، خطية الانتماء والمناسب، سمهرية الاعتزاء والمناصب؛ تركبت من شظايا الرماح الراعبية، وقرون
الأوعال الجبلية؛ قد تحنت تحني النساك، وصالت صيال الفتاك؛ ظواهرها صفر وارسة، ودواخلها سود دامسة، كأن شمس أصيل طلعت [في] متونها، أو جنح ليل اعتكر في بطونها، أو زعفران جرى فوق مناكبها، أو غالية جمدت على ترائبها، أو ثني قضبان فضة أذهب بعضها واحترق شطر، أو حيات رمل اعتنقت السود منها والصفر؛ فلما توسطوا تلك الروضة، وانتشروا على أكناف تلك الغيضة، وثبتت للرمي أقدامهم، وشخصت إلى الطير أبصارهم، وتروها بكل وتر فوّق سهمه، وأفق انقض نجمه، مضاعف عليها من وترين كأنه بروح ذو جسدين، في وسط تسريحه كيس مختوم، أو سرة بطن مهضوم، كأنها متخازر ينظر شزرا، أو مصغ يتسمع نزرا، تصيب قلوب الطير بالأنباض، وتصيب منها مواقع الأعراض؛ فلم يزل القوم يرمون ويصيبون، وينجحون ولا يخيبون، حتى خلت من البندق خرائطهم، وامتلأت بالصيد حقائبهم، فكم عارضت الطير فكسرت أجنحتها وجآجئها، واستطارت في الجو قوادمها وخوافيها، تعاجل قبل فناء ذمائها «1» ، ويصير ريشها كالمجاسد من دمائها محمولة على حكم الكفار، إذ يقتلون ومصيرهم إلى النار؛ تحنط بتوابلها وأبازيرها، وتوارى في قدورها وتنانيرها، ثم تبعث إلى إخوان متوافقين، وخلان مترافقين، قد تمالحوا في الطعام، وتراضعوا في المدام، لا يشوب صفوهم شائب، ولا يعيب فضلهم عائب؛ فالحمد لله الذي أباحنا لذيذ المطاعم، ونهج لنا سبيل المغانم.
ومن كلام أبي إسحاق الصّابئ قوله في عهد كتبه لطفيلي «1» : هذا ما عهد علي بن أحمد المعروف بعليكا إلى علي بن عرس الموصلي حين استخلفه على إحياء سنته، واستنابه في حفظ رسومه، من التطفيل على مدينة السلام وما يتصل بها من أكنافها، ويجري معها من سوادها وأطرافها؛ لما توسمه فيه من قلة الحياء، وشدة اللقاء، وكثرة اللقم، وجودة الهضم، ورآه أهلا له من شدة مكانه «2» في هذه الرفاهية المهملة التي فطن لها، والرفاغية «3» المطرحة التي امتد إليها، والنعم العائدة على لابسها بملاذ الطعوم ومناعم الجسوم؛ متوردا على من اتسعت مواد ماله، وتفرعت شعب حاله، وأقدره الله على غرائب المأكولات، وأظفره ببدائع الطيبات، آخذا من كل ذلك بنصيب الشريك المناصف، وضاربا منه بسهم الخليط المفاوض، ومستعملا للمدخل اللطيف عليه، والمتولج العجيب إليه، والأسباب التي ستشرح في مواضعها من هذا الكتاب، وتستوفى الدلالة على ما فيها من رشاد وصواب؛ وبالله التوفيق، وعليه التعويل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
أمره بتقوى الله التي هي الجانب العزيز، والحرز الحريز، والركن المنيع، والطود الرفيع، والعصمة الكالئة، والجنة الواقية، والزاد النافع يوم المعاد، يوم لا ينفع
إلا مثله من الأزواد؛ وأن يستشعر خيفته في سره وجهره، ومراقبته في قوله وفعله، ويجعل رضاه وثوابه ملبسه، والقربة منه أربه، والزلفى لديه غرضه، ولا يخالفه في مسعاه قدم، ولا يتعرض عنده لعاقبة ندم.
وأمره أن يتأمل اسم التطفيل ومعناه، ويعرف مغزاه ومنحاه، يتفحصه تفحص «1» الباحث عن حظه بمجهوده، غير القائل منه بتسليمه وتقليده، فإن كثيرا من الناس قد استقبحه ممن فعله، وكرهه لمن استعمله، ونسبه فيه إلى الشره والنهم؛ فمنهم من غلط في استدلاله، فأساء في مقاله، ومنهم من شح على ماله، فدافع عنه باحتياله؛ وكلا الفريقين مذموم [وجميعهما ملوم؛ لا يتعلقان بعذور واضح، و]«2» ، لا يتعريان من لباس فاضح؛ ومنهم الطائفة التي لا ترى شركة العنان، فهي تبذله إذا كان لها، وتتدلى عليه إذا كان لغيرها، وترى أن المنة في الطعم للهاجم الآكل، وفي المشرب «3» للوارد والواغل، هي أحق بالحرّيّة، وأخلق بالخيرية، وأحرى بالمروءة، وأولى بالفتوة، وقد عرفت بالتطفيل، ولا عار فيه عند ذوي التحصيل، لأنه مشتق من الطّفل، وهو وقت المساء وأوان العشاء، فلما كثر استعمل في صدر النهار وعجزه، وأوله [وآخره]«4» ، كما قيل للشمس والقمر:[القمران] وأحدهما القمر، ولأبي بكر وعمر: العمران وأحدهما عمر.
وأمره أن يتعهد موائد الكبراء والعظماء بغزاياه، وسمط الأمراء والوزراء بسراياه؛ فإنه يظفر منها بالغنيمة الوافرة، ويصل منها إلى الغريبة النادرة؛ وإذا
استقرأها وجد فيها من طرائف الألوان، الملذة للسان، وبدائع الطعوم، السائغة في الحلقوم، ما لا يجد عند غيرهم، ولا يناله إلا لديهم.
وأمره أن يتتبع ما يعرض لموسري التجار، ومجهزي الأمصار من وكيرة [الدار، والعرس] والإعذار «1» فإنهم يوسعون على أنفسهم في النوائب بحسب تضييعهم «2» عليها في الراتب.
وأمره أن يصادق قهارمة الدور ومدبريها، ويرافق وكلاء المطابخ وحماليها؛ فإنهم يملكون من أصحابهم أزمة مطاعمهم ومشاربهم، ويضعونها بحيث يحبون من أهل موداتهم ومعارفهم؛ وإذا عدّت هذه الطائفة أحدا من الناس من خلانها، واتخذته أخا من إخوانها، سعد بمرافقتها، وحظي بمصادقتها، ووصل إلى محابه من جهاتها، وسار به إلى جنباتها «3» .
وأمره أن يتعهد أسواق المتسوقين، ومواسم المتبايعين؛ فإذا رأى وظيفة قد زيد فيها «4» ، وأطعمة قد استحشد مشتريها، اتبعها إلى المقصد بها، وشيعها إلى المنازل الحاوية لها، واستعلم ميقات الدعوة ومن يحضرها من أهل اليسار والمروءة؛ فإنه لا يخلو فيهم من عارف به يراعي وقت مصيره إليها ليتبعه، ويكمن له ليصحبه ويدخل معه وإن خلا من ذلك اختلط بزمر الداخلين، فما هو إلا أن يتجاوز عتب الأبواب، ويخرج من سلطان البوابين والحجاب، حتى يحصل محصلا قل ما حصله أحد قبله، فما انصرف عنه «5» إلا ضلعا من الطعام، نزيفا من المدام.
وأمره أن ينصب الأرصاد على منازل المغنيات والمغنين، ومواطن الإناث والمخنثين؛ فإذا أتاه خبر بمجمع تضمهم، أو مأدبة تعمهم، ضرب إليها أعقاب إبله، وأنضى حولها مطايا خيله، وحمل عليها حملة الحوت الملتقم، والثعبان الملتهم، والليث الهاصر «1» والعقاب الكاسر.
وأمره أن يتجنب مجامع العوام المقلين، ومحافل الرعاع المقترين، وأن لا ينقل إليها قدما ولا يفغر لمآكلها فما، ولا يلفى في عتب دورها كيسانا، ولا يعد الرجل منها إنسانا؛ فإنها عصابة يجتمع لها ضيق النفوس والأحوال، وقلة الأحلام والأموال، وفي التطفيل عليها إجحاف بها يوثم، وإزراء بمروءة المتطفل [يوصم] ، والتجنب لها أجدى «2» ، والازورار عنها أرجا.
وأمره أن يحرز الخوان إذا وضع، والطعام إذا نقل، حتى يعرف بالحدس والتقريب، والبحث والتنقيب، عدد الألوان في الكثرة والقلة، وافتنانها في الطيب واللذة، فيقدر لنفسه أن يشبع مع آخرها، وينتهي عند انتهائها، ولا يفوته النصيب من كثيرها وقليلها، ولا يخطئه الحظ من دقيقها وجليلها؛ ومتى أحس بقلة الطعام، وعجزه عن الأقوام، أمعن في أوله إمعان الكيّس في سعيه، الرشيد في أمره، المالئ لبطنه من كل حار وبارد؛ فإنه إذا فعل ذلك سلم من عواقب الأغمار الذين يكفون تظرفا، ويقلون تأدبا، ويظنون أن المادة تبلغهم إلى آخر أمرهم، وتنتهي إلى غاية شبعهم، فلا يلبثون أن يخجلوا خجلة الواثق، وينقلبوا بحسرة الخائب؛ أعاذنا الله من مثل مقامهم، وعصمنا من شقاء جدودهم.
وأمره أن يروض نفسه ويغالط حسه، ويضرب عن كثير مما يلحقه صفحا، ويطوي دونه كشحا، ويستحسن الصمم عن الفحشاء، ويغمض عن اللفظة الخشناء، وإن أتته اللكزة في حلقه، صبر عليها في الوصول إلى حقه؛ وإن وقعت به الصفعة في رأسه، أغضى عنها لمراتع أضراسه؛ فإن لقيه لاق بالجفاء، قابلة باللطف والصفاء، إذ كان إذا ولج الأبواب، وخالط الأسباب، وجلس مع الحضور، وامتزج بالجمهور، ولا بد أن يلقاه المنكر لأمره، ويمر به المستغرب بوجهه؛ فإن كان حرا حييا أمسك وتذمم، وإن كان فظا غليظا همهم وتكلم؛ وأن يجتنب عند ذلك المخاشنة، ويستعمل مع المخاطب الملاينة، ليرد غيظه، ويفلّ حده، ويكف غربه؛ ثم إذا طال المدى تكررت الألحاظ عليه فعرف، وأنست النفوس به فألف، ونال من الحال المجتمع عليها، منال من حشم وسئل العناء إليها.
ولقد بلغنا أن رجلا من هذه العصابة، كان ذا فهم ودراية، وعقل وحصافة، طفل على وليمة رجل ذي حال عظيمة فرمقته فيها من القوم العيون، وتصرف بهم فيه الظنون، فقال له قائل منهم: من تكون أعزك الله؟، فقال: أنا أول من دعي إلى هذا الحق؛ قيل له: وكيف ذلك ونحن لا نعرفك؟ فقال: إذا رأيت صاحب الدار عرفني وعرفته نفسي؛ فجيء به إليه، فلما رآه بدأه بأن قال له: هل قلت لطباخك «1» أن يصنع طعامك زائدا على عدد الحاضرين، ومقدار حاجة المدعوين؟ فقال: نعم؛ فقال: فإنما تلك الزيادة لي ولأمثالي، وبها تستظهر لمن جرى مجراي، وهو رزق أنزله الله على يدك، وسببه من جهتك؛ فقال: مرحبا بك وأهلا وقربا، والله لا جلست إلا مع علية الناس، ووجوه الجلساء والأناس، إذ قد طرفت في قولك، وتفننت في فعلك؛ فليكن ذلك الرجل لنا إماما نقتدي به، وحاديا نحدو على مثاله، إن شاء الله.
وأمره أن يكثر من تعاهد الجوارشنات «1» المنفذة للسّدد، المقوية للمعد، المشهية للطعام، المسهلة لسبيل الانهضام؛ فإنها عماد أمره وقوامه، وبها انتظامه والتآمه؛ لأنها تعين عمل الدعوتين، وتنهض في اليوم الواحد بالأكلتين، وهو في تناولها كالكاتب الذي يقط أقلامه، والجندي الذي يصقل حسامه، والصانع الذي يجدد آلاته، والماهر الذي يصلح أدواته.
هذا عهد علي بن أحمد المعروف بعليكا إليك وحجته عليك، لم يألك في ذلك إرشادا وتوقيفا، وتهذيبا وتثقيفا، وتمعنا وتبصيرا، وحثا وتذكيرا؛ فكن بأوامره مؤتمرا، وبزواجره مزدجرا، ولرسومه متبعا، ولحفظها مضطلعا؛ إن شاء الله تعالى؛ والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
قلت: وسئلت في تقليد لطفيلي، فعملت:
الحمد لله الذي نعّم في طيبات رزقه، ورزق بعض خلقه من خلقه، وأجاز للمرء في بعض المذاهب التوصل بما قدر عليه إلى أخذ حقه، نحمده على نعمه التي وسعت الولائم، ومتعت بأكل كل ملائم، ونشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، شهادة أول ما يبدأ منها باسم الله الآكل، ويهنأ بها ما يهيأ من المآكل، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، الذي ما عاب قط طعاما، ولا دعي إلى طعام إلا أكل مالم يكن نوى صياما؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، صلاة تتلقمها المسامع التقاما، وسلم تسليما كثيرا؛ وبعد:
فلما كان الغداء هو قوام الأبدان، ونظام عمارة البلدان، وموائد الطعام هي التي يجتمع عليها الإخوان، وتزهى به صدور الإيوان، وتفتح وتختم بالحمد، وتمنح من أطايب المطاعم ما يتجاوز الحد، ويكون فيها ما يسر العين من بدائع
الألوان، وتسري نجوم زباديها «1» في سماء الخوان، وقد تحويه دور بعض البخلا، ومن لا يدعو الناس إلى طعامه دعوة الجفلى «2» ، ويكون في ماله الممنوع حق للسائل والمحروم، ومن لا يتوصل إلى الحق منه إلا بالتطفيل المعلوم، ممن تعيّن الأكل من ماله بأنواع الحيل، والهجوم على موائده المحجوبة وراء الحلل، واستعمال الإقدام على هذا وأمثاله لأكل طعامه، وإخلاء المائدة من قدامه؛ ولم يوجد لهذه العظيمة، ولا يلام صاحب كل وليمة، إلا من كان إذا أكل اضطلع، وإذا مد يده إلى السماط اقتلع، أو صعد إلى السماء ذبح سعد الذابح وبلع سعد بلع؛ ولم يزل يزلزل الموائد، ويملأ وعاء بطنه بزائد، ولا يعرف ما تكون البطنة، ولا ما تكفي منه اللقمة وتعني منه اللهنة، ولا يقابله صدور الأطباق إلا وهي غير مطمئنة.
وكان فلان هو الذي طالما كشف وجه السماط، وحل من سفر المخالي الرباط، وجال في جنبات الموائد حتى أخلاها، وركض فيها ركض الجواد حتى ألحق أخراها بأولاها، وعرف في الولائم التي لم يزل فيها مشهور الحملة، آتيا على التفصيل والجملة، معروفا بكبر اللقم التي تكاد تخنق، وترك التشهي وأكل ما يتفق، وقوة النهمة التي لو نقمت [على] الصخر لسحنته، أو كلفت خوض البحر إلى أكل لقمة واحدة لاستهونته؛ واشتهر بطبع طبع، عنّى كل من يجيء بعده وأتعب، وفرط طمع أطفأ كل طفيلي وأمات أشعب وأم أشعب، ولم يعصم منه باب مغلق، ولا ستر مطبق ولا طعام جالس على الطريق، ولا محبوس من وراء مضيق، بل لو قيل له: إنّ اللقمة خلف جبل قاف لقام إليها يسعى، أو في فم الأفعى لمد يده إليها ولم يخف لسعا، قد تبلط وجهه الوقاح، وأفنى لحوم ذوات الأربع والجناح، ولم يدع في القدور شيئا عليه يدور، ولا في المخافي ما هو عليه خافي، ولا نوعا من الأنواع، ولا ما يصلح للأكل مما يشترى ويباع؛ ولو واكل ابن أبي
سفيان «1» لأشغله عن العيان أو سليمان بن عبد الملك «2» لهلك، أو الملك العادل «3» ، لأفقره في العاجل، أو عاصر ميسرة التّراس «4» ، لما اشتال له معه راس، أو عاشر القائد المغربي مولى فارح «5» ، لأراه في الأكل كل قارح، لا يعجبه لأجل السعي للأكل إلا كلّ يوم أغر يبدو نوره، وكل ملك إذا تغدى رفعت ستوره «6» ، لا يعد فردا، إلا من قدم إليه قصعة مكللة لحما مدفقة ثردا، ولا يكون منازلا، إلا لمن قال: وإني لعبد الضيف ما دام نازلا «7» ؛ يتغدى بجمل، ويتعشى بوسقه «8» ما حمل، يصرف الأكل بغزارة، ويحمل معدته فوق السبع كارة، ولا يكفيه قدر الرغيف إلا كلما أرهن عليه قوسه حاجب بن زرارة، ولا يقنعه طبخة القدر، إلا بجميع ما في الكوراة؛ يتنقل بإردبّ «9» ، ويأكل كل ما سعى أو دبّ، يتملح بمدّ ملح «10» وقوصرة بصل، ويتحلى بعديلة تمر ووطب
عسل؛ يشرب من اللبن وطبا، ويتنقل بحمل الحديقة رطبا، القنطار عنده أوقية، والرطل توابل التغذية، لا يحب إلا اسم بلعام «1» وطعمه، ولا يأكل ملء الطبق إلا في لقمة، يأكل باليدين، ويشبع بالعين؛ لم يعرف في طول عمره التخم، ولا خاف الوخم، ولا وقع على جيف المآكل إلا وقوع الرخم، ولم يأكل- حاشاه- في سبعة أمعاء، وإنما يدخر معه في وعاء، ما قرأ من الفقه إلا كتاب الأطعمة، ولا سئل: كيف الطريق؟ إلا قال: أنا ما أحب إلا الأشياء الحلوة الدسمة؛ لا نعرف أعرف منه بتلفيق الأسباب، وتخريب عرائش النقانق وقباب الكباب، فما حط يده في طعام إلا محقه، ولا في مأكول إلّا وعاد في الحال كأن الله ما خلقه، فاقتضى له تقدمه في هذه الطائفة الطائفة «2» ، أن يكتب له هذا التقليد، ويزاد به طول يده وباعه المديد، ويميز على أبناء جنسه من طائفة الشيخ ساسان «3» ، ومن يأخذ أموال الناس باليد ويأكلهم باللسان، ويفعل الفعائل التي ما يظن بها إلا أن زمان أبي الأكاسرة عاد، وينصب النصبات «4» التي لو كان أبو زيد السروجي «5» حاضرها لما زاد، فرسم أن يقلد أمر طائفة الطفيلية، ويعاد إليه أمورهم بالكلّيّة؛ وأن يكونوا جميعهم تحت أمره المطاع وأعوانه، إذا أكل كل ما على السماط وخلى الناس وهم جياع، وهو ما يحتاج إلى الوصايا التي تشغله عن الابتلاع، وتلهيه عن النهم الذي هو من خلق السباع؛ وإنما نقول له على سبيل
التذكرة، ونكتفي بالقليل لما عنده من المخبرة؛ فأول ما نوصيه أنه لا يقف عند منهل، ولا يتوقف في أي شيء تسهل، ولا يتخير ليتحير، ولا يذكر إذا تقدم إلى الطعام؛ بحقد من حقد ولا لوم من لام، ولا يحسب حساب تقية من حضر، بل يأكل الكل ولا يذر، ولا ينتظر من غاب، ولو كان أسد الغاب، ومهما جاء قدامه رماه بالمحاق، وعاجله خوف اللحاق؛ وإذا قدمت المائدة، يذكر اسم الله لتهرب الشياطين، وتغنّى لئلا تحضر الملائكة، ويتحيّل بكل طريق في عدم المشاركة، ويعجل مهما أمكنه فإنه ما يأمن المداركة وليلف الخبز والإدام، ولا يعفّ عن لحس الزبادي وقرقشة العظام، ولا يتلافى خاطر من حرد ولا يترضى، ولا يدع شيئا مما يطلق عليه اسم الأكل حتى النار التي تأكل بعضها بعضا، وليباكر الغداء فإنه مكرمة، ويلازم العشاء فقد قال صلى الله عليه وسلم «1» :«تعشّوا ولو بكف من حشف فإنّ ترك العشاء مهرمة» ، وليداوم على ما هو عليه من هذا الأمر، ولا يلتفت لقول زيد ولا عمرو، وليأكل ما حضر ويحرص على الطيبات، فقد كان صلى الله عليه وسلم يأكل القثاء بالرطب، ويحب الحلو والعسل، ويحب الزّبد والتمر، ولا أقل أن يكون فيه هذا من السنة؛ ومن تتبع مآكل السلف، وإن كان لا يريد، لأن هذا كله لا مصور على خاطره، وممثل في ناظره؛ ثم ليتعهد المهضمات وما يقوي المعدة، ويزيد لهيب نيرانها المتقدة، ولا يدع استعمال المسهلات، ليهيئ المعدة لمواقع الغداء والعشاء، ومواضع الأكل في مطاوي الأحشاء؛ وليستعلم أخبار الآكلين، وطرائف الطفيلية المحتالين، لما يحصل بذلك من التأسي، وينهض الشهوة للأكل والتحسي؛ وإياه والمضغ، فإنه يطيل المدى ويقلل معه مقدار ما يؤخذ من الغدا؛ ومهما استطاع فليحسن المآكل، ويحزن صاحب الضيافة الحزين الثاكل،
وليصرف شهوته إلى ما لا ينصرف، وما يقف على المعدة ويتوقف، ويلازم مغلظات الغداء ولا يسمع ممن قال: إنه المذموم، وليستكثر من لحوم الجمال والجواميس والبقر وما أشبه هذه اللحوم، وكذلك مارزن من الحبوب ووزن، فجاء أضعاف مثله في القدر المحسوب؛ ودأبك أن تعرف موسم كل مجتمع، ومكان يرجى فيه ملء البطن والشبع، وصرف أعوانك لتعرف أخبار الأعراس التي يولم فيها الولائم، وبقية المواضع التي ينصرف عنها بشبعه الطاعم، وأسمطة الأمراء وآدر الوزراء، ومواضع مناصفات الفقراء، والأوقات التي تعمل لها جلاسات الفقهاء والقراء، ومظان الرهان التي تؤخذ فيها الدراهم، وتصرف غالبا في أنواع المطاعم، ودعوات الإخوان وأهل القصف، ومن يكون على ميعاد استعد له ومالا يبعد عن هذا الوصف، ودور أهل اليسار وكبار العامة والتجار، والجندي إذا جاء من الريف وحط هديته عن الحمار، وأرباب الصنائع الذين منهم من أوتى رزقه، ومن لا يبلغ أجرة عمله في اليوم درهمين وينفق بعض الأيام أكثر من دينار؛ ومواضع النزه، فكثيرا ما يستخرج بها مال البخيل، والبيوت التي تطلب إليها المواشط والدايات، فإن النفقة فيها غير قليل؛ وأقم لك ربيئة «1» على كل رابية [و] كل مكان يدقّ عليه بالطبول، ويتبع من يقوم منهم لتهنئة من تجددت له نعمة أو دفعت عنه نقمة أو غير هذا مما يقتضيه الفضول، ثم اقصد هذه المواضع وابسط يدك كل البسط، وتذكر ما كتب ساسان على عصاه «2» ولا تنس الشرط، ولف الإوز والدجاج والبط، واشرب بالزبادي المرق ولو أنه ماء الشّطّ، واحرق كل ما قدامك ولو كان النار والكبريت والنفط؛ وصل صولة الفحل، وكل
الشهد وإبر النحل، ولا تخل جنى النحل، ولا ما غرست فيه من الوحل «1» ، واهجم واسأل ولا تسل، ولا تفرق في سد الجوعة بين الصبر والعسل، وإذا رأيت جماعة فاحدس أنهم إنما اجتمعوا لطعام، أو أفرادا فاجزم بأنهم تفرقوا حيلة للالتئام، فاعمل بالحزم، واقصدهم وصمم العزم، وانضم إليهم واهجم هجوم الأسد المفترس، وكل كلّ ما بين أيديهم، وتنوع في الشهوات واقترح، ولا تخف من غضبهم فلابد أنك وإياهم تصطلح، وكل أكلة تكفي سنين، واستكثر بالآلاف المئين، وقل:[الكامل]
يا أكلة من عاش أخبر أهله
…
أو مات يلقى الله وهو بطين
«2» فإن ضاقت منك عين بخيل، وإن عجلك عن الطعام قبل امتلاء الخرطبيل، وبسط إليك أحد يده ليقتلك، أو صفعك بالخفاف ونطلك «3» ، فاحتسب مصابك، وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ
«4» ، ولا تهتم لما نزل عليك، ولو نزل الماء الأسود في عينيك، وورم وجهك وخلف أذنيك، فلا تنظر هذا الخطب الجليل إلا حقيرا، ولا هذا التعزير البليغ إلا على ما سمي به في الأصل توقيرا، ولا يردك هذا عن فعلك في المستقبل، واسمع من هذه الوصية واقبل، ولا تستكثر حمل ألف بعير، ولا تستقل حبة خردل، واجمع جنودك على هذه الطاعة، وإن كانوا ما يجمعهم مندل، وبصرهم بشرق البشرة، وعودهم أن لا يأكلوا بالخمسة والكف دون العشرة، وافتح فمك والتهم، وأوسع بطنك واضطرب في السماط واضطرم، وانتقد على البخيل وانتقم، وافعل في هذا فعل من لا يحتشم، ولا يخاف أنه ينبشم، وابرك في المائة وارتطم، واضرب للعجلة وجهك بيدك والتطم، وحافظ على هذا
واستدم، واستمك ظهور الموائد واستنم؛ ولو رفسك بخفه البعير، نزّله منزلة القرص الكبير، واهجم على الرغيف، ولو أنه الغريف «1» ، وهاجم على الفريسة كالأسد، وأدخل الطّعام على الطّعام ولو فسد، وغالب البخلاء على أموالهم ولا تفكر في أحد، وطالب من لا لك عنده شيء ولا يضرك من جحد، واضرب الحيس بالحيس، وكل السخلة والكبش والجدي والتيس، وكبّ جموع ربيعة على مضر ويمن على قيس، ولا يلج في مسامعك عذل عاذل، ولا يرد يدك منع بخيل ولا بذل باذل، ولا يغب عنك الماء لتسويغ الغصص، وإرفاد الطعام به بالقفص، وعليك بالعزائم وإياك والرخص، والحذر كل الحذر من الكسل والتواني، والقعود عن المواضع التي تطلب إليها القراء والمغاني؛ فإن كل هذه المظان، والمظانّ التي تسلط فيه السكين على الضان، فما كل وقت تصبح وليمة، ولا كل حين تمضي عزيمة، والإنسان الشاطر من أكل أكل البهيمة، وما كل أوان يتبوأ الآكل دار مضيف يحلّها، وينعم في جنات جفان أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها
«2» ، فلا يؤخّر يوم سرور ينتظر له غدا، ولا يشيل لعشاء من غدا، ولا يفوت دعوة كريم يضيف يديه في داره ويقول: وَكُلا مِنْها رَغَداً
«3» ؛ ومر أعوانك فليحمدوا الله الذي أطعمهم من أموال خلقه، وجعل أيديهم تعاجل يد صاحب الطعام في سبقه، وأوصهم بالشكر وقل لهم: فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ
«4» ؛ والله تعالى يمتعه بما وهبه من بطن لا يشبع، ونفس أدنى من نفس أشعب الطماع وأطمع، وسبيل كل واقف عليه الانتهاء إلى ما يتقدم به من الأمر، وسلوك مسلك أصحاب أبي نعامة معه حتى يأكلوا معه الجمر، ومن خالفهم منهم يسقط من جريدة هذا الحساب، ويوقف وراء الحجاب، وأدّب بين الطفيلية أدبا
يبقى به أعجوبة، ويترك في مكان يبصر الناس فيه يأكلون، ولا يصل إليهم، وكفاه هذا عقوبة؛ والاعتماد على الخط الكريم أعلاه.
* وعنوان قوله في النظم «1» : [الكامل]
إن كنت خنتك في المودة ساعة
…
فذممت سيف الدولة المحمودا
وزعمت أن له شريكا في العلى
…
وجحدته في فضله التوحيدا
قسما لو اني قد حلفت غموسها
…
لغريم دين ما أراد مزيدا
وقوله: [الكامل]
قلم يفل الجيش وهو عرمرم
…
والبيض ما سلت من الأغماد
وهبت له الآجام حين نشابها
…
كرم السّيول وهيبة الآساد
وقوله: [الكامل]
حملوا قلوب الأسد بين ضلوعهم
…
ولووا عمائمهم على الأقمار
وتقلدوا يوم الوغى هندية
…
أمضى إذا انتضيت من الأقدار
قوم إذا لبسوا الدورع حسبتهم
…
كسحاب غيث ممطر بنهار
إن خوّفوك لقيت كل كريهة
…
أو أمّنوك لقيت دار قرار
وقوله وقد شكا وجع المفاصل «2» : [مجزوء الكامل]
وجع المفاصل وهو آ
…
خر ما لقيت من الأذى
ترك الذي استحسنته
…
والناس من حظّي كذا
والعمر مثل الكأس ير
…
سب في أواخره القذى
وقوله «1» : [مخلع البسيط]
والنّقل من فستق حديث
…
رطب تبدّى به الجفاف
زمرّد صانه حرير
…
في حقّ عاج له غلاف
وقوله «2» : [الطويل]
وللسر فيما بين جنبيّ مكمن
…
خفيّ قصيّ عن مدارج أنفاسي
كأني من فرط احتفاظي أضعته
…
فبعضي له واع وبعضي له ناسي
وقوله: [الوافر]
لقد فاوضته وسددت أنفي
…
فما نفع احتراسي واحتياطي
عجبت لأمّه إذ قمّطته
…
لقد وضعت خراها في القماط
وقوله «3» : [الطويل]
إذا لم يكن بدّ من الموت للفتى
…
فأروحه الأوحى الذي هو أسرع
فكن غرضا بالعيش لا تغتبط به
…
فمحصوله خوف وعقباه مصرع
وقوله «4» : [الكامل]
حتى إذا داع دعاه إلى الهوى
…
أصغى إليه سامعا ومطيعا
كذبالة أخمدتها فكما دنا
…
منها الضرام تعلقته سريعا
وقوله «1» : [الكامل]
قد كنت طلقت الوزارة عندما
…
زلت بها قدم وساء صنيعها
فغدت بغيرك تستحل ضرورة
…
كيما يحلّ إلى ذراك رجوعها
فالآن عادت ثم آلت حلفة
…
ألّا يبيت سواك وهو ضجيعها
وقوله في مبخرة: [الرجز]
وقبّة ذات حدود أربعه
…
مبنيّة بناء رأس الصومعه
في ذرعها ضيق وفي الطيب سعه
…
حالية كالغادة المصنعه
مزفوفة لفتية مجتمعه
…
من شاء أن يخلو بها خلت معه
صبّت عليها خلع مرتجعه
…
تلبث فيها ثم تعرى مسرعه
وقوله: [الخفيف]
أقبلت ثم قبّلت ظهر كفّي
…
قبلة تنقع الغليل وتشفي
فعضضت اليد التي قبلتها
…
بفم حاسد يريد التشفّي
«2» وقوله: [الطويل]
فلا تتخذ لحمي غداء تسيغه
…
وتحسب جهلا أن سيمريك أكله
فقد يلسب الفيل المعظّم عقرب
…
فتقتلها من بعد ذلك نعله
وقوله: [مجزوء الكامل]
ما زلت آمل فتح آمل
…
مذ سيرت تلك الجحافل
«3»
لله ما نطق اللسا
…
ن به وأومأت الأنامل
واستكتمت أسيافنا
…
تلك العواتق والكواهل
فطعاننا يفري الكلى
…
وضرابنا يبري المفاصل
يا برد حرّ حروبنا
…
في كلّ صدر ذي بلابل
أبدا ترينا في الأوا
…
خر ما اقترحنا في الأوائل
فامدد يديك لمادنا
…
ولما نأى فالكلّ حاصل
وقوله- وكان شيخنا أبو الثناء يستحسنه- «1» : [الطويل]
أقول وقد جردتها من ثيابها
…
وعانقت منها البدر في ليلة التّمّ
وقد آلمت صدري بشدة ضمّها:
…
لقد جبرت قلبي وإن أوهنت عظمي
وقوله: [مجزوء الكامل]
قل لابن نصر قول من
…
سمع الأذى منه وشمّه:
يا ليت من حفر الكني
…
ف بوسط وجهك منه ضمّه
وقوله يصف الجوزاء بين الشعريين: [البسيط]
وقد تجدلت الجوزاء بينهما
…
كأنه جثّة مضروبة العنق
ورام أخذ الثّريا وهو يحسبها
…
خريطة سقطت ملأى من الورق
وقوله في الخمر «2» : [المنسرح]
صفراء كالورس جامها يقق
…
شعاعها كالذّبال يأتلق
كأنها في كفّ من أتاك بها
…
ضحى نهار في وسطه شفق
وقوله: [الخفيف]
بين فكيك يا ابن نصر مضيق
…
فيه بالشمّ للمنايا طريق
فاتق الله في الورى وتلثم
…
أي نفس لبعض هذا تطيق
وقوله: [الطويل]
إذا كنت قد أيقنت أنك هالك
…
فما لك مما دون ذلك تشفق
ومما يشين المرء ذا الحلم أنه
…
يرى الأمر حتما واقعا وهو يقلق
وقوله: [البسيط]
بكى المظفّر من إفراط فروته
…
فكلّ من أبصرته عينه ضحكا
«1»
كأنها إذ بدت والأير راكبها
…
زق يصيد عليها سابح سمكا
وقوله «2» : [الخفيف]
أيها النابح الذي يتصدّى
…
بقبيح يقوله لجوابي
لا تؤمّل أني أقول لك أخسأ
…
لست أسخو بها لكلّ الكلاب
وقوله: [الخفيف]
عظمت فروة المظفّر حتّى
…
أعجزت كلّ ناظر يشتهيها
غيبت أيره فلم يبق إلّا
…
فيشة منه ربما تبديها
كالسحلفاة حين تطلع رأسا
…
فإذا أوحشت تراجع فيها
وقوله: [الوافر]
أبا الخطّاب لو أنّي رهين
…
ببطن القاع ينعاني نعاتي
لألزمك الوفاء وصال رمسي
…
فكيف تجيز هجري في حياتي
وقوله «1» : [مجزوء الكامل]
قل للشريف المنتمي
…
للغرّ من سرواته
شاد الألى لك منصبا
…
قوّضت من شرفاته
والعود ليس بأصله
…
لكنّه بنباته
والماء يفسد إن خلط
…
ت أجاجه بفراته
وأحقّ من نكّسته
…
بالصّغر من درجاته
من مجده من غيره
…
وسفاله من ذاته
وقوله في إمام أبخر: [مخلّع البسيط]
يا من يصلّي صلاة شكّ
…
يطول في إثرها قنوته
إن كنت تبغي الثّواب فاسكت
…
ربّ فم أجره سكوته
وقوله: [مخلّع البسيط]
انحر أعادي بني بويه
…
بالسّيف في جملة الأضاحي
فالكلّ منهم ذوو قرون
…
تصلح للذّبح والنّطاح
وقوله في مدخنة «2» : [الطويل]
ومحرورة الأحشاء تحسب أنها
…
متيمة تشكو من الحبّ تبريحا
يخرّق فيها العود عودا وبدأة
…
فتأخذه جسما وتبعثه روحا
وقوله «3» : [المسرح]
قبّلت منه فما مجاجته
…
تجمع مغنى المدام والشّهد
كأنّ مجرى سواكه برد
…
وريقه ذوب ذلك البرد
وقوله: [الطويل]
وقالوا: اتّخذ أخرى سواها لعلّها
…
تنسيك ذكراها التي تتردّد
فقلت لهم: بعدا وسحقا لرأيكم
…
أأقلع عيني حين تذوى وترمد
وقوله في وردة: [البسيط]
حمراء مصفرة الأحشاء ناعتة
…
طيبا تخال به في الطّيب عطّارا
كأنّ في وسطها تبرا يخلّطه
…
قين يضرّم من أوراقها نارا
وقوله: [الطويل]
وهبت له عمر الشبيبة صحبة
…
وأكرم بذي جود إذا وهب العمرا
فلّما ألمت للزمان ملمة
…
فزعت إليه والتمست به النّصرا
فصمّ ولم يسمع نداء ولم يجب
…
دعاء كأني به مستنطق صخرا
ورقّت صروف الدّهر لي من صنيعه
…
فأصبحت أشكوه وأستصرخ الدهرا
وقوله «1» : [الكامل]
ما زلت في سكري ألمّع كفّها
…
وذراعها بالقرص والآثار
حتى تركت أديمها [وكأنّما]
…
غرس البنفسج منه في الجمّار
وقوله: [السريع]
ومن طوى الخمسين من عمره
…
لاقى أمورا فيه مستنكره
وإن تخطاها رأى بعدها
…
من حادثات النقص ما لم يره
وقوله «1» : [البسيط]
إن نحن قسناك بالغصن الرطيب فقد
…
خفنا عليك له ظلما وعدوانا
لأنّ أحسن ما نلقاه مكتسيا
…
وأنت أحسن ما نلقاك عريانا
وقوله «2» : [مجزوء الكامل]
يا من بدت عريانة
…
فرأيت كلّ الحسن منها
كانت ثيابك عورة
…
فسترت بالتّجريد عنها
وقوله: [الطويل]
خضاب تقاسمناه بيني وبينها
…
ولكنّ شأني فيه خالف شانها
فيا قبحه إذ حلّ منّي مفرقي
…
ويا حسنه إذ حلّ منها بنانها
وقوله في اصطرلاب أهداه «3» : [البسيط]
أهدى إليك بنو الآمال واحتفلوا
…
في مهرجان جديد أنت مبليه
لكنّ عبدك إبراهيم حين رأى
…
علوّ قدرك عن شيء يدانيه
لم يرض بالأرض مهداة إليك فقد
…
أهدى لك الفلك الأعلى بما فيه
وقوله: [الخفيف]
يشتهي النّذل أن يكون كريما
…
فإذا سيم ما اشتهاه أباه
فهو مثل العنّين يشتهي النّي
…
ك ولا يستطيعه إن أتاه
وقوله «1» : [الكامل]
ومن العجائب أنّني هنّأته
…
وأنا المهنّا فيه بالنّعماء
وقوله «2» : [الكامل]
يا ذا الذي جعل القطيعة دأبه
…
إنّ القطيعة موضع للرّيب
إن كان ودّك في الطّويّة كامنا
…
فاطلب صديقا عالما بالغيب
وقوله: [الخفيف]
صدّ عنّي مستعذبا لعذابي
…
وجفاني كعادة الأحباب
كل يوم يروع قلبي بفنّ
…
من تجنيه لم يكن في حسابي
وقوله: [الطويل]
لئن صرت حلس البيت حلف جداره
…
فبالأمس منّي تستعيذ النجائب
كذاك أبو الأشبال يربض مرصدا
…
ولابدّ من أن يعتدي وهو آئب
وقوله «3» : [الطويل]
تورّد دمعي فاستوى ومدامتي
…
فمن مثل ما في الكأس عيني تسكب
فو الله ما أدري أبا الخمر أسبلت
…
جفوني أم من دمعتي كنت أشرب
وقوله: [السريع]
سألت عنه مجلسا قامه
…
قد كان مأكولا له معجبا
فقال: ما قولك في مدخل
…
وجدت منه مخرجي أطيبا
2-
وأما أبو محمّد عبد الله بن عمر بن محمّد الفيّاض «1» ، كاتب «2» سيف الدولة:
فكان يكتب في ماله، بل كان الممول له، والمخول في كل ما ملك؛ وكان يعجن مداده بالمسك، ولا يليق دواته إلا بماء الورد؛ وكان شعلة لا تطفى، وبارقة لا تخفى، بذهن متقد، وفكر منتقد؛ إلا أن مادته مقصورة، وجادته محصورة، وبدائعه كثيرة، على قلتها يسيرة، إذا قيست إليها النجوم بجملتها، أرضى سيف الدولة بن حمدان، وأمضى عزائم رأيه وقد نعس الفرقدان، فتقدم أمام الكتاب ولواؤه منصور، وعدوّه ببيانه كالليل بالكوكب الدري منحور.
وله نثر، منه قوله: وقد علم الدمستق مواقع سيوفنا منه، وأيامنا الماضية معه، وأنه ما تحامل إلينا إلا على ظلع، ولا أقبل حتى رجع، وها نحن ننشده إمّا القطيعة، وإما الوقيعة، والسلام.
ومنه قوله: وأنتم أحوج إلى طلب الفداء لأساراكم منا إليه، وأجدر إذا استهمت رماح الجبلين عليه؛ لأنكم تربعون به تكثرا من قلة، وتعززا من ذلة؛ ولسنا كذلك، إنا لا نأسف على من نقص من عدد، ولا نبالي بمن أمسك من مدد، ثقة بما عوّد الله من النصر، وأتى من الأجر بالصبر.
ومنه قوله:
وردنا والأرض كأذناب الطواويس، والطير زجلة كأصوات النواقيس، وقد اهتز الشجر، وكلل النبات المطر، والطّرف قد رنح كالطّرف في تلك الميادين، والنسيم قد ضمخ من شذا تلك البساتين، فلم تكن لنا أمنية إلا أن نراك، ونثري بلقائك سقي ثراك.
ومنه قوله: وقد أجّلتنا يومين وهذا ثالث، وأعطيتني عهدين وكنت الناكث؛ فهل ابتدعت ما أتيت، أو كان لك عليه باعث؟
فيا قسيم روحي، ويا نسيم صبوحي، ها قد آن الغبوق، إلّا أنه يقرقف مرشفيك وكأس عينيك؛ وو الله لا شربت إلا على آس عذارك وورد خديك؛ فابرر قسمي، ورد الجواب من فمك إلى فمي.
* وسيأتي ذكر أبيه في الشعراء، وبه كانت لابنه هذه المكانة من سيف الدولة، وكلاهما- أعني هذا وأباه- ذو تيه وصلف، وكلاهما من صاحبه خلف.
3-
وأما الحريري: أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان «1» ، صاحب المقامات
* فإنه فيما سواها، ما قاربها ولا داناها؛ حتى عجز عند الامتحان، عن كتابة كتاب أمر به على ما وشّع من تلك المقامات، ووسع من تلك المقالات؛ وبرع في ذلك المذهب، وعرف له من الحريري المذهب؛ هذا والدهر من دواته، والناس سواء
في عدم مساواته؛ وهو مادة أهل الأدب، والذي ينسلون إليه من كل حدب، إلا أنه لم يقدر أن يكون مكلّفا، ولا استطاع أن يكون لغير أمالي خاطره متلقفا؛ وهذا مذهب غير مذهب كتاب الإنشاء المكلفين اتباع غرض غيرهم، حتى يقسروا خواطرهم على ذلك؛ على أن الرجل فضله عظيم، ومثاله الدهر به عقيم، وقدره جليل، ونظيره قليل؛ منبع الفضائل ونبعتها، وصيت الفواضل وسمعتها؛ توقته الأعداء سماما، وألقته الأولياء سهاما؛ وكان معدن [كلّ] نائل، وموطن كل طائل؛ باري غرب يريش ويبري، ويجيش قليب خاطره ويجري، أبرز مالم يستطعه الأوائل، وأحرز قصبات السبق على كل قائل.
وكان «1» سبب وضعه لمقاماته، ما حكاه ولده أبو القاسم عبد الله، قال:
كان أبي جالسا في مسجده ببني حرام، فدخل عليه شيخ ذو طمرين، عليه أهبة السفر، رثّ الحال، فصيح الكلام، حسن العبارة؛ فسألته الجماعة من أين الشيخ؟ فقال: من سروج «2» ؛ فاستخبروه عن كنيته، فقال: أبو زيد؛ فعمل أبي المقامة المعروفة بالحرامية وهي الثّامنة والأربعون، وعزاها إلى أبي زيد المذكور واشتهرت، فبلغ خبرها الوزير شرف الدين أبا نصر أنو شروان بن خالد القاشاني «3» وزير المسترشد [بالله]«4» ؛ فلما وقف عليها أعجبته، وأشار إليه أن يضم إليها غيرها، فأتمها خمسين مقامة؛ وإلى الوزير المذكور أشار الحريريّ في الخطبة: فأشار من إشارته حكم، وطاعته غنم، إلى أن أنشئ مقامات أتلو فيها تلو البديع «5» .
قال ابن خلكان: ورأيت في سنة ستّ وسبعين وستّمئة بالقاهرة، نسخة مقامات بخطّ الحريريّ، وقد كتب أيضا بخطّه على ظهرها، أنه صنّفها للوزير جلال الدين عميد الدّولة [أبي علي، الحسن بن أبي العز علي بن صدقة] وزير المسترشد أيضا. قال ابن خلكان: ولا شك أن هذا أصح من الرواية الأولى، لكونه بخطّ المصنّف، والله أعلم.
وأما تسمية الراوي بالحارث بن همام، فإنما عني [به] نفسه، وهو مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم:«كلّكم حارث، وكلّكم همّام» «1» ، فالحارث: الكاسب؛ والهمام: الكثير الاهتمام، وما من شخص إلا وهو حارث وهمام، لأن كل أحد كاسب ومهتم بأموره.
وكان الحريريّ قد عمل من المقامات أربعين مقامة، وحملها إلى بغداد وادّعاها، فقال جماعة من أدباء بغداد: ليست من تصنيفه، بل هي لرجل مغربي مات بالبصرة، ووقعت أوراقه إليه فادعاها؛ فاستدعاه الوزير إلى الديوان، وسأله عن صناعته، فقال: أنا رجل منشئ؛ فاقترح عليه إنشاء رسالة في واقعة عيّنها، فانفرد في ناحية من الديوان، وأخذ الدواة والورقة، ومكث زمانا، فلم يفتح الله عليه بشيء من ذلك، فقام وهو خجلان؛ وكان من جملة من أنكر دعواه أبو القاسم عليّ بن أفلح «2» ، فأنشد «3» :[المنسرح]
شيخ لنا من ربيعة الفرس
…
ينتف عثنونه من الهوس
أنطقه الله بالمشان كما
…
رماه وسط الدّيوان بالخرس
وكان الحريريّ يزعم أنه من ربيعة الفرس، وكان مولعا بنتف لحيته عند الفكر، وكان يسكن في مشان البصرة «1» ؛ فلما رجع إلى البصرة عمل عشر مقامات أخر وسيرهنّ، واعتذر من عيّه وحصره بالدّيوان، مما لحقه من المهابة «2» .
وللحريريّ عدة تصانيف طريفة لطيفة، كدرة الغواص، وملحة الإعراب؛ ويقال: إنه عملها لجواري الخليفة، فكن يحفظنها ويقمن ألسنتهنّ بها. قلت:
وهي بما حوت من العلم سهلة المأخذ، كأن شعرها غزل؛ ولو لم يكن منه إلا قوله:[الرجز]
ولن يطيب الوصل حتّى تسعدي
…
يا هند بالوصل الذي يروي الصّدى
* وله نظم ونثر في غير المقامات، ومنها قوله نثرا:«3»
ولما استخدم الخادم فيما أهّل له آنفا، اعتمد في الخدمة ما يتهيب قلمه الإفصاح عنه، ويعرف بأن سعادة الديوان العزيز هي التي سنّت ما تسنّى منه، وتقدّم له الوعد بأنه عند تصفح مساعيه، يمنح من المساعفة بما يرتجيه، ولم يقدم قلمه على التذكير بالوعد الشريف، إلا بعد ما أنطقه لسان التوفيق للخدمة، وكفل له بمزيد الحظوة من النعمة؛ فإن اقتضت الآراء العلية إنجاز
موعده، كان ذلك إنعاما يقع عند معترف بوقعه، مستنفذ في الطاعة غاية وسعه.
ومنه قوله «1» : لولا خبرتي بفضله السائر، وإنعامه المنجد الغائر، لاستربت فيما يحكي، وامتريت فيما يروي؛ ولكن ما خلا عصر من جواد وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ
«2» فإنه- أبقاه الله- وإن تصرفت الأحوال، وتشعبت الأقوال، كالغمام لا يقطع سقياه، ولا يستطيع أحد برد حياه؛ وللرأي الشريف مزيد علوه في الإنعام، بتأوّل ما أوضحته، والتّطوّل بما اقترحته.
ومنه قوله: رزء تساهم فيه الأنام، وأظلمت ليومه الأيام، واستغرب عنده الحمام، وعزّي فيه الدهر بكافل أبنائه، وندب فيه شقيق السحاب، فاستعبر بدموع أنوائه.
ومنه قوله «3» : وصل من المجلس- أكمل الله سعوده وأكمد حسوده- كتاب اتسم بالمكرمة الغرّاء، وابتسم عن النعمة العذراء؛ ووجدت بما ألحف من الجميل، وأتحف من التجميل، ما كانت أطماعي تهفو إليه، وآمالي تحوم حواليه؛ إذ ما زلت مذ استميلت وصف المناقب الشريفة، أبعث قلمي على أن يفاتح، وأن يكون الرائد لي والماتح، وهو ينكص نكوص الهيوبة، وينكل نكول الكهام عن الضريبة، إلى أن بديت وهديت، ورأيت كيف يحيي الله ويميت، فلم يبق بعد أن أنشط
العقال، واستدعي المقال، إلا أن أنقل التمر إلى هجر، والهشيم إلى الشجر، فأصدرتها متشحة بالخجل، مرتعشة من الوجل، وأنا معترف بالتقصير، معتذر باللّسان القصير، «ولكلّ امرئ ما نوى» «1» ، وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى
«2» .
ومنه قوله: ولعلّ الأيام تسمح بمتعة الملاقاة، فاجعلها غرّة الأوقات، وأعظمها كتعظيم حرمة الميقات؛ وهو إذا أتحفني بسطرين في كل شهرين، يكون قد أمطاني رتبة تضاهي النسرين، وأولى نعمة تبقى على العصرين.
ومنه قوله يهنئ بشهر رمضان: [الخفيف]
أنت في النّاس مثل ذا الشّهر في الأش
…
هر بل مثل ليلة القدر فيه
أسعد الله المجلس بمقدم هذا الشهر، ومطلع هلاله المنيف؛ وهذا دعاء- لو سكتّ- كفيته، وسؤال- ولله الحمد- أوتيته.
ومنه قوله: إذا كانت المودات- حرس الله عز سيدنا- أنفس المرام المخطوب، وأنفع ما اقتني لدفع الخطوب، فلا لوم على من استسعى قدمه لخطبتها، واستعلق قلمه لطلبتها، لا سيما إذا كانت تعجب المتأمل، وتسعف المؤمّل؛ هذا وأنا مع المغالاة في الموالاة، وعلى هذه الصّفات من المصافاة، أعترف بوجوب معاتبتي، لقصور مكاتبتي، وأعتذر من عظيم هفوتي لتمادي جفوتي، ولولا أن لمفاتحة حضرته
وقفة المتهيب، وخجلة القطر من الصّيّب، لما استهدف قلمي لمرام الملام، ولاستنكف أن يكون سكّيتا في حلبة الأقلام؛ وها هو الآن قد أقدم إقدام الوقاح، وتعرض للافتضاح؛ فإن رزق بالقبول تحسينا، أو بمصافحة يده تزيينا، فقد فاز فوزا عظيما، وحلّ محلا كريما، وأنى له؟ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ
«1» فما قيل إلا بما هو له أهل: [الكامل]
ولربما استيأست ثم أقول: لا
…
إنّ الذي استشفعت منه كريم
ومنه قوله: ولم يزل الخادم يستملي من أنباء الكرام الطاهرة، والفضائل المتظاهرة، ما يودّ لو سعد برؤيته، وقرب إسعاده في روايته، ويوقن معه أن الله أعلم حيث يجعل رسالاته، ويخص بكراماته؛ وقد أقدم الآن بعد إحجامه في استخدام أقلامه، فإن رزق من الإيجاب الشريف ما يحقق التأميل، فهو المظنون في كرمه البديع وطوله الوسيع؛ والآن فللخادم حرمة من أحرم وقصر، وطلب النّصرة فلم ينصر؛ والله تعالى لا يخلي المجلس من تناديه، واسترقاق الأحرار بأياديه.
ومنه قوله: سطرها الخادم وهو منتسك بالولاء الذي يتمسك بحبله، والدعاء الذي هو جهد مثله، والثناء على صنائعه، التي طالما أبكى بها وأضحك الأجيال؛ وقصده أن يتعمد بعواطفه التي تحقق الأمل، ومجازاته على حسب النية لا العمل.
ومنه قوله: أصدرت هذه الخدمة، واليد تنكل عن مطاوعة القلم، لهذه النازلة التي أصم
نعيها المسامع، وهون وقعها الفجائع:[الطويل]
فلا قلب إلا قد تباين صدعه
…
ولا عين إلّا وهي تذرف بالدّم
ومنه قوله: وهنأ بالنجاح كل من غشينا إلى ضوء ناره، وانتجع صوب أمطاره، وسمع أخبار كرمه فاهتدى إلى قصد الكريم بأخباره.
ومنه قوله: «1»
وحبس عليه المدائح التي حازها بالاستحقاق، واستخلصها بكلمة الاتفاق.
ومنه قوله: «2»
وما زال متصفا من الكمال بما لا يقبل معه مزيدا، ولا يستطيع خلق لملابسه تجديدا، خلقا دان الخلق لمعجزاته، وقصرت الأفعال عن تحقيق صفاته، والله أعلم حيث يجعل رسالاته.
ومنه قوله: «3»
واشتاق إلى تلك الألفاظ المعسولة، والمعاني المشمولة، التي تميل بأعطافها نشوة الفصاحة، وتفتر عن محاسنه شفاه الرجاحة، فلا جرم أنها قد شغلتني أن أنطق بمنثور ملقّح، أو منظوم منقّح.
ومنه قوله «1» : وكتب الخادم هذه الخدمة أواخر شعبان، عظم الله لدى مولانا ميامن تقضّيه، وبركات ما يليه؛ جعل الأيام كلها مواسم مسارّه، وصحائف مبارّه، ومعالم مآثره الحسان وآثاره.
ومنه قوله: من شيم السادات، حفظ العادات، فما بال سيدنا أغلق باب الوصال بعد فتحه، وأصلد زند الإيناس عقيب قدحه، وأوردني أولا شريعة بره، ثم أجلاني عن شاطئ بحره، بما كان لملل فأنا أنزهه منه، أو لزلل فأستغفر الله منه؛ ولعل سيدنا يعود إلى عطفه الكريم، ويروح قلبي بمؤانساته الأرجة النسيم؛ وإذا تكرم عند عرض ما كتبته بما تحسن به الجلوة، وتجلب به الحظوة، شكرت العارفة الحلوة.
ومنه قوله «2» : جعل الله الدولة القاهرة مونقة النضارة، مشرقة الإنارة، ممنوحة الإطالة، مهروجة الإبالة «3» ؛ ولا أخلاها من مأثرة تروى عنها وتؤثر، ومنقبة تذكر على تعاقب الأزمنة وتشكر؛ ولا زالت ممطرة الأزمنة، حالية بالمناقب البينة، متلوة الأوصاف بجميع الألسنة، مبثوثة المدائح بكلّ الأمكنة؛ وأسبغ على أقطار البلاد من عواطفها ما أضحك مباسم الظنون، وحل كالغيث الهتون؛ ولا برحت أيامها
ممتدة المدة، محتفة بالتهاني المستجدة، وأورف ظلّها على الخلق، وأعلى كلمتها القائمة بنصر الحقّ، ما دارت الشهب، ودرت السّحب، وشهرت القضب، ونشرت الكتب، واستهلّت الأهلّة، واستهلّت الأنواء المنهلّة.
ومنه قوله «1» : وصل إلى العبد ما أهّل له، من مدارع التشريف الذي أحيا رمّته، وجلّى غمتّه، واتخذه فخرا لأعقابه، وذخرا لمآبه؛ وهو يرجو أن يقابل مواقع النعمة، بما يجب من الشكر بلسان الخدمة، وسيتضح من مساعي الخادم ونصائحه، تأثير شكر جوارحه.
ومنه قوله «2» : [الطويل]
ولو أن أنفاسي أصبن بحرّها
…
[حديدا] إذا كاد الحديد يذوب
ولو أن عيني أطلقت من بكائها
…
لما كان في عام الجذوب جذوب
بي من الاشتياق إلى خدمة ما يصدع الأطواد، فكيف الفؤاد؟ ويهوي بالجبال فكيف البال؟ ولولا التعلّل بترجّي الالتقاء لقيل عنه: لك يا مولانا طول البقاء، إلا أنه يستدفع الخوف بسوف، ويزجر الأسى بعسى وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ
«3» .
ومنه قوله: المراتب تتفاضل مراقيها بتفاضل راقيها، وتتفاوت معاليها بتفاوت من يليها، ولولا ما يعلمه سيدي من وظائف الخادم في التوفير على الدّعاء، لما سبقه إلى
الخدمة قدم، ولا ترجم عن تهنئته قلم، فمتعه الله بما وهبه من المعالي، وأحله من مقاماتها في المكان العالي، وبارك له في وصل عقيلتها التي تغتبط بوصله، وتقول: الحمد لله الذي أحلنا دار المقامة من فضله؛ وهو أعزّه الله يجلّ قدره أن يهنأ برتبة وإن علت، ويرخص عنده قيمة كل خطوة وإن غلت؛ فليهن الأنام ما تجدد له من المرتبة المنيفة الذرى، والمهابة التي خضعت [لها] أعناق الورى؛ والله لا يخليه من زيادة يستمدها، وتهنئة يستجدّها.
ومنه قوله: وشكري لما أولى من مكارمه، توفي على شكر الروض الذابل، لصنيع الوابل، بل شكر من أطلق من أسره، وجبر بعد كسره؛ ولو نهض بالعبد القدمان، أو أسعده الزمان، لقصد الباب العالي ولو على الأجفان، وقام في زمرة المداح يتلو صحف الشكر باللّسان؛ ولما قصّرت به الخطوة عن هذه الحظوة، أقدم على أن يهدي الورق إلى الشجر، وبيض من مدائحه شعرا كبياض الشعر، هذا على أن ذنب المعترف مغفور، والمجتهد وإن أخطأ معذور.
ومنه قوله: طالما شجع الخادم قلمه على إيضاح ولائه، فنكص إلى ورائه، وأحجم للتهيّب عن إنهائه، وقد أقدم الآن على أن أبان؛ فإن أسعد بجواب يبهج بتأمّله، فقد حصل على مؤمله؛ وإن رجع بصفقة الخائب، وطرد طرد الغرائب:[من الكامل][الكامل]
فلربما منع الكريم وما به
…
بخل ولكن سوء حظّ الطالب
«1»
ولعله يرفع الطرف، ويشرف في الجواب ولو بحرف، وعليه سلام الله ما حطت أقدام، وخطت أقلام.
* ومن شعره «1» : [البسيط]
قال العواذل: ما هذا الغرام به
…
أما ترى الشعر في خديه قد نبتا
فقلت: والله لو أن المفنّد لي
…
تأمل السّحر في عينيه ما ثبتا
ومن أقام بأرض وهي مجدبة
…
فكيف يرحل عنها والربيع أتى
وقال، وقد أتاه رجل «2» لسمعته، فلما رآه استزراه «1» :[البسيط]
ما أنت أول سار غره قمر
…
ورائد أعجبته خضرة الدّمن
فاختر لنفسك غيري إنني رجل
…
مثل المعيديّ فاسمع بي ولا تزني
وأورد له عماد الدين الكاتب في «الخريدة» «1» : [مجزوء الخفيف]
كم ظباء بحاجر
…
فتنت بالمحاجر
ونفوس نفائس
…
خدرت بالمخادر
ورثين لخاطر
…
هاج وجدا لخاطر
وعذار لأجله
…
عاذلي فيه عاذري
وشجون تضافرت
…
عند كشف الضفائر
«3» فهذا مقدار كاف في القسم الأول، من مشاهير الكتاب الذين عظم صيتهم ولا غوص لهم.
فأما هذا الرجل- أعني أبا محمّد الحريري- فإنه- على ما رأيت أنموذج
كلامه هنا- قليل الغوص بخلف مقاماته، فإنه فيها كمن طلب الروض فجنى زهرها، وصعد السماء فاقتطف زهرها؛ وإنما تركت اختيار شيء له منها لشهرتها، ولأنها صارت كتابا بذاته، لا تعدّ في سلك ترسّلاته؛ وبينهما في حسن الكون، ما رأيت من هذا البون، على أن ما أوردت له من هذه الرسائل هي الفرائد التي لا تقوّم، والفوائد التي تعني من يتعلم، متماثلة في توفيه الأغراض، مغازلة كالجفون المراض، سهلة على فهم المتناول، قرمة «1» لا تنالها يد المتطاول.
**** وأما القسم الثاني من أصحاب الغوص، فسنذكرهم على أن حكم أكثر الكتّاب القدماء حكم العرب، كلاهما له فضيلة السبق، وفتح الطريق؛ وحكم المتأخرين منهم حكم المولدين من الشعراء، في توليد المعاني والمجيء باللّطائف؛ وقد وشحوا صناعتهم بالاستعارات الصحيحة والتشبيه والاستخدام والتورية وأنواع البديع، وتناهوا في الدقيق والتنميق، وتباهوا في التخيّل والتخيير، وقيدوها بالأسجاع، ولزموها كالقوافي، فلم يعوزها «2» من الشعر إلا الوزن فأخملوا الأوائل، وأخمدوا كل قائل، وأتّموا الفن وكمّلوه، وزينوا الفضل وجملوه؛ وهذا مكان للمغرب فيه مع المشرق مجال، وميدان له في فرسانه رجال، وهو في هذا غير ممنوع ولا مدفوع، لكنه فيما تقدم المئة الرابعة لا يذكر له في هذه الفتية فيئة «3» ، ولا تظهر له هيئة؛ ثم ما عدم في هذا الشأن ما أوهن زجاج حاسده، وأشرق بغصص الدمع شأن معانده؛ ولا نقول هذا على أن للغرب بهذا المزية على الشرق، ولا أنه سلّم إليه في هذا الحق، وإنما نحن بصدد إنصاف، وما يبعد فيما بين الغرب والشرق في هذه الفضيلة، ولا نجحد أن له بمن نعده هنا
وسيلة، وإلا فالمشرق من كتابه المتأخرين من اقتطف الزّهر والزّهر، وجر ردنه على المجرة والنهر، وأتى بما هو أضوع من العبير، وأضوأ من جبهة القمر المنير؛ وردوا غدر البلاغة فشربوا زرق نطافها، وساموا رياض البراعة وشرعوا في قطافها، فولدوا المعاني واخترعوها، وابتدؤوا أحسن الطرق وابتدعوها؛ وفتن الألباب كلامهم الدّرّ، ولفظهم الرقيق الحرّ؛ وأدعى قول نقوله للحقّ: إنّ من لدن المئة الرابعة وهلم جرا أهل المغرب في هذه الصناعة أكثر رجالا وأهل المشرق أبرع رجلا، وإنما أردنا بتقديم من قدمنا ذكره من الوزراء والكتّاب، وإن لم يكن ما يؤثر عنهم ممّا يناسب درّه كله نظم هذا السّحاب، لإثبات الفضل للشرق على الغرب في تلك المدد الطوال والسنين الخوال، فإن الشرق كان معمورا بمثل هؤلاء، والغرب قفر يباب أكتب من فيه نقول له: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ
«1» على أن هؤلاء القدماء وإن لم يدخلوا في الغوص من هذا الباب، ولا أتوا باللّب اللّباب، فما فاتهم سابقة فضل في فضل، ولا قصّر بهم راية عن غاية، وفي أثناء ما ذكرناه دليل، لولا الاكتفاء به لبيناه مع سعة هذه المقدرة والتقدم في دول الخلفاء، والتقرب في خواطرهم إلى محل الاصطفاء، وما أجري لهم من الارزاق، أو جرى بهم من الأموال، وأقلها خزائن والإقطاعات، وأصغرها مدائن والنّفقات، وأهولها قناطير مقنطرة، والعطايا وبعضها جمل مستكثرة، والدولة الزاهرة وكانوا أطوادها، والصولة القاهرة وكانوا إذا رؤوا آسادها، والخلافة وكانوا عمادها، والإمامة وكانت أقلامهم سيوفها والسيوف أغمادها، والمفاخر وقد جمعوا شتيتها، والمآثر وقد استطابت على مطارف السّحاب مبيتها، واغتنام الأيام وصنائع ملكوا بها رقّ الأحرار، وأطافوا بها على الأكباد الحرار؛ فيا أيّها المباهي للمشرق بالمغرب، والمباهل في هذا الفضل المغرب، ها قد قلنا لك بعض