الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وختمت ذكر شيخي رحمه الله بهذه الأبيات، المتضمنة للمديح الشريف، لنختم بالصالحات عمله؛ وإني لأؤمل أن يحسن به في دار الكرامة نزله، وأن لا يخيب في الله وفي رسوله صلى الله عليه وسلم أمله خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ
«1»
25- ومنهم: عليّ بن محمد بن سلمان بن حمائل، الشيخ الإمام، جمال الدول، علاء الدين، أبو الحسن
«2» * أهل هذا البيت بجدّتهم للأم «3» ، من بيت صلاح ما فيه شبهة لمن يذم، وكتب الإنشاء منهم جماعة، وتلقوا بالفطرة سر هذه الصناعة، فنفذوا لسلطان البراعة، ونفثوا سحر البيان في عقد اليراعة، وكان هذا الرجل نسيج وحده في العوارف الحسان، ونسيب جده- أعني غانما- غانما للإحسان، مع ملابسته للدول في أمورها، وممارسته لها في أحوال حزنها وسرورها، إلا أنه كان يحجزه دينه، ويحجبه يقينه، وكان أقوم أهل بيته برئاسة لاكبر فيها، ورياضة لا كدر لصافيها، ومروءة كانت تلذ له ولو أدت إلى الخطر، وأبدت الأهوال دون الوطر،
ووقع على القصص فأولى مننا، وأجرى الله به الخيرات زمنا، ولم يقصد إلا وجه الله بفعله، ولا أسدى المعروف إلا لأهله، ثم مات غالب من جرى لهم به ذلك المعروف، وبقي في بقاياهم، وحصل به الملوك الذين كتب عنهم الآخرة ببعض دنياهم؛ ولم يكن أسرع منه إلى أداء حق واجب، ولا أدعى لصحبة صاحب، ولا أسبق إلى عيادة مريض، وتشييع جنازة، وتنويع كرامة وغزارة، مع ملازمة الصلاة في الجماعة، وتعهد للمسجد لو قدر لما غاب عنه ساعة، ومداومة تلاوة لا يفتر من تردادها، وصلوات لا يخل بأورادها؛ هذا وبابه مفتوح، وسحابه ممنوع، وتجشّمه مع جلسائه مطروح وتجهّمه بالنّسبة إلى غيره خفّة روح، لبشاشة وجه تروي غلة الصادي، وسعة صدر تفيض على رحاب النادي، وسرعة إجابة تعاجل صوت المنادي، مع يد في هذا الشأن لا يخونها بنانها، بل يزينها بيانها.
* ومن نثره ما تتعب القرائح في أثره، قوله يصف قلعة «1» : ذات أودية ومحاجر، لا تراها العيون لبعد مرماها إلا شزرا، ولا ينظر ساكنها العدد الكثير إلا نزرا، ولا يظن ناظرها إلا أنها طالعة بين النجوم بما لها من الأبراج، ولها من الفرات خندق يحفها كالبحر المحيط، إلا أن هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج، ولها واد لا يقي لفحة الرمضاء «2» ولا حرّ الهواجر، وقد توعرت مسالكه، ولا يداس فيه إلا على المحاجر، يتفاوت ما بين مرآه العلي وقراره العميق، ويقتحم راكبه الهول في هبوطه، وكأنما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ
»
ومنه قوله، ولقد أحسن في وصف القلم، فقال:
القلم الذي كم أعان من هو قارئ للحروف، ومن هو لصنوف الضيوف قاري، وهو الراكع الساجد في ملازمة الخمس طاعة للباري، شق لسانه فنطق، وأنار صباحه وعليه جلابيب الغسق، ثم خضع له السيف، وزاره معنى تخيله لما مد، وهكذا في الظلام زور الطيف، ولم يزل يعظم ويتسوّد، ويحكي الرمح فيتخطر، والغصن فيتأود، ويقيم فلا يقتات، ويسافر فيتزود.
ومنه قوله:
فسارعوا إلى إنجاد من نازله العدو من إخوانكم المسلمين وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ
«1»
وامضوا عليهم بقدمكم وإقدامكم، وانصروا الله بجهادكم واجتهادكم، فإنكم إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ
«2» وكتاب الله أولى ما عمل به العاملون، قال الله تعالى: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
«3» .
ومنه قوله: قد تجردوا عن العلائق، واشتغلوا بخدمة المخلوق «4» عن الخلائق، وبرئوا من التكلف، وزهدوا في عرض الدنيا، فهم من الذين تعرفهم بسيماهم ويَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ
«5»
ومنه قوله يصف الكرة: وانتهى إلى حديث الرغبة في تلك اللعبة، وهي الجارية التي لم تزل بالضرب دانية شاسعة، مبتذلة من الطراد والإبعاد، دائرة في أرض الله الواسعة، فلم تزل أيدي الأيّدين، وحملات المؤيدين، خافضة لها رافعة، تالية في مجال القتال إلى النجم، فإذا وقعت الأرض تلا لها: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ
«1» ، من الشجر الأخضر كونها، وإذا سأل عنها سائل، قيل صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها
«2» ، لا تزال الفوارس إليها كالجهاد بالجياد تتعادى، وعليها مع المرافقة والمصادقة بالتنافس تتعادى، تشبه الهامة الملقاة بين أرجل الجياد في الحرب، ولا تزال هاربة من طالبيها لكثرة ما يقع فيها من الضرب، تنفر من الأبطال نفور حمر مستنفرة فرت من قسورة «3» ، وتتواثب عليها الرجال تواثب الليوث الضاربة الضارية، فكم لهم من الكرّة على تلك الكرة.
ومنه قوله في توقيع رجل يعرف بالجمال إبراهيم: فليعمل بتقوى الله في هذه الأعمال، آتيا فيها من حسن التأني كل ما يليق أن تشاهده العيون من الجمال، وهو أدرى بما يعتمده، إذ هو الصدر الذي كل أحد بعلمه عليم، والرئيس الذي لا يخفى بين الرؤساء، وهل يخفى مقام إبراهيم؟
ومنه قوله من كتاب كتبه:
يقبل اليد، لا زالت بمننها مواسية، ولكلوم القلوب بطب كلامها آسية،
ولعهود محبيها على ممر الأيام، وإن نسيها من نسيها،: غير ناسية، وينهي ورود الكتاب الكريم، فتسلى عن كل من حجبه النوى، وتملى بنضارته ومحاسنه عن وجه بالجفاء قد جف، وعصر بالذم قد ذوى، وعلم الإشارة العالية إلى أمر الحبيب النازح، والذي جد في الصد وكان غير مازح، وإنه استدل من كلام المملوك على شدة موجدته لبعده، وعدم صبره عن استجلاء وجهه، واعتناق قده، ودعا بعودة ذلك الغائب قبل أن يذوي عوده، ورجوعه قبل أن تنطفئ بطلوع الذقن سعوده، وقد تحقق تفضله، وهو نعم من أمّه الشاكى وأمّله «1» :[الطويل]
ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة
…
يواسيك أو يسليك أو يتوجع
ومنه قوله في كتاب إلى قاضي القضاة إمام الدين القزويني «2» : أدام الله الأنس بقرب الجناب العالي القضائي الإمامي، وجعله للمتقين إماما، ورأيه للصواب زماما، ولقّاه بمنّه حيث يحل تحية وسلاما؛ ورد المشرف الكريم الذي تلقاه بقلبه قبل يده، وحل منه بمحل روحه من جسده، وناظره من أسوده، وسر بما تضمنه من أخبار قربه، وبما دل عليه من فنون فضله الذي المملوك منه على بينه من ربه، ويحقق الإشارة الكريمة في تعويض قضاء القضاة إلى نظره الكريم، وحصول التعويل في ذلك على مقامه الذي يتشرف به كل عظيم، ولقد نال هذا المنصب من جلالة قدره ما سر به واغتبط، وتحقق بمصيره إليه أنه على الخبير به سقط، ووصل التقليد الشريف، وقبل وقوبل بالامتثال، وحصل السرور به وعم، وكمل به هناء القلوب وتم، وعرض له من الارتياح إلى لقائه، ما سلبه القرار، وعظم به الشوق عنده أعظم ما يكون، إذا دنت الديار من
الديار «1» ، ولولا ما يعلمه من التصدي لمهمات الإسلام، لما نابت في قصد لقائه الأقلام؛ والله تعالى يقدمه قدوم البدر بروج سعوده، ويديم في المعالي سموه إلى الغاية التي لا مزيد على غايتها في صعوده.
* ومن شعره قوله، [الطويل]
بكيت بدمع فاق دمع الغمائم
…
وناحت لنوحي ساجعات الحمائم
على جيرة جار الزمان لفقدهم
…
ومن بعدهم جاورت غير ملائم
مضت لي بهم أيام أنس حميدة
…
نعمت بها دهرا كأحلام نائم
وإني بأرض الشام أشتاق أرضهم
…
إذا لمع برق لاح منها لشائم
فلله أيام الصبا حيث لا نرى
…
وقارا لنا إلا بخلع العمائم
ومنه قوله «2» : [الطويل]
وكم سرحة لي في الربى زمن الصبا
…
أشاهد مرأى حسنها متمليا
ويسكرني عرف الشذا من نسيمها
…
فأقضي هوى من طيبه حتف أنفيا
وأسأل فيها مبسم الروض قبلة
…
فيبرز من أكمامه لي أيديا
فلله روض زرته متنزها
…
فأبدى لعيني حسن مرأى بلاريا
غدا الغصن فيه راقصا ونسيمه
…
يكر على من زاره متعديا
ترجلت الأشجار والماء خر إذ
…
نسيم الصبا أضحى [به] متمشيا
تغنت لديه الورق والغصن راقص
…
فيعرق وجه الأرض من كثرة الحيا
وهذه أبيات لله من سمع مثلها! لو حصلت لابن خاقان لجعلها واسطة
«قلائده» أو ابن بسام لاتخذها من أفضل «ذخيرته» «1» .
ومنه قوله «2» : [البسيط]
فعد نفسك من أهل القبور بها
…
فعن قليل إليه سوف تنتقل
واذكر مصارع قوم قد قضوا ومضوا
…
كأنهم لم يكونوا بعد ما رحلوا
يا ليت شعري ما قالوا وقيل لهم
…
وما الذي قد أجابوا عند ما سئلوا
ومنه قوله «3» : [مجزوء الرمل]
سلب المهجة مني
…
بالجفون الفاترات
لو يزور البيت لم ير
…
م الحشا بالجمرات
* وكنت قد بعثت له درجين أحمرين من الورق، ثم لم أعد أجهز له بعدها شيئا، فكتب إلي:[البسيط]
يا من مكارمه عمت فكم شملت
…
ذا فاقة ما بقي منه سوى الرمق
قد كنت أرسلت لي درجين لونهما
…
من حمرة مثل لون الشمس في الأفق
وبعد ذلك لم أفرح بمثلهما
…
من سيدي لا ولا شيء من الورق
فبعثت إليه درجين أحمر وأبيض، وكتبت إليه معهما:[البسيط]
أمسك سحابك لا يفضي إلى الغرق
…
فقد كفى منه صوب الوابل الغدق
بدائع من علاء الدين بت بها
…
ألذ في طيب تقبيل ومعتنق
مطلوبه ورق مني ويا عجبا
…
من الغصون إذا احتاجت إلى الورق
وقد بعثت به تجلى الخدود له
…
في أحمر شرق أو أبيض يقق
وما علي إذا أرسلت رائده
…
وعاد بالشهب مخبوءا أمن الأفق
هذا عليّ وهذا جود راحته
…
يا من رأى البحر والأنواء في نسق
26-
ومنهم: عبد الباقي بن عبد المجيد بن أبي المعالي متّى بن أحمد بن محمد ابن عيسى بن يوسف «1» ، القرشي، المخزومي أبو المحاسن، تاج الدين، المعروف باليماني، المكي مولدا.
* أحد مشاهير الأدباء، وأحد جماهير الأولياء، سرحة فضائل، ودوحة علم يتفيأ ظلالها عن الأيمان وعن الشمائل، بحر يؤخذ منه درّة «2» بلا ثمن، وروض «2» تجد منه روح الرحن من قبل اليمن، قدم مصر قديما ثم الشام، وأقام بدمشق مدة، ثم هفت به ريح يمانية، وذهب بلبه برق علانية، فسلبب قرارا، وغلب استقرارا، وعاد إلى وطنه آئبا، وعاود سكنه لا ذاما ولا عائبا، واتصل بالملك المؤيد داود، ووصل منه بثقة ودود، فعول عليه وقلده كتابة السر لديه، وبقي حتى انمحى من أديم السماء هلاله، وأضحت في تلك الأفياء ظلاله، فقربه قريبه الملك الظاهر قربا حقده الملك المجاهد ابن الملك المؤيد، فأخذ أمواله واجتاحها، ونزف أمواهه وامتاحها، وتطلبه ليردي به، ففر وسكن مصر، ثم ما
استقر فقصد دمشق، ثم أتى القدس الشريف واستوطنه، واتخذ المسجد الأقصى موطنه، ورأيته به بين علوم ينشر جناحها، وتعبدات يضيء في حندس الليل صباحها.
* ومن نثره قوله من رقعة كتبها إلي، قال فيها: وكتب المملوك في يوم توقدت جمرته، وطالت في نهار القيظ حجوله وغرته، وناره على الأكباد موقدة، لو لم يكن إلا لأن المملوك فارق سيده، ونسيم المملوك سموم، وشربه يحموم، وحشاه تكاد تذوب، وجفنة كراه في نهاره وليله مسلوب، وهيهات ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ
«1» .
فكتب عنها إليه جوابا منه: وكتبتها واليوم قد طار في أفقه جناح الشعاع، وأوهم الصبا وغر برقه اللماع، وصر الجندب في نواحيه، وسكت الطير بعد تلاحيه، وغرق في آله الليل، وعرف بسواده في كف ماحيه، والشمس في كبد السماء ترمي بشرر كالقصر، والأصيل قد آلى أن لا يميد ولا يجنح للعصر.
ومن نثره- أعني السماني- قوله: وينهي أنه بلغه وفاة الولد، وأن الله نقله إليه ولم يعلق بشيء من الذنوب، وجعله ذخيرة وفرطا لمولانا، يوم يجازى كل امرئ بما قدم من سالف العمل المحسوب، فلقد جرّع الأحشاء صابه، وجرح القلب ساعة التفريق مصابه، وقطع الأكباد فقده، وأورث الأحزان بعده، فياله من قرة عين أورثها القدر قذى الأجفان، وغصن سؤدد اقتطفه قبل الإزهار يد الأحزان، وهلال حسن اعتور نوره
الحدثان، وثمرة جود أودعدت مدارج الأكفان، وربع أنس أمسى صاحبه بالخطوب خللا، وقادح أمر أضحى بيان أمره جللا، على أن الخطوب لا تزاحم إلا ثبيرا، ولا تعاند بورودها إلا كبيرا، وفي سجاياه الكريمة خلال قل أن تكون [في] غيره من الناس، وصفات تفرد بها وهي الثبوت عند هجوم الباس، ولئن غاب من سماء علائه هذا النجم الزاهر، وذهب أثره المنير الباهر، فكم في فلك محامده من نجم سيادة بأنوار الرئاسة ساطع، وكوكب فضل ما يقال له: هذا غارب حتى لا يقال لأخيه هذا طالع.
ومنه قوله من كتابق كتبه إليّ: وينهي أنه كان من خدم هذا البيت الشريف، والغني بسمة ولائه بين أوليائه عن التعريف، وقد سارت مدائحه في هذه البقية العمرية مغربة ومشرقة، ومنجدة ومعرقة، يهجم بها وجفنه لبعده عن باب سيده لا يذوق غمضا، ولا يعرف ليلا أقبل أو يقضى، وقصارى مناه أن لا يقبل فيه قول حاسد، أو جاهل، حاشا المجلس الشريف، أو عالم معاند؛ ومولانا يعذر المملوك، فإنه كتب هذه الضراعة والليل قد أسفر دجنه، والسهر قد ترسم المملوك حتى تغير ذهنه، والمملوك ما يتغير في هذا البيت المعمور العمري ظنه.
فكتبت له جوابا منه: وانتهى إلى هنا، والنسيم في السحر قد هلهل ثوب الظلام، وسحب رداءه على أعقاب ذيول الغمام، والجوزاء قد انتشرت تحت مسبح السرطان، وشعاع الشمس المحمر قد غرق في مقلة الأسد الغضبان، والديك قد طلع على شرف الجدار، وصاح في الليل منه جاويش النهار، والمصابيح قد فرغ سليطها، وكثر في ضوء الصباح تخليطها، فوقف المملوك وقفة الحيران، وتململ تململ
الغيران، وأراد أن يطيل القول بقدر ما يدعوه إليه رائد الشوق، ويحمله على أن يحمل السمع الكريم فوق الطوق، ثم رجع فعاتبه فكره الطليح، وجاذبه قلمه الطريح، وأنبه أدبه، وقال له: قد آن لك أن تريح الرجل من تطويلك وتستريح.
ومنه قوله- أعني اليماني- في كتاب يزعمه في معنى الكتاب يزعمه في معنى الكتاب الفاضلي بفتوح القدس:
هذا وعلوم الديوان العزيزة محيطة باستيلاء أهل التثليث على البيت المقدس، والمسجد الذي هو على التقوى مؤسس، وأنهم جعلوه مفزع طريدهم، ومقر شديدهم، ومعقل رهبانهم، ومعلم أديانهم، ومقر طالبهم، ومنتجع هاربهم، ومنهج شرعتهم، وعمود بيعتهم، وعكاظ نفاقهم، وموسم شقاقهم:
وبادي سمارهم، ومظهر شعارهم، ومنار منارهم، وملتقط أخبارهم، ومنزل أحبارهم، مع أن طوائف الفرنج ببيعته طائفة، وأمم النصارى على دين الصليب به عاكفة، لا يعرفون عن الإنجيل غير ما بدّلوه، ومن القرب غير ما مثلوه، فنهض إليه الخادم في جحفل من أولياء الدولة القاهرة، يرون الموت مغنما، والسلامة مغرما، والهزيمة عارا، والإدبار نارا، ما حلوا بأرض إلا وأنبتت من ساعتها قنا، ولا نازلوا حصنا إلا بلغوا من شماخه المنى، بايعوا الله على إخماد الكفر جهارا، وعاهدوه على أن لا يذر ماضي سيوفهم على وجه الأرض من الكافرين ديارا، فلما شاهدنا رفعتها، وميزنا علوها ومنعتها، رأينا معهدا أخذ الشيطان على أهله أن لا يخفر لهم عهدا، وعلما أمسى لدين النصرانية على ما ادعوه فردا، قد كملوا عدتها وعديدها، واستخدموا للمحاربة شقيها وسعيدها، وإذا رأوا على أرجائها حفيرا أضحى بجمالها سوارا، ولحمايتها من التطرق إلى منازعة نزعها أسوارا؛ بناء ولكن تقصر عن مماثلته يدان، وإتقان هو بلا شك من صنعة الجان، وعمارة ولكن من ساحر عنيد، وتدبير ولكن عن رأي شيطان مريد، وتماثيل يخيل إلينا
من سحرهم أنها تسعى، وصحراء أرض ليس لمن أقام بها ظل هناك ولا مرعى؛ فاسترقينا مكانا دلنا عليه حسن الإيمان، نصبنا على أرجائه منجنيقا هدر بازله، وهثم ثغر تلك الأبنية نازله، وتجسدت عصيه حيات تلقف ما صنعوا، وفرقت ما جمعوا، وظل لنا ولهم يوم ولا كيوم ذي قار، وحرب ولكن أين حزب أهل الجنة من حزب أهل النار، سيوف مخروطة، وأيد منا ومنهم بالدعاء مبسوطة، وعجاج انعقد مثاره، وقسطل ولكن استعر بحوافر الصوافن أواره، بذلوا أنفسهم دونها، وراموا ولو بهلاكهم صونها، وعلا شرفاتها منهم أمم لا تحصى، وجمع آلت يد المنيّة لعددهم لابد تستقصى، ولم تزل المنايا تسخن بقوة الله ذلك الحفير، وتورد سكان تلك البقاع بعون الله سوء المصير، ثم سارت رجّا فتنا، وجال النقب في أرجائها، وبلغت الأماني من النصر غاية رجائها، وصيرناها بالحديد، والطلل الدارس بعد المشيد، وحملنا عليهم بقلب رجل واحد، فانطمس محكم التثليث، واستبان طريق الواحد، وتفرق من بها بين أسير أثقلته أغلاله، وقتيل غرته بالإقدام آماله، وطريد لا يعرف له مكانا، وخائف كلما تبدّى له مرأى ظنه إنسانا، وفتحناها بكرة الجمعة، وغدت أعلام الخلافة المعظمة على بقايا شرفاتها خافقة، وأطلاب الإسلام لاستئصال شأفتهم متلاحقة، وقام خطيبنا على صهوة المنبر الأقصى مرتجلا، وصاغ أوصاف المواقف المعظمة والمواطن المكرمة لجيده حلى، وذكره الحرب وكان ناسيا، وألان له بالمواعظ قلبا كان لعدم الادّكار قاسيا، وأعدنا إليه ما كان يعهده من الجمع، وتقدمنا بهدم ما استحدث من البيع، وشيدنا ما دثر من مشهد، اعتمدوا تخريبه ومعبد، وأ تستنقذنا معالم الصخرة الشريفة من الإشراك، فعادت إلى أخوة الحجر الأسود، وهذا الفتح وإن كان المقصود منه مكانا مخصوصا، فهو فتح يشتمل على مدن عامرة، ورباع غير عامرة، وقلاع مرفوعة، وفاكهة لا مقطوعة ولا ممنوعة، وقرى ظاهرة، وركبان
واردة وصادرة، وهذا المسجد شقيق الحرمين، وثالث الرحلتين، ومعبد الأنبياء، وموطن بركة الأولياء، فلله درة فتحا أقر نور الدين في ناظره وشعار الإسلام في مشاعره.
قلت: ووقفت له على رقعة ذكر فيها يوما، أصبح والثريا فيه كأنها في بروج المطالع، كف جود تختمت في رؤوس الأصابع «1» ، والصباح جام لجين ملأته أشعة الشمس خمرا، والمجرة بحر مزبد يقذف القواقع درا، والنسر قد ضجر مما حام، وسهيل قد تقدم خوفا من الزحام، وقد عارضت وسط السماء الشعرى، كأنها ياقوتة في مذرى، والجوزاء قد مالت كشارب قهوة لم تمزج، أو حسناء تنفست في المرآة إذ نظرت محاسنها ولم تتزوج. «2» .
والرقعة هذه مضمونها وهو: أسعد الله مولانا بهذا اليوم الذي تمثلت ثرياه صورة كأس يطاف به على الجلاس، وأتى نسره إلى المجرة حائما على الورود، رازئا كأنه مجهود، والجوزاء مسبلة الذوائب، وسهيل لها خاطب، والشعرى شعرها وغدائرها الغياهب، ومد الله عمر مولانا ومتعه بشرف المناقب.
* وبهذا ذكرت قولي من قصيدة وهو: [الكامل]
شق الصباح غلالة الظلماء
…
وجلا النهار غدير كل سماء
لولا كواكب في الصباح تأخرت
…
كحمامة مبثوثة في ماء
بصبيحة رقت حواشي هدبها
…
ووشى النسيم بها إلى الأنواء
حتى تجلت مثل خود ختّمت
…
بالنجم تحت مظلة الجوزاء
وبدا سهيل ثم والشعرى تلي ال
…
ياقوتة الصفراء بالحمراء
وكأنما زهر المجرة روضة
…
قد كللت بجواهر الأنداء
والنسر في شفق الصباح مشمّر
…
كي لا يبل لباسه بدماء
عدنا إلي اليمني:
ومن شعره قوله يذم مدينة عدن «1» : [الكامل]
عدن إذا رمت المقام بربعها
…
فلقد تقيم على لهيب الهاويه
بلد خلا من فاضل وصدوره
…
أعجاز نخل إذ تراها خاويه
وقوله: [الوافر]
إذا حلت أيادي البرق رمزا
…
على كنز العمام سقين حرزا
وأمطرت الغيوم خيول سيل
…
على وجه الثرى يجمزن جمزا
أثرن بياته فكسا ربوعا
…
تعرت عن ملابسهن خزا
وباع المشتري لما توالى
…
محبته لكف الأرض بزا
وأطلعت الرياض نجوم نور
…
فتغريها أيادي الشرب حزا
وولى عسكر الظلماء هزما
…
أخافت من سنان البرق وخزا
فحينئذ ترى عقد الثريا
…
على جيد الحمائل قد تجزا
فما هذا التأني يا نديمي
…
لقد خالفت إذ حالفت عجزا