المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌5- ومنهم: بديع الزمان الهمذاني - مسالك الأبصار في ممالك الأمصار - جـ ١٢

[ابن فضل الله العمري]

فهرس الكتاب

- ‌[الجزء الثانى عشر]

- ‌مقدمة التحقيق

- ‌1- وأما أبو إسحاق فهو الصابي

- ‌4- أبو الفرج، عبد الواحد بن نصر بن محمد، القرشيّ المخزومي، المعروف بالببغاء

- ‌5- ومنهم: بديع الزّمان الهمذاني

- ‌6- ومنهم: أبو نصر العتبيّ

- ‌8- ومنهم: أبو عليّ، الحسن بن عبد الصمد بن أبي الشّخباء العسقلاني

- ‌9- ومنهم: القاضي الفاضل: [السريع]

- ‌10- ومنهم: محمّد بن محمّد، عماد الدّين، أبو حامد القرشيّ، الأصبهانّي، الكاتب

- ‌11- ومنهم: نصر الله بن محمّد بن محمّد، ضياء الدّين، أبو الفتح، ابن الأثير الجزريّ، الكاتب

- ‌12- ومنهم: ابن زبادة، قوام الدين، أبو طالب، يحيى بن سعيد بن هبة الله ابن علي بن زبادة الشيباني

- ‌13- ومنهم: شهاب الدين النسائي، أبو المؤيد، محمد بن أحمد بن علي بن عثمان بن المؤيد الخرندزي

- ‌14- ومنهم: ابن أبي الحديد، عز الدين، عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن محمد الحسين بن أبي الحديد، المدائني، أبو حامد

- ‌15- موفق الدين، القاسم بن هبة الله، أبي المعالي

- ‌16- ومنهم: ابن بصاقة، فخر القضاة، أبو الفتح، نصر الله بن هبة الله بن عبد الباقي بن الحسين بن يحيي الغفاري، الكناني

- ‌18- ومنهم: ابن قرناص، محيي الدين

- ‌19- ومنهم: ابن العجمي، كمال الدين، أحمد بن عبد العزيز الحلبي، أبو العباس

- ‌20-[ومنهم] : ابن الأثير الحلبي، تاج الدين، أبو جعفر، أحمد بن سعيد

- ‌21-[ومنهم] : شهاب الدين، أبو محمد [يوسف] بن كمال الدين أبي العباس أحمد بن عبد العزيز بن العجمي

- ‌22- ومنهم: أحمد بن أبي الفتح محمود الشيباني كمال الدين، أبو العباس

- ‌23- ومنهم: محمد بن عبد الله، شرف الدين، أبو محمد بن فتح الدين أبي الفصل، ابن القيسراني، القرشي، المخزومي

- ‌24- ومنهم: محمود بن سلمان بن فهد، الحلبي، الكاتب، شيخنا العلامة، حجة الكتاب، فرد الزمان، شهاب الدين، أبو الثناء

- ‌25- ومنهم: عليّ بن محمد بن سلمان بن حمائل، الشيخ الإمام، جمال الدول، علاء الدين، أبو الحسن

- ‌27- ومنهم: عبد الله بن علي بن محمد بن سلمان، عرف بابن غانم، جمال الدين، أبو الفضل، المقدسي

- ‌28- ومنهم: زين الدين الصفدي، أو حفص، عمر بن داود بن هارون بن يوسف الحارثي

- ‌29- ومنهم: خليل بن أيبك الصفدي، أبو الصفا، صلاح الدين

- ‌فهرس المترجمين

- ‌فهرس المصادر المعتمدة في الحواشي [المخطوطة والمطبوعة]

الفصل: ‌5- ومنهم: بديع الزمان الهمذاني

يا غازيا آبت الأحزان غازية

إلى فؤادي والأشجان حين غزا

إن بارزتك كماة الرّوم فارمهم

بسهم عينيك يقتل كلّ من برزا

ومنه قوله يصف كأسا وأجاد في وصفه، وتقدم السابقين وخلاهم خلفه «1» :[المنسرح]

من كلّ جسم كأنه عرض

يكاد لطفا باللّحظ ينتهب

لا عيب فيه سوى إذاعته الس

سرّ الذي في حشاه يحتجب

كأنّما صاغه النفاق فما

يخلص صدق منه ولا كذب

فهو إلى لون ما يجاوره

على اختلاف الطّباع ينتسب

إذا ادّعاه اللّجين أكذبه

بالرّاح في صبغ جسمه الذّهب

ومنه قوله في خلعة وفرس «2» : [البسيط]

لمّا تحصّنت من دهري بخلعته

سمت بحملانه ألحاظ إقبالي

وواصلتني صلات منه رحت بها

أختال ما بين عزّ الجاه والمال

‌5- ومنهم: بديع الزّمان الهمذاني

«3»

* وهو نادرة الدّهر وبادرة الزهر؛ قلّ أن ولد الزّمان مثله، أو ولّد شكله؛ إن الزمان بمثله لعقيم «4» ، ولا عصبية للعظم الرميم؛ بل هو والله البديع حقا،

ص: 67

المعتكر «1» طرقا؛ كاد يلتهب فكره ذكاءا، وينتهب ذكره ذكاءا «2» ، كأنما كلمه حبر أو لفظه زبر؛ سجعه قصير، ونفعه كبير، من سمع حسّانه تبع إحسانه، ومن فهم بيانه، علم أن فوق السّحاب بنانه؛ وربما كاد يحكيه لو وهب، لو كان- كما قال- طلق المحيا يمطر الذّهب «3» ؛ نافح الرّياض فأخذ أنفاسها، وسافح السحائب فنثر أكياسها، بزّ الكواكب ولبس لباسها، وبذّ المدام وسلب الحميّا كأسها، فجاء بسحر عظيم إلّا أنه حلال، وخمر لا لغو فيها ولا تأثيم وفيها الخلال؛ ووراءه جرى الحريريّ لكنّه نقّح، على أنه مما ترك البديع ولقح.

وذكر البديع أبو منصور الثعالبي، فقال: هو أبو الفضل، أحمد بن الحسين الهمذاني مفخر همذان «4» ، ونادرة الفلك وبكر عطارد، وفرد الدّهر، وغرة العصر، ومن لم يلف «5» نظيره في ذكاء القريحة، وسرعة الخاطر، وشرف الطّبع، وصفاء الذهن، وقوة النفس، ولم يدرك قرينه في ظرف النّثر وملحه، وغرر النظم ونكته، ولم يرو أن أحدا بلغ مبلغه من لب الأدب وسرّه، وجاء بمثل إعجازه وسحره؛ فإنه كان صاحب عجائب وبدائع؛ فمنها:

أنه كان ينشد القصيدة لم يسمعها قطّ، وهي أكثر من خمسين بيتا، فيحفظها كلّها، ويوردها إلى آخرها، لا يخرم حرفا منها [ولا يخلّ بمعنى] ، وينظر في الأربع والخمس الأوراق، من كتاب لم يعرفه ولم يره إلا نظرة واحدة خفيفة، ثم يهذّها عن ظهر قلبه هذا، ويسردها سردا.

ص: 68

وكان يقترح عليه عمل قصيدة أو إنشاء رسالة في معنى غريب وباب بديع، فيفرغ منها في الوقت والساعة، والجواب عمّا فيها.

وكان ربما يكتب الكتاب المقترح عليه، فيبتدئ بآخر سطوره ثم هلم جرا إلى الأول، ويخرجه كأحسن شيء وأملحه.

ويوشح القصيدة الفريدة من قبله بالرسالة الشريفة من إنشائه، فيقرأ من النظم ومن النثر؛ ويعطى القوافي الكثيرة، فيصل بها الأبيات الرشيقة.

ويقترح عليه كلّ عروض «1» ، فيرتجله في أسرع من الطرف على ريق لا يبلعه، ونفس لا يقطعه. وكلامه كله عفو الساعة، وفيض البديهة «2» ، ومسارقة القلم، ومجاراة الخاطر [للنّاظر] .

وكان مع هذا مقبول الصورة، خفيف الرّوح، حسن العشرة، ناصع الظرف، عظيم الخلق، شريف النفس، كريم العهد، خالص الودّ، حلو الصداقة، مرّ العداوة.

فارق همذان [سنة ثمانين وثلاثمائة] وهو مقتبل الشبية، غضّ الحداثة، ووافى «3» نيسابور فنشربها بزه، وأظهر طرزه، وأملى مقاماته وغيرها، وضمنها ما تشتهي الأنفس من لفظ أنيق قريب المأخذ، بعيد المرام، وسجع رشيق المطلع «4»

والمقطع كسجع الحمام، ثم ألقى عصاه بهراة، فعاش بها عيشة راضية.

وحين بلغ أشده وأربى على أربعين سنة، ناداه الله فلبّاه، وفارق دنياه في سنة ثمان وتسعين وثلاثمئة؛ فقامت نوادب الأدب، وانثلم حدّ القلم أنه على ما

ص: 69

مات من لم يمت ذكره، ولقد خلّد من بقي نظمه ونثره.

وسئل بعض علماء الأدب عن الحريريّ والبديع في مقاماتهما، فقال: لم يبلغ الحريريّ أن يسمّى بديع يوم، فكيف يقارب بديع زمان!.

* ومن نثره قوله «1» : وقد نظرت في المرآة فوجدت الشيب يتلّهب وينهب، والشّباب يتأهّب ويذهب، وما أسرج هذا الأشهب إلّا لسير، وأسأل الله خاتمة خير.

ومنه قوله «2» : أبرزت «3» باطنه، وحركت ساكنه، وأخرجت دفائن صدره، ورفعت أذيال ستره؛ فملأ فكيه وعيدا، ولحييه تهديدا «3» ، وكان جوابنا أن قلنا: بعض الوعيد يذهب في البيد «4» : [السريع]

جاء شقيق عارضا رمحه

إنّ بني عمّك فيهم رماح

إنّا نقتحم الخطب، ونتوسط الحرب «5» :[المتقارب]

فأرضك أرضك إن تأتنا

تنم نومة ليس فيها حلم

ومتى شئت لقيت خصما ضخما، ينهشك قضما، ويأكلك خضما؛ فجعل الشيطان يثقّل بذلك أجفان طرفه، ويقيم به شعرات أنفه «6» :[الوافر]

وحتّى ظنّ أنّ الغشّ نصحي

وخالفني كأنّي قلت هجرا

ص: 70

ومنه قوله: وبيننا عذراء، زجاجها خدرها، وحبابها ثغرها، بل شقيقة حوتها كمامة، أو شمس حجبتها غمامة؛ إذا طاف بها الساقي فورد على غصنها، أو شربها مقهقهة فحمامة على فننها.

ومنه قوله «1» : انظر إلى الكلام وقائله فإن كان وليّا فهو الولاء وإن خشن، وإن كان عدوّا فهو البلاء وإن حسن؛ ألا ترى العرب تقول: قاتله الله، ولا يريدون الذمّ؛ ولا أبا له، في الأمر إذا تمّ.

ومنه قوله: وفائدة الاعتقاد أفضل في الانتقاد، والسماح يكسر الرّماح، والصفح يفلّ الصّفاح، والجود أنصر من الجنود؛ فإن كشف الضرّ عن الحرّ، أجمل من كشف الصدف عن الدرّ؛ ومن عرف بالمنح، قصد بالمدح، وقد ظلم من يلوم غير ملوم، فالتغاضي يصحب المراضي، واللبيب يعيد البعيد قريبا، والعدوّ حبيبا، وحضرة السّلطان مفزع الراجين، ومنزع اللاجين، إليها يعودون وبها يعوذون، وهي المقرّ، وإليها المفرّ، وإذا عدل الملك أقصر الحائف، وأمن الخائف، وخير الإخوان من ليس بخوان؛ وده ميمون، وغيبه مأمون، فهو يحالفك ولا يخالفك، ويرافقك ولا يفارقك، ويوافقك ولا ينافقك، ويعاشرك ولا يكاشرك، وإذا حضرت حنا عليك، وإذا غبت حن إليك.

ومنه قوله «2»

وقد كتب إليه بعض من عزل عن ولاية حسنة، وذوى يانع

ص: 71

غصنه؛ يستمد منه ودادا طالما تركه، ويستميل فؤادا كان يظنّ أنه قد ملكه؛ وإذا بحوادث الأيام قد غيرت ما عهد، وحسنت له بذل ما كان يضنّ به فلم يفد:

أما بعد: فقد وردت رقعتك فلم تند على كبدي، ولم تحظ بناظري ويدي؛ وخطبت من مودتي ما لم أجدك له أهلا، وقلت: هذا الذي تاه بحسن قده، وزها بورد خدّه، فالآن إذ نسخ الدّهر آية حسنه، وأقام مائل غصنه، وانتصر لنا منه شعرات كسفت هلاله، وأكسفت باله، ومسحت جماله، وغيرت حاله؛ فمهلا مهلا؛ وتناسيت أيامك إذ تكلّمنا نزرا، وتلحظنا شزرا:[الطويل]

ومن لك بالعين التي كنت مرة

إليك بها في سالف الدهر أنظر

أيام كنت تتلفت والأكباد تتفتت، وتقبل فتمني وتعرض فتضني «1» :[الطويل]

وتبسم عن ألمى كأنّ منوّرا

تخلّل حرّ الرّمل دعص له ندي

فأقصر الآن فإنه سوق كسد، ومتاع فسد، ودولة أعرضت، وأيام انقضت، ويوم صار أمس، وحسرة بقيت في النفس، فحتام تدلّ وإلام؟ ولم تحتمل وعلام؟

وقد بلغني ما أنت متعاطيه من تمويه يجوز بعد العشاء في الغسق، وينفق على السّوق؛ وإفناؤك لتلك الشعرات جزا وحصا، ونتفا وقصا؛ فأنا برحلك وجانبك، وحبلك ملقى على غاربك، ولو أحببت أن أوجعك لقلت:[من مخلّع البسيط]

ما يفعل الله باليهود

ولا بعاد ولا ثمود

ولا بفرعون إذ عصاه

ما يفعل الشعر بالخدود

ومنه قوله «2» : كتابي إلى البحر وإن لم أره، فقد سمعت خبره، والليث وإن لم ألقه فقد

ص: 72

تصورت خلقه، والملك العادل وإن لم أكن لقيته، فقد بلغني صيته، ومن رأى من السيف أثره، فقد رأى أكثره؛ وهذه الحضرة وإن احتاج إليها المأمون، ولم يستغن عنها قارون، فإن الأحب إليّ أن أقصدها قصد موال، [لا قصد سؤال] ؛ والرّجوع عنها بجمال أحبّ إلي من الرجوع عنها بمال؛ قدّمت التعريف، وأنا أنتظر الجواب الشريف.

ومنه قوله «1» : عافاك الله، مثل الإنسان في الإحسان، كمثل الأشجار في الثمار، سبيله إذا أتى بالحسنة، أن يرفّه من السّنة إلى السنة، وأنا كما ذكرت لا أملك عضويّ من جسدي، وهما فؤادي ويدي؛ أما الفؤاد فيعلق بالفود، وأما اليد فتولع بالجود؛ لكن هذا الخلق النفيس، ليس يساعده الكيس؛ وهذا الطّبع الكريم ليس يحتمله الغريم، ولا قرابة بين [الأدب و] الذهب؛ والأدب لا يمكن ثرده في قصعة، ولا صرفه في ثمن سلعة.

ولي مع الأدب نادرة: جهدت في هذه الأيام بالطّباخ أن يطبخ من جيمية الشماخ لونا، فلم يفعل، وبالقصاب أن يسمع من «أدب الكتاب» فلم يقبل، واحتيج في البيت إلى شيء من الزيت، فأنشدت من شعر الكميت ألفا ومئتي بيت فلم يغن فيما به اعتنيت؛ ولو وقعت أرجوزة العجاج في توابل السّكباج ما عدّ منها عندي لون، ولا استقرّ صون، بل ليست تقع، فما أصنع؟ فإن كنت تحسب اختلافك إليّ، أفضل «2» عليّ، فراحتك راحتي، وراحتي أن لا تطرق ساحتي.

ومنه قوله «3» :

ص: 73

أنا لقرب دار مولاي: [من الطويل]

كما طرب النشوان مالت به الخمر

ومن الارتياح إلى لقائه: [من الطويل]

كما انتفض العصفور بلّله القطر

«1»

ومن الامتزاج بولائه: [من الطويل]

كما التقت الصّهباء والبارد العذب

ومن الابتهاج بمزاره: [من الطويل]

كما اهتزّ تحت البارح الغصن الرّطب

«2» * ومن شعره قوله «3» : [البسيط]

عليّ ألّا أريح العيس والقتبا

وألبس السّيل والظّلماء واليلبا

وأترك الخود معسولا مقبّلها

وأهجر الكاس يغدو شربها طربا

وطفلة كقضيب البان منعطفا

إذا مشت وهلال الشهر منتقبا

قالت وقد علقت ذيلي تودعني

والوجد يخنقها بالدّمع منسكبا:

كنت الشّبيبة أبهى ما دجت درجت

وكنت كالورد أذكى ما أتى ذهبا

أبى المقام بدار الذّلّ لي كرم

وهمة تصل التّقريب والخببا

وعزمة لا تزال الدّهر ضاربة

دون الأمير وفوق المشتري طنبا

يا سيد الأمراء افخر فما ملك

إلا تمناك مولى واشتهاك أبا

«4»

إذا دعتك المعالي عرف هامتها

لم ترض كسرى ولا من فوقه ذنبا

أين الذين أعدّو المال من ملك

يرى الذّخيرة ما أعطى وما وهبا

ما الليث محتطما والسّيل مرتطما

والبحر ملتطما واللّيل مقتربا

أمضى شبا منك أدهى منك صاعقة

أجدى يمينا وأدنى منك مطّلبا

ص: 74

وكاد يحكيك صوب الغيث منسكبا

لو كان طلق المحيّا يمطر الذهبا

والدّهر لو لم يخن والشّمس لو نطقت

واللّيث لو لم يصد والبحر لو عذبا

يا من تراه ملوك الأرض فوقهم

كما يرون على أبراجها الشّهبا

ومنه قوله «1» : [الطويل]

أيا ملكا أدنى مناقبه العلى

وأيسر ما فيه السّماحة والبذل

هو البدر إلّا أنه البحر زاخرا

سوى أنّه الضّرغام لكنه الوبل

محاسن يبديها العيان كما بدا

وإن نحن حدّثنا بها صدّق العقل

وجاراك أفراد الملوك إلى العلى

وحقا لقد أعجزتهم ولك الخصل

سما بك من عمرو ويعقوب محتد

كذا الأصل مفخور به وكذا النّسل

* وحكى ابن ظافر قال «2» : حكى بديع الزّمان الهمذاني، قال: قال الصّاحب يوما لجلسائه وأنا فيهم، وقد جرى ذكر أبي فراس بن حمدان: لا يقدر أحد أن يزوّر على أبي فراس شعرا؛ فقلت: ومن يقدر أن يزوّر على شعره، وهو الذي يقول- وقلت ارتجالا-:«3» [الوافر]

رويدك لا تصل يدها بباعك

ولا تغز السّباع إلى رباعك

ولا تعن العدوّ عليّ إني

يمينك إن قطعت، فمن ذراعك

فقال الصاحب: صدقت؛ فقلت أيد الله مولانا، قد فعلت وزوّرت على أبي فراس، وهذا شعري! فعجب منه.

* وحكي أنّه جرى ذكره في مجلس شيخه أبي الحسين بن فارس، فقال ما

ص: 75

معناه «1» : إنّ بديع الزّمان قد نسي حق تعليمنا إيّاه، وعقّنا، وطمح بأنفه عنّا؛ فالحمد لله على فساد الزّمان، وتغيّر نوع الإنسان.

فكتب إليه بديع الزمان: نعم، أطال بقاء الشيخ الإمام؛ إنّه الحمأ المسنون، وإن ظنّت به الظّنون، والنّاس لآدم، وإن كان العهد قد تقادم، وتركبت الأضداد، واختلاف الميلاد؛ والشيخ يقول: قد فسد الزّمان؛ أفلا يقول: متى كان صالحا؟ في الدولة العبّاسيّة، فقد رأينا آخرها، وسمعنا أولها؟ أم الملّة المروانية، وفي أخبارها:

لا تكسع الشّول بأغبارها «2» ؟ أم السنين الحربية «3» : [مجزوء الكامل]

والسّيف يعقد في الطّلى

والرّمح يركز في الكلى

ومبيت حجر في الفلا

وحرّتان وكربلا؟

أم البيعة الهاشمية [، وعلي يقول: ليت العشرة منكم] براس، من بني فراس؟ أم الأيّام الأموية، والنّفير إلى الحجاز، والعيون تنظر إلى الأعجاز؟ أم الإمارة العدوّية «4» ، وصاحبها يقول: هلمّ بعد البزول إلى النّزول؟ أم الخلافة التيميّة «5» ، وهو يقول:

طوبى لمن مات في نأنأة الإسلام؟ أم على عهد الرسالة، ويوم الفتح قيل: اسكتي يا فلانة، فقد ذهبت الأمانة؟ أم في الجاهليّة، ولبيد يقول «6» :[الكامل]

ذهب الذين يعاش في أكنافهم

وبقيت في خلف كجلد الأجرب

ص: 76

أم قبل ذلك، وأخو عاد يقول: إذ النّاس ناس والبلاد بلاد «1» ؟ أم قبل ذلك، وآدم- فيما قيل- يقول «2» :[الكامل]

تغيرت البلاد ومن عليها

[ووجه الأرض مغبرّ قبيح]

أم قبل ذلك، والملائكة تقول: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ

«3» .

ما فسد النّاس، إنما اطرد القياس، ولا أظلمت الأيام، إنما امتد الظلام؛ وهل يفسد الشيء إلّا عن صلاح، ويمسي المرء إلّا عن صباح؟ وإنّي على توبيخ شيخنا، لفقير إلى لقائه، شفيق على بقائه، منتسب إلى ولائه، شاكر لآلائه، لا أحلّ حريدا «4» عن أمره، ولا أفلّ «5» بعيدا عن قلبه؛ وما نسيته، ولا أنساه؛ إن له على [كل] نعمة خوّلنيها الله نارا، وعلى كلّ كلمة علّمنيها منارا؛ ولو عرفت لكتابي موقعا من قلبه، لاغتنمت خدمته به، ولرددت إليه سؤر كاسه، وفضل أنفاسه؛ ولكنني خشيت أن يقول: هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا

«6» وله- أيده الله- العتبى، والمودّة في القربى، والمرباع، وما ناله الباع، وما ضمّه الجلد، وضمنه السمط؛ ليست رضى، ولكنها جلّ ما أملك.

ص: 77

اثنتان- أيد الله الشيخ الإمام-[قلّما تجتمعان] الخراسانية والإنسانية؛ وإن لم أكن «1» خراسانيّ الطّينة، فإنّي خراسانيّ المدينة؛ والمرء من حيث يوجد، لا من حيث يولد؛ فإذا أضاف إلى خراسان ولاء همذان، ارتفع القلم، وسقط التكليف؛ فالجرح جبار، والجاني حمار، ولا جنّة ولا نار، فليلمّني «2» على هناتي، أليس صاحبها يقول:[الخفيف]

لا تلمني على ركاكة عقلي

إن تيقّنت أنني همذاني

والسلام.

قوله: والعيون تنظر إلى الأعجاز: إشارة إلى قول أحد الذين قتلوا عثمان لمّا دخلوا عليه، فنظروا إلى نائلة بنت الفرافصة زوجة عثمان، وهي تصيح، فقالوا:

إن عجزها لكبير.

* واجتمع بديع الزّمان والأستاذ أبو بكر الخوارزميّ في دار السيد أبي القاسم المستوفي، بمشهد من القضاة والفقهاء والأشراف، وغيرهم من سائر النّاس، فجرى بينهما من المناظرة ما نذكره إن شاء الله تعالى «3» .

قال الأستاذ أبو الفضل بديع الزمان: سأل السيد- أمتع الله ببقائه إخوانه- أن أملي جميع ما جرى بيننا وبين أبي بكر الخوارزمي أعزه الله من مناظرة مرّة ومنافرة أخرى، موادعة أولا ومنازعة ثانيا، إملاء يجعل السماع له عيانا، فما تلقيته إلا بالطاعة، على حسب الاستطاعة، لكن للقصّة تشبيبا لا تطيب إلّا به، ومقدمات

ص: 78

لا تحسن إلّا معها؛ وسأسوق بعون الله صدر حديثنا إلى العجز، كما يساق الماء إلى الأرض الجرز؛ فنبدأ فيها باسم الله عز وجل، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم [ذهابا بالقصّة عن أن تكون بتراء، وصيانة لها عن أن تدعى جذماء؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «1» :]«كلّ خطبة لا يبدأ فيها باسم الله عز وجل فهي بتراء» . وخطب زياد خطبته البتراء «2» . لأنه لم يحمد الله عز وجل ولم يصلّ على رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وهذا مقام نعوذ بالله منه، ونسأله التوفيق للصّواب، بورده وبصدره.

نعم، أطال الله بقاء السيد، وأمتع ببقائه إخوانه؛ إن قعدنا نعدّ آثاركم ونؤدي مآثركم، نفد الحصر قبل نفودها، وفنيت الخواطر قبل أن تفنى المآثر؛ وكيف لا، وإن ذكر الشرف فأنتم بنو بجدته، أو العلم فأنتم عاقدوا بردته، أو الدين فأنتم ساكنو بلدته، أو الجود فأنتم لابسو جلدته، أو التّواضع صبرتم لشدته، أو الرأي صلتم بنجدته، وإن بيتا تولى الله بناءه ولزم الرسول صلى الله عليه وسلم فناءه، وأقام الوصيّ عليه السلام عماده، وخدم جبريل عليه السلام أهله، لحقيق أن يصان عن مدح لسان قصير؛ ونحن نعود للقصة نسوقها.

فأولها: أنا وطئنا خراسان، فما اخترنا إلا نيسابور دارا، وإلا جوار السادة جوارا، لا جرم أنا حططنا بها الرّحل، ومددنا عليها الطنب، وقديما كنا نسمع بحديث هذا الفاضل فنتشوقه، ونخبره على الغيب فنتعشقه، ونقدر أنا إذا وطئنا أرضه، ووردنا بلده، يخرج لنا في العشرة عن القشرة، فقد كانت لحمة الأدب جمعتنا، وكلمة الغربة نظمتنا؛ وقد قال شاعر العرب غير مدافع «3» :[الطويل]

أجارتنا إنا غريبان هاهنا

وكلّ غريب للغريب نسيب

ص: 79

فأخلف ذلك الظنّ كلّ الإخلاف، واختلف ذلك التقدير كل الاختلاف؛ وكان قد اتفق لنا في الطريق اتفاق، لم يوجبه استحقاق، من بزّة بزّوها، وفضة فضوها، وذهب «1» ذهبوا به؛ ووردنا نيسابور براحة أنفى من الراحة، وكيس أخلى من جوف حمار «2» ، وزيّ أوحش من طلعة المعلّم، بل اطّلاعة الرقيب، فما حللنا إلا قصبة جواره، ولا وطئنا إلا عتبة داره؛ وهذا بعد رقعة كتبناها، وأحوال أنس نظمناها؛ فلما أخذتنا عينه سقانا الدّرديّ «3» من أول دنّه، وأجنانا سوء العشرة من باكورة فنّه؛ من طرف نظر بشطره، وقيام دفع في صدره، وصديق استهان بقدره، وضيف استخف بأمره؛ لكن أقطعناه جانب أخلاقه، ووليناه خطة رأيه، وقاربناه إذ جانب، وواصلناه إذ جاوب، وشربناه على كدرته، ولبسناه على «4» خشونته، ورددنا الأمر في ذلك إلى زي استغثّه، ولباس استرثه، وكاتبناه نستمدّ وداده، ونستلين قياده، ونستميل فؤاده، ونقيم منآده، بما هذه نسخته بعد البسملة:

الأستاذ أبو بكر، والله يطيل بقاءه، أزرى بضيفه إن وجده يضرب آباط القلة في أطمار الغربة، فأعمل في مرتبته أنواع المصارفة، وفي الاهتزاز له أصناف المضايفة، من إيماء بنصف الطرف وإشارة بشطر الكف، ودفع في صدر القيام عن التمام، ومضغ للكلام، وتكلف لردّ السلام؛ وقد قبلت تربيته صعرا، واحتملته وزرا، واحتضنته نكرا، وتأبطته شرا، ولم آله عذرا؛ فإن المرء بالمال وثياب الجمال، ولست مع هذه الحال، وفي هذه الأسمال أتقزز صف النعال؛ فلو صدقته العتاب، وناقشته الحساب، لقلت إن نوادينا ثاغية صباح، وراغية رواح، وناسا

ص: 80

يجرّون المطارف، ولا يمنعون المعارف «1» :[الطويل]

وفيهم مقامات حسان وجوههم

وأندية ينتابها القول والفعل

فلو طرحت بأبي بكر أيده الله طوارح الغربة، لوجد منال البشر قريبا، ومحطّ الرّحل رحيبا، ووجه المضيف خصيبا؛ ورأي الأستاذ أبي بكر أيّده الله تعالى في الوقوف على هذا العتاب الذي معناه ودّ، والمرّ الذي يتلوه شهد، موفق إن شاء الله.

فأجاب بما هذه نسخته: وصلت رقعة سيدي ورئيسي، أطال الله بقاءه [إلى آخر] السّكباج «2» ، وعرفت ما تضمنته من خشن خطابه، ومؤلم عتبه وعتابه، وحملت ذلك منه على الضجرة التي لا يخلو منها من مسه عسر، ونبا به دهر؛ والحمد لله الذي جعلني موضع أنسه، ومظنة مشتكى ما في نفسه.

أما ما شكاه سيدي ورئيسي من مضايقتي إياه- زعم- في القيام عن التّمام، فقد وفيته حقه- أيده الله- سلاما وقياما على قدر ما استطعت عليه، ووصلت إليه، ولم أرفع عليه إلّا السيد أبا البركات العلويّ أدام الله عزه، وما كنت لأرفع أحدا على من أبوه الرسول، وأمه البتول، وشاهداه التّوراة والإنجيل، وناصره التّأويل والتنزيل، والبشير به جبريل وميكائيل؛ فأمّا القوم وما وصف سيدي عنهم فكما وصف حسن عشرة، وسداد طريقة، وكمال تفصيل وجملة.

ولقد جاورتهم فأحمدت المراد، ونلت المراد «3» :[الطويل]

فإن أك قد فارقت نجدا وأهله

فما عهد نجد عندنا بذميم

ص: 81

والله يعلم نيتي للأحرار كافة، ولسيدي أدام الله عزه من بينهم خاصة؛ فإن أعانني على ما في نفسي بلغت له بعض ما في النية، وجاوزت به مسافة القدرة؛ وإن قطع عليّ طريق عزمي بالمعارضة، وسوء المؤاخذة، صرفت عناني عن طريق الاختيار، [بيد الاضطرار] :[الطويل]

فما النفس إلّا نطفة في قرارة

إذا لم تكدر كان صفوا غديرها

«1» وبعد: فحبذا عتاب سيدي إذا استوجبنا عتبا، واقترفنا ذنبا؛ فأما أن يسلفنا العربدة، فنحن نصونه عن ذلك، ونصون أنفسنا عن احتماله عليه؛ ولست أسومه أن يقول: اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ

«2» ، ولكنّي أسأله أن يقول: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ

«3» .

فحين ورد الجواب، وغير العذر رائده، تركناه بعرّه، وطويناه على غرّه، وعمدنا لذكره، فسحوناه، عن صحيفتنا ومحوناه، وصرنا إلى اسمه فأخذناه ونبذناه؛ وتنكبنا خطته، وتجنبنا خلطته، فلا طرنا به، ولا طرنا إليه؛ ومضى على ذلك الأسبوع، ودرجت اللّيالي، وتطاولت المدّة، وتصرم الشهر وصرنا لا نعير الأسماع ذكره، ولا نودع الصدر حديثه، وجعل هذا الفاضل يستزيد ويستعيد، بألفاظ تقطفها الأسماع من لسانه وتردّها إليّ، وكلمات تحفظها الألسنة من فمه وتعيدها عليّ؛ فكاتبناه بما هذه نسخته:

أنا أرد من الأستاذ سيدي- أطال الله بقاءه- شرعة وده، وإن لم تصف؛ وألبس خلعة وده «4» وإن لم تضف؛ وقصاراي أن أكيله صاعا عن مدّ؛ فإني

ص: 82

وإن كنت في الأدب دعيّ النسب، ضعيف السبب، ضيق المضطرب، سيّء المنقلب، أمتّ إلى عشرة أهله بنيقة، وأنزع إلى خدمة أصحابه بطريقة، ولكن بقي أن يكون الخليط منصفا في الوداد، إذا زرت زار، وإن عدت عاد؛ وسيدي- أيده الله- ناقشني في القبول أولا، وصارفني في الإقبال ثانيا؛ فأما حديث الاستقبال، وأمر الإنزال والأنزال، فنطاق الطّمع ضيق عنه، غير متّسع لتوقّعه منه.

وبعد: فكلفة الفضل هينة، وفروض الودّ متعينة، وأرض العشرة لينة، وطرقها بينة، فلم اختار قعود التّعالي مركبا، وصعود التّغالي مذهبا؟ وهلّا ذاد الطّير عن شجر العشرة، وذاق الحلو من ثمرها؟ فقد علم الله أن شوقي إليه قد كدّ الفؤاد برحا على برح، ونكأه قرحا على قرح، ولكنّها مرّة مرّة، ونفس حرّة، لم تعد إلّا بالإعظام، ولم تلق إلّا بالإجلال، وإذا استعفاني من معاتبتي، وأعفى نفسه من كلف الفضل بتجشمها، فليس إلا غصص الشوق أتجرّعها، وحلل الصبر أتدرعها، ولم أغره من نفسي، وأنا لو أعرت جناحي طائر لما طرت إلّا إليه، ولا وقعت إلّا عليه «1» :[الطويل]

أحبّك يا شمس الزمان وبدره

وإن لا مني فيك السّها والفراقد

«2»

وذاك لأنّ الفضل عندك باهر

وليس لأنّ العيش عندك بارد

فلمّا وردت عليه الرّقعة، حشر تلامذته وخدمه، وزمّ عن الجواب قلمه، وجشّم للإيجاب قدمه، وطلع مع الفجر علينا طلوعه، ونظمتنا حاشيتا دار الإمام أبي الطيّب أدام الله عزّه؛ فقلت: الآن حين تشرق الحشمة وتنوّر، وننجد في

ص: 83

العشرة ونغوّر، وقصدناه شاكرين لما أتاه، وانتظرنا عادة بره، وتوقعنا مادة فضله، فكان خلّبا شمناه، وآلا وردناه، وصرفنا الأمر في تأخرنا عنه إلى ما قاله عبد الله بن المعتزّ «1» :[الرجز]

إنّا على البعاد والتّفرّق

لنلتقي بالذّكر إن لم نلتقي

وأنشدناه قول ابن عصرنا: [الوافر]

أحبّك في البتول وفي أبيها

ولكنّي أحبّك من بعيد

«2» وبقينا نلتقي خيالا، ونقنع بالذكر وصالا، حتّى جعلت عواصفه تهبّ، وعقاربه تدبّ، وهو لا يرضى بالتعريض حتى يصرح، ولا يقنع بالنفاق حتى يعلن؛ وشكا إلي بعض إخواننا أني خاطبته مخاطبة مجحفة، ونزلته منزلة متحيفة؛ فقال: إني أؤثر العربدة، وأسلف الموجدة؛ ويرميني في ذلك بدائه وينسلّ «3» ، فكتبنا إليه «4» :[المتقارب]

جعلت فداءك من فاضل

بلغت التراقي من جوره

وفي الغيب أكثر مما رأيت

وأين البلوغ إلى غوره

أتتني الرّواة بما قلته

بهيئته وعلى كوره

وقولك إني طوع الشّجار

أضمّ ضلوعي على سوره

فقلت حياء لمن قد [أتاني]

تجاوز منّا مدى طوره

«5»

ص: 84

فيا من بذلت ودادي له

فما لأت حورا على كوره

بودّ تبلّج عن نوره

وقصد تفرّخ عن نوره

فهشّ كما ليس يخفى عليك

بشطر القيام إلى زوره

وبايعته بيمين الرّضا

وغضّ الجفون على هوره

وقلت لحنظل أخلاقه:

ألا حبذا الأري في شوره

ولو كان ذلك من غيره

طممت بنجدي على غوره

ولا عبته بكعاب الرّجوع

فقامرني بيدي على غوره

وكان حديثي لمّا رجعت

حديث الفتى مع سنّوره

فلم أدر فيما جفا ضيفه

ولم سكن البرّ من فوره

أللزّمن النّي في حكمه

أم الفلك الغثّ في دوره

وكاتبته أستمدّ الوداد

كملتمس الدّرّ في ثوره

فقابل صرفي بممزوجه

وواجه درّي ببللوره

وجشّم أقدام إقدامه

يلوح التّكلّف في موره

وزار وزرناه عن قصده

بما ليس يخجل في زوره

هلمّ إلى منبت المكرمات

اواينا منتحى سوره

«1»

وأما الخطاب فأنت ابتدأت

ودونك زند المنى أوره

فلمّا وردت عليه الأبيات، أبرزت باطنه، وحرّكت ساكنه، وأخرجت دفائن صدره، ورفعت أذيال ستره، وملأ قلبه ولحيته تهديدا؛ فكتبنا إليه «2» :[الهزج]

أعنّي يا أبا بكر

على نفثة مصدور

على ودّك مطويّ

وعن عتبك منشور

ص: 85

إلى سلمك مشتاق

على حربك مقهور

ولا تعدل إلى الظّلم

ة عن ناحية النّور

ولا تهو إلى الوهد

ة من عالية السّور

ولا تنهج إلى الأضيا

ف إلّا سبل الخير

ولا تحفر لهم بيرا

تقع في ذلك البير

ولا تنقل إلى الفتنة

أسباب المقادير

«1»

فما أكثر ما عند

ك من سرّ العقاقير

ولا تغرف على الإخوا

ن من هذي الأبازير

فكم أطوي لك السّمع

على سود المناكير

وكم ألقي عليها طر

في في حلمي وتذكيري

وإن تمدد إلى ماء ال

تّصافي يد تكدير

تعد عن جهتي واللّ

هـ محذوف الشّوابير

ولا مروان بالكوفة

في غدوة عاشور

ولا الكلب أتى الجام

ع في فروة ممطور

وإن أحببت أن تعل

م فانشطّ غير مأمور

فلا تبطل فدتك النّف

س في بردك تدبيري

ولا تخلف بأخلاق

ك في العشرة تقديري

فلما وردت عليه الأبيات قال: لو أنّ بهذا البلد رجلا تأخذه أريحيّة الكرم»

، وتملكه هزّة الهمم، يجمع بيني وبين فلان- يعنيني-:[الرجز]

ثم رأى إذا انجلى الغبار

أفرس تحتي أم حمار

ص: 86

وعلم أيّنا يبرز خلابه عفوا، أو أيّنا يغادر في المكر، ولودّ فلان بوسطاه؛ بل بيمناه، لو دخلنا وقلنا في المناخ له: نم، إلى كلمات تحذو هذا الحذو، وتنحو هذا المنحى، وألفاظ أتتنا من عل؛ وكان جوابنا أن قلنا: بعض الوعيد يذهب في البيد، والصّدق ينبئ عنك لا الوعيد «1» ؛ وقلنا: إنّ أجرأ النّاس على الأسد، أكثرهم رؤية له؛ «2» وقد قال بعض أصحابنا. قلت لفلان: ألا تناظر فلانا، فإنّه يغلبك؟ فقال: أمثلي يغلب وعندي دفتر مجلد! ووجدنا عندنا دفاتر مجلدة، وأجزاء مجرّدة؛ وأنشدناه قول جحل بن نضلة «3» :[السريع]

جاء شقيق عارضا رمحه

إنّ بني عمّك فيهم رماح

هل أحدث الدّهر بنا نكبة

أم هل رقت أمّ شقيق سلاح

وقلنا: إنا نقتحم الخطب، ونتوسّط الحرب، فنردّها مفحمين، ونصدر بلغاء:[الطويل]

وألسننا قبل النّزال قصيرة

ولكنّها بعد النّزال طوال

[المتقارب]

فأرضك أرضك إن تأتنا

تنم نومة ليس فيها حلم

[المتقارب]«4»

فمن ظنّ ممّن يلاقي الحروب

بأن لا يصاب فقد ظنّ عجزا

فإنك متى شئت لقيت منّا خصما ضخما، ينهشك قضما، ويأكلك

ص: 87

خضما، وحثثناه على الأخذ بكتاب الله تعالى من قوله: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ

«1»

وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها

«2» وأنشدناه قول الأول: [البسيط]

السّلم تأخذ منها ما رضيت به

والحرب يكفيك من أنفاسها جرع

وقلنا له «3» : [الوافر]

نصحتك فالتمس يا ويك غيري

طعاما إنّ لحمي كان مرّا

ألم يبلغك ما فعلت ظباه

بكا ظمة غداة لقيت عمرا

وجعل الشّيطان يثقل بذلك أجفان طرفه، ويقيم به شعرات أنفه «3» :[الوافر]

وحتّى ظنّ أنّ الغشّ نصحي

وخالفني كأنّي قلت هجرا

واتّفق أنّ السيد أبا علي- أدام الله عزه- نشط للجمع بيني وبينه، فدعاني فأجبت، ثم عرض عليّ حضور أبي بكر، فطلبت ذلك، وقلت: هذه عدة لم أزل أستنجزها، وفرصة لا أزال أنتهزها؛ فتجشم السيد أبو الحسين، فكاتبه يستدعيه؛ واعتذر أبو بكر بعذر في التأخر، فقلت: لا ولا كرامة للدّهر أن نقعد تحت ضيمه، أو نقبل خسف ظلمه، ولا عزازة للعوائق أن تضيعنا ولا نضيعها، أو تعنينا ولا ندفعها؛ وكاتبته أنا أشحذ عزيمته على البدار، وألوي رأيه عن الاعتذار، وأعرّفه ما فيّ من ظنون تشتبه، وتهم تتجه، وتقادير تختلف، واعتقادات تخلف، وقدنا إليه مركوبا، لنكون قد ألزمنا الحج وأعطينا الرّاحلة، فجاءنا في طبقة أفّ وعدد تفّ:[السريع]

ص: 88

كلّ بغيض قدّه إصبع

وأنفه خمسة أشبار

مع أرباب عانات وأصحاب جربّانات، لا تنال العين منهم إلّا خسيسا، وسرحنا الطّرف منه ومنهم، في أحمى من است النّمر «1» ، وأعطس من أنف النغر «2» ، فظننا أنه يريد أن يلقى كتيبة، أو يهزم دوسرا، أو يفلّ الأنكدين، أو يردّ الوافدين؛ ثم رأينا رجالا جوفا، قد خلّقوا صوفا، فأمنّا المعرة، ولم نخش المضرة، وقمنا له وإليه، وجلس يحرق أرمه، وتمثل ببيت لا يقتضيه الحال: من أنا في الحبالة نستبق «3» .

فتركناه على غلوائه، حتّى إذا نفض ما في رأسه، وفرغ جعبته وسواسه، عطفنا عليه، فقلنا: عافاك الله، دعوناك وغرضنا غير المهارشة، واستزرناك وقصدنا غير المناوشة؛ فلتهدأ ضلوعك، وليفرخ روعك: يا مارسر جس لا نريد قتالا «4» ، وما اجتمعنا إلا لخير، فلتسكن سورتك، ولتلن فورتك، ولا ترقص لغير طرب، ولا تحمّ لغير سبب، وإنّما دعوناك لتملأ المجلس فرائد وتذكر أبياتا شوارد، وأمثالا فوارد، ونباحثك فنسعد بما عندك، وتسألنا فتسرّ بما عندنا، ويقف كلّ منّا موقفه من صاحبه، وقديما كنت أسمع بحديثك، فيعجبني الالتقاء بك والاجتماع معك، والآن إذ سهل الله ذلك، فهلم إلى الأدب ننفق يومنا عليه، وإلى الجدل نتجاذب طرفيه؛ فاسمع خبرا وأسمعنا مثله؛ ونبدأ بالفنّ الذي ملكت به زمانك، وفتّ فيه أقرانك، وملكت منه عنانك، وأخذت منه

ص: 89

مكانك، وطار به اسمك بعد وقوعه، وارتفع له ذكرك عقب خضوعه، وأفحمت به الرّجال، حتى أذعن العالم وقلّد الجاهل، وقالوا قول الصّوفيّة: يا دهشا كلّه؛ فجارنا بفرسك، وطاولنا بنفسك؛ فقال: وما هو؟ قلت: الحفظ إن شئت، والنّظم إن أردت، والنّثر إن اخترت، والبديهة إن نشطت؛ فهذه أبوابك التي أنت فيها ابن دعواك، تملأ منها فاك.

فأحجم عن الحفظ رأسا، ولم يجل فيه قدحا، وقال: أبادهك؛ فقلت: أنت وذاك؛ فمال إلى السيد أبي الحسين فسأله بيتا ليجيز، فقلت: يا هذا، أنا أكفيك؛ ثم تناولت جزءا فيه أشعاره، وقلت لمن حضر: هذا شعر أبي بكر الذي كدّ به طبعه، وأسهر له جفنه، وأجال فيه فكره، وأنفق فيه عمره، واستنزف فيه يومه، ودوّنه صحيفة مآثره، وجعله ترجمان محاسنه، وعبر به عن باطنه، وأخذ مكانه به، وهو ثلاثون بيتا؛ وسأقرن كلّ بيت بوفقه، وأنظم كل معنى إلى لفقه، بحيث أصيب أغراضه، ولا أعيد ألفاظه، وشريطتي ألا أقطع النفس؛ فإن تهيأ لواحد، أو أمكن لناقد ممن قد حضر، يريد النظر، أن يميز قوله من قولي، ويحكم على البيت أنه له أو لي، أو يرجّح ما أنضجه بنار الرويّة، على ما أمليته على لسان النّفس، فله يد السبق، أو يكون غيرها، فأعفى عن هذه المعارضة، وتتنحّى لنا عن أرض المماثلة، ويخلى لنا الطّريق لمن يبني المناربه؛ فقال أبو بكر:

ما الذي يؤمننا من أن تكون نظمت من قبل ما تريد إنشاده الآن؟ فقلت: اقترح لكلّ بيت قافية، لا أسوقه إلّا إليها، ولا أقف به إلا عليها؛ ومثال ذلك أن تقول:

حشر؛ فأقول بيتا آخره حشر، ثم عشر فأنظم بيتا قافيته عشر، ثم هلمّ جرا إلى حيث يتضح الحقّ، وينتضح الزّرق، وتستقر الحجة وتطرد، وتستقلّ الشّبهة وتنطرد، فيعرف الحالي من العاطل، ويفرق بين الحقّ والباطل؛ فأبى أبو بكر أن يشاركنا هذا العنان، ومال إلى السيد أبي الحسين يسأله بيتا ليجيز، فتبعنا رأيه

ص: 90

بما رآه، ولم نرض إلّا رضاه، ولم نعدل عن هواه ومبتغاه؛ وأعمل كلّ منّا لسانه وفمه، وأخذ دواته وقلمه، وأجزنا البيت الذي قاله، وكلّما أجزناه إجازة، جارى القلم فيها الطّبع، وبارى اللّسان بها السمع، وسارق الخاطر بها النّاظر، وسابق الجنان فيها البنان؛ إلى أن قلنا «1» :[الكامل]

هذا الأديب على تعسّف فتكه

وبروكه عند القريض ببركه

متسرّع في كلّ ما يعتاده

من نظمه، متباطئ عن تركه

والشعر أبعد مذهبا ومصاعدا

من أن يكون مطيعه في فكّه

والنّظم بحر والخواطر معبر

فانظر إلى بحر القريض وفلكه

فمتى توانى في القريض مقصر

عرضت أذن الامتحان لعركه

هذا الشّريف على تقدّم بيته

في المكرمات ورفعه في سمكه

قد رام منّي أن أقارن مثله

وأنا القرين السّوء إن لم أنكه

وإذا نظرت وجدت ما قد قلته

برد اليقين على حرارة شكّه

عارضت بيتا قلته متعسّفا

وحطمت جانحة القرين بدكّه

ودبغت منه أديمه فتركته

نهج الأديم بدبغه وبدلكه

اصغوا إلى الشّعر الذي نظّمته

كالدّرّ رصّع في مجرّة سلكه

فمتى عجزت عن القرين بديهة

فدمي الحرام له إراقة سفكه

فقال أبو بكر أبياتا جهدنا به أن يخرجها عن اللّحاف، ويبرزها من الغلاف، فلم يفعل دون أن طواها، وجعل يفركها ويعركها، فقلت: يا هذا، إنّ البيت لقائله كالولد لناجله، فما لك تعقّ ابنك وتضيمه؟ أبرزها للعيون، وخلّصها من الظّنون؛ فكره أبو بكر أيده الله أن تكون الهرّة أعقل منه، لأنها تحدث وتغطي،

ص: 91

فلم يستجز أن يظهر، ثم بسط «1» جبينه، وبسط يمينه للبديهة، نفسا دون أن كتب، فقال: أنت وذاك؛ واقترح علينا أن نقول على وزن قول أبي الطّيّب المتنبّي، حيث يقول «2» :[الكامل]

أرق على أرق ومثلي يأرق

وجوى يزيد وعبرة تترقرق

وابتدر أبو بكر أيده الله إلى الإجازة، ولم يزل إلى الغايات سباقا، فقال «3» :[الكامل]

وإذا ابتدهت بديهة يا سيدي

فأراك عند بديهتي تتقلق

وإذا قرضت الشعر في ميدانه

لا شك أنّك يا أخي تتشقق

إني إذا قلت البديهة قلتها

عجلا وطبعك عند طبعي يرفق

مالي أراك ولست مثلي عندها

متموّها بالتّرهات تمخرق

إني أجيز على البديهة مثل ما

تريانه وإذا نطقت أصدّق

لو كنت من صخر أصمّ لها له

[منّي] البديهة واغتدى يتفلّق

أو كنت ليثا في البديهة قادرا

لرئيت يا مسكين دوني تبرق

«4»

وبديهة قد قلتها متنفسا

فقل الذي قد قلت يا ذا الأخرق

ثم وقف يعتذر، ويقول: إن هذا كما يجيء لا كما يجب؛ فقلت: قبل الله عذرك، لكنّي أراك بين قواف مكروهة، وقافات خشنة؛ كلّ قاف كجبل قاف، منها: تتقلق وتتشقّق وتفلّق وتمخرق وتبرق وتسرق وأحمق وأخرق، إلى أشياء لا

ص: 92

أكثر بها العدد؛ فخذ الآن جزاء عن قرضك، وأداء لفرضك؛ وقلت «1» :[الكامل]

مهلا أبا بكر فزندك أضيق

واخرس فإنّ أخاك حيّ يرزق

دعني أعرك إذا سكتّ سلامة

فالقول ينجد في ذويك ويعرق

ولفاتك فتكات سوء فيكم

فدع السّتور وراءها لا تخرق

وانظر لأشنع ما أقول وأدّعي

أله إلى أعراضكم متسلّق؟

يا أحمقا وكفاك ذلك خزية

جرّبت نار معرّتي هل تحرق؟

فلمّا أصابه حرّ الكلام، ومسه لفح هذا النظام، قطع علينا، فقال: يا أحمقا، لا يجوز؛ فإنّ أحمق لا ينصرف؛ فقلنا: يا هذا لا تقطع، فإن شعرك إن لم يكن عيبة عيب، فليس بطرف ظرف، ولو شئنا لقطعنا عليك، ولوجد الطّاعن سبيلا إليك؛ وأما أحمق فلا يزال يصفعك وتصفعه، حتى ينصرف وتنصرف معه.

وعرّفناه أن للشاعر أن يردّ ما لا ينصرف إلى الصرف، كما أن له رأيه في القصر والحذف؛ وأنشدناه حاضر الوقت من أشعار العرب، فقال: يجوز للعرب ما لا يجوز لك؛ فلم يدر كيف يجيب عن هذا الموقف وهذه المواقعة، وكيف يسلم من هذه المناصفة، لكنّا قلنا له: أخبرنا عن بيتك الأول، أمدحت أم قدحت؟

وزكيت أم جرحت؟ ففيه شيئان متفاوتان، ومعنيان متباينان؛ منها أنّك بدأت فخاطبت بيا سيدي، والثّانية:

أنّك عطفت فقلت: تتقلّق، وهما لا يركضان في حلبة، ولا يحطّان في خطّة. ثم قلت له: خذ وزنا من الشعر، حتى أسكت عليك فتستوفي من القول حظّك، واسكت علينا حتّى نستوفي حظنا؛ ثم إني أحفظ عليك أنفاسك

ص: 93

وأواقفك عليها، واحفظ عليّ أنفاسي وواقفني عليها؛ فإن عجزت عن اعتلاقها حفظتها لك، فسلني عنها بعد ذلك؛ وأخذنا بيت أبي الطيّب المتنبي «1» :[المنسرح]

أهلا بدار سباك أغيدها

أبعد ما بان عنك خرّدها

فقلت «2» : [المنسرح]

يا نعمة لا تزال تجحدها

ومنة لا تزال تكندها

فأخذ بمخنّق البيت قبل تمامه، ومضيق الشّعر قبل نظامه، فقال:[ما] معنى تكندها؟ فقلت: يا هذا، كند النعمة: كفرها؛ فرفع يديه ورأسه، وقال: معاذ الله أن يكون كند بمعنى جحد، وإنما الكنود: القليل الخير؛ فأقبلت الجماعة عليه يوسعونه بريا وفريا، ويتلون له قول الله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ

«3» .

فقلت: أليس الشّرط أملك؟ والعهد بيننا أن تسكت ونسكت حتّى نتم وتتمّ؟

ثم نبحث ونفحص؟ فنبذ الأدب وراء ظهره، وصار إلى السّخف يكيلنا بصاعه ومدّه، وينفض فيه حمة جهده، وأفضى إلى السفه يغرف علينا غرفا، ويستقي من جرفه جرفا؛ فقلت له: يا هذا، إنّ الأدب غير سوء الأدب، وللمناظرة حضرنا لا للمنافرة؛ فإن نقضت عن هذا السّخف يدك، وثنيت عن هذا السّفه قصدك، وإلّا تركت مكالمتك؛ ولو كان في باب الاستخفاف شيء أبلغ من ترك الإنكار لبلغته منك؛ فأخذ يمضي على غلوائه، ويمعن في هرائه وهذائه؛ فاستندت إلى المسند، ووضعت اليد على اليد، وقلت: أستغفر الله من مكالمتك، ونفضتها قائمة معه، وسكتّ حتّى عرف الناس، وأيقن الجلّاس أني أملك من نفسي مالا

ص: 94

يملكه، وأسلك من طريق الحلم ما لا يسلكه؛ ثم عطفت عليه، فقلت: يا أبا بكر، إنّ الحاضرين قد أعجبوا من حلمي بأضعاف ما أعجبوا من علمي، وتعجّبوا من عقلي، أكثر ممّا تعجبوا من فضلي؛ وبقي الآن أن يعلموا أنّ هذا السّكوت ليس عن عيّ، وأنّ تكلّفي للسّفه أشدّ استمرارا من طبعك، وغربي في السّخف أمتن عودا من نبعك؛ وسنقرع باب السّخف معك، ونفترع من ظهر السّفه مفترعك، فتكلّم الآن.

فقال: أنا قد كسبت بهذا [العقل] دية أهل همذان مع قلّته، فما الذي أفدت أنت بعقلك مع غزارته؟ فقلت: أما قولك: دية أهل همذان، فما أولاني بأن لا أجيب عنه، لكن هذا الذي به تتمدّح وتتبّجج، وتتشرّف وتتصلّف، من أنك شحذت فأخذت، وسألت فحصلت، وكديت فاقتنيت، فهذا عندنا صفة ذمّ، عافاك الله، ولأن يقال للرّجل: يا فاعل، يا صانع، أحبّ إليه من أن يقال: يا شحّاذ، يا مكدي؛ وقد صدقت، أنت في هذه الحلبة أسبق، و [في] هذه الحرفة أعرق؛ ولعمرك إنّك أشحذ، وأنت في الكدية أنفذ، وأنا قريب العهد بهذه الصّنعة، حديث الورد لهذه الشّرعة، مرمل اليد في هذه الرّقعة.

فأما مالك، فعندنا يهوديّ يماثلك في مذهبه، ويزنك بذهبه، وهو مع ذلك لا يطرقني إلّا بعين الرّهبة، ولا يمدّ إليّ إلّا يد الرّغبة؛ ولو كان الغنى حظا كريما لأخطأه مثل هذا العقل، ولو كان المال غنما لما أدرك بهذا السعي، ولكن عرّفني هل كنت فيما سلف من زمانك، ونبت من أسنانك، إلا هاربا بذمائك، مضرجا بدمائك، مرتهنا بقولك، بين وجنة موشومة، وجوارح مهشومة، ودار مهدومة، وخدود ملطومة؟ ومتى صفت مشارعك، أو أخصبت مراتعك، إلّا في هذه الأيّام القذرة؟ وستعرف غدك من بعد وتنكر أمسك، وتعلم قدرك في غد وتعرف نفسك، وما أضيع وقتا قطعته بذكرك، ولسانا دنسته باسمك.

ص: 95

وملت إلى القوّال وهو أبو بكر أحمد بن عبد الله الشّاذياخيّ، فقلت: أسمعنا خيرا؛ فدفع القوّال وغنّى أبياتا، فيها «1» :[الوافر]

وشبهنا بنفسج عارضيه

بقايا اللّطم في الخدّ الرّقيق

فقال أبو بكر: يا قوم، أحسن ما في هذا الأمر، أنّي أحفظ هذه القصيدة وهو لا يعرفها؛ فقلت: يا عافاك [الله] ، أعرفها، وإن أنشدتكها ساءك مسموعها، ولم يسرك مصنوعها؛ فقال: أنشد؛ فقلت: أنشد، لكنّ روايتي تخالف هذه الرّواية؛ وأنشدت:[الوافر]

وشبّهنا بنفسج عارضيه

بقايا الوشم في الوجه الصّفيق

فأتته السّكتة، وأضجرته النّكتة، وانطفأت تلك الوقدة، وانحلت تلك العقدة، وأطرق مليا، وقال: والله لأضربنك وإن ضربت، ولأشتمنّك وإن شتمت، وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ

«2» ولتعلمنّ أيّنا الضارب وأيّنا المضروب.

وقلت: يا أبا بكر مهلا، فإنّك بين ثلاثة فصول لم تتخطّها من عمرك، وثلاث أحوال لم تتعدّها «3» في أمرك؛ وأنت في جميع الثلاثة ظالم في وعيدك، متعدّ في تهديدك؛ لأنك كهل وأنت شاعر، وكنت شابا وأنت مقامر، وكنت صبيا وأنت مؤاجر؛ فنطاق القدرة في الثلاثة الفصول ضيق عن هذا الوعيد؛ لكنّا نصفعك الآن، وتضربنا فيما بعد، فقد قيل: اليوم قصف، وغدا خسف؛ وقيل:

اليوم خمر، وغدا أمر «4» ؛ فقال أبو بكر: والله لو أنّك دخلت الجنة، واتخذت السندس والإستبرق جنّة، لصفعت؛ فقلت: والله لو أن قفاك غدا في درج في

ص: 96

خرج في برج، لأخذك من النعال ما قدم وما حدث، وشملك من الصّفع ما طاب وخبث؛ وأنشدت قول ابن الرّومي «1» :[المجتث]

إن كان شيخا سفيها

يفوق كلّ سفيه

فقد أصاب شبيها

له وفوق الشّبيه

ثم لما أبت نفس العقل، وزال سكر الغيظ، تمثّلت بقول القائل «2» :[الطويل]

وأنزلني طول النّوى دار غربة

إذا شئت لاقيت امرأ لا أشاكله

أجامعه حتّى يقال سجيّة

ولو كان ذا عقل لكنت أعاقله

ودفع القوال فبدأ بأبيات، ولحّن بأصوات، وجعل النّعاس يثني الرءوس، ويمنع الجلوس؛ فقمنا عن اللّيل وهو يجرّ بعاع الذّقن، إلى ما وطّئ من مضجع، ومهّد من مهجع؛ ولم يكن النوم ملأ الجفون، ولا شغل العيون، حتى أقبل وفد الصّباح، وحيعل المؤذّن بالفلاح، وندب بالنّهوض إلى المفروض، وأجبنا؛ فلمّا قضينا الفرض، فارقنا الأرض، فآوى إلى مثواه، وأويت إلى الحجرة، وظني أنّ هذا الفاضل يأكل يده ندما، ويبكي على ما جرى دمعا ودما؛ فإنّه إذا سمع بحديث همذان، قال: الهاء همّ، والميم موت، والذّال ذل، والألف آفة، والنّون ندامة؛ وإنّه إذا نام هاله منّا طيف، وإذا انتبه راعه منّا سيف؛ وأخذ النّاس يترامزون بما جرى ويتغامزون، وراب هذا الفاضل غمزاتهم، مثلما راب المريض تغامز العوّاد؛ فجعل يحلف للنّاس بالعتق، وتحرير الرّقّ، والمكتوب في الرّقّ، أنه أخذ قصب السبق، وأنه ينطق عن الحقّ؛ والناس أكياس، لا يقنعهم عن المدّعي يمين دون شاهدين

ص: 97

وسعوا بيننا بالصّلح، يحكمون قواعده ومعاقده، وعرفنا له فضل السّنّ، فقصدناه معتذرين إليه، فأومى إيماءة مهيضة، واهتزّ اهتزازة مغيضة، وأشار إشارة مريضة، بكفّ سحبها على الهواء، ويد بسطها في الجو بسطا؛ وعلمنا أن للمقمور أن يستخفّ ويستهين، وللقامر أن يحتمل ويلين؛ فقلنا: إنّ بعد الكدر صفوا، كما إنّ عقب المطر صحوا، فهل لك في خلق في العشرة نستأنفها، وطرق في الخلطة نسلكها؛ فإنّ ثمرة الخلاف ما قد بلوتها؟ فقال: ظهر الوفاق أوطأ كما ذكرت، والجميل أجمل كما علمت، وسنشترك في هذا العنان؛ وعرض علينا الإقامة عنده سحابة ذلك اليوم، فاعتللنا بالصّوم، فلم يقبل العذر، وألحّ؛ فقلت:

أنت وذاك؛ فطعمنا عنده، وأخذنا ديدان مرده «1» ، وخرجنا والنّية على الجميل موفورة، وتبعة الودّ معمورة، وصرنا لا نتعلل إلا بمدحه، ولا نتنقل إلا بذكره، ولا نعتدّ إلا بودّه، لا بل ملأنا البلد شكرا، والأسماع نشرا، وبتنا نحن من الحال في أعذبها شرعة، ومن الثقة في أطيبها جرعة، ومن الظّنون في أفلجها قرعة، ومن المودة في أعمرها بقعة، وأوسعها رقعة؛ حتى طرأ علينا رسولان متحمّلان لمقالته، مؤديان لرسالته، ذاكران بأنّ أبا بكر يقول: قد تواترت الأخبار، وتظاهرت الآثار في أنك قهرت وأني قهرت، ولا شك أنّ ذاك التّواتر عنك صدرت أوائله، والخبر إذا تواتر به النّقل، قبله العقل؛ ولابدّ أن نجتمع في مجلس بعض الرؤساء، فنتناظر بمشهد الخاصة والعامة، فإنك متى لم تفعل ذلك لم آمن عليك تلامذتي، أو تقرّ بعجزك وقصورك عن بلوغ أمدي ومنال يدي؛ فعجبت كل العجب مما سمعت، وأجبت فقلت: أما قولك: قد تواتر الخبر بأنك قهرت، وأنّ ذلك عن جهتي صدر، ومن لساني سمع؛ فبالله ما أتمدح بقهرك، ولا أتبجج بقسرك؛ وإنّ لنفسك عندنا لشأنا إن ظننتني أقف هذا الموقف، أنا إن شاء الله أبعد من ذلك

ص: 98

مرتقى همّة ومصعد نفس، أسأل الله سترا يمتدّ، ووجها لا يسودّ؛ فأما التّواتر من الناس، والتّظاهر على أني قهرتك، فلو قدرت على الناس لخطت أفواههم، ولقبضت شفاههم، فما الحيلة؟ وهل إلى ذلك سبيل فأتوسل، أم ذريعة فأتوصل؟ ثم هذا التواتر ثمرة ذلك التناظر، مع ذلك التساتر، فإن كان ساءك فأحرى أن يسوءك عند مجتمع الناس ومحتفل أولي الفضل، ولأن يترك الأمر مختلفا فيه خير لك من أن يتفق عليه، فإن أحببت أن تطير هذا الواقع، وتهيج هذا الساكن، فرأيك موفقا؛ فأما هذا الوعيد فقد عرضته على جوانحي وجوارحي كلّها، فلم تنشدار لا قول القائل:[الوافر]

وعيد تخدج الآرام منه

وتكره نبّه الغنم الذّئاب

فكم يتكوكب تلامذتك ويتعسكرون، ويتفحش أصحابك ويتباجعفرون «1» ، ولست أراك إلا بين ميمين «2» ، أحدهما «3» : يروح إلى أنثى ويغدو إلى طفل؛ والآخر: يجيب دعوة المضطر إذا دعاه بمسلّفات؛ فإن كان الله قد قضى أن أقتل بأخسّ سلاح، فلا مفر من القدر المتاح؛ رزقنا الله عقلا به نعيش، ونعوذ بالله من رأي بنا يطيش؛ وقلنا من بعد: إنّ رسالتك هذه وردت موردا لم نحتسبه، ووصلت موقفا لم نرتقبه، فلذلك خرج الجواب عن البصل ثوما وعن البخل لوما.

فلما ورد الجواب عليه، وسع من الغيظ فوق ملئه، وحمل من الحقد فوق عبئه، وقال: قد بلغ السيل الزّبى، وعلت الوهاد الرّبى في أمرك، وسترى يومك، وتعرف قومك.

ثمّ مضت على ذلك أيام ونحن مضطرّون لفاضل ينشط لهذا الفصل، وينظر

ص: 99

بيننا بالعدل؛ فاتفقت الآراء على أن يعقد هذا المجلس في دار الشيخ السيد أبي القاسم الوزير، واستدعيت فسرحت الطرف من ذلك السيد في عالم أفرغ في عالم، وملك في درع ملك، ورجل نظم إلى التنبّل تبذّلا، وإلى التّرفّع تواضعا، ونطق فودّت الأعضاء لو أنها أسماع مصغية، واستمع فتمنت الجوارح لو أنها ألسنة ناطقة؛ فقلت: الحمد لله الذي عقد هذا المجلس في دار من يفرّق، بين من يحقّ وبين من يزرّق، وكنت أول من حضر وانتظر مليا حضور من ينظر وقدوم من يناظر؛ وطلع الإمام أبو الطيب، وأخذ من المجلس موضعه؛ والإمام بنفسه أمة، ووحده عالم؛ ثم حضر السيد أبو الحسين أدام الله عزه، وهو ابن الرّسالة والإمامة، وعامر أرض الوحي، والمحتبي بفناء النبوة، والضارب في الأدب بعرقه، وفي النطق بحذقه، وفي الإنصاف بحسن خلقه؛ فجشم إلى المجلس قدم سبقه، وجعل يضرب عن هذا الفاضل بسيفين، لأمر كان قد موّه عليه، وحديث كان شبّه لديه؛ وفطنت لذلك، فقلت: أيّها السيد، أنا [إذا] سار غيري في التشيّع برجلين، طرت بجناحين، وإذا متّ سواي في موالاة أهل البيت بلمحة دالة، توسلت بغرة لائحة، فإن كنت أبلغت غير الواجب، فلا يحملنّك على ترك الواجب؛ ثم إنّ لي في آل الرسول صلى الله عليه وسلم قصائد قد نظمت حاشيتي البرّ والبحر، وركبت الأفواه، ووردت المياه، وسارت في البلاد ولم تسر بزاد، وطارت في الآفاق ولم تطر على ساق؛ ولكنّي لا أتسوّق بها لديكم، ولا أتنفق بها عليكم، وللآخرة قلتها لا للحاضرة، وللدّين ادّخرتها لا للدّنيا، وللمعاد نظمتها لا للمعاش؛ فقال: أنشدني منها؛ فقلت «1» : [مجزوء الكامل]

يالمة ضرب الزّما

ن على معرّسها خيامه

لله درّك من خزا

مى روضة عادت ثغامه

ص: 100

لرزيّة قامت بها

للدّين أشراط القيامه

لمضرّج بدم النّبو

وة ضارب بيد الإمامه

متقسّم بظبى السّيو

ف مجرّع منها حمامه

«1»

منع الورود وماؤّه

منه على طرف الثّمامه

نصب ابن هند رأسه

فوق الورى نصب العلامه

ومقبّل كان النّبي

ي بلثمه يشفي غرامه

قرع ابن هند بالقضي

ب عذابه فرط استضامه

وشدا بنغمته علي

هـ وصبّ بالفضلات جامه

والدّين أبلج ساطع

والعدل ذو خال وشامه

يا ويح من ولّى الكتا

ب قفاه والدّنيا أمامه

ليضرّسنّ يد النّدا

مة حيث لا تغني النّدامه

وليدركنّ على الغرا

مة سوء عاقبة الغرامه

وحمى أباح بنو أمي

ية عن طوائلهم حرامه

حتى اشتفوا من يوم بد

ر واستبدّوا بالزّعامه

لعنوا أمير المؤمني

ن بمثل إعلان الإقامه

لم لم تخرّي يا سما

ء ولم تصبّي يا غمامه

لم لم تزولي يا جبا

ل ولم تشو لي يا نعامه

يا لعنة صارت على

أعناقهم طوق الحمامه

إنّ الإمامة لم تكن

للئيم ما تحت العمامه

من سبط هند وابنها

دون البتول ولا كرامه

يا عين جودي للبقي

ع فدرّعي بدم رغامه

جودي بمذخور الدّمو

ع وأرسلي بددا نظامه

ص: 101

جودي لمشهد كربلا

ء فوفّري منّي ذمامه

جودي بمكنون الجما

ن أجد بما جاد ابن مامه

فلما أنشدت ما أنشدت، وسردت ما سردت، وكشفت له الحال فيما اعتقدت، انحلّت تلك العقدة، وصار سلما، يوسعنا حلما.

وحضر بعد ذلك الشيخ أبو عمر البسطاميّ، وناهيك من حاكم يفصل، وناظر يعدل، يسمع فيفهم، ويقول فيعلم. ثم حضر بعد ذلك القاضي أبو نصر، والأدب أدنى فضائله، وأيسر فواضله، والعدل شيمة من شيمه، والصدق مقتضى هممه.

وحضر بعده الشيخ أبو سعيد محمد بن أرمك أيده الله، وهو الرجل الذي تحميه لألاؤه أو لوذعّيته، من أن يدال بمن؟ أو ممن الرجل؟؛ وهو الفاضل الذي يحطب في حبل الكتابة ما شاء، ويركض في حلبة العلم ما أراد.

وحضر بعده أبو القاسم بن حبيب، وله في الأدب عينه وفراره، وفي العلم شعلته وناره.

وحضر بعده الفقيه أبو الهيثم، ورائد الفضل يقدمه، وقائد العقل يخدمه.

وحضر بعده الشيخ أبو نصر بن المرزبان، والفضل منه بدأ وإليه يعود.

وحضر بعده [أصحاب] الشيخ أبي الطّيّب رحمه الله؛ وما منهم إلّا أغرّ نجيب.

وحضر بعدهم أصحاب الشيخ الفاضل أبي الحسن الماسرجسيّ؛ وكلّ [إذا] عدّ الرّجال مقدّم. وحضر بعدهم أصحاب أبي عمر البسطاميّ؛ وهم في الفضل كأسنان المشط، ومنه بأعلى مناط العقد.

وحضر بعدهم الشيخ أبو سعد الهمذانيّ، وله في الفضل قدحه المعلّى، وفي الأدب حظّه الأعلى.

وحضر بعد الجماعة أصحاب الأسبلة [المرسلة] ، والأسوكة المرسلة، رجال

ص: 102

يلعن بعضهم بعضا، فصاروا إلى قلب المجلس وصدره، حتّى ردّ كيدهم في نحرهم، وأقيموا بالنّعال إلى صفّ النّعال؛ فقلت لمن حضر: من هؤلاء؟ فقالوا:

أصحاب الخوارزميّ.

فلمّا أخذ المجلس زخرفه ممّن حضر، وانتظر أبو بكر فتأخّر، اقترحوا عليّ قواف أثبتوها، واقتراحات كانوا بيّتوها «1» :[الهزج]

فما ظنّك بالحلفا

ء أدنيت لها النّارا

من لفظ إلى المعنى نسقته، وبيت إلى القافية سقته، على ريق لم أبلعه، ونفس لم أقطعه؛ وصار الحاضرون بين إعجاب بما أوردت، وتعجّب مما أنشدت، وقال أحدهم، بل واحدهم، وهو الإمام أبو الطيب: لن نؤمن لك حتى نقترح القوافي، ونعيّن المعاني، وننصّ على بحر؛ فإن قلت حينئذ على الرّويّ الذي أسومه، وذكرت المعنى الذي أرومه، وأنت حيّ القلب كما عهدناك، منشرح الصّدر كما شاهدناك، شجاع الطّبع كما وجدناك؛ شهدنا أنّك قد أحسنت، وأن لا فتى إلّا أنت.

فما خرجت من عهدة هذا التكليف حتّى ارتفعت الأصوات بالهيللة من جانب، والحوقلة من آخر، وتعجّبوا إذ أرتهم الأيام ما لم ترهم الأحلام، وجادلهم العيان بما بخل به السماع، وأنجزهم الفهم ما أخلفهم الوهم؛ ثم التفتّ فوجدت الأعناق تلتفت، وما شعرت إلا بهذا الفاضل وقد طلع في شملته، وهبّ بجملته، بأوداج ما يسعها الزرّان، وعينين في رأسه تزرّان، ومشى إلى فوق رقاب النّاس، وجعل يدسّ نفسه بين الصّدور يريد الصّدر، وقد أخذ المجلس أهله؛ فقلت: يا أبا بكر، تزحزح عن الصّدر قليلا إلى مقابلة أخيك؛ فقال: لست بربّ الدار، فتأمر على الزّوار؛ فقلت: يا عافاك الله، حضرت لتناظرني، والمناظرة

ص: 103

اشتقّت إما من النّظر، وإما من النّظير؛ فإن كان اشتقاقها من النظر، فمن حسن النظر أن يكون مقعدنا واحدا، حتى يتبين الفاضل من المفضول، ثم يتطاول السّابق ويتقاصر المسبوق؛ وإن كان من النظير، فأنا نظيرك وأنت نظيري، فلم تتصدر أنت وأنا أجلس بين يديك؟ فقضت الجماعة بما قضيت، وعضّ هذا الفاضل من تلك الحكمة، وانحطّ عن تلك العظمة، وقابلني بوجهه؛ فقلت:

أراك- أيّها الفاضل- حريصا على اللقاء، سريعا إلى الهيجاء، ولو زبنتك الحرب لم تزمزم؛ ففي أيّ علم تريد أن تناظر؟ فأومأ إلى النحو، فقلت: يا هذا، إنّ النّهار قد متع والوقت، قد ارتفع، والظّهر قد أزف؛ وإن قرعنا باب النحو، أضعنا اليوم فيه، فإذا خرج القوم، وعلا هتاف الناس: أيهما ردّ الجواب؟ هناك ما يدري المجيب، فإن شئت أن أناظرك في النحو، فسلّم الآن لي ما كنت تدعيه من سرعة في البديهة، وجودة في الروية، وقدرة على الحفظ، ونفاذ في الترسّل، ثم أنا أجاريك في هذا؛ فقال: لا أسلّم ذلك، ولا أناظر في غير هذا.

وارتفعت المضاجّة، واستمرت الملاجّة، حتى أتلع الأستاذ الفاضل أبو عمر إليه، وقال: أيّها الأستاذ، أنت أديب خراسان، وشيخ هذه الدّيار، وبهذه الأبواب التي قد عدّها هذا الشّابّ كنّا نعتقد لك السبق والحذق؛ وتثاقلك عن مجاراته فيها مما يتّهم ويوهم؛ واضطره إلى منازلة فيها أو نزول عنها، ومقارة فيها أو فرار بها؛ فقال: قد سلمّت الحفظ؛ فأنشدت قول القائل «1» : [الطويل]

ومستلئم كشّفت بالرّمح ذيله

أقمت بعضب ذي سفاسق ميله

فجعت به في ملتقى الحيّ خيله

تركت عتاق الطّير تحجل حوله

ص: 104

وقلت: يا أبا بكر خفف الله عنك، كما خففت عنّا في الحفظ؛ فقد كفيتنا مؤونة الامتحان، ولم تضغ وقتنا من الزّمان، فلو تفضّلت وسلّمت البديهة أيضا مع الترسّل حتى نفرغ للنّحو الذي أنت فيه أكبر، واللغة التي أنت بها أعرف، والعروض الذي أنت عليه أجرأ، والأمثال التي لك فيها السّبق والقدم، والأشعار التي أنت فيها مقدم؛ فقال: ما كنت لأسلم الترسل، ولا سلمت الحفظ؛ فقلت: الراجع في شيئه، كالراجع في قيئه؛ لكنّا نقيلك عن ذلك سماحا؛ فهات أنشدنا خمسين بيتا من قبلك مرتين، حتى أنشدك عشرين بيتا من قبلي خمسين مرة؛ فعلم أن دون ذلك خرط القتاد، تهاب شوكته اليد؛ فسلمّه ثانيا كما سلمه باديا، وصرنا إلى البديهة، فقال أحد الحاضرين: هاتوا على شعر أبي الشيص في قوله «1» : [الكامل]

أبقى الزّمان به ندوب عضاض

ورمى سواد قرونه ببياض

فأخذ أبو بكر يخضد ويحصد، مقدرا أنا نغفل عن أنفاسه، أو نوليه جانب وسواسه؛ ولم يعلم أنا نحفظ عليه الكلم، ثم نواقفه عليها؛ فقال «2» :[الكامل]

يا قاضيا ما مثله من قاض

أنا بالذي تقضي علينا راض

فلقد لبست ضفيّة ملمومة

من نسج ذاك البارق الفضفاض

لا تغضبنّ إذا نظمت تنفّسا

إن الغضى في مثل ذاك تغاض

فلقد بليت بشاعر متقادر

لا بل بليت بناب ذيب غاض

ولقد قرضت الشعر فاسمع واستمع

لنشيد شعري طائعا وقراضي

فلأغلبن بديهه ببديهتي

ولأرمين سواده ببياضي

فقلت: يا أبا بكر ما معنى «ضفية مملومة» وما الذي أردت بالبارق الفضفاض؟ فأنكر أن يكون قاله قافية؛ فواقفه على ذلك أهل المجلس، فقالوا: قد

ص: 105

قلت: ثم قلت: ما معنى قولك: «ذيب غاض؟» فقال: هو الذي يأكل الغضا؛ فقلت: استنوق الجمل «1» ، يا أبا بكر، فانقلبت القوس ركوة، وصار الذئب جملا يأكل الغضا؟ فما معنى قولك:«إنّ الغضى في مثل ذاك تغاض» فإنّ الغضى لا أعرفه بمعنى الإغضاء؟ فقال: لم أقل الغضى فقلت: فما قلت؟ فأنكر البيت جملة؛ فقلت: يا ويحك، ما أغناك عن بيت تهرب منه وهو يتبعك، وتتبرأ منه وهو يلحق بك؛ فقل لي: ما معنى «قراض» فلم أسمعه مصدرا من قرضت الشعر، ولكن هلّا قلت كما قلت، وسقت الحشو إلى القافية كما سقته؟ فقال: هذه طريقة لم يسلكها العرب، فلا أسلكها.

ثم دخل الرّئيس أبو جعفر، والقاضي أبو بكر الحربي، والشيخ أبو زكريا الحيريّ، وطبقة من الأفاضل، مع عدة من الأرذال، منهم أبو رشيد؛ فقلت: ما أحوج هذه الجماعة إلى واحد يصرف عنهم عين الكمال.

وأخذ الرئيس مكانه من الصّدر والدست، وله في الفضل قدم وقدم، وفي الأدب همّ وهمم، وفي العلم قديم وحديث؛ فتمّ المجلس، وظهر الحقّ بنظره، وقال: قد ادّعيت عليه أبيات أنكرها، فدعوني من البديهة على النّفس، واكتبوا ما يقولون، وقولوا على هذا الرّويّ:[الكامل]

برز الربيع [لنا] برونق مائه

فانظر لروعة أرضه وسمائه

فالتّرب بين ممسّك ومعنبر

من نوره بل مائه وروائه

فقلت «2» : [الكامل]

والماء بين مصندل ومكفّر

في حسن كدرته ولون صفائه

ص: 106

والطير مثل المحصنات صوادح

مثل المغنّي شاديا بغنائه

والورد ليس بممسك رياه بل

يهدي لنا نفحاته من مائه

زمن الرّبيع جلبت أزكى متجر

وجلوت للرائين خير جلائه

فكأنّه هذا الرئيس إذا بدا

في خلقه وصفائه وعطائه

بحمى أغرّ محجب، وندى أغر

رمحجّل، في خلقه ووفائه

يعشو إليه المجتلي والمجتدي

والمجتوي هو هارب بذمائه

ما البحر في تزخاره، والغيث في

أمطاره، والجوّ في أنوائه

بأجلّ منه مواهبا ورغائبا

لا زال هذا المجد خلف فنائه

والسّادة الباقون سادة عصرهم

متمدّحون بمدحه وثنائه

فقال أبو بكر تسعة أبيات، قد غابت عن حفظنا، لكنّه جمع فيها بين إقواء وإكفاء وأخطاء وإيطاء؛ ورددنا عليه بعد ذلك عشرين ردا، ونقدنا عليه فيها كذا نقدا؛ ثم قلت لمن حضر من وزير ورئيس وفقيه وأديب: أرأيتم لو أن رجلا حلف بالطلاق الثّلاث لا أنشد شعرا قطّ، ثم أنشد هذه الأبيات فقط، هل كنتم تطلقون امرأته عليه؟ فقالت الجماعة: لا يقع بهذا طلاق؛ ثم قلت: انقد عليّ فيما نظمت، واحكم عليه كما حكمت؛ فأخذ الأبيات وقال: لا يقال: نظرت لكذا، وإنّما يقال: نظرت إليه؛ فكفتني الجماعة إجابته؛ ثم قال: لم شبّهت الطير بالمحصنات؟ وأيّ شبه بينهما؟ فقلت: يا رقيع، إذا جاء الربيع كانت شوادي الأطيار تحت ورق الأشجار، فيكن كالمخدرات تحت الأستار؛ ثم قال: لم قلت: مثل المحصنات، مثل المغني؟ فقلت: هنّ في الخدر كالمحصنات، وكالمغني في ترجيع الأصوات؛ ثم قال: لم قلت: زمن الربيع جلبت أزكى متجر؟ وهلّا قلت: أربح متجر؟ فقلت: ليس الربيع بتاجر يجلب البضائع المربحة؛ ثم قال: ما معنى قولك: الغيث في أمطاره؟ والغيث هو المطر نفسه، فكيف يكون له مطر؟

ص: 107

فقلت: لا سقى الغيث الله أديبا لا يعرف الغيث؛ وقلت له: إنّ الغيث هو المطر، وهو السحاب، كما أنّ السماء هو المطر وهو السحاب؛ وقالت الجماعة: قد علمنا أيّ الرجلين أشعر، وأيّ الخصمين أقدر، وأيّ البديهتين أسرع، وأيّ الرويّتين أصنع؛ فقال أبو بكر: فاسقوني على الظّفر؛ فقالوا: كفاك ما سقاك.

ثم ملنا إلى الترسل، وقلت: اقترح عليّ غاية ما في طوقك، ونهاية ما في وسعك، وآخر ما تبلغه بذرعك، حتّى أقترح عليك أربعمائة صنف من الترسّل؛ فإن سرت فيها برجلين، ولم أطر بجناحين، بل إن أحسنت القيام بواحد من هذه الأصناف، ولم تخلف كل الإخلاف، فلك يد السبق وقصبته؛ ومثال ذلك أن أقول لك: اكتب كتابا نقرأ منه جوابه، هل يمكنك أن تكتب؟

أو أقول لك: اكتب كتابا على المعنى الذي أقترح لك، وانظم شعرا في المعنى الذي أفترع، وافرغ منهما فراغا واحدا؛ هل كنت تمدّ لهذا ساعدا؟

أو أقول لك: اكتب كتابا في المعنى الذي أقوله وأنصّ عليه، وأنشد من القصائد ما أريده من غير تثاقل ولا تغافل، حتّى إذا كتبت ذلك قرئ من آخره إلى أوله، وانتظمت معانيه إذا قرئ من أسفله، هل كنت تفوّق لهذا الغرض سهما، أو تجيل قدحا، أو تصيب نجحا؟

أو قلت لك: اكتب كتابا في المعنى الذي أقترح، لا يوجد فيه حرف منفصل من واو تتقدّم الكلمة، أو دال تنفصل عن الكلمة، بديهة ولا تجمّ فيه قلمك، هل كنت تفعل؟ أو قلت لك:

اكتب كتابا خاليا من الألف واللّام، لا تصبّ معانيه على قالب ألفاظه، ولا تخرجه عن جهة أغراضه، هل كنت تقف من ذلك موقفا ممدوحا، أو يبعثك ربّك مقاما محمودا؟

ص: 108

أو قلت لك: اكتب كتابا يخلو من الحروف العواطل، هل كنت تحظى منه بطائل؟ أو كنت تبلّ لهاتك بناطل؟

أو قلت لك: اكتب كتابا أوائل صدوره كلّها ميم، وآخره جيم، على المعنى الذي يقترح، هل كنت تغلو في قوسه غلوة، أو تخطو في أرضه خطوة؟

أو قلت لك: اكتب كتابا إذا قرئ معرّجا، وسرد معوّجا، كان شعرا، هل كنت تقطع في ذلك شعرا؟

بلى والله، تصيب، ولكن من بدنك، وتقطع ولكن من ذقنك. وأقول لك:

اكتب كتابا إذا فسّر على وجه كان مدحا، وإذا فسّر على وجه آخر كان قدحا، هل كنت تخرج من هذه العهدة؟

أو قلت لك: اكتب كتابا إذا كتبته تكون قد حفظته من دون أن لحظته، هل كنت تثق من نفسك به إلى مالا أطاولك بعده؟ بل است البائن أعلم.

فقال أبو بكر: هذه الأبواب شعبذة. فقلت: وهذا القول طرمذة؛ فما الذي تحسن أنت من الكتابة وفنونها، حتّى أباحثك على مكنونها، وأكاثرك بمخزونها، وأشبر فيها قلمك، وأسبر فيها لسانك وفمك؟ فقال: الكتابة التي يتعاطاها أهل زماننا هذا المتعارفة بين النّاس؛ فقلت: أليس لا تحسن من الكتابة إلّا هذه الطريقة الساذجة، وهذا النوع الواحد المتداول بكلّ قلم، والمتناول بكل يد وفم، ولا تحسن هذه الشّعبذة؟ فقال: نعم، فقلت: هات الآن حتى أطاولك بهذا الحبل، وأناضلك بهذا النبل، ثم تقاس ألفاظي بألفاظك، ويعارض إنشائي بإنشائك.

واقترح كتاب يكتب في النّقود وفسادها، والتجارات ووقوفها، والبضاعات وانقطاعها، والأسعار وغلائها؛ فكتب أبو بكر: الدرهم والدينار ثمن الدّنيا

ص: 109

والآخرة، بهما يتوصّل إلى جنّات النعيم، ويخلد في نار الجحيم؛ قال الله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها

«1» الآية، وقد بلغنا من فساد النّقود ما أكبرناه أشدّ الإكبار، وأنكرناه أعظم الإنكار، لما نراه من الصّلاح للعباد، وننويه من الخير للبلاد، وتعرّفنا في ذلك بما يربح النّاس في الزرع والضّرع، يقدّم من إليه «2» أمر النفع والضّرّ؛ إلى كلمات لم تعلق بحفظنا؛ فقلت: إنّ الإكبار والإنكار، والعباد والبلاد، وجنّات النّعيم ونار الجحيم، والزرع والضّرع، أسجاع قد نبتت في المعد، ولم تزل في اليد، وقد كتبت وكتبت، ولا أطالبك بما أنشأت، فاقرأ ولك اليد؛ وناولته الرّقعة فبقي وبقيت الجماعة، وبهت وبهتت الكافّة، وقالوا لي: اقرأ؛ فجعلت أقرؤه منكوسا، وأسرده معكوسا، والعيون تبرق وتحار؛ وكان نسخة ما أنشأناه:

الله شاء إن، المحاضر صدور بها وتملأ المنابر ظهور لها وتفرع، الدّفاتر وجوه بها وتمشق، المحابر بطون لها ترشق، آثارا كانت، فيه آمالنا مقتضى على، أياديه في تأييده الله أدام، الأمير جرى وإذا، المسلمين ظهور عن الثّقل هذا ويرفع، الدين أهل عن الكلّ هذا يحط أن فيه إليه نتضرع ونحن، واقفة والتجارات، زائفة والنقود، صيارفة أجمع الناس صار فقد، كريما نظرا لينظر، شيمه مصاب فانتجعنا، كرمه بارقة وشمنا، هممه على آمالنا أرقاب وعلّقنا، أحوالنا وجوه له وكشفنا، آمالنا وفود إليه بعثنا فقد نظره بجميل يتداركنا أن، نعماه تأييده وأدام، بقاه الله أطال، الجليل الأمير رأى إن، وصلّى الله على محمد وآله الأخيار.

فلما فرغت من قراءتها انقطع ظهر أحد الخصمين، وقال الناس: قد فرغنا التّرسل أيضا، فملنا إلى اللغة، فقلت: يا أبا بكر، هذه اللغة التي هددتنا بها،

ص: 110

وحدّثتنا عنها، وهذي كتبها، وتلك مؤلفاتها، وهي مولّفة فخذ «غريب المصنف» إن شئت، و «إصلاح المنطق» إن أردت، و «ألفاظ ابن السّكيت» إن نشطت، و «مجمل اللّغة» إن اشتهيت وهو ألف ورقة، و «أدب الكتاب» إن اخترت، واقترح عليّ أيّ باب شئت من هذه الكتب حتّى أجعله لك نقدا، وأسرده عليك سردا؛ فقال: اقرأ من «غريب المصنّف» : رجل ماس خفيف، على مثال مال، وما أمساه. فدفعت في الباب حتّى قرأته، فلم أتردد فيه، وأتيت على الباب الذي يليه، ثم قلت: اقترح غيره؛ فقال: كفى ذلك؛ فقلت له: اقرأ الآن باب المصادر من «اختيار فصيح الكلام» لا أطالبك بسواه، وأسألك عمّا عداه؛ فوقف حماره، وخمدت ناره؛ وقال الناس: اللّغة مسلّمة إليك أيضا، فهاتوا غيره.

فقلت: يا أبا بكر، هات العروض، فهو أحد أبواب الأدب، وسردت منه خمسة أبحر بألقابها وأبياتها وعللها وزحافها، فقلت: هات الآن فاسرده كما سردته.

فلمّا برد، ضجر النّاس، وقاموا عن المجلس يفدّونني بالآباء والأمهات «1» ويشيّعونه باللعن والسّبّ، وقام أبو بكر فغشي عليه، وقمت إليه، فقلت «2» :[الوافر]

يعزّ عليّ يا للنّاس أنّي

قتلت مناسبي جلدا وقهرا

ولكن رمت شيئا لم يرمه

سواك فلم أطق يا ليث صبرا

وقبلت عينه، ومسحت وجهه، وقلت: اشهدوا أنّ الغلبة له، فهلّا- يا أبا بكر- جئتنا من «3» باب الخلطة، وفي باب العشرة؟!

وتفرق الناس، وحبسنا للطعام مع أفاضل ذلك المقام؛ فلما عكفنا على

ص: 111

الخوان، كرعت في الجفان، وأسرعت إلى الرّغفان، وأمعنت في الألوان؛ وجعل هذا الفاضل يتناول الطعام بأطراف الأظفار، فلا يأكل إلا قضما، ولا ينال إلا شما، وهو مع ذلك ينطق عن كبد حرّى، ويغيض عن نفس ملآى؛ فقلت: يا أبا بكر، بقيت لك منّة وفيك مسكة:[البسيط]

يا قوم إني أرى الأموات قد نشروا

والأرض تلفظ موتاكم إذا قبروا

فأخبرني يا أبا بكر: لم غشي عليك؟ فقال: لحمّى الطّبع وحمّى الفرو؛ فقلت: أين أنت عن السجع؟ هلا قلت: حمّى الطبع، وحمّى الصّفع.

وقال السيد أبو القاسم: أيها الأستاذ، مع الحديث فاعزل، يعنيه «1» ، فقلت:

لا تظلموه، ولا تطعموه طعاما يصير في بطنه مغصا، وفي عينه رمصا، وفي جلده برصا، وفي حلقه غصصا؛ فقال أبو بكر: هذه أسجاع كنت حفظتها، فقل كما أقوله: يصير في عينك قذى، وفي حلقك أذى، وفي صدرك شجى؛ فقلت: يا أبا بكر، على الألف تريد؟ خذ الآن؛ بفيك البرى، وعلى هامتك الثّرى، ولا أطعمك الخرا إلّا من ورا، كما ترى؛ فقالوا: أيها الأستاذ، السّكوت أولى؛ ومالوا إليّ وقالوا: ملكت فأسجح؛ فأبى أبو بكر أن يبقي لنفسه حمة لم يفضها، أو يدخر عنّا كلمة لم يعرضها؛ فقال: والله لا تركتك من الميمات، فقلت: ما معنى الميمات؟ فقال: ما بين مهزوم ومهذوم ومهشوم ومغموم ومحموم ومرجوم؛ فقلت: وأتركك بين الميمات أيضا؛ بين الهيام والصّدام والجذام والحمام والزّكام والسّام والبرسام والهام والسّقام، وبين السّينات فقد علّمتنا طريقة؛ بين منحوس منخوس منكوس معكوس متعوس محسوس مغروس؛ وبين الخاءات، فقد فتحت علينا بابا؛ بين مطبوخ مشدوخ منسوخ ممسوخ مفسوخ؛ وبين

ص: 112

الباءات، فقد علّمتني الطّعن وكنت ناسيا؛ بين مغلوب مسلوب مرعوب مصلوب مكروب منكوب منهوب مغصوب؛ وإن شئنا كلناك بهذا الصاع، وطاولناك بهذا الذّراع.

ثم خرجت واحتجر، وقد كان اجتمع الناس، وغلت الكروش «1» ؛ فلما خرجت لم يلقوني إلّا بالشفاه تقبيلا، وبالأفواه تبجيلا؛ وانتظروا خروجه إلى أن غابت الشمس، ولم يخرج أبو بكر حتى خفره الليل بجنوده، وخلع الظّلام عليه فروته فهذا ما علّقناه عن المجلس وأدّيناه؛ والسيّد أطال الله بقاءه يقف عليه إن شاء الله، وله المنّة.

* وكتب إلى أبي العبّاس الفضل بن أحمد الإسفراييني: «2»

ما أظنّ- أطال الله بقاء الشيخ السيد- آل سامان إلّا مدّعين على الله مقاطعة، أرضه، ومساقاة ثمارها؛ يا هؤلاء، لا تكابروا الله في بلاده، ولا ترادوا الله عن مراده؛ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ

«3» وما أرى آل سيمجور إلّا معتقدين أنّهم يأخذون خراسان قهرا، لأنها كانت لأمهم مهرا؛ فلهم من حولها نحيط «4» ، وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ

«5» ، وبلغني أنّ صاحبهم أسر، فإن كان ما بلغني صحيحا، فمرحبا بالأسر، ولا لعا للعاثر؛ حتّام كفر الكافر، وغدر الغادر؛ وأبو الحسين بن كثير خذله الله، لا يكاد يرى الخير من ابن واحد، أفنرجوه من ابن كثير؟ وهو التّرياق المجرّب، لوشمه الملك المقرب،

ص: 113

لقذف من كلّ جانب دحورا؛ هذا المؤيّد من السماء بيمن تدبيره، نكس في بيره؛ وهذا سنان الدولة ببركة ضميره، وقع في تخسيره، ولا يزال هذا البائس حتى يسأل الله العافية في بدنه. وحديث ما حديث هذا الحمّال، كان إبليس يقسم كلّ صبيحة اللّحى ألفا، فصار يقسم ألوفا؛ سلطان أتاه الله واسطة البرّ، وحاشية البحر، وأمكنه من طاغية الهند، وسخر له ملوك الأرض يريد حمال مراغمته يا للرجال لنازل الحدثان؛ إنّي لأعجب من رأس يودع تلك الفضول فلا ينشقّ، ومن عنق يحمل ذلك الرأس فلا يندقّ، وما أجد لابن محمود مثلا إلّا ابن الريونديّ «1» ، إذ ذهب إلى ابن الأعرابيّ «2» يسأله عن قول الله تعالى: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ

«3» أتقول العرب: ذقت اللّباس؟ فقال: لا بأس ولا بأس؛ وإذا حيّا الله النّاس فلا حيّا ذلك الرّاس؛ هبك تتّهم محمدا بأن لم يكن نبيّا، أتتهمه بأن لم يكن فصيحا عربيّا، وجئت تسأل ابن الأعرابي؟ أليس الأعرابيّ نفسه جاء بهذا الكلام؟ كذلك ابن محمود ينفض استه، ويضرب مذرويه، لينال الملك، لا لوافر عدّة، ولا لكثرة عدة؛ إنما يطمع في الملك لأنه ابن محمود؛ أفليس محمود نفسه بالملك أحقّ؟ فالحمد لله الذي نصركم وأخزاهم، وثبتكم ونفاهم، وأركب آخرهم أولاهم «4» ، ولا رحم الله قتلاهم، ولا جبر جرحاهم، ولا فكّ أسراهم، ولا أراكم إلا قفاهم، وإن أقبلوا ففضّ الله فاهم:

ص: 114

ويرحم الله عبدا قال آمينا «1» .

* وله إليه أيضا في هزيمة السّامانية بباب مرو «2» : وردت رقعة الشيخ الجليل، أدام الله بسطته، منّي على صدر انتظرها، وقلب استشعرها؛ وإنّي لا أغلط في قوم أميرهم صبيّ، ولا في دولة عميدها خصيّ، وسنانها حلقيّ، ونصيرها شقيّ، وعدوّها قويّ، إني إذا لغويّ.

يا قوم، بماذا ينصرون؟ أبمال عليه اعتمادهم؟ أم بجمع هو مدادهم؟ أم لعدل به اعتضادهم؟ أم لرأي هو عمادهم؟ هل هم إلا شطور في فطور؟ إنّ الله تعالى علم أنّهم إن ملكوا لم يصلحوا، وأمرتهم أنا أن لا يفلحوا، فسمعوا وأطاعوا؛ طائفة من المدابير، وقوعهم بين النّار والنير، إن أقاموا فالسّيوف الهندوانيّة، وإن أيمنوا فالأتراك والخانيّة، وإن أيسروا فجرجان والجرجانيّة، وإن استأخروا فالعطش والبريّة؛ هو الموت إن شاء الله آخذا بالحلاقيم، محيطا بالظاعن منهم والمقيم؛ جرجان يا مدابير جرجان؛ إنّ بها شمة من التّين، وموتا في الحين، ونظرة إلى الثّمار، والأخرى إلى التابوت والحفّار؛ ونجّارا إذا رأى الخراسانيّ نجّر التّابوت على قدره، وأسلف الحفّار على لحده، وعطّارا يعدّ الحنوط [برسمه] ، وبها للغريب ثلاث فتحات للكيس؛ أوّلها لكراء البيوت، والثّانية لابتياع القوت، والثّالثة لثمن التّابوت؛ أغلى [الله] بهم أسواق النّجارين والحفّارين والمكّارين؛ آمين ربّ العالمين.

ص: 115

* وله أيضا إليه في فتح بهاطية «1» : إنّ الله وهو العليّ العظيم، المعطي من شاء ما شاء، منّ على الإنسان بهذا اللسان؛ خلق ابن آدم وأودع فكّيه مضغة لحم، يصرفها في القرون الماضية، ويخبر بها عن الأمم الآتية؛ يخبر بها عمّا كان بعد ما خلق، وعمّا يكون قبل أن يخلق؛ ينطق بالتّواريخ عمّا وقع من خطب، وجرى من حرب، وكان من يابس ورطب؛ وينطق بالوحي عمّا سيكون من بعد، وصدق عن الله به الوعيد، ثم لم ينطق التّاريخ بما كان، ولا الوحي بما يكون، أنّ الله تعالى خصّ أحدا من عباده- ليس النّبيّين- بما خصّ به الأمير السّيّد يمين الدّولة وأمين الملّة، ودون الجاحد إن جحد أخبار الدّولة العباسية، والمدّة المروانية، والسّنين الحربية، والبيعة الهاشمية، والأيّام الأمويّة، والإمارة العدوية، والخلافة التيمية، وعهد الرسالة، وزمان الفترة؛ ولولا الإطالة لعدّدنا إلى عاد وثمود بطنا بطنا، وإلى نوح وآدم قرنا قرنا، ثم لم يجد قائل مقالا إلا أنّ ملكا وإن علا أمره، وعظم قدره، وكبر سلطانه، وهبّت ريحه، طرق الهند فأسر طاغيتها بسطة ملك، ثم خلّاه، وعرض الأرض قوة قلب، وصبّح سجستان، وهي المدينة العذراء، والخطّة العوراء، والطيّة العسراء، فأخذ ملكها أخذة عزّ وعنف، ثم خلاه تخلية فضل ولطف، ثم لم يلبث أن خاض في البحر إلى بهاطية؛ والسيل واللّيل جنودها، والشّوك والشجر سلاحها، والضّحّ «2» والريح طريقها، والبرّ والبحر حصارها، والجنّ والإنس أنصارها؛ فقتل رجالها، وغنم أموالها، وساق أقيالها، وكسر أصنامها، وهدم أعلامها، كلّ ذلك في

ص: 116

فسحة شتوة، قبل أن يتطرّقها الصيف توسطها السّيف؛ وهو الله ملك الملوك، يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء.

ثم حكمت علماء الأمة، واتفق قول الأئمة، أنّ سيوف الحق أربعة، وسائرها للنّار؛ سيف رسول الله للمشركين، وسيف أبي بكر في المرتدين، وسيف عليّ في الباغين، وسيف القصاص بين المسلمين؛ وسيوف الأمير- أيده الله في مواقفه- لا تخرج عن هذه الأقسام، فسيفه بظاهر هراة فيمن عطّل الحدّ، واتّهم بأنه ارتدّ، وسيفه بظاهر غزنة في وجه العقوق، نوعا من الكفر [والفسوق] ، وسيفه بظاهر مرو فيمن نقض بعد تغليظه، ونبذ اليمين بعد تأكيده، وسيفه بظاهر سجستان فيمن نبّه الحرب بعد رقودها، وخلع الطّاعة بعد قبولها، وسيفه الآن في ديار الهند سيف قرنت به الفتوح، وأثنت عليه الملائكة والرّوح، وذلّت به الأصنام، وعزّ به الإسلام، والنّبيّ عليه السلام، واختصّ بفضله الإمام، واشترك في خيره الأنام، وأرخت بذكره الأيّام، وأحفيت لشرحه الأقلام.

وسنذكر من حديث الهند وبلادها، وغلظ أكبادها، وشدة أحقادها، وقوّة اعتقادها، وصدق جلادها، وكثرة أجنادها، نبذا ليعلم السّامع أيّ غزوة غزاها الأمير السّيد أدام الله علوه؛ إنّها بلاد لو لم تحيها السّحاب بدرّها، لأهلكتها الشمس بحرّها؛ فهي دولة بين الماء والنّار، ونوبة بين الشمس والأمطار، تقدّمها صعاب الجبال، وتحجبها رحاب القفار، ويعصمها ملتفّ الغياض، ويحصّنها طواغي الأنهار، حتى إذا خرقت هذه الحجب، خلص إلى عدد الرّمل والحصا رجالا، وشبه الجبال أفيالا، وإيزاغ المخاض جلادا، وتشهاق الحمار طعانا، وأركان الجبال ثباتا؛ ثم لا يعرفون غدرا ولا بياتا، ولا يخافون موتا ولا حياة، ولا يبالون على أيّ جنبيه وقع الأمر، وينامون وتحتهم الجمر؛ وربّما عمد أحدهم لغير ضرورة داعية، ولا حميّة باعثة، فاتّخذ لرأسه [من الطين] إكليلا، ثم قور قحفه

ص: 117

فحشاه فتيلا، ثم أضرم في الفتيل نارا، ولم يتأوه، والنّار تحطمه عضوا عضوا، وتأكله جزءا جزءا؛ فأما محرق نفسه ومغرقها، وآكل لحمه ومفصّل عظمه، والرّامي بها من شاهق، فأكثر من أن يعد؛ وأقلهم من يموت حتف أنفه، فإذا مات هذه الميتة أحدهم «1» سبّ بها أعقابه، وعظم عندهم عقابه.

بلاد هذه حالها، وفيلة تلك أهوالها، وجبال في السّماء قلالها، وفلاة يلمع آلها، وغياض ضيق مجالها، وأنهار كثيرة أو حالها، وطريق طويل [مطالها] ، ثم الهند ورجالها، والهندوانيّة واستعمالها.

زحم الأمير- أدام الله سلطانه- بمنكبه هذه الأهوال محتسبا نفسه، معتمدا نصر الله وعونه، فركض إليهم بعون من الله لا يخذل، ومدد من التوفيق لا يفتر، وقلب عن الأهوال لا يجبن، وجدّ على المطلوب لا يقصر، وسيف عن الضّريبة لا ينكل؛ فسهّل الله له الصّعب، وكشف به الخطب، ورجع ثانيا من عنانه بالأسارى، تنظمهم الأغلال، والسّبايا تنقلهم الجمال، والفيلة كأنّها الجبال، والأموال ولا الرّمال.

فتح الله ذخره عن الملوك السالفة الخالية، الكفرة الطّاغية، الجبابرة العاتية، حتّى وسمه الله بناره، وجعله بعض آثاره؛ فالحمد لله معزّ الدين وأهله، ومذلّ الشّرك وحزبه.

* وله إليه أيضا «2» : رقعتي هذه- أطال الله بقاء الشيخ الجليل- من بعض الفلوات، ولو جهلت أن الحذق لا يزيد في الرزق، وأنّ الدّعة لا تحجب السّعة، لعذرت نفسي في الرّحل أشدّه، والحبل أمدّه؛ ولكنّي أعلم هذا وأعمل ضدّه، وأصل سراي

ص: 118