المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌20-[ومنهم] : ابن الأثير الحلبي، تاج الدين، أبو جعفر، أحمد بن سعيد - مسالك الأبصار في ممالك الأمصار - جـ ١٢

[ابن فضل الله العمري]

فهرس الكتاب

- ‌[الجزء الثانى عشر]

- ‌مقدمة التحقيق

- ‌1- وأما أبو إسحاق فهو الصابي

- ‌4- أبو الفرج، عبد الواحد بن نصر بن محمد، القرشيّ المخزومي، المعروف بالببغاء

- ‌5- ومنهم: بديع الزّمان الهمذاني

- ‌6- ومنهم: أبو نصر العتبيّ

- ‌8- ومنهم: أبو عليّ، الحسن بن عبد الصمد بن أبي الشّخباء العسقلاني

- ‌9- ومنهم: القاضي الفاضل: [السريع]

- ‌10- ومنهم: محمّد بن محمّد، عماد الدّين، أبو حامد القرشيّ، الأصبهانّي، الكاتب

- ‌11- ومنهم: نصر الله بن محمّد بن محمّد، ضياء الدّين، أبو الفتح، ابن الأثير الجزريّ، الكاتب

- ‌12- ومنهم: ابن زبادة، قوام الدين، أبو طالب، يحيى بن سعيد بن هبة الله ابن علي بن زبادة الشيباني

- ‌13- ومنهم: شهاب الدين النسائي، أبو المؤيد، محمد بن أحمد بن علي بن عثمان بن المؤيد الخرندزي

- ‌14- ومنهم: ابن أبي الحديد، عز الدين، عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن محمد الحسين بن أبي الحديد، المدائني، أبو حامد

- ‌15- موفق الدين، القاسم بن هبة الله، أبي المعالي

- ‌16- ومنهم: ابن بصاقة، فخر القضاة، أبو الفتح، نصر الله بن هبة الله بن عبد الباقي بن الحسين بن يحيي الغفاري، الكناني

- ‌18- ومنهم: ابن قرناص، محيي الدين

- ‌19- ومنهم: ابن العجمي، كمال الدين، أحمد بن عبد العزيز الحلبي، أبو العباس

- ‌20-[ومنهم] : ابن الأثير الحلبي، تاج الدين، أبو جعفر، أحمد بن سعيد

- ‌21-[ومنهم] : شهاب الدين، أبو محمد [يوسف] بن كمال الدين أبي العباس أحمد بن عبد العزيز بن العجمي

- ‌22- ومنهم: أحمد بن أبي الفتح محمود الشيباني كمال الدين، أبو العباس

- ‌23- ومنهم: محمد بن عبد الله، شرف الدين، أبو محمد بن فتح الدين أبي الفصل، ابن القيسراني، القرشي، المخزومي

- ‌24- ومنهم: محمود بن سلمان بن فهد، الحلبي، الكاتب، شيخنا العلامة، حجة الكتاب، فرد الزمان، شهاب الدين، أبو الثناء

- ‌25- ومنهم: عليّ بن محمد بن سلمان بن حمائل، الشيخ الإمام، جمال الدول، علاء الدين، أبو الحسن

- ‌27- ومنهم: عبد الله بن علي بن محمد بن سلمان، عرف بابن غانم، جمال الدين، أبو الفضل، المقدسي

- ‌28- ومنهم: زين الدين الصفدي، أو حفص، عمر بن داود بن هارون بن يوسف الحارثي

- ‌29- ومنهم: خليل بن أيبك الصفدي، أبو الصفا، صلاح الدين

- ‌فهرس المترجمين

- ‌فهرس المصادر المعتمدة في الحواشي [المخطوطة والمطبوعة]

الفصل: ‌20-[ومنهم] : ابن الأثير الحلبي، تاج الدين، أبو جعفر، أحمد بن سعيد

وفقئت أعين الحلق؛ وصبر أولياء الله، ولم يزالوا حتى ألحقوا النقابين بجدارها؛ وبوؤوهم المقاعد تحت أسوارها، وأضرموا نارا طاف بأهل السعير سعيرها، ونطقت عما أكنه ضميرها، فانحل من عقود بنيانها ما كان متسق النظام، ونبذ من شمل بروجها ما كان حسن الالتئام، وكانت لا تلوي جيدا صعرا، فألصق خدّها وهي راغمة بالرّغام.

‌20-[ومنهم] : ابن الأثير الحلبي، تاج الدين، أبو جعفر، أحمد بن سعيد

«1»

* رأس المعالي وتاجها، ولقاح المعاني ونتاجها، كان معدن الجلالة، وموطن الرقة والجزالة، ولم يزل بدر الفضائل وكمالها، وصدر المحافل وجمالها، ونفس المآثر وعنصرها، وخاتم المفاخر وخنصرها؛ صحب الأيام مسالما، وقاسم الليالي على النجوم الزهر مساهما، واكتنف البلاغة فقلدته تقليد العموم، وقدمته تقديم الإمام على المأموم، وخدم الدول فأولته إنعاما، وخولته مواهب طالما أخدمته للزمان عاما؛ وكان نداه موارد ملكها، ونهاه عطارد فلكها، فأرته وجوها وساما، وأرضته مصرا وشاما، فأهدى من فرائده ما «2» ابن العزيز، فاستخدم في ديوان الإنشاء واستكتب، واستعتب له الحظ لو يعتب، ثم نقل إلى الباب الظاهري، فكان هناك أحد المتخذين الأعيان، والمتحدين بسحر البيان، وولي في الأيام الأشرفية كتابة السر بالحضرة السلطانية، فلم يتم الشهر حتى مات، ودفن بغزة، فأغمدت المنايا منه عضبا، ووهبت منه إلى جانب البحر الملح بحرا عذبا،

ص: 351

وكان هلالا للشهر، وروضا يلقط من أفنائه الزهر.

* قال شيخنا أبو الثناء: كان يبطئ ولا يخطئ. وقال: كان اعتناؤه بالألفاظ أكثر من المعاني.

قلت: ويدل على هذا ما يرى، وقد وقفنا على كثير منه وأكثره متزن، لو تجسد لاختزن؛ كأنه في تساويه سجع الحمامة، أو وقع الغمامة.

وحكي «1» أنه لما أناخ هولاكو على شاطئ الفرات، وفرش خوفه الخدود لمواطئ العبرات، وقطعت من تلك الدولة الأواصر، وأصبحت ومالها قوة ولا ناصر، كان الناصر بن العزيز قد جهز ولده إلى أردو هولاكو بطرف بعثها، وكتاب حل في سطوره عقد السحر ونفثها، كتبه له هذا الكاتب المذكور، واستشهد فيه بالبيت المشهور «2» :[البسيط]

يجود بالنفس إن ضن البخيل بها

والجود بالنفس أقصى غاية الجود

فلما عرضه على الملك الناصر قال له: هذا كتاب لا يلام دونه القاصر، وكان الأنسب في هذا المكان لو استشهدت فيه بقول ابن حمدان «3» :[الطويل]

فدى نفسه بابن عليه كنفسه

وفي الشدة الصماء تفنى الذخائر

وقد يقطع العضو النفيس لغيره

ويدخر للأمر الكبير الكبائر

«4»

فأقر له بالصواب وعلى نفسه بالخطإ، وبدل الاستشهاد بما قال، ثم ما أنقذ ذلك الكتاب من عثرة ولا أقال.

ص: 352

* ومن نثره قوله:

كتابنا هذا والمرقب «1» في قبضة ملكنا، وربوعه قد عادت أطلالا، والأسياف التي كانت في أيدي أهلها قد جعلناها في أعناقهم أغلالا، وقد علم المجلس ما كانوا يحدثون به نفوسهم ويشبعون «2» به رؤوسهم؛ واستفزهم من يحسن لهم في الطمع أمورا، ويعدهم الأباطيل وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً

«3» وكان المانع أولا، ما كان من اضطراب الأمور، والتقاء الجيوش، واختلاف الآراء، وتغير النيات، إلى أن أمكن الله عز وجل من كل مناوئ منافر، وظفرنا من الأعداء بكل كافر، وكل من هو للنعمة كافر، ونحن مع ذلك نحيط بما يمكرونه علما، ونملي لهم ليزدادوا إثما، فلما تلمحنا مخايل النصر، سرنا إليها سرى الخيال الطارق، وأسرعنا نحوهم كما تسرع لمحة البارق، ولم نزل نوقد لهم البواتر، وندير عليهم الدوائر، ونشتت لآرائهم شملا، ونقطع من مكائدهم حبلا، ونفض لعزائمهم جمعا، وتكون جنودنا واقفة بإزائهم، فيخيل إليهم من خوفهم أنها تسعى، إلى أن أدركنا فيهم الثأر، وأطفأنا بهم النار، وضربنا عليهم الذلة، وجمعناهم جمع القلة، وأصبح ما كان يحميهم، يتحاماهم، وقلنا:

يا سيوف، دونك وإياهم؛ وكانت هذه القلعة مكانها في جوار النجم، وفناء اليم، يقدمها الجبال، ويعصمها البحر، وتحجبها الأودية، ويحصنها الوعر، وتحف بها سيوف لا تكلّ، وآمال لا تمل، وآجال يحفظونهم ولا يضيعونهم، وقوم يعصون الله ويطيعونهم؛ وسطرناها وبلادهم مهدومة، وجموعهم مهزومة، ويد الله فوق أيديهم، والخذلان من كل ناحية يناديهم.

ص: 353

ومنه قوله:

وبعد فإن الرتب شرفها بمتوليها ومتوقلها يزيد، والعقد ما امتاز على السلوك إلا بواسطة حسبها نظام كل فريد، والمملكة جمالها وزيرها، وقوامها مشيرها، وأمورها تكون ضياعا، وحزمها يكون مضاعا، مالم تؤازرها يد وازر شديد، ورأي سعيد، وقلم يقلم ظفر الملم ويقوم بعبء المهم، ويجري بالأرزاق ويدخرها، ويقتني الأموال العظيمة لمن يستصغرها؛ ولولاه لما افتخرت الدول، ولكانت مضطربة لولا ابتناؤها على الأقلام والأسل؛ وكان أولى من عول على تدبيره، واهتدى في الأمور بنوره، أهل العلم، فإنهم المذكورون لمن ملك، والمستفتون في الأرواح والأموال ليحيا من حي عن بينة ويهلك من هلك، ويسترشد بهم من إذا ضلت الآراء، وأظلت الأهواء، وطلّت الأنواء، وتحكمت الأدواء، وتقسمت الأضواء، وكان فلان هو المعني بهذه المدح، والجدير بأن تجلى عليه هذه الملح، وتجمل بإلقاء دروسه صدر كل إيوان، وبتصريفه مكان كل ديوان، وتحاسدت الوزارة والأحكام عليه، إلى أن نالت الوزارة منه نحتها، منشدة:[الطويل]

هو الجد حتى تفضل العين أختها.

ومنه قوله:

يقبل اليد، لا زالت أقلامها محسنة في سفارتها، وكتبها لا تسلك إلا بخفارتها، والخدمة إذا لم يكن معها ذمام لا يؤمن عليها شنّ غارتها، وينهي ورود مشرفته التي أبهجته بما أسمعته، وأدت الأمانة فيما استودعته وحملت إليه الرياض زواهر، وأغنته بما أهدى إليه ذلك البحر من الجواهر، وقبل الرسالة والرسول، وقبل الحامل والمحمول، وأعاد الجواب وهو من خوف التقييد على

ص: 354

وجل، وكتبه والقلم من حياء المماثلة لا يكاد يرفع رأسه من الخجل، فيعرضه مولانا على فكره النقاد، ويتصفحه بنظره الذي زمام الفضل به منقاد، ويسبل عليه ستر معروفه الذي [

] «1» ، ويعيره نفحة أنفاسه التي يكاد يفوح المسك من عرفها الشذي، والله يشكر له الإحسان الذي لا يبلغ الوصف مداه، ويحرس عليه من الفضل ما ملكت يداه، ويفديه بكل مقصر عن شأوه، فلا أحد إذا إلا فداه.

ومنه قوله «2» :

يقبل اليد الشريفة المحيوية المحبوبة إلى كل قبلة، المحتوية على الكرم الذي هو للكرماء قبلة، لا زالت مخصوصة بفضائل الإعجاز، والبلاغة التي كل حقيقة عندها مجاز، والإحسان الذي يظن الإطناب في وصفه من الإيجاز، وينهي ورود مشرفته التي أخذت البلاغة فيها زخرفها، وأشبهت الرياض منها أحرفها، وأبانت عن معجزات البراعة، ومثلت له السحر كيف ينفث في عقد تلك اليراعة، وأبانت مجاري فضله على مثل الجمر وأفردته بالرتبة التي لا يدعيها زيد ولا عمرو، وعلمته كيف يكون الإنشاء، وأعلمته أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء؛ فوقف المملوك عليها وقوف من أفحمه الحصر، وتطاول لمباراته فيها، وكم يطول من في باعه قصر؟ واستقدم القلم في جوابها فأحجم، واستنطق لسانه ليعرب عن وصفها فأعجم، وقال لحسنها الذي استرق القلوب: قد ملكت فأسجح «3» ؛ وبلغ الغاية في نفسه التي قصرت عن شأوها، ومبلغ نفس عذرها

ص: 355

مثل منجح «1» ، ومن أين لأحد تلك البديهة المتسرعة، والروية التي هي عن كل ما ينتحى وينتحل متورعة، والمعاني التي قطف نوارها أبكارا، والغرائب التي بحرها لا يهدي الدر إلا كبارا، والخاطر الذي «2» يستجدي الفضلاء من سماحته، واللسان الذي يخرس البلغاء عند فصاحته، والقلم الذي هو مفتاح الأقاليم، والطريق الذي كلّ فيه ضل ولو أنه عبد الحميد أو عبد الرحيم «3» ، والكتابة التي تشرق بأنوار المعاني، فكأنها الليلة المقمرة، واليد التي إن لم تكن الأقلام فيها مورقة فإنها مثمرة؛ ومولانا أوتي ملك البيان، واجتمع له طاعة القلم واللسان، وخطبت الأقلام بحمده على منابر الأنامل، وأخذت له البيعة بالتقدم على كل فاضل ولو كان الفاضل «4» ، وأصبح محله الأسنى، وأسماؤه فيها الحسنى، وجاء من المحاسن بكل ما تزهى به الدول، وأصبحت طريقته في هذا الفن كأنها ملة الإسلام في الملل، وعرف الإشارة إلى حلب وما صنعت بها الأيام، وما أشجى من ربعها الذي لم تبق فيه بشاشة تستام، ووقوف مولانا على أطلالها، وملاحظته الآثار التي أعرضت السعادة عنها بعد إقبالها، وتفجعه في دمنها، وتوجعه لتلك المحاسن التي أخذتها الأيام من مأمنها، وإنه وجدها وقد حلت عراصها، وزمت للنوى قلاصها، وغربانها في رسومها ناعبة، وأيدي البلاء والبلى بها لاعبة «5» :[الطويل]

فلم يدر رسم الدار كيف يجيبنا

ولا نحن من فرط الأسى كيف نسأل

ص: 356

فشكر الله موقفه في تلك الدمن، ورقته التي قابل بها جفوة الزمن، ورأى هذا العهد الذي تمسكت منه الآن بحسب، ورعى له حق الدمع الذي جرى فقضى في الربع ما وجب، ومن للملوك بوقفة في رسومها، واسترواحة بنسيمها، وسقياها بدمعه، وتجديد العهد بمغناها الذي كان يراه بقلبه فأصبح وهو يراه بسمعه، ولقد علم الله أن الأحلام ما مثلتها لعينه إلا تأرقت، ولا ذكرتها النفس إلا تمزقت، ولا تخيلتها فكرة فاستقرت على حال من القلق، ولا جردتها الأماني لخياله إلا وراحت مطايا الدمع في السبق «1» :[الطويل]

ولا قلت إيه بعدها لمسامر

من الناس إلا قال قلبي: آها

على أنه قد أصبح من ظل مولانا في وطن، وأنساه أنسه من خف ومن قطن، وشرف بخدمته التي تعلي لمن أخدمها منارا، واستفاد من الأيام التي أخذت منه درهما فأخذ عوضه دينارا، وأصبح لي عن كل شغل بها شغل، فاسأل فؤادي عني، وما ذكرت حبيبا إلا كنت الذي أعني:[الطويل]

وإن نظرت عيني سواك تلثمت

حياء بأردان الدماء مع الدمع

ولو أني استطعت خفضت طرفي، ولو وصفت ما عسى أن أصفه من الشوق لكان الأمر فوق وصفي:[الطويل]

وإني في داري وأهلي كأنني

لبعدك لا دار لدي ولا أهل

وعرف المملوك الإشارة إلى هذه السفرة ومتاعبها، والطرق ومصاعبها، والثلوج التي «2» شابت منها مفارق الجبال، والمفاوز التي يتهيب السرى فيها طيف الخيال، والمرجو من الله تعالى أن تكون العقبى مأمونة، والسلامة فيها

ص: 357

مضمونة، وكأن مولانا بالديار وقد دنت، والراحة وقد أذنت، والتهاني وقد أشرقت بوفودها تلك الرحاب، والرياض وقد أبدت من ملحها ما يكفر به ذنب السحاب، والأنس وقد أمسى وهو مجتمع القوى، والرحلة وقد ألقت عصاها واستقرت بها النوى «1» .

ومنه قوله في كتاب كتبه عن الملك المنصور «2» إلى ابنه الملك الأشرف «3» بفتح المرقب:

أعز الله نصرة الجناب العالي الولدي، الملكي الأشرفي الصلاحي، عضد أمير المؤمنين، ولا زالت جيوشه تفتح من الممالك حصونها، وتبتذل مصونها، وتستنشر من السعادة غصونها، وتطوى لهم الأرض، ولا يبعد عليهم مرمى يعملون إليه العزائم وينضونها، ويقصون أجنحتها بالشكر ويفضّونها، تهدى إليه كل ساعة خبر جنوده وما ملكت، وخيوله وما سلكت، وسيوفه وما فتكت، ومهابته وما أخذت، ومواهبه وما تركت؛ وتبدي لعلمه الكريم أن الهمم بها تنال الممالك، وترتقى المسالك؛ وقل ما ظفر بالمراد وادع، وكل أنف لا يأنف المساءة فهو أحق الأعضاء بالمجادع، ولم نزل نمثل في أفكارنا الصورة التي أقدم عليها أهل حصن المرقب في مبدأ الأمر، عند اضطراب النيات، وضعف البينات، وغرور الأيمان الكاذبة، واستمالات الخيالات الجاذبة، ونأخذ في أمرهم الظاهر

ص: 358

بالرخصة دون العزيمة، ونعمل على ما لو تمثل لهم صورة لجرّوا منه ذيل الهزيمة، ونستر ما تسدده إلى نحورهم من سهم، ونريهم أنا ندفع في صدور الحقيقة بالوهم، ونعرض عن مناقشتهم في الحساب وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ

«1» ومتى لم يؤاخذ المسيء بفعله، ويعرف مقدار جهله، استدام طمعه، واستقام طلعه، وحركته دواعي الشره والشرة، وتخيل السلامة في كل مرة؛ فلم نزل نتربص بهم ريب المنون، ونترك منهم ما كان في جنب ما يكون، إلى أن آن إمكان الفرصة، وجمعنا لهم بين الشرقة والغصة، فأنفذنا إليهم المرمى، وأعددنا مسعانا في طاعة الله غنما، إذ كانت مساعي الملوك غرما، ووصلنا السير بالسرى، وطرقناهم كما يطرق الكرى، وأوطأناهم حوافر الخيل، وجئناهم مجيء السيل، وظللنا عليهم ظلل الغم، وغشيهم منا ما غشي فرعون وجنوده من اليم، مع كون مكانهم قد جمع لهم منعة البر والبحر، وحل منهم بين السحر والنحر، تصدّ الرياح الهوج عنه مخافة، ويرجع عنه الطرف حسيرا لبعد المسافة، فلم يكن بأسرع من أن فاجأناه، وحللنا بعرصته وهاجمناه، وأحاطت به رجال الحرب، وشافهته بخطاب الخطب، وعسكرنا بحمد الله قد ملأ الفجاج، واستعذب الأجاج، وقاسمهم الرماح، وأعطاهم الأسنة وأبقى الزجاج، يتعرض أبطاله المنايا وإن كانت عرضا، ويقول كل منهم: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى

«2» . فلم يزل القتال ينوبهم وسهام المنون تصيبهم، وسحابها يصوبهم، والمجانيق تذلل سورتهم، وتسكن فورتهم، وترميهم بنجومها، وتصمهم برجومها، وتقذفهم من كل جانب دحورا، وتعيد كلا منهم مذموما مدحورا، وتشير إليهم أصابعها بالتسليم لا بالسلم، وفتنتابهم

ص: 359

ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ

«1» إلى أن فتحناها ولله الحمد عنوة، وحللنا مكائدهم فيها عقدة عقدة، ونقضناها عروة، وسطرنا هذه البشرى، وأعلام النصر قد خفقت عليها بنودها، وذلت لها علوج الكفرة وكنودها، والسيف من دمائهم يقطر، والصليب خزيان ينظر، والآذان مكان الناقوس، والقراء موضع القسوس، والكنيسة قد عادت محرابا، والجنة قد فتحت للمجاهدين فكانت أبوابا، وكنا نود أن يكون الولد معنا في هذه المشاهد، وأن ينظرها بعين المشاهد، وإنا لنرجو أن لا يكون ممن يستلين المرقد، وإن لم نحضره هذه الغزوة فيتأهب للأخرى فكأن قد.

ومنه قوله من كتاب كتبه إلى صاحب اليمن بفتوح طرابلس:

هذه الخدمة بما تسنى من فتوح طرابلس الشام، وانتقالها بعد الكفر إلى الإسلام، وهو فتح طال عهد الإسلام بمثله، وقدح فتّ في عضد الشرك وأهله، لم يجل أمره في خلد ولا فكر، ولا رقت إليه همة عوان من النوائب ولا بكر، مرت عليها الأيام والليالي، وعجز عنها من كان في العصر الخوالي، ولم تزل الملوك تتحاماها، وإذا خطرتها الظنون في بال تخشى أن تحل حماها، ولما أفضى الله إلينا أمر الملك، وأنجى بنا من الهلك، عاهدنا على أن نغزو أعداءه برا وبحرا، ونوسع من كفر به قتلا وأسرا، ونورد المشركين موارد الحرب المفضية بهم إلى الهرب، ونجليهم عن البلاد جلاء طوائف المشركين عن جزيرة العرب، فجئناهم وزلزلنا أقدامهم، وأزلنا إقدامهم، وبرزنا لشقائهم بشقاقهم، وسددنا عليهم أنفاق نفاقهم، وقصدناهم في وقت تجمعت فيه أشتات الشتاء، وطرق خفية المدارج، أبية المعارج، صيفها شتاء، وصباحها مساء، شائبة المفارق بالثلوج،

ص: 360

منهلة المدامع من عيون الجبال على خدود المروج، مزررة الجيوب على أكمام الغيوم التي ما للابسها من فروج، ولم تزل أقران الزحف، في غدران الزعف «1» ، ترميهم بالقوارص، وتأتيهم من البأس بما ترعد منه الفرائص، وتقلب لهم ظهر المجن، وتطرق أفئدتهم من الحرب بكل فن، وتقرب الأسواء من الأسوار، وتمزج لهم الأدواء في الأدوار، إلى أن وهى سلكها، ودنا هلكها، وسفل منها ما علا، ورخص ما غلا، وفتحناها وأنخناها، وخليناها وقد أخليناها، فأمست كالذي يتخبطه الشيطان من المسّ، وأصبحت حصيدا كأن لم تغن بالأمس.

وهذه المدينة لها سمعة في البلاد، ومنعة ضربت دون العزم بالأسداد؛ فتحت في صدر الإسلام في ولاية معاوية بن أبي سفيان، وتنقلت في أيدي الملوك، وعظمت في زمن بني عمّار، وبنوا بها دار العلم المشهورة في التواريخ، فلما كان في آخر المئة الخامسة وقدّر ما قدّر من ظهور طوائف الفرنج بالشام، إذ استولوا على البلاد، امتنعت هذه المدينة عليهم مدة، ثم ملكوها في سنة ثلاث وخمسمئة، واستمرت إلى الآن، وكان الملوك في ذلك الوقت ما منهم إلا من هو مشغول بنفسه، مكب على مجالس أنسه، يصطبح في لهوه ويغتبق، ويجري في مضمار لعبه ويستبق، يرى السلامة غنيمة، وإذا عن له وصف الحرب «2» ، لم يسأل إلا عن طريق الهزيمة؛ أموال تنهب، وممالك تذهب، ونفوس قد تجاوزت حد إسرافها، وبلاد تأتيها الأعداء فتنقصها من أطرافها، إلى أن أوجد الله من أوجده لنصرة دينه، وإذلال الشرك وشياطينه، فأحيا فريضة الجهاد بعد موتها، ورد ضالة الملك بعد فوتها؛ ونرجو بقدرة الله أن نجلي ديارهم من ناسهم، ونطهر الأرض من أدناسهم، ونجدد للأمة قوة سلطانها، ونعيد كلمة الإيمان إلى أوطانها؛

ص: 361