الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رسالةُ الشيخِ عبدِ اللهِ بنِ حامدٍ إلى أحدِ طلبةِ الشيخِ
يسألُهُ عن كُتُبِ الشَّيخِ وكانَ قد عزمَ على السَّفَرِ إلى دمشق سنةَ ثمانٍ وعشرين لملاقةِ الشَّيْخِ فوافاهُ خبُر وفاتِهِ رحمه الله وغَفَرَ لَهُ
بسم الله الرحمن الرحيم
من أصغر العباد عبد الله بن حامد إلى الشيخ الإمام العالم العامل، قدوة الأفاضل والأماثل، مجمل المجالس والمحافل، المحامي عن دين الله، والذاب عن سنة رسول الله، والمعتصم بحبل الله، الشيخ المبجل المكرم أبي عبد الله، أسبغ الله عليه نعمه، وأيد بإصابة الصواب لسانه وقلمه، وجمع له بين السعادتين، ورفع درجته في الدارين بمنه ورحمته:
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته
(أما بعد) فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ثم وافاني كتابك، وأنا إليك بالأشواق ولم أزل مسائلًا ومستخبرًا الصادر والوارد عن الأنباء، طاب مسموعها وسرَّ ما يسرُّ منها، وما تأخر كتابي عنك هذه المدة مللًا ولا خللًا بالمودة ولا تهاونًا بحقوق الإخاء حاشى لله أن يشوب الأخوة في الله جفاء،
ولا أزال أتعلل بعد وفاة الشيخ الإمام إمام الدنيا رضي الله عنه بالاسترواح إلى أخبار تلامذته وإخوانه وأقاربه وعشيرته والخصيصين به لما في نفسي من المحبة الضرورية التي لا يدفعها شيء على الخصوص لما اطلعت على مباحثه واستدلالاته التي تزلزل أركان المبطلين، ولا يثبت في ميادينها سفسطة المتفلسفين، ولا يقف في حلباتها أقدام المبتدعين من المتكلمين.
وكنت قبل وقوفي على مباحث إمام الدنيا رحمه الله قد طالعت مصنفات المتقدمين، ووقفت على مقالات المتأخرين من أهل الفلسفة ونظار أهل الإسلام، فرأيت منها الزخارف والأباطيل والشكوكات التي يأنف المسلم الضعيف في الإسلام أن يخطرها بباله فضلًا عن القوي في الدين، فكان يتعب
قلبي، ويحزنني ما يصير إليه الأعاظم من المقالات السخيفة والآراء الضعيفة التي لا يعتقد جوازها آحاد العامة.
وكنت أفتش على السنة المحضة في مصنفات المتكلمين من أصحاب الإمام أحمد رحمه الله على الخصوص لاشتهارهم بالتمسك بمنصوصات إمامهم في أصول العقائد، فلا أجد عندهم ما يكفي، وكنت أراهم يتناقضون إذ يؤصلون أصولًا؟ يلز فيها ضد ما يعتقدونه، ويعتقدون خلاف مقتضى أدلتهم، فإذا جمعت بين أقاويل المعتزلة والأشعرية وحنابلة بغداد وكرامية خراسان أرى أن إجماع هؤلاء المتكلمين في المسألة الواحدة على ما يخالف الدليل العقلي والنقلي، فيسؤني ذلك، وأظل أحزن حزنًا لا يعلم كنهه إلا الله حتى قاسيت من مكابدة هذه الأمور شيئًا عظيمًا لا أستطيع شرح أيسره.
وكنت ألتجىء إلى الله سبحانه وتعالى، وأتضرع إليه وأهرب إلى ظواهر النصوص، وألقى المعقولات المتباينة والتأويلات المصنوعة لنبوِّ الفطرة عن قبولها،
ثم قد تشبثت فطرتي بالحق الصريح في أمهات المسائل غير متجاسرة على التصريح بالمجاهرة قولًا وتصميمًا للعقد عليه حيث لا أراه مأثورًا عن الأئمة وقدماء السلف إلى أن قدر الله سبحانه وقوع مصنف الشيخ الامام إمام الدنيا رحمه الله في يدي قبيل واقعته الأخيرة بقليل، فوجدت ما بهرني من موافقة فطرتي لما فيه وعزوا الحق إلى أئمة السنة وسلف الأمة مع مطابقة المعقول والمنقول، فبهت لذلك سرورًا بالحق وفرحاً بوجود الضالة التي ليس لفقدها عوض، فصارت محبة هذا الرجل رحمه الله محبة ضرورية يقصر عن شرح أقلها العبارة ولو أطنبت.
ولما عزمت على المهاجرة الى لقيه، وصلني خبر اعتقاله، وأصابني لذلك المقيم المقعد.
ولما حججت سنة ثمان وعشرين وسبعمائة صممت العزم على السفر إلى دمشق لأتوصل إلى ملاقاته ببذل مهما أمكن من النفس والمال للتفريج عنه، فوافاني خبر وفاته -رحمه الله تعالى- مع الرجوع إلى العراق قبيل وصول الكوفة، فوجدت عليه ما لا يجده الأخ على شقيقه واستغفر الله بل ولا الوالد الثاكل على ولده، وما دخل على قلبي من الحزن لموت أحد من الولد والأقارب والأخوان كما وجدته عليه -رحمه الله تعالى-، ولا تخيلته قط في نفسي ولا تمثلته في قلبي إلا ويتجدد لي حزن قديمه كأنه محدثه، ووالله ما كتبتها إلا وأدمعي تتساقط عند ذكره أسفاً على فراقه وعدم ملاقاته، فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وما شرحت هذه النبذة من محبة الشيخ -رحمة الله تعالى عليه- إلا ليتحقق بعدي عن الملك الموهوم.
لكن لما سبق الوعد الكريم منكم بانفاذ فهرست مصنفات الشيخ رضي الله عنه، وتأخر ذلك عني اعتقدت أن الإضراب عن ذلك نوع تقية أو لعذر لا يسعني السؤال عنه، فسكت عن الطلب خشية أن يلحق أحدًا ضرر والعياذ بالله بسببي لما كان قد اشتهر من تلك الأحوال، فإن أنعمتم بشيء من مصنفات الشيخ -رحمه الله تعالى- كانت لكم الحسنة عند الله تعالى علينا بذلك.
فما أشبه كلام هذا الرجل بالتبر الخالص المصفى، وقد يقع في كلام غيره من الغش والشبه المدلس بالتبر ما لا يخفى على طالب الحق لحرص وعدم هوى.
ولا أزال أتعجب من المنتسبين إلى حب الانصاف في البحث المزرين على أهل التقليد المعقولات التي يزعمون أن مستندهم الأعظم الصريح منها كيف يباينون ما أوضحه من الحق، وكشف عن قناعه، وقد كان الواجب على الطلبة شد الرحال إليه من الآفاق ليرو العجب.
وما أشبه حال المباينين له من المنتسبين إلى العلم الطالبين للحق الصريح الذي أعياهم وجدانه بحال قوم ذبحهم العطش والظمأ في بعض المفازات فحين أشرفوا على التلف لمع لهم شط كالفرات أو دجلة أو كالنيل فعند معاينتهم لذلك اعتقدوه سرابًا لا شرابًا، فتولوا عنه مدبرين، فتقطعت أعناقهم عطشًا وظمأ، فالحكم لله العلي الكبير، وما أرسلنا الكتب المقابلة من إحدى الطرفين، ففيه تعسف وتمهدون العذر في الإطناب، فهذا الذي ذكرته من حالي مع الشيخ كالقطر من بحر وإن أنعمتم بالسلام على أصحاب الشيخ وأقاربه كبيرهم وصغيرهم كان ذلك مضافًا إلى سابق إنعامكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وأنتم في أمان الله ورعايته والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما) انتهى