المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[فصل في دفن الميت وما يتعلق به] - مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج - جـ ٢

[الخطيب الشربيني]

فهرس الكتاب

- ‌كِتَابُ الْجَنَائِزِ

- ‌[فَصْلٌ فِي تَكْفِينِ الْمَيِّتِ وَحَمْلِهِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ الْمُسْلِمِ غَيْرِ الشَّهِيدِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي دَفْنِ الْمَيِّتِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ]

- ‌كِتَابُ الزَّكَاةِ

- ‌بَابُ زَكَاةِ الْحَيَوَانِ

- ‌فَصْلٌ إنْ اتَّحَدَ نَوْعُ الْمَاشِيَةِ

- ‌بَابُ زَكَاةِ النَّبَاتِ

- ‌بَابُ زَكَاةِ النَّقْدِ

- ‌بَابُ زَكَاةِ الْمَعْدِن وَالرِّكَازِ وَالتِّجَارَةِ

- ‌[فَصْلٌ شَرْطُ زَكَاةِ التِّجَارَةِ]

- ‌بَاب زَكَاةِ الْفِطْرِ

- ‌بَابُ مَنْ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ، وَمَا تَجِبُ فِيهِ

- ‌[فَصْلٌ فِي أَدَاءِ زَكَاةِ الْمَالِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ وَمَا يُذْكَرُ مَعَهُ]

- ‌كِتَابُ الصِّيَامِ

- ‌[فَصْلٌ فِي أَرْكَانِ الصَّوْمِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي شَرْطِ صِحَّةِ الصَّوْمِ مِنْ حَيْثُ الْفِعْلُ]

- ‌[فَصْلٌ فِي شَرْطِ صِحَّةِ الصَّوْمِ مِنْ حَيْثُ الْفَاعِلُ]

- ‌فَصْلٌ شَرْطُ وُجُوبِ صَوْمِ رَمَضَانَ:

- ‌[فَصْلٌ فِي فِدْيَةِ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي مُوجِبِ كَفَّارَةِ الصَّوْمِ]

- ‌[بَاب فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ]

- ‌كِتَابُ الِاعْتِكَافِ

- ‌[فَصْلٌ فِي حُكْمِ الِاعْتِكَافِ الْمَنْذُورِ]

- ‌كِتَابُ الْحَجِّ

- ‌بَابُ الْمَوَاقِيتِ

- ‌بَابُ الْإِحْرَامِ

- ‌[فَصْلٌ فِي رُكْنِ الْإِحْرَامِ وَمَا يُطْلَبُ لِلْمُحْرِمِ]

- ‌[بَابُ دُخُولِ مَكَّةَ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا يُطْلَبُ فِي الطَّوَافِ مِنْ وَاجِبَاتٍ وَسُنَنٍ]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا يُخْتَمُ بِهِ الطَّوَافُ وَبَيَانُ كَيْفِيَّةِ السَّعْيِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَمَا يُذْكَرُ مَعَهُ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْمَبِيتِ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَالدَّفْعِ مِنْهَا وَفِيمَا يُذْكَرُ مَعَهَا]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْمَبِيتِ بِمِنًى لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي بَيَانِ أَرْكَانِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَكَيْفِيَّةِ أَدَاءِ النُّسُكَيْنِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ]

- ‌بَابُ مُحَرَّمَاتِ الْإِحْرَامِ

- ‌بَابُ الْإِحْصَارِ وَالْفَوَاتِ

- ‌[كِتَابُ الْبَيْعِ]

- ‌[كتاب البيع]

- ‌باب الربا

- ‌[بَابٌ فِي الْبُيُوعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا وَغَيْرِهَا]

- ‌[فَصْلٌ فِيمَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ الْبُيُوعِ نَهْيًا لَا يَقْتَضِي بُطْلَانَهَا]

- ‌[فَصْلٌ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ وَتَعَدُّدِهَا]

- ‌بَابُ الْخِيَارِ

- ‌[فَصْلٌ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي خِيَارِ النَّقِيصَةِ]

- ‌فَصْلٌ التَّصْرِيَةِ

- ‌[بَابٌ فِي حُكْمِ الْمَبِيعِ وَنَحْوِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ]

- ‌بَابُ التَّوْلِيَةِ وَالْإِشْرَاكُ وَالْمُرَابَحَةُ

- ‌[بَابٌ بَيْعِ الْأُصُولِ وَالثِّمَارِ وَغَيْرِهِمَا]

- ‌[فَصْلٌ فِي بَيَانِ بَيْعِ الثَّمَرِ وَالزَّرْعِ وَبُدُوِّ صَلَاحِهِمَا]

- ‌بَابُ اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ

- ‌[بَابٌ فِي مُعَامَلَةِ الرَّقِيقِ]

الفصل: ‌[فصل في دفن الميت وما يتعلق به]

وَأَنَّهُ تُزَالُ نَجَاسَتُهُ غَيْرَ الدَّمِ.

وَيُكَفَّنُ فِي ثِيَابِهِ الْمُلَطَّخَةِ بِالدَّمِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَوْبُهُ سَابِغًا تُمِّمَ.

فَصْلٌ أَقَلُّ الْقَبْرِ حُفْرَةٌ تَمْنَعُ الرَّائِحَةَ وَالسَّبُعَ،

ــ

[مغني المحتاج]

عَلَيْهِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ (وَ) الْأَصَحُّ (أَنَّهُ) أَيْ الشَّهِيدَ (تُزَالُ) حَتْمًا (نَجَاسَتُهُ) بِغُسْلِهَا (غَيْرَ الدَّمِ) الْمُتَعَلِّقِ بِالشَّهَادَةِ، وَإِنْ أَدَّى ذَلِكَ إلَى زَوَالِ دَمِهَا؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ لَيْسَتْ مِنْ أَثَرِ الشَّهَادَةِ، بِخِلَافِ دَمِهَا الْخَالِي عَنْ النَّجَاسَةِ فَتَحْرُمُ إزَالَتُهُ؛ لِأَنَّا نُهِينَا عَنْ غُسْلِ الشَّهِيدِ؛ وَلِأَنَّهُ أَثَرُ عِبَادَةٍ، وَإِنَّمَا لَمْ تَحْرُمْ إزَالَةُ الْخُلُوفِ مِنْ الصَّائِمِ مَعَ أَنَّهُ أَثَرُ عِبَادَةٍ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُفَوِّتُ عَلَى نَفْسِهِ بِخِلَافِهِ هُنَا حَتَّى لَوْ فُرِضَ أَنَّ غَيْرَهُ أَزَالَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ حَرُمَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَقَدْ مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَى ذَلِكَ فِي بَابِ الْوُضُوءِ وَالثَّانِي: لَا تَزَالُ لِإِطْلَاقِ النَّهْيِ عَنْ غُسْلِ الشَّهِيدِ. وَالثَّالِث: إنْ أَدَّى غُسْلُهَا إلَى إزَالَةِ أَثَرِ الشَّهَادَةِ لَمْ تُزَلْ وَإِلَّا أُزِيلَتْ.

(وَيُكَفَّنُ) الشَّهِيدُ نَدْبًا (فِي ثِيَابِهِ الْمُلَطَّخَةِ بِالدَّمِ) لِخَبَرِ أَبِي دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: رُمِيَ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فِي صَدْرِهِ أَوْ حَلْقِهِ فَمَاتَ فَأُدْرِجَ فِي ثِيَابِهِ كَمَا هُوَ وَنَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُرَادُ ثِيَابُهُ الَّتِي مَاتَ فِيهَا وَاعْتِيدَ لُبْسُهَا غَالِبًا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُلَطَّخَةً بِالدَّمِ. لَكِنْ الْمُلَطَّخَةُ بِالدَّمِ أَوْلَى ذَكَرَهُ فِي الْمَجْمُوعِ، فَالتَّقْيِيدُ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَأَصْلِهِ بِالْمُلَطَّخَةِ لِبَيَانِ الْأَكْمَلِ، وَعُلِمَ بِالتَّقْيِيدِ بِنَدْبًا أَنَّهُ لَا يَجِبُ تَكْفِينُهُ فِيهَا كَسَائِرِ الْمَوْتَى، وَفَارَقَ الْغُسْلَ بِإِبْقَاءِ أَثَرِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْبَدَنِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ بِإِكْرَامِهِ وَالْإِشْعَارِ بِاسْتِغْنَائِهِ عَنْ الدُّعَاءِ (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَوْبُهُ سَابِغًا) أَيْ سَاتِرًا لِجَمِيعِ بَدَنِهِ (تُمِّمَ) وُجُوبًا؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلْمَيِّتِ كَمَا تَقَدَّمَ مِرَارًا. وَقَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ: تُمِّمَ نَدْبًا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ سَتْرُ الْعَوْرَةِ مَمْنُوعٌ لِمَا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَلَوْ أَرَادَ الْوَرَثَةُ نَزْعَهَا وَتَكْفِينَهُ فِي غَيْرِهَا جَازَ، سَوَاءٌ أَكَانَ عَلَيْهَا أَثَرُ شَهَادَةٍ أَمْ لَا إذْ لَا يَجِبُ تَكْفِينُهُ فِيهَا كَسَائِرِ الْمَوْتَى وَلَوْ طَلَبَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ النَّزْعَ وَامْتَنَعَ بَعْضُهُمْ. .

أُجِيبَ الْمُمْتَنِعُ فِي أَحَدِ احْتِمَالَيْنِ يَظْهَرُ تَرْجِيحُهُ، وَيُنْدَبُ نَزْعُ آلَةِ الْحَرْبِ عَنْهُ كَدِرْعٍ وَخُفٍّ وَكُلِّ مَا لَا يُعْتَادُ لُبْسُهُ غَالِبًا كَجِلْدٍ وَفَرْوَةٍ وَجُبَّةٍ مَحْشُوَّةٍ، وَفِي أَبِي دَاوُد فِي قَتْلَى أُحُدٍ الْأَمْرُ بِنَزْعِ الْحَدِيدِ وَالْجُلُودِ وَدَفْنُهُمْ بِدِمَائِهِمْ وَثِيَابِهِمْ. .

[فَصْلٌ فِي دَفْنِ الْمَيِّتِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ]

(فَصْلٌ) فِي دَفْنِ الْمَيِّتِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ (أَقَلُّ الْقَبْرِ حُفْرَةٌ تَمْنَعُ) بَعْدَ رَدْمِهَا (الرَّائِحَةَ) أَنْ تَظْهَرَ مِنْهُ فَتُؤْذِيَ الْحَيَّ (وَ) تَمْنَعُ (السَّبُعَ) عَنْ نَبْشِ تِلْكَ الْحُفْرَةِ لِأَكْلِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ الْحِكْمَةَ فِي وُجُوبِ الدَّفْنِ عَدَمُ انْتِهَاكِ حُرْمَتِهِ بِانْتِشَارِ رَائِحَتِهِ وَاسْتِقْذَارِ جِيفَتِهِ، وَأَكْلِ السِّبَاعِ لَهُ وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ ذَلِكَ قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَالْغَرَضُ مِنْ ذِكْرِهِمَا إنْ كَانَا مُتَلَازِمَيْنِ بَيَانُ فَائِدَةِ الدَّفْنِ، وَإِلَّا فَبَيَانُ وُجُوبِ رِعَايَتِهِمَا فَلَا يَكْفِي أَحَدُهُمَا، وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا أَنَّهُمَا لَيْسَا بِمُتَلَازِمَيْنِ كَالْفَسَاقِيِ الَّتِي لَا تَكْتُمُ رَائِحَةً مَعَ مَنْعِهَا الْوَحْشَ فَلَا يَكْفِي الدَّفْنُ فِيهَا، وَقَالَ السُّبْكِيُّ: فِي الِاكْتِفَاءِ بِالْفَسَاقِيِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى هَيْئَةِ الدَّفْنِ الْمَعْهُودِ شَرْعًا. قَالَ: وَقَدْ أَطْلَقُوا تَحْرِيمَ إدْخَالِ مَيِّتٍ عَلَى مَيِّتٍ لِمَا

ص: 36

وَيُنْدَبُ أَنْ يُوَسَّعَ وَيُعَمَّقَ، قَدْرَ قَامَةٍ وَبَسْطَةٍ، وَاللَّحْدُ أَفْضَلُ مِنْ الشَّقِّ إنْ صَلُبَتْ الْأَرْضُ، وَيُوضَعُ رَأْسُهُ عِنْدَ رِجْلِ الْقَبْرِ، وَيُسَلُّ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ بِرِفْقٍ

ــ

[مغني المحتاج]

فِيهِ مِنْ هَتْكِ حُرْمَةِ الْأَوَّلِ وَظُهُورِ رَائِحَتِهِ فَيَجِبُ إنْكَارُ ذَلِكَ، وَقَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ هَذَا الْكِتَابِ: إنَّهُ لَا يَكْفِي الدَّفْنُ فِيمَا يُصْنَعُ الْآنَ بِبِلَادِ مِصْرَ وَالشَّامِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ عَقْدِ أَزَجَّ وَاسِعٍ أَوْ مُقْتَصِدٍ شَبَهِ بَيْتٍ لِمُخَالَفَتِهِ الْخَبَرَ وَإِجْمَاعَ السَّلَفِ، وَحَقِيقَتُهُ بَيْتٌ تَحْتَ الْأَرْضِ فَهُوَ كَوَضْعِهِ فِي غَارٍ وَنَحْوِهِ وَيُسَدُّ بَابُهُ اهـ.

وَهَذَا ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِدَفْنٍ كَمَا أَشَارَ إلَى ذَلِكَ ابْنُ الصَّلَاحِ وَالْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَاحْتُرِزَ بِالْحَفْرِ عَمَّا إذَا وُضِعَ الْمَيِّتُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَوُضِعَ عَلَيْهِ أَحْجَارٌ كَثِيرَةٌ أَوْ تُرَابٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَكْتُمُ رَائِحَتَهُ وَيَحْرُسُهُ عَنْ أَكْلِ السِّبَاعِ، فَلَا يَكْفِي ذَلِكَ إلَّا إنْ تَعَذَّرَ الْحَفْرُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِدَفْنٍ (وَيُنْدَبُ أَنْ يُوَسَّعَ) بِأَنْ يُزَادَ فِي طُولِهِ وَعَرْضِهِ (وَيُعَمَّقَ) بِأَنْ يُزَادَ فِي نُزُولِهِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي قَتْلَى أُحُدٍ «احْفِرُوا وَأَوْسِعُوا وَأَعْمِقُوا» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وَعِبَارَةُ الْمَجْمُوعِ كَالْجُمْهُورِ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُوَسَّعَ الْقَبْرُ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ وَرَأْسِهِ: أَيْ فَقَطْ، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ، وَالْمَعْنَى يُسَاعِدُهُ لِيَصُونَهُ مِمَّا يَلِي ظَهْرَهُ مِنْ الِانْقِلَابِ وَمِمَّا يَلِي صَدْرَهُ مِنْ الِانْكِبَابِ.

فَائِدَةٌ التَّعْمِيقُ بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ كَمَا قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ، وَحَكَى غَيْرُهُ الْإِعْجَامَ، وَقُرِئَ بِهِ شَاذًّا {مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27] [الْحَجَّ](قَدْرَ قَامَةٍ وَبَسْطَةٍ) مِنْ رَجُلٍ مُعْتَدِلٍ لَهُمَا بِأَنْ يَقُومَ بَاسِطًا يَدَيْهِ مَرْفُوعَتَيْنِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَصَّى بِذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ؛ وَلِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْمَقْصُودِ مِنْ مَنْعِ ظُهُورِ الرَّائِحَةِ وَنَبْشِ السَّبُعِ، وَهُمَا أَرْبَعَةُ أَذْرُعٍ وَنِصْفٌ كَمَا صَوَّبَهُ الْمُصَنِّفُ خِلَافًا لِلرَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ: إنَّهُمَا ثَلَاثَةُ أَذْرُعٍ وَنِصْفٌ تَبَعًا لِلْمَحَامِلِيِّ (وَاللَّحْدُ) بِفَتْحِ اللَّامِ وَضَمِّهَا وَسُكُونِ الْحَاءِ فِيهِمَا أَصْلُهُ الْمَيْلُ، وَالْمُرَادُ أَنْ يُحْفَرَ فِي أَسْفَلِ جَانِبِ الْقَبْرِ الْقِبْلِيِّ مَائِلًا عَنْ الِاسْتِوَاءِ قَدْرَ مَا يَسَعُ الْمَيِّتَ وَيَسْتُرُهُ (أَفْضَلُ مِنْ الشَّقِّ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ بِخَطِّ الْمُصَنِّفِ، وَهُوَ أَنْ يُحْفَرَ قَعْرُ الْقَبْرِ كَالنَّهْرِ أَوْ يُبْنَى جَانِبَاهُ بِلَبِنٍ أَوْ غَيْرِهِ غَيْرَ مَا مَسَّتْهُ النَّارُ، وَيُجْعَلَ بَيْنَهُمَا شَقٌّ يُوضَعُ فِيهِ الْمَيِّتُ، وَيُسَقَّفُ عَلَيْهِ بِلَبِنٍ أَوْ خَشَبٍ أَوْ حِجَارَةٍ وَهِيَ أَوْلَى، وَيُرْفَعَ السَّقْفُ قَلِيلًا بِحَيْثُ لَا يَمَسُّ الْمَيِّتَ (إنْ صَلُبَتْ الْأَرْضُ) لِقَوْلِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ:«الْحَدُوا لِي لَحْدًا وَانْصِبُوا عَلَيَّ اللَّبِنَ نَصْبًا كَمَا فُعِلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1) .

أَمَّا فِي الرِّخْوَةِ فَالشَّقُّ أَفْضَلُ خَشْيَةَ الِانْهِيَارِ (وَيُوضَعُ) نَدْبًا (رَأْسُهُ) أَيْ الْمَيِّتِ (عِنْدَ رِجْلِ الْقَبْرِ) أَيْ مُؤَخَّرِهِ الَّذِي سَيَصِيرُ عِنْدَ سُفْلِهِ رِجْلُ الْمَيِّتِ (وَيُسَلُّ) الْمَيِّتُ (مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ) سَلًّا (بِرِفْقٍ) لَا بِعُنْفٍ لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ الْخِطْمِيَّ الصَّحَابِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «صَلَّى عَلَى جِنَازَةِ الْحَرْبِ، ثُمَّ أَدْخَلَهُ الْقَبْرَ مِنْ قِبَلِ رِجْلِ الْقَبْرِ، وَقَالَ هَذَا مِنْ السُّنَّةِ» ، وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ مِنْ السُّنَّةِ كَذَا، حُكْمُهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ، وَلِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُلَّ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ سَلًّا» .

وَمَا قِيلَ: إنَّهُ أُدْخِلَ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ فَضَعِيفٌ كَمَا قَالَهُ

ص: 37

وَيُدْخِلُهُ الْقَبْرَ الرِّجَالُ، وَأَوْلَاهُمْ الْأَحَقُّ بِالصَّلَاةِ. قُلْتُ: إلَّا أَنْ تَكُونَ امْرَأَةً مُزَوَّجَةً فَأَوْلَاهُمْ الزَّوْجُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَكُونُونَ وِتْرًا، وَيُوضَعُ فِي اللَّحْدِ عَلَى يَمِينِهِ لِلْقِبْلَةِ

ــ

[مغني المحتاج]

الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ وَإِنْ حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ مَعَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إدْخَالُهُ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّ شَقَّ قَبْرِهِ صلى الله عليه وسلم لَاصِقٌ بِالْجِدَارِ وَلَحْدَهُ تَحْتَ الْجِدَارِ فَلَا مَوْضِع هُنَاكَ يُوضَعُ فِيهِ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ كَمَا نَقَلَهُ فِي الْمَجْمُوعِ (وَيُدْخِلُهُ الْقَبْرَ الرِّجَالُ) إذَا وُجِدُوا، وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ أُنْثَى لِخَبَرِ الْبُخَارِيِّ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَبَا طَلْحَةَ أَنْ يَنْزِلَ فِي قَبْرِ ابْنَتِهِ أُمِّ كُلْثُومٍ» وَوَقَعَ فِي الْمَجْمُوعِ تَبَعًا لِرَاوِي الْخَبَرِ أَنَّهَا رُقَيَّةُ، وَرَّدَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ الْأَوْسَطِ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَشْهَدْ مَوْتَ رُقَيَّةَ وَلَا دَفْنَهَا أَيْ؛ لِأَنَّهُ كَانَ بِبَدْرٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ كَانَ لَهَا مَحَارِمُ مِنْ النِّسَاءِ كَفَاطِمَةَ وَغَيْرِهَا؛ وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى قُوَّةٍ، وَالرِّجَالُ أَحْرَى بِذَلِكَ بِخِلَافِ النِّسَاءِ لِضَعْفِهِنَّ عَنْ ذَلِكَ غَالِبًا، وَيُخْشَى مِنْ مُبَاشَرَتِهِنَّ هَتْكُ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ وَانْكِشَافُهُنَّ. نَعَمْ يُنْدَبُ لَهُنَّ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ أَنْ يَلِينَ حَمْلَ الْمَرْأَةِ مِنْ مُغْتَسَلِهَا إلَى النَّعْشِ وَتَسْلِيمَهَا إلَى مَنْ فِي الْقَبْرِ وَحَلُّ ثِيَابِهَا فِيهِ.

وَظَاهِرُ مَا فِي الْمُخْتَصَرِ وَكَلَامِ الشَّامِلِ وَالنِّهَايَةِ أَنَّ هَذَا وَاجِبٌ عَلَى الرِّجَالِ عِنْدَ وُجُودِهِمْ وَتَمَكُّنِهِمْ وَاسْتَظْهَرَهُ الْأَذْرَعِيُّ وَهُوَ ظَاهِرٌ (وَأَوْلَاهُمْ) أَيْ الرِّجَالِ بِذَلِكَ (الْأَحَقُّ بِالصَّلَاةِ) عَلَيْهِ دَرَجَةً، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُهُ فِي الْغُسْلِ وَخَرَجَ بِدَرَجَةً الْأَوْلَى بِالصَّلَاةِ صِفَةً؛ إذْ الْأَفْقَهُ أَوْلَى مِنْ الْأَسَنِّ وَالْأَقْرَبُ الْبَعِيدُ الْفَقِيهُ أَوْلَى مِنْ الْأَقْرَبِ غَيْرِ الْفَقِيهِ هُنَا عَكْسُ مَا فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالْمُرَادُ بِالْأَفْقَهِ الْأَعْلَمُ بِذَلِكَ الْبَابِ (قُلْتُ) كَمَا قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي الشَّرْحِ (إلَّا أَنْ تَكُونَ امْرَأَةً مُزَوَّجَةً فَأَوْلَاهُمْ) أَيْ الرِّجَالِ بِإِدْخَالِهَا الْقَبْرَ (الزَّوْجُ) وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقٌّ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهَا (وَاَللَّهُ أَعْلَمُ) ؛ لِأَنَّهُ يَنْظُرُ إلَى مَا لَا يَنْظُرُ إلَيْهِ غَيْرُهُ، وَيَلِيهِ الْأَفْقَهُ، ثُمَّ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ مِنْ الْمَحَارِمِ، ثُمَّ عَبْدُهَا؛ لِأَنَّهُ كَالْمَحْرَمِ فِي النَّظَرِ وَنَحْوِهِ، ثُمَّ الْمَمْسُوحُ ثُمَّ الْمَجْبُوبُ ثُمَّ الْخَصِيُّ لِضَعْفِ شَهْوَتِهِمْ، وَرُتِّبُوا كَذَلِكَ لِتَفَاوُتِهِمْ فِيهَا، ثُمَّ الْعَصَبَةُ الَّذِي لَا مَحْرَمِيَّةَ لَهُمْ كَبَنِي عَمٍّ وَمُعْتِقٍ وَعَصَبَتِهِ بِتَرْتِيبِهِمْ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ ذَوُو الرَّحِمِ الَّذِينَ لَا مَحْرَمِيَّةَ لَهُمْ كَذَلِكَ كَبَنِي خَالٍ وَبَنِي عَمَّةٍ، ثُمَّ الْأَجْنَبِيُّ الصَّالِحُ لِخَبَرِ أَبِي طَلْحَةَ السَّابِقِ، ثُمَّ الْأَفْضَلُ فَالْأَفْضَلُ، ثُمَّ النِّسَاءُ بِتَرْتِيبِهِنَّ السَّابِقِ فِي الْغُسْلِ، وَالْخَنَاثَى كَالنِّسَاءِ، فَإِنْ اسْتَوَى اثْنَانِ فِي الدَّرَجَةِ وَالْفَضِيلَةِ وَتَنَازَعَا أَقُرِعَ بَيْنَهُمَا.

وَالْأَوْجَهُ كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ: أَنَّ السَّيِّدَ فِي الْأَمَةِ الَّتِي تَحِلُّ لَهُ كَالزَّوْجِ. وَأَمَّا غَيْرُهَا فَهَلْ يَكُونُ مَعَهَا كَالْأَجْنَبِيِّ أَوْ لَا؟ الْأَقْرَبُ نَعَمْ إلَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا مَحْرَمِيَّةٌ. وَأَمَّا الْعَبْدُ فَهُوَ أَحَقُّ بِدَفْنِهِ مِنْ الْأَجَانِبِ حَتْمًا، وَالْوَالِي لَا يُقَدَّمُ هُنَا عَلَى الْقَرِيبِ قَطْعًا (وَيَكُونُونَ) أَيْ الْمُدْخِلُونَ الْمَيِّتَ الْقَبْرَ (وِتْرًا) نَدْبًا وَاحِدًا فَأَكْثَرَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ كَمَا فُعِلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ رَوَى ابْنُ حِبَّانَ " أَنَّ الدَّافِنِينَ لَهُ كَانُوا ثَلَاثَةً " وَأَبُو دَاوُد " أَنَّهُمْ كَانُوا خَمْسَةً "(وَيُوضَعُ فِي اللَّحْدِ) أَوْ غَيْرِهِ (عَلَى يَمِينِهِ) نَدْبًا اتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَكَمَا فِي الِاضْطِجَاعِ عِنْدَ النَّوْمِ، وَيُوَجَّهُ (لِلْقِبْلَةِ) وُجُوبًا تَنْزِيلًا لَهُ مَنْزِلَةَ الْمُصَلِّي، وَلِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْلِمٍ كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا سَيَأْتِي، فَلَوْ وُجِّهَ لِغَيْرِهَا نُبِشَ وَوُجِّهَ لِلْقِبْلَةِ وُجُوبًا إنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ، وَإِلَّا فَلَا يُنْبَشُ، أَوَّلُهَا عَلَى يَسَارِهِ كُرِهَ وَلَمْ يُنْبَشْ، وَهُوَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ فِي مَجْمُوعِهِ بِقَوْلِهِ: إنَّهُ خِلَافُ الْأَفْضَلِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِمْ إنَّهُ كَالْمُصَلِّي أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ بِهِ الْقِبْلَةَ

ص: 38

وَيُسْنَدُ وَجْهُهُ إلَى جِدَارِهِ وَظَهْرُهُ بِلَبِنَةٍ وَنَحْوِهَا، وَيُسَدُّ فَتْحُ اللَّحْدِ بِلَبِنٍ، وَيَحْثُو مَنْ دَنَا ثَلَاثَ حَثَيَاتِ تُرَابٍ ثُمَّ يُهَالُ بِالْمَسَاحِي، وَيُرْفَعُ الْقَبْرُ شِبْرًا فَقَطْ،

ــ

[مغني المحتاج]

وَهُوَ كَذَلِكَ بَلْ يَجُوزُ اسْتِقْبَالُهُ وَاسْتِدْبَارُهُ. نَعَمْ لَوْ مَاتَتْ ذِمِّيَّةٌ فِي بَطْنِهَا جَنِينٌ مُسْلِمٌ جُعِلَ ظَهْرُهَا إلَى الْقِبْلَةِ وُجُوبًا لِيَتَوَجَّهَ الْجَنِينُ إلَى الْقِبْلَةِ إذَا كَانَ يَجِبُ دَفْنُ الْجَنِينِ لَوْ كَانَ مُنْفَصِلًا؛ لِأَنَّ وَجْهَ الْجَنِينِ عَلَى مَا ذَكَرُوا لِظَهْرِ الْأُمِّ، وَتُدْفَنُ هَذِهِ الْمَرْأَةُ بَيْنَ مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ. وَقِيلَ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ. وَقِيلَ فِي مَقَابِرِ الْكُفَّارِ.

تَنْبِيهٌ لَوْ حَذَفَ الْمُصَنِّفُ لَفْظَةَ فِي اللَّحْدِ كَانَ أَوْلَى لِيَشْمَلَ مَا قَدَّرْتُهُ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْوَضْعِ عَلَى الْيَمِينِ وَالِاسْتِقْبَالِ، وَالْمُعْتَمَدُ فِيهِمَا مَا تَقَرَّرَ (وَيُسْنَدُ وَجْهُهُ) نَدْبًا وَكَذَا رِجْلَاهُ (إلَى جِدَارِهِ) أَيْ الْقَبْرِ وَيُجْعَلُ فِي بَاقِي بَدَنِهِ كَالْمُتَجَافِي فَيَكُونُ كَالْقَوْسِ لِئَلَّا يَنْكَبَّ (وَ) يُسْنَدُ (ظَهْرُهُ بِلَبِنَةٍ وَنَحْوِهَا) كَطِينٍ لِيَمْنَعَهُ مِنْ الِاسْتِلْقَاءِ عَلَى قَفَاهُ، وَيُجْعَلُ تَحْتَ رَأْسِهِ لَبِنَةٌ أَوْ حَجَرٌ وَيُفْضِي بِخَدِّهِ الْأَيْمَنِ إلَيْهِ، أَوْ إلَى التُّرَابِ. قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ: بِأَنْ يُنَحَّى الْكَفَنُ عَنْ خَدِّهِ وَيُوضَعُ عَلَى التُّرَابِ (وَيُسَدُّ فَتْحُ اللَّحْدِ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ وَكَذَا غَيْرُهُ (بِلَبِنٍ) وَهُوَ طُوبٌ لَمْ يُحْرَقْ وَنَحْوُهُ كَطِينٍ لِقَوْلِ سَعْدٍ فِيمَا مَرَّ: وَانْصِبُوا عَلَيَّ اللَّبِنَ نَصْبًا؛ وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي صِيَانَةِ الْمَيِّتِ عَنْ النَّبْشِ، وَنَقَلَ الْمُصَنِّفُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّ اللَّبِنَاتِ الَّتِي وُضِعَتْ فِي قَبْرِهِ صلى الله عليه وسلم تِسْعٌ (وَيَحْثُو) نَدْبًا بِيَدَيْهِ جَمِيعًا (مَنْ دَنَا) مِنْ الْقَبْرِ (ثَلَاثَ حَثَيَاتِ تُرَابٍ) مِنْ تُرَابِ الْقَبْرِ، وَيَكُونُ الْحَثْيُ مِنْ قِبَلِ رَأْسِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم «حَثَا مِنْ قِبَلِ رَأْسِ الْمَيِّتِ ثَلَاثًا» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ وَلِمَا فِيهِ مِنْ الْمُشَارَكَةِ فِي هَذَا الْفَرْضِ، يُقَالُ حَثَى يَحْثِي حَثْيًا وَحَثَيَاتٍ، وَحَثَا يَحْثُو حَثْوًا وَحَثَوَاتٍ وَالْأَوَّلُ أَفْصَحُ، وَيُنْدَبُ أَنْ يَقُولَ مَعَ الْأُولَى {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ} [طه: 55] وَمَعَ الثَّانِيَةِ {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} [طه: 55] وَمَعَ الثَّالِثَةِ {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55][طَه] وَلَمْ يُبَيِّنْ الدُّنُوَّ وَكَأَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى الْعُرْفِ، وَعِبَارَةُ الشَّافِعِيِّ فِي الْأُمِّ: مِنْ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ. وَعِبَارَةُ الرَّوْضَةِ: وَأَصْلُهَا كُلُّ مَنْ دَنَا.

وَقَالَ فِي الْكِفَايَةِ: إنَّهُ يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ لِكُلِّ مَنْ حَضَرَ الدَّفْنَ وَهُوَ شَامِلٌ الْعَبْدَ أَيْضًا، وَهُوَ كَمَا قَالَ الْوَلِيُّ الْعِرَاقِيُّ ظَاهِرٌ (ثُمَّ يُهَالُ) مِنْ الْإِهَالَةِ وَهِيَ الصَّبُّ: أَيْ يُصَبُّ التُّرَابُ عَلَى الْمَيِّتِ (بِالْمَسَاحِي) ؛ لِأَنَّهُ أَسْرَعُ إلَى تَكْمِيلِ الدَّفْنِ، وَالْمَسَاحِي بِفَتْحِ الْمِيمِ جَمْعُ مِسْحَاةٍ بِكَسْرِهَا، وَهِيَ آلَةٌ تُمْسَحُ الْأَرْضُ بِهَا وَلَا تَكُونُ إلَّا مِنْ حَدِيدٍ بِخِلَافِ الْمِجْرَفَةِ. قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ، وَالْمِيمُ زَائِدَةٌ؛ لِأَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ السَّحْفِ أَوْ الْكَشْفِ، وَظَاهِرٌ أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا هِيَ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهَا وَإِنَّمَا كَانَتْ الْإِهَالَةُ بَعْدَ الْحَثْيِ؛ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنْ وُقُوعِ اللَّبِنَاتِ وَعَنْ تَأَذِّي الْحَاضِرِينَ بِالْغُبَارِ (وَيُرْفَعُ) نَدْبًا (الْقَبْرُ شِبْرًا) تَقْرِيبًا لِيُعْرَفَ فَيُزَارَ وَيُحْتَرَمَ؛ وَلِأَنَّ قَبْرَهُ صلى الله عليه وسلم رُفِعَ نَحْوَ شِبْرٍ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ (فَقَطْ) فَلَا يُزَادُ عَلَى تُرَابِ الْقَبْرِ لِئَلَّا يُعَظَّمَ شَخْصُهُ، وَإِنْ لَمْ يَرْتَفِعْ بِتُرَابِهِ شِبْرًا فَالْأَوْجَهُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا أَنْ يُزَادَ، هَذَا إذَا كَانَ بِدَارِنَا. أَمَّا لَوْ مَاتَ مُسْلِمٌ بِدَارِ الْكُفَّارِ فَلَا يُرْفَعُ قَبْرُهُ بَلْ يُخْفَى لِئَلَّا يَتَعَرَّض لَهُ الْكُفَّارُ إذَا رَجَعَ الْمُسْلِمُونَ قَالَهُ الْمُتَوَلِّي وَأَقَرَّاهُ، وَكَذَا إذَا كَانَ بِمَوْضِعٍ يُخَافُ نَبْشُهُ لِسَرِقَةِ كَفَنِهِ أَوْ لِعَدَاوَةٍ أَوْ نَحْوِهَا كَمَا قَالَهُ الْإِسْنَوِيُّ، وَأَلْحَقَ الْأَذْرَعِيُّ بِذَلِكَ أَيْضًا مَا لَوْ

ص: 39

وَالصَّحِيحُ أَنَّ تَسْطِيحَهُ أَوْلَى مِنْ تَسْنِيمِهِ، وَلَا يُدْفَنُ اثْنَانِ فِي قَبْرٍ إلَّا لِضَرُورَةٍ فَيُقَدَّمُ أَفْضَلُهُمَا، وَلَا يُجْلَسُ عَلَى الْقَبْرِ، وَلَا يُوطَأُ،

ــ

[مغني المحتاج]

مَاتَ بِبَلَدِ بِدْعَةٍ وَخُشِيَ عَلَيْهِ مِنْ نَبْشِهِ وَهَتْكِهِ وَالتَّمْثِيلِ بِهِ كَمَا صَنَعُوا بِبَعْضِ الصُّلَحَاءِ وَأَحْرَقُوهُ (وَالصَّحِيحُ) الْمَنْصُوصُ (أَنَّ تَسْطِيحَهُ أَوْلَى مِنْ تَسْنِيمِهِ) كَمَا فُعِلَ بِقَبْرِهِ صلى الله عليه وسلم وَقَبْرَيْ صَاحِبَيْهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَالثَّانِي تَسْنِيمُهُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ التَّسْطِيحَ شِعَارُ الرَّوَافِضِ فَيُتْرَكُ مُخَالَفَةً لَهُمْ وَصِيَانَةً لِلْمَيِّتِ وَأَهْلِهِ عَنْ الِاتِّهَامِ بِبِدْعَةٍ، وَرُدَّ هَذَا بِأَنَّ السُّنَّةَ لَا تُتْرَكُ لِمُوَافَقَةِ أَهْلِ الْبِدَعِ فِيهَا، إذْ لَوْ رُوعِيَ ذَلِكَ، لَأَدَّى إلَى تَرْكِ سُنَنٍ كَثِيرَةٍ (وَلَا يُدْفَنُ اثْنَانِ فِي قَبْرٍ) ابْتِدَاءً بَلْ يُفْرَدُ كُلُّ مَيِّتٍ بِقَبْرٍ حَالَةَ الِاخْتِيَارِ لِلِاتِّبَاعِ، ذَكَرَهُ فِي الْمَجْمُوعِ وَقَالَ: إنَّهُ صَحِيحٌ، وَعِبَارَةُ الرَّوْضَةِ: الْمُسْتَحَبُّ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ أَنْ يُدْفَنَ كُلُّ مَيِّتٍ فِي قَبْرٍ اهـ.

فَلَوْ جُمِعَ اثْنَانِ فِي قَبْرٍ وَاتَّحَدَ الْجِنْسُ كَرَجُلَيْنِ وَامْرَأَتَيْنِ كُرِهَ عِنْدَ الْمَاوَرْدِيُّ، وَحَرُمَ عِنْدَ السَّرَخْسِيِّ، وَنَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ عَنْهُ فِي مَجْمُوعِهِ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ وَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: وَعِبَارَةُ الْأَكْثَرِينَ وَلَا يُدْفَنُ اثْنَانِ فِي قَبْرٍ.

قَالَ السُّبْكِيُّ: لَكِنَّ الْأَصَحَّ الْكَرَاهَةُ أَوْ نَفْيُ الِاسْتِحْبَابِ. أَمَّا التَّحْرِيمُ فَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ اهـ.

وَسَيَأْتِي مَا يُقَوِّي التَّحْرِيمَ (إلَّا لِضَرُورَةٍ) كَأَنْ كَثُرُوا وَعَسُرَ إفْرَادُ كُلِّ مَيِّتٍ بِقَبْرٍ فَيُجْمَعُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ وَالْأَكْثَرِ فِي قَبْرٍ بِحَسَبِ الضَّرُورَةِ، وَكَذَا فِي ثَوْبٍ، وَذَلِكَ لِلِاتِّبَاعِ فِي قَتْلَى أُحُدٍ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (فَيُقَدَّمُ) حِينَئِذٍ (أَفْضَلُهُمَا) وَهُوَ الْأَحَقُّ بِالْإِمَامَةِ إلَى جِدَارِ الْقَبْرِ الْقِبْلِيِّ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْأَلُ فِي قَتْلَى أُحُدٍ عَنْ أَكْثَرِهِمْ قُرْآنًا فَيُقَدِّمُهُ إلَى اللَّحْدِ، لَكِنْ لَا يُقَدَّمُ فَرْعٌ عَلَى أَصْلِهِ مِنْ جِنْسِهِ وَإِنْ عَلَا حَتَّى يُقَدَّمَ الْجَدُّ وَلَوْ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ وَكَذَا الْجَدَّةُ، قَالَهُ الْإِسْنَوِيُّ، فَيُقَدَّمُ الْأَبُ عَلَى الِابْنِ وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ لِحُرْمَةِ الْأُبُوَّةِ، وَتُقَدَّمُ الْأُمُّ عَلَى الْبِنْتِ وَإِنْ كَانَتْ أَفْضَلَ.

أَمَّا الِابْنُ مَعَ الْأُمِّ فَيُقَدَّمُ لِفَضِيلَةِ الذُّكُورَةِ، وَيُقَدَّمُ الرَّجُلُ عَلَى الصَّبِيِّ، وَالصَّبِيُّ عَلَى الْخُنْثَى، وَالْخُنْثَى عَلَى الْمَرْأَةِ، وَلَا يُجْمَعُ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ فِي قَبْرٍ إلَّا لِضَرُورَةٍ فَيَحْرُمُ عِنْدَ عَدَمِهَا كَمَا فِي الْحَيَاةِ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَمَحَلُّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مَحْرَمِيَّةٌ أَوْ زَوْجِيَّةٌ وَإِلَّا فَيَجُوزُ الْجَمْعُ. قَالَ الْإِسْنَوِيُّ: وَهُوَ مُتَّجَهٌ، وَاَلَّذِي فِي الْمَجْمُوعِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فَقَالَ: إنَّهُ حَرَامٌ حَتَّى فِي الْأُمِّ مَعَ وَلَدِهَا، وَهَذَا كَمَا قَالَ شَيْخِي هُوَ الظَّاهِرُ، إذْ الْعِلَّةُ فِي مَنْعِ الْجَمْعِ الْإِيذَاءُ؛ لِأَنَّ الشَّهْوَةَ قَدْ انْقَطَعَتْ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَحْرَمِ وَغَيْرِهِ وَلَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَوْ لَا، وَالْخُنْثَى مَعَ الْخُنْثَى أَوْ غَيْرِهِ كَالْأُنْثَى مَعَ الذَّكَرِ، وَالصَّغِيرُ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الشَّهْوَةِ كَالْمَحْرَمِ، وَيُحْجَزُ بَيْنَ الْمَيِّتَيْنِ بِتُرَابٍ حَيْثُ جُمِعَ بَيْنَهُمَا نَدْبًا كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ الْمُقْرِي فِي شَرْحِ إرْشَادِهِ، وَلَوْ اتَّحَدَ الْجِنْسُ. أَمَّا نَبْشُ الْقَبْرِ بَعْدَ دَفْنِ الْمَيِّتِ لِدَفْنِ ثَانٍ فِيهِ: أَيْ فِي لَحْدِهِ فَلَا يَجُوزُ مَا لَمْ يُبْلَ الْأَوَّلُ وَيَصِرْ تُرَابًا.

وَأَمَّا إذَا جُعِلَ فِي الْقَبْرِ فِي لَحْدٍ آخَرَ مِنْ جَانِبِ الْقَبْرِ الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَظْهَرَ مِنْ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ شَيْءٌ كَمَا يُفْعَلُ الْآنَ كَثِيرًا فَالظَّاهِرُ عَدَمُ الْحُرْمَةِ وَلَمْ أَرَ مَنْ ذَكَرَ ذَلِكَ (وَلَا يُجْلَسُ عَلَى الْقَبْرِ) الْمُحْتَرَمِ وَلَا يُتَّكَأُ عَلَيْهِ وَلَا يُسْتَنَدُ إلَيْهِ (وَلَا يُوطَأُ) عَلَيْهِ إلَّا لِضَرُورَةٍ كَأَنْ لَا يَصِلَ إلَى مَيِّتِهِ أَوْ مَنْ يَزُورُهُ وَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا كَمَا بَحَثَهُ الْأَذْرَعِيُّ أَوْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْحَفْرِ إلَّا بِوَطْئِهِ لِصِحَّةِ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، وَالْمَشْهُورُ فِي ذَلِكَ الْكَرَاهَةُ

ص: 40

وَيَقْرُبُ زَائِرُهُ كَقُرْبِهِ مِنْهُ حَيًّا.

وَالتَّعْزِيَةُ سُنَّةٌ قَبْلَ دَفْنِهِ وَبَعْدَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَيُعَزَّى

ــ

[مغني المحتاج]

وَهُوَ الْمَجْزُومُ بِهِ فِي الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا. وَأَمَّا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتَخْلُصَ إلَى جِلْدِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ» فَفُسِّرَ فِيهِ الْجُلُوسُ بِالْحَدَثِ وَهُوَ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَجَرَى الْمُصَنِّفُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَفِي رِيَاضِ الصَّالِحِينَ عَلَى الْحُرْمَةِ أَخْذًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَالْمُعْتَمَدُ الْكَرَاهَةُ.

وَأَمَّا غَيْرُ الْمُحْتَرَمِ كَقَبْرِ حَرْبِيٍّ وَمُرْتَدٍّ وَزِنْدِيقٍ فَلَا يُكْرَهُ ذَلِكَ، وَإِذَا مَضَتْ مُدَّةٌ يُتَيَقَّنُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ الْمَيِّتِ فِي الْقَبْرِ شَيْءٌ فَلَا بَأْسَ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ، وَلَا يُكْرَهُ الْمَشْيُ بَيْنَ الْمَقَابِرِ بِالنَّعْلِ عَلَى الْمَشْهُورِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «إنَّهُ لَيَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ» وَمَا وَرَدَ

مِنْ الْأَمْرِ بِإِلْقَاءِ السِّبْتِيَّتَيْنِ فِي أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيَّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ لِبَاسِ الْمُتَرَفِّهِينَ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ فِيهِمَا نَجَاسَةٌ، وَالنِّعَالُ السِّبْتِيَّةُ بِكَسْرِ السِّينِ الْمَدْبُوغَةُ بِالْقَرَظِ (وَيَقْرُبُ زَائِرُهُ) مِنْهُ (كَقُرْبِهِ مِنْهُ) فِي زِيَارَتِهِ لَهُ (حَيًّا) أَيْ يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا احْتِرَامًا لَهُ. نَعَمْ لَوْ كَانَ عَادَتُهُ مِنْهُ الْبُعْدَ وَقَدْ أَوْصَى بِالْقُرْبِ مِنْهُ قَرُبَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ حَقُّهُ كَمَا لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي الْحَيَاةِ قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ.

وَأَمَّا مَنْ كَانَ يُهَابُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ لِكَوْنِهِ جَبَّارًا كَالْوُلَاةِ وَالظَّلَمَةِ فَلَا عِبْرَةَ بِذَلِكَ.

(وَالتَّعْزِيَةُ) لِأَهْلِ الْمَيِّتِ صَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ ذَكَرِهِمْ وَأُنْثَاهُمْ (سُنَّةٌ) فِي الْجُمْلَةِ مُؤَكَّدَةٌ لِمَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُعَزِّي أَخَاهُ بِمُصِيبَةٍ إلَّا كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ حُلَلِ الْكَرَامَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» نَعَمْ الشَّابَّةُ لَا يُعَزِّيهَا أَجْنَبِيٌّ وَإِنَّمَا يُعَزِّيهَا مَحَارِمُهَا وَزَوْجُهَا، وَكَذَا مَنْ أُلْحِقَ بِهِمْ فِي جَوَازِ النَّظَرِ كَمَا بَحَثَهُ شَيْخُنَا وَابْنُ خَيْرَانَ بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ التَّعْزِيَةُ بِالْمَمْلُوكِ، بَلْ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُعَزَّى بِكُلِّ مَنْ يَحْصُلُ لَهُ عَلَيْهِ وَجْدٌ كَمَا ذَكَرَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ حَتَّى الزَّوْجَةُ وَالصَّدِيقُ، وَتَعْبِيرُهُمْ بِالْأَهْلِ جَرَى عَلَى الْغَالِبِ، وَتُنْدَبُ الْبُدَاءَةُ بِأَضْعَفِهِمْ عَنْ حَمْلِ الْمُصِيبَةِ، وَخُرِّجَ بِقَوْلِنَا فِي الْجُمْلَةِ تَعْزِيَةُ الذِّمِّيِّ بِذِمِّيٍّ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ لَا مَنْدُوبَةٌ، وَهِيَ لُغَةً التَّسْلِيَةُ عَمَّنْ يَعِزُّ عَلَيْهِ، وَاصْطِلَاحًا الْأَمْرُ بِالصَّبْرِ وَالْحَمْلُ عَلَيْهِ بِوَعْدِ الْأَجْرِ، وَالتَّحْذِيرُ مِنْ الْوِزْرِ بِالْجَزَعِ، وَالدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ بِالْمَغْفِرَةِ، وَلِلْمُصَابِ بِجَبْرِ الْمُصِيبَةِ، وَتُسَنُّ (قَبْلَ دَفْنِهِ) ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ شِدَّةِ الْجَزَعِ وَالْحَزَنِ (وَ) لَكِنْ (بَعْدَهُ) أَوْلَى لِاشْتِغَالِهِمْ قَبْلَهُ بِتَجْهِيزِهِ إلَّا إنْ أَفْرَطَ حُزْنُهُمْ فَتَقْدِيمُهَا أَوْلَى لِيُصَبِّرَهُمْ، وَغَايَتُهَا (ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ) تَقْرِيبًا مِنْ الْمَوْتِ الْحَاضِرِ وَمِنْ الْقُدُومِ لِغَائِبٍ، وَمِثْلُ الْغَائِبِ الْمَرِيضُ الْمَحْبُوسُ فَتُكْرَهُ التَّعْزِيَةُ بَعْدَهَا إذْ الْغَرَضُ مِنْهَا تَسْكِينُ قَلْبِ الْمُصَابِ، وَالْغَالِبُ سُكُونُهُ فِيهَا فَلَا يُجَدِّدُ حُزْنَهُ، وَيُكْرَهُ الْجُلُوسُ لَهَا بِأَنْ يَجْتَمِعَ أَهْلُ الْمَيِّتِ بِمَكَانٍ لِيَأْتِيَهُمْ النَّاسُ لِلتَّعْزِيَةِ؛ لِأَنَّهُ مُحْدَثٌ وَهُوَ بِدْعَةٌ؛ وَلِأَنَّهُ يُجَدِّدُ الْحُزْنَ وَيُكَلِّفُ الْمُعَزِّيَ.

وَأَمَّا مَا ثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - مِنْ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا جَاءَهُ قَتْلُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَجَعْفَرٍ وَابْنِ رَوَاحَةَ جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ يُعْرَفُ فِي وَجْهِهِ الْحُزْنُ» فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ جُلُوسَهُ كَانَ لِأَجْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ النَّاسُ لِيُعَزُّوهُ (وَيُعَزَّى) بِفَتْحِ

ص: 41

الْمُسْلِمُ بِالْمُسْلِمِ: أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَكَ وَأَحْسَنَ عَزَاءَكَ وَغَفَرَ لِمَيِّتِكَ، وَبِالْكَافِرِ أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَكَ وَصَبَّرَكَ، وَالْكَافِرُ بِالْمُسْلِمِ غَفَرَ اللَّهُ لِمَيِّتِكَ وَأَحْسَنَ عَزَاءَكَ.

وَيَجُوزُ الْبُكَاءُ عَلَيْهِ قَبْلَ الْمَوْتِ

ــ

[مغني المحتاج]

الزَّايِ (الْمُسْلِمُ) أَيْ يُقَالُ فِي تَعْزِيَتِهِ (بِالْمُسْلِمِ أَعْظَمَ) أَيْ جَعَلَ (اللَّهُ أَجْرَكَ) عَظِيمًا (وَأَحْسَنَ) أَيْ جَعَلَ اللَّهُ (عَزَاءَكَ) بِالْمَدِّ حَسَنًا وَزَادَ عَلَى الْمُحَرَّرِ قَوْلَهُ (وَغَفَرَ لِمَيِّتِكَ) ؛ لِأَنَّهُ لَائِقٌ بِالْحَالِ، وَقُدِّمَ الدُّعَاءُ لِلْمُعَزِّي؛ لِأَنَّهُ الْمُخَاطَبُ، وَيُسَنُّ أَنْ يَبْدَأَ قَبْلَهُ بِمَا وَرَدَ مِنْ تَعْزِيَةِ الْخَضِرِ أَهْلَ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَوْتِهِ: إنَّ فِي اللَّهِ عَزَاءً مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ، وَخَلَفًا مِنْ كُلِّ هَالِكٍ، وَدَرَكًا مِنْ كُلِّ فَائِتٍ، فَبِاَللَّهِ فَثِقُوا، وَإِيَّاهُ فَارْجُوا، فَإِنَّ الْمُصَابَ مَنْ حُرِمَ الثَّوَابَ (وَ) يُعَزَّى الْمُسْلِمُ أَيْ يُقَالُ فِي تَعْزِيَتِهِ (بِالْكَافِرِ) الذِّمِّيِّ (أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَكَ وَصَبَّرَكَ) وَأَخْلَفَ عَلَيْكَ أَوْ جَبَرَ مُصِيبَتَكَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا؛ لِأَنَّهُ اللَّائِقُ بِالْحَالِ.

قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: إذَا اُحْتُمِلَ حُدُوثُ مِثْلِ الْمَيِّتِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَمْوَالِ، يُقَالُ أَخْلَفَ اللَّهُ عَلَيْكَ بِالْهَمْزِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ: رُدَّ عَلَيْكَ مِثْلُ مَا ذَهَبَ مِنْكَ وَإِلَّا خَلَّفَ عَلَيْكَ: أَيْ كَانَ اللَّهُ خَلِيفَةً عَلَيْكَ مِنْ فَقْدِهِ، وَلَا يَقُولُ وَغَفَرَ لِمَيِّتِكَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِغْفَارَ لِلْكَافِرِ حَرَامٌ (وَ) يُعَزَّى (الْكَافِرُ) الْمُحْتَرَمُ جَوَازًا إلَّا إنْ رُجِيَ إسْلَامُهُ فَنَدْبًا: أَيْ يُقَالُ فِي تَعْزِيَتِهِ (بِالْمُسْلِمِ: غَفَرَ اللَّهُ لِمَيِّتِكَ وَأَحْسَنَ عَزَاءَكَ) وَقُدِّمَ الدُّعَاءُ لِلْمَيِّتِ فِي هَذَا؛ لِأَنَّهُ لِمُسْلِمٍ وَالْحَيُّ كَافِرٌ، وَلَا يُقَالُ أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَكَ؛ لِأَنَّهُ لَا أَجْرَ لَهُ.

أَمَّا الْكَافِرُ غَيْرُ الْمُحْتَرَمِ مِنْ حَرْبِيٍّ أَوْ مُرْتَدٍّ كَمَا بَحَثَهُ الْأَذْرَعِيُّ فَلَا يُعَزَّى، وَهَلْ هُوَ حَرَامٌ أَوْ مَكْرُوهٌ؟ الظَّاهِرُ فِي الْمُهِمَّاتِ الْأُوَلُ، وَمُقْتَضَى كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ الثَّانِي وَهُوَ الظَّاهِرُ. هَذَا إنْ لَمْ يُرْجَ إسْلَامُهُ فَإِنْ رُجِيَ اُسْتُحِبَّتْ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ السُّبْكِيّ وَلَا يُعَزَّى بِهِ أَيْضًا، وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ تَعْزِيَةَ الْكَافِرِ بِالْكَافِرِ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُسْتَحَبَّةٍ، اقْتَضَاهُ كَلَامُ الشَّرْحِ وَالرَّوْضَةِ، بَلْ هِيَ جَائِزَةٌ إنْ لَمْ يُرْجَ إسْلَامُهُ كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَى ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ قَضِيَّةُ كَلَامِ التَّنْبِيهِ اسْتِحْبَابَهَا مُطْلَقًا كَمَا نَبَّهْتُ عَلَى ذَلِكَ فِي شَرْحِهِ، وَصِيغَتُهَا: أَخْلَفَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَلَا نَقَصَ عَدَدُكَ بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُنَا فِي الدُّنْيَا بِكَثْرَةِ الْجِزْيَةِ وَفِي الْآخِرَةِ بِالْفِدَاءِ مِنْ النَّارِ. قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ: وَهُوَ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ بِدَوَامِ الْكُفْرِ فَالْمُخْتَارُ تَرْكُهُ، وَمَنَعَهُ ابْنُ النَّقِيبِ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي الْبَقَاءَ عَلَى الْكُفْرِ وَلَا يُحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلِهِ بِتَكْثِيرِ الْجِزْيَةِ.

فَائِدَةٌ سُئِلَ أَبُو بَكْرَةَ عَنْ مَوْتِ الْأَهْلِ فَقَالَ: مَوْتُ الْأَبِ قَصْمُ الظَّهْرِ، وَمَوْتُ الْوَلَدِ صَدْعٌ فِي الْفُؤَادِ، وَمَوْتُ الْأَخِ قَصُّ الْجَنَاحِ، وَمَوْتُ الزَّوْجَةِ حُزْنُ سَاعَةٍ. وَلِذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: مِنْ الْأَدَبِ أَنْ لَا يُعَزَّى الرَّجُلُ فِي زَوْجَتِهِ، وَهَذَا مِنْ تَفَرُّدَاتِهِ. وَلَمَّا عُزِّيَ صلى الله عليه وسلم فِي بِنْتِهِ رُقَيَّةَ قَالَ «الْحَمْدُ لِلَّهِ دَفْنُ الْبَنَاتِ مِنْ الْمَكْرُمَاتِ» رَوَاهُ الْعَسْكَرِيُّ فِي الْأَمْثَالِ.

(وَيَجُوزُ الْبُكَاءُ عَلَيْهِ) أَيْ الْمَيِّتِ (قَبْلَ الْمَوْتِ) بِالْإِجْمَاعِ لَكِنَّ الْأَوْلَى عَدَمُهُ بِحَضْرَةِ الْمُحْتَضِرِ. قَالَ فِي الرَّوْضَةِ كَأَصْلِهَا: وَالْبُكَاءُ قَبْلَ الْمَوْتِ أَوْلَى مِنْهُ بَعْدَهُ. قَالَ الْإِسْنَوِيُّ: وَمُقْتَضَاهُ طَلَبُ الْبُكَاءِ، وَبِهِ صَرَّحَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فَقَالَ: يُسْتَحَبُّ إظْهَارًا لِكَرَاهَةِ فِرَاقِهِ، وَعَدَمِ الرَّغْبَةِ فِي مَالِهِ، وَنَقَلَهُ فِي الْمُهِمَّاتِ عَنْ

ص: 42

وَبَعْدَهُ، وَيَحْرُمُ النَّدْبُ بِتَعْدِيدِ شَمَائِلِهِ وَالنَّوْحِ وَالْجَزَعِ بِضَرْبِ صَدْرِهِ وَنَحْوِهِ.

ــ

[مغني المحتاج]

ابْنِ الصَّبَّاغِ وَنَظَرَ فِيهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ أَوْلَى بِالْجَوَازِ لِمَا سَيَأْتِي مِنْ أَنَّهُ يَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ أَسَفًا عَلَى مَا فَاتَ (وَ) يَجُوزُ (بَعْدَهُ) أَيْضًا وَلَوْ بَعْدَ الدَّفْنِ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم «بَكَى عَلَى وَلَدِهِ إبْرَاهِيمَ قَبْلَ مَوْتِهِ وَقَالَ: إنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلَا نَقُولُ إلَّا مَا يُرْضِي رَبَّنَا، وَإِنَّا عَلَى فِرَاقِكَ يَا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ» (1) . «وَبَكَى عَلَى قَبْرِ بِنْتٍ لَهُ. وَزَارَ قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ» . رَوَى الْأَوَّلَ الشَّيْخَانِ وَالثَّانِيَ الْبُخَارِيُّ. وَالثَّالِثَ مُسْلِمٌ.

وَالْبُكَاءُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْمَوْتِ خِلَافُ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ أَسَفًا عَلَى مَا فَاتَ. نَقَلَهُ فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الْجُمْهُورِ، بَلْ نُقِلَ فِي الْأَذْكَارِ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَالْمُعْتَمَدُ الْأَوَّلُ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَيَجُوزُ. قَالَ السُّبْكِيُّ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: إذَا كَانَ الْبُكَاءُ لِلرِّقَّةِ عَلَى الْمَيِّتِ وَمَا يُخْشَى عَلَيْهِ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا يُكْرَهُ وَلَا يَكُونُ خِلَافَ الْأَوْلَى، وَإِنْ كَانَ لِلْجَزَعِ وَعَدَمِ التَّسْلِيمِ لِلْقَضَاءِ فَيُكْرَهُ أَوْ يَحْرُمُ اهـ. وَالثَّانِي أَظْهَرُ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَيُسْتَثْنَى مَا إذَا غَلَبَهُ الْبُكَاءُ فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَمْلِكُهُ الْبَشَرُ، وَهَذَا ظَاهِرٌ قَالَ بَعْضُهُمْ: وَإِنْ كَانَ لِمَحَبَّةٍ وَرِقَّةٍ كَالْبُكَاءِ عَلَى الطِّفْلِ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَالصَّبْرُ أَجْمَلُ، وَإِنْ كَانَ لِمَا فُقِدَ مِنْ عِلْمِهِ وَصَلَاحِهِ وَبَرَكَتِهِ وَشَجَاعَتِهِ فَيَظْهَرُ اسْتِحْبَابُهُ، أَوْ لِمَا فَاتَهُ مِنْ بِرِّهِ وَقِيَامِهِ بِمَصَالِحِ حَالِهِ فَيَظْهَرُ كَرَاهَتُهُ لِتَضَمُّنِهِ عَدَمَ الثِّقَةِ بِاَللَّهِ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: هَذَا كُلُّهُ فِي الْبُكَاءِ بِصَوْتٍ. أَمَّا بِمُجَرَّدِ دَمْعِ الْعَيْنِ فَلَا مَنْعَ مِنْهُ اهـ.

وَلَفْظُ الْأَوَّلِ مَمْدُودٌ وَالثَّانِي مَقْصُورٌ. قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: [الْوَافِرُ]

بَكَتْ عَيْنِي وَحُقَّ لَهَا بُكَاهَا

وَمَا يُغْنِي الْبُكَاءُ وَلَا الْعَوِيلُ

وَوَهَمَ الْجَوْهَرِيُّ فِي نِسْبَتِهِ لِحَسَّانَ (وَيَحْرُمُ النَّدْبُ بِتَعْدِيدِ شَمَائِلِهِ) جَمْعُ شِمَالٍ كَهِلَالٍ، وَهِيَ مَا اتَّصَفَ بِهِ الْمَيِّتُ مِنْ الطِّبَاعِ الْحَسَنَةِ، كَقَوْلِهِمْ: وَاكَهْفَاهُ، وَاجَبَلَاهْ. لِحَدِيثِ «مَا مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ بَاكِيهِمْ فَيَقُولُ: وَاجَبَلَاهْ، وَاسَنَدَاهْ. أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ إلَّا وُكِّلَ بِهِ مَلَكَانِ يَلْهَزَانِهِ، أَهَكَذَا كُنْتَ؟» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ.

هَذَا إذَا أَوْصَى بِذَلِكَ أَوْ كَانَ كَافِرًا كَمَا سَيَأْتِي، وَاللَّهْزُ الدَّفْعُ فِي الصَّدْرِ بِالْيَدِ وَهِيَ مَقْبُوضَةٌ (وَ) يَحْرُمُ (النَّوْحُ) وَهُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالنَّدْبِ. قَالَهُ فِي الْمَجْمُوعِ، وَقَيَّدَهُ غَيْرُهُ بِالْكَلَامِ الْمُسْجَعِ، وَلَيْسَ بِقَيْدٍ لِخَبَرِ «النَّائِحَةُ إذَا لَمْ تَتُبْ تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَالسِّرْبَالُ الْقَمِيصُ (وَ) يَحْرُمُ (الْجَزَعُ بِضَرْبِ صَدْرِهِ وَنَحْوِهِ) كَشَقِّ جَيْبٍ وَنَشْرِ شَعْرٍ وَتَسْوِيدِ وَجْهٍ وَإِلْقَاءِ رَمَادٍ عَلَى رَأْسٍ وَرَفْعِ صَوْتٍ بِإِفْرَاطٍ فِي الْبُكَاءِ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ وَنَقَلَهُ فِي الْأَذْكَارِ عَنْ الْأَصْحَابِ، لِخَبَرِ الشَّيْخَيْنِ «لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ» .

وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا تَغْيِيرُ الزِّيِّ وَلُبْسُ غَيْرِ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَالضَّابِطُ كُلُّ فِعْلٍ يَتَضَمَّنُ إظْهَارَ جَزَعٍ يُنَافِي الِانْقِيَادَ وَالِاسْتِسْلَامَ لِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مُحَرَّمٌ، وَلَا يُعَذَّبُ الْمَيِّتُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يُوصِ بِهِ. قَالَ تَعَالَى:{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164][فَاطِرُ] بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى بِهِ كَقَوْلِ

ص: 43

قُلْتُ: هَذِهِ مَسَائِلُ مَنْثُورَةٌ: يُبَادِرُ بِقَضَاءِ دَيْنِ الْمَيِّتِ وَوَصِيَّتِهِ.

وَيُكْرَهُ تَمَنِّي الْمَوْتِ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ لَا لِفِتْنَةِ دِينٍ.

ــ

[مغني المحتاج]

طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ: [الطَّوِيلُ]

إذَا مِتُّ فَانْعِينِي بِمَا أَنَا أَهْلُهُ

وَشُقِّي عَلَيَّ الْجَيْبَ يَا ابْنَةَ مَعْبَدِ

وَعَلَيْهِ حَمَلَ الْجُمْهُورُ الْأَخْبَارَ الْوَارِدَةَ بِتَعْذِيبِ الْمَيِّتِ عَلَى ذَلِكَ.

فَإِنْ قِيلَ: ذَنْبُ الْمَيِّتِ فِيمَا إذَا أَوْصَى الْأَمْرُ بِذَلِكَ فَلَا يَخْتَلِفُ عَذَابُهُ بِامْتِثَالِهِمْ وَعَدَمِهِ.

أُجِيبَ بِأَنَّ الذَّنْبَ عَلَى السَّبَبِ يَعْظُمُ بِوُجُودِ الْمُسَبَّبِ وَشَاهِدُهُ خَبَرُ " مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً " وَالْأَصَحُّ كَمَا قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ أَنَّ مَا ذُكِرَ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَافِرِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ الذُّنُوبِ. قَالَ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ: وَيُكْرَهُ إرْثَاءُ الْمَيِّتِ بِذِكْرِ أَيَّامِهِ وَفَضَائِلِهِ لِلنَّهْيِ عَنْ الْمَرَاثِي، وَالْأَوْلَى الِاسْتِغْفَارُ لَهُ.

وَالْأَوْجَهُ حَمْلُ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ عَلَى مَا يَظْهَرُ فِيهِ تَبَرُّمٌ أَوْ عَلَى فِعْلِهِ مَعَ الِاجْتِمَاعِ لَهُ أَوْ عَلَى الْإِكْثَارِ مِنْهُ أَوْ عَلَى مَا يُجَدِّدُ الْحُزْنَ دُونَ مَا عَدَا ذَلِكَ فَمَا زَالَ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ يَفْعَلُونَهُ، وَقَدْ قَالَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ [الْكَامِل] :

مَاذَا عَلَى مَنْ شَمَّ تُرْبَةَ أَحْمَدَ

أَنْ لَا يَشُمَّ مَدَى الزَّمَانِ غَوَالِيَا

صُبَّتْ عَلَيَّ مَصَائِبُ لَوْ أَنَّهَا

صُبَّتْ عَلَى الْأَيَّامِ عُدْنَ لَيَالِيَا.

(قُلْتُ هَذِهِ مَسَائِلُ مَنْثُورَةٌ) : أَيْ مُتَفَرِّقَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْبَابِ زِدْتُهَا عَلَى الْمُحَرَّرِ، وَالْفَطِنُ يَرُدُّ كُلَّ مَسْأَلَةٍ مِنْهَا إلَى مَا يُنَاسِبُهَا مِمَّا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا جَمَعَهَا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَرَّقَهَا لَاحْتَاجَ أَنْ يَقُولَ فِي أَوَّلِ كُلٍّ مِنْهَا. قُلْتُ: وَفِي آخِرِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فَيُؤَدِّي إلَى التَّطْوِيلِ الْمُنَافِي لِغَرَضِهِ مِنْ الِاخْتِصَارِ (يُبَادَرُ) نَدْبًا (بِقَضَاءِ دَيْنِ الْمَيِّتِ) إنْ تَيَسَّرَ حَالًّا قَبْلَ الِاشْتِغَالِ بِتَجْهِيزِهِ مُسَارَعَةً إلَى فِكَاكِ نَفْسِهِ، لِخَبَرِ «نَفْسُ الْمُؤْمِنِ أَيْ رُوحُهُ مُعَلَّقَةٌ: أَيْ مَحْبُوسَةٌ عَنْ مَقَامِهَا الْكَرِيمِ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ، فَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ حَالًّا سَأَلَ وَلِيُّهُ غُرَمَاءَهُ أَنْ يُحَلِّلُوهُ وَيَحْتَالُوا بِهِ عَلَيْهِ: نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ وَاسْتَشْكَلَ فِي الْمَجْمُوعِ الْبَرَاءَةَ بِذَلِكَ ثُمَّ قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَلِكَ مُبَرِّئًا لِلْمَيِّتِ لِلْحَاجَةِ وَالْمَصْلَحَةِ، وَظَاهِرٌ أَنَّ الْمُبَادَرَةَ تَجِبُ عِنْدَ طَلَبِ الْمُسْتَحِقِّ حَقَّهُ، وَلَا مَعْنَى لِلتَّأْخِيرِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ التَّرِكَةِ (وَ) تَنْفِيذُ (وَصِيَّتِهِ) مُسَارَعَةً لِوُصُولِ الثَّوَابِ إلَيْهِ وَالْبِرِّ لِلْمُوصَى لَهُ، وَذَلِكَ مَنْدُوبٌ بَلْ وَاجِبٌ عِنْدَ طَلَبِ الْمُوصَى لَهُ الْمُعَيَّنَ، وَكَذَا عِنْدَ الْمُكْنَةِ فِي الْوَصِيَّةِ لِلْفُقَرَاءِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ، أَوْ كَانَ قَدْ أَوْصَى بِتَعْجِيلِهَا.

(وَيُكْرَهُ تَمَنِّي الْمَوْتِ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ) فِي بَدَنِهِ أَوْ ضِيقٍ فِي دُنْيَاهُ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ «لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ لِضُرٍّ أَصَابَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي وَتَوَفَّنِي مَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي» (لَا لِفِتْنَةِ دِينٍ) فَلَا يُكْرَهُ

ص: 44

وَيُسَنُّ التَّدَاوِي، وَيُكْرَهُ إكْرَاهُهُ عَلَيْهِ.

وَيَجُوزُ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ وَنَحْوِهِمْ تَقْبِيلُ وَجْهِهِ.

وَلَا بَأْسَ بِالْإِعْلَامِ بِمَوْتِهِ لِلصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا

ــ

[مغني المحتاج]

حِينَئِذٍ كَمَا قَالَهُ فِي الْأَذْكَارِ وَالْمَجْمُوعِ، وَعَبَّرَ فِي الرَّوْضَةِ بِقَوْلِهِ: لَا بَأْسَ، وَفِي فَتَاوَى الْمُصَنِّفِ غَيْرِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَمَنِّي الْمَوْتِ حِينَئِذٍ. قَالَ: وَنَقَلَهُ بَعْضُهُمْ عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَغَيْرِهِمَا، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَيُمْكِنُ حَمْلُ كَلَامِ الْمَجْمُوعِ وَالْأَذْكَارِ عَلَيْهِ.

أَمَّا تَمَنِّيهِ لِغَرَضٍ أُخْرَوِيٍّ فَمَحْبُوبٌ كَتَمَنِّي الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه: لَمْ يَتَمَنَّ نَبِيٌّ الْمَوْتَ غَيْرَ يُوسُفَ عليه الصلاة والسلام، وَقَالَ غَيْرُهُ إنَّمَا تَمَنَّى الْوَفَاةَ عَلَى الْإِسْلَامِ لَا الْمَوْتَ.

(وَيُسَنُّ) لِلْمَرِيضِ (التَّدَاوِي) لِخَبَرِ «إنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إلَّا وَضَعَ لَهُ دَوَاءً غَيْرَ الْهَرَمِ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ «مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إلَّا وَأَنْزَلَ لَهُ دَوَاءً جَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ وَعَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ فَعَلَيْكُمْ بِأَلْبَانِ الْبَقَرِ فَإِنَّهَا تَرُمُّ مِنْ كُلِّ الشَّجَرِ: أَيْ تَأْكُلُ» وَفِي رِوَايَةٍ «عَلَيْكُمْ بِالْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ فَإِنَّ فِيهَا شِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ إلَّا السَّامَ» يُرِيدُ الْمَوْتَ. قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ: فَإِنْ تُرِكَ التَّدَاوِي تَوَكُّلًا فَهُوَ أَفْضَلُ، فَإِنْ قِيلَ: إنَّهُ صلى الله عليه وسلم فَعَلَهُ وَهُوَ رَأْسُ الْمُتَوَكِّلِينَ.

أُجِيبَ بِأَنَّهُ فَعَلَهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَفِي فَتَاوَى ابْنِ الْبَرَزِيِّ أَنَّ مَنْ قَوِيَ تَوَكُّلُهُ فَالتَّرْكُ لَهُ أَوْلَى، وَمَنْ ضَعُفَ يَقِينُهُ وَقَلَّ صَبْرُهُ فَالْمُدَاوَاةُ لَهُ أَفْضَلُ، وَهُوَ كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ حَسَنٌ، وَيُمْكِنُ حَمْلُ كَلَامِ الْمَجْمُوعِ عَلَيْهِ، وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ، فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا وَجَبَ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ وَإِسَاغَةِ اللُّقْمَةِ بِالْخَمْرِ؟ .

أُجِيبَ بِأَنَّا لَا نَقْطَعُ بِإِفَادَتِهِ بِخِلَافِهَا، وَيَجُوزُ اسْتِيصَافِ الطَّبِيبِ الْكَافِرِ وَاعْتِمَادُ وَصْفِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْأَصْحَابُ عَلَى دُخُولِ الْكَافِرِ الْحَرَمَ (وَيُكْرَهُ إكْرَاهُهُ) أَيْ الْمَرِيضِ (عَلَيْهِ) أَيْ التَّدَاوِي بِاسْتِعْمَالِ الدَّوَاءِ، وَكَذَا إكْرَاهُهُ عَلَى الطَّعَامِ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ التَّشْوِيشِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا حَدِيثُ «لَا تُكْرِهُوا مَرْضَاكُمْ عَلَى الطَّعَامِ فَإِنَّ اللَّهَ يُطْعِمُهُمْ وَيَسْقِيهِمْ» فَقَالَ فِي الْمَجْمُوعِ ضَعَّفَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ، وَادَّعَى التِّرْمِذِيُّ أَنَّهُ حَسَنٌ.

(وَيَجُوزُ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ وَنَحْوِهِمْ) كَأَصْدِقَائِهِ (تَقْبِيلُ وَجْهِهِ) لِمَا صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَبَّلَ وَجْهَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ بَعْدَ مَوْتِهِ» (2) وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَبَّلَ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ مَوْتِهِ (3) قَالَ السُّبْكِيُّ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُنْدَبَ لِأَهْلِهِ وَنَحْوِهِمْ، وَيَجُوزُ لِغَيْرِهِمْ وَلَا يَقْتَصِرُ الْجَوَازُ عَلَيْهِمْ، وَفِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ فِي أَوَائِلِ النِّكَاحِ، وَلَا بَأْسَ بِتَقْبِيلِ وَجْهِ الْمَيِّتِ الصَّالِحِ فَقَيَّدَهُ بِالصَّالِحِ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُكْرَهَ.

(وَلَا بَأْسَ بِالْإِعْلَامِ) وَهُوَ النِّدَاءُ (بِمَوْتِهِ لِلصَّلَاةِ) عَلَيْهِ (وَغَيْرِهَا) كَالمُحَالَلَةِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّرَحُّمِ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ، بَلْ يُسَنُّ ذَلِكَ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ «؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَعَى النَّجَاشِيَّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ وَخَرَجَ إلَى الْمُصَلَّى فَصَلَّى» ، وَقِيلَ يُسَنُّ فِي الْغَرِيبِ دُونَ غَيْرِهِ، وَقِيلَ يُكْرَهُ

ص: 45

بِخِلَافِ نَعْيِ الْجَاهِلِيَّةِ.

وَلَا يَنْظُرُ الْغَاسِلُ مِنْ بَدَنِهِ إلَّا قَدْرَ الْحَاجَةِ مِنْ غَيْرِ الْعَوْرَةِ.

وَمَنْ تَعَذَّرَ غُسْلُهُ يُمِّمَ.

وَيُغَسَّلُ الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ وَالْمَيِّتُ بِلَا كَرَاهَةٍ، وَإِذَا مَاتَا غُسِّلَا غُسْلًا وَاحِدًا فَقَطْ.

وَلْيَكُنْ الْغَاسِلُ أَمِينًا، فَإِنْ رَأَى خَيْرًا ذَكَرَهُ أَوْ غَيْرَهُ حَرُمَ ذِكْرُهُ إلَّا لِمَصْلَحَةٍ.

ــ

[مغني المحتاج]

مُطْلَقًا (بِخِلَافِ نَعْيِ الْجَاهِلِيَّةِ) وَهُوَ بِسُكُونِ الْعَيْنِ وَبِكَسْرِهَا مَعَ تَشْدِيدِ الْيَاءِ مَصْدَرُ نَعَاهُ، وَمَعْنَاهُ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ النِّدَاءُ بِذِكْرِ مَفَاخِرِ الْمَيِّتِ وَمَآثِرِهِ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ لِلنَّهْيِ عَنْهُ كَمَا صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْمُرَادُ نَعْيُ الْجَاهِلِيَّةِ لَا مُجَرَّدُ الْإِعْلَامِ بِالْمَوْتِ.

فَإِنْ قُصِدَ الْإِعْلَامُ بِمَوْتِهِ لِمَنْ لَمْ يَعْلَمْ لَمْ يُكْرَهْ وَإِنْ قُصِدَ بِهِ الْإِخْبَارُ لِكَثْرَةِ الْمُصَلِّينَ عَلَيْهِ فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ.

(وَلَا يَنْظُرُ الْغَاسِلُ مِنْ بَدَنِهِ إلَّا قَدْرَ الْحَاجَةِ مِنْ غَيْرِ الْعَوْرَةِ) كَأَنْ يُرِيدَ بِنَظَرِهِ مَعْرِفَةَ الْمَغْسُولِ مِنْ غَيْرِهِ، وَهَلْ اسْتَوْعَبَهُ بِالْغُسْلِ أَوْ لَا.

فَإِنْ نَظَرَ زَائِدًا عَلَى الْحَاجَةِ كُرِهَ كَمَا فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ وَجُزِمَ بِهِ فِي الْكِفَايَةِ، وَإِنْ صُحِّحَ فِي الْمَجْمُوعِ أَنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِيهِ شَيْءٌ كَانَ يَكْرَهُ اطِّلَاعَ النَّاسِ عَلَيْهِ وَرُبَّمَا رَأَى سَوَادًا وَنَحْوَهُ فَيَظُنُّهُ عَذَابًا فَيُسِيءُ بِهِ ظَنًّا.

أَمَّا الْعَوْرَةُ فَنَظَرُهَا حَرَامٌ، وَيُسَنُّ أَنْ لَا يَمَسَّهُ بِيَدِهِ فَإِنْ مَسَّهُ أَوْ نَظَرَ إلَيْهِ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ لَمْ يَحْرُمَ، وَقِيلَ يَحْرُمُ النَّظَرُ إلَى شَيْءٍ مِنْ بَدَنِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ عَوْرَةً كَبَدَنِ الْمَرْأَةِ إلَّا لِضَرُورَةٍ. وَأَمَّا غَيْرُ الْغَاسِلِ مِنْ مُعِينٍ وَغَيْرِهِ فَيُكْرَهُ لَهُ النَّظَرُ إلَى غَيْرِ الْعَوْرَةِ إلَّا لِضَرُورَةٍ.

(وَمَنْ تَعَذَّرَ غُسْلُهُ) لِفَقْدِ الْمَاءِ أَوْ لِغَيْرِهِ كَأَنْ احْتَرَقَ أَوْ لُدِغَ، وَلَوْ غُسِّلَ لَتَهَرَّى أَوْ خِيفَ عَلَى الْغَاسِلِ وَلَمْ يُمْكِنْهُ التَّحَفُّظُ (يُمِّمَ) وُجُوبًا قِيَاسًا عَلَى غُسْلِ الْجَنَابَةِ وَلَا يُغَسَّلُ مُحَافَظَةً عَلَى جُثَّتِهِ لِتُدْفَنَ بِحَالِهَا.

وَلَوْ وُجِدَ الْمَاءُ فِيمَا إذَا يُمِّمَ لِفَقْدِهِ قَبْلَ دَفْنِهِ وَجَبَ غُسْلُهُ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ وَعَلَى إعَادَةِ الصَّلَاةِ فِي بَابِ التَّيَمُّمِ.

وَلَوْ كَانَ بِهِ قُرُوحٌ وَخِيفَ مِنْ غُسْلِهِ تَسَارُعُ الْبِلَى إلَيْهِ، بَعْدَ دَفْنِهِ غُسِّلَ؛ لِأَنَّ مَصِيرَ جَمِيعِهِ إلَى الْبِلَى.

(وَيُغَسَّلُ الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ) وَالنُّفَسَاءُ (وَالْمَيِّتُ بِلَا كَرَاهَةٍ) ؛ لِأَنَّهُمَا طَاهِرَانِ كَغَيْرِهِمَا (وَإِذَا مَاتَا غُسِّلَا غُسْلًا وَاحِدًا فَقَطْ) ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِمَا انْقَطَعَ بِالْمَوْتِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الشَّهِيدِ الْجُنُبِ، وَانْفَرَدَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ بِإِيجَابِ غُسْلَيْنِ.

(وَلْيَكُنْ الْغَاسِلُ أَمِينًا) نَدْبًا لِيُوثَقَ بِهِ فِي تَكْمِيلِ الْغُسْلِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَشْرُوعِ، وَكَذَا مُعِينُ الْغَاسِلِ، فَإِنْ غَسَّلَهُ فَاسِقٌ أَوْ كَافِرٌ وَقَعَ الْمُوقَعُ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الْغُسْلِ (فَإِنْ رَأَى) الْغَاسِلُ مِنْ بَدَنِ الْمَيِّتِ (خَيْرًا) كَاسْتِنَارَةِ وَجْهِهِ وَطِيبِ رَائِحَتِهِ (ذَكَرَهُ) نَدْبًا لِيَكُونَ أَدْعَى لِكَثْرَةِ الْمُصَلِّينَ عَلَيْهِ وَالدُّعَاءِ لَهُ (أَوْ غَيْرَهُ) كَأَنْ رَأَى سَوَادًا أَوْ تَغَيُّرَ رَائِحَةٍ أَوْ انْقِلَابَ صُورَةٍ (حَرُمَ ذِكْرُهُ) ؛ لِأَنَّهُ غِيبَةٌ لِمَنْ لَا يَتَأَتَّى الِاسْتِحْلَالُ مِنْهُ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» ، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ «اُذْكُرُوا مَحَاسِنَ مَوْتَاكُمْ وَكُفُّوا عَنْ مَسَاوِيهِمْ» (1) وَفِي الْمُسْتَدْرَكِ «مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا وَكَتَمَ عَلَيْهِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ أَرْبَعِينَ مَرَّةً» (إلَّا لِمَصْلَحَةٍ) كَأَنْ كَانَ مُبْتَدِعًا مُظْهِرًا لِبِدْعَتِهِ فَيَذْكُرُ ذَلِكَ لِيَنْزَجِرَ النَّاس عَنْهَا، وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ ذَكَرَهُ فِي الْبَيَانِ بَحْثًا، وَنَقَلَهُ عَنْهُ فِي الْمَجْمُوعِ وَقَالَ: إنَّهُ مُتَعَيَّنٌ، وَيَنْبَغِي اطِّرَادُهُ فِي الْمُتَجَاهِرِ بِالْفِسْقِ وَالظَّالِمِ، وَالْوَجْهُ كَمَا قَالَ

ص: 46

وَلَوْ تَنَازَعَ أَخَوَانِ أَوْ زَوْجَتَانِ أُقْرِعَ.

وَالْكَافِرُ أَحَقُّ بِقَرِيبِهِ الْكَافِرِ.

وَيُكْرَهُ الْكَفَنُ الْمُعَصْفَرُ.

وَالْمُغَالَاةُ فِيهِ، وَالْمَغْسُولُ أَوْلَى مِنْ الْجَدِيدِ.

وَالصَّبِيُّ كَبَالِغٍ فِي تَكْفِينِهِ بِأَثْوَابٍ.

ــ

[مغني المحتاج]

الْأَذْرَعِيُّ: أَنْ يُقَالَ إذَا رَأَى مِنْ مُبْتَدِعٍ أَمَارَةَ خَيْرٍ كَتَمَهَا، وَلَا يَبْعُدُ إيجَابُهُ لِئَلَّا يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى الْإِغْرَاءِ بِهَا، وَيُسَنُّ كِتْمَانُهُ مِنْ الْمُتَجَاهِرِ بِالْفِسْقِ وَالظَّالِمِ لِئَلَّا يَغْتَرَّ بِذِكْرِهَا أَمْثَالُهُ، وَلَا مَعْنَى لِلتَّفْصِيلِ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ. قَالَ الْغَزِّيُّ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْكِتَابِ إلَّا لِمَصْلَحَةٍ عَائِدًا لِلْأَمْرَيْنِ اهـ.

وَلَا بَأْسَ بِهِ. غَرِيبَةٌ حُكِيَ أَنَّ امْرَأَةً بِالْمَدِينَةِ فِي زَمَنِ مَالِكٍ غَسَّلَتْ امْرَأَةً فَالْتَصَقَتْ يَدُهَا عَلَى فَرْجِهَا فَتَحَيَّرَ النَّاسُ فِي أَمْرِهَا هَلْ تُقْطَعُ يَدُ الْغَاسِلَةِ أَوْ فَرْجُ الْمَيِّتَةِ؟ فَاسْتُفْتِيَ مَالِكٌ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: سَلُوهَا مَا قَالَتْ لَمَّا وَضَعَتْ يَدَهَا عَلَيْهَا؟ فَسَأَلُوهَا فَقَالَتْ: قُلْتُ طَالَمَا عَصَى هَذَا الْفَرْجُ رَبَّهُ، فَقَالَ مَالِكٌ: هَذَا قَذْفٌ، اجْلِدُوهَا ثَمَانِينَ تَتَخَلَّصْ يَدُهَا، فَجَلَدُوهَا ذَلِكَ فَخَلَصَتْ يَدُهَا. فَمِنْ ثُمَّ قِيلَ: لَا يُفْتَى وَمَالِكٌ بِالْمَدِينَةِ.

(وَلَوْ تَنَازَعَ أَخَوَانِ) مَثَلًا (أَوْ زَوْجَتَانِ) فِي غُسْلِ مَيِّتٍ لَهُمَا، وَلَا مُرَجِّحَ لِأَحَدِهِمَا (أُقْرِعَ) بَيْنَهُمَا حَتْمًا فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ غَسَّلَهُ؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَ أَحَدِهِمَا تَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ.

(وَالْكَافِرُ أَحَقُّ بِقَرِيبِهِ الْكَافِرِ) فِي تَجْهِيزِهِ مِنْ قَرِيبِهِ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُ وَلِيُّهُ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73][الْأَنْفَالَ] فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَوَلَّاهُ الْمُسْلِمُ.

(وَيُكْرَهُ) لِلْمَرْأَةِ (الْكَفَنُ الْمُعَصْفَرُ) وَالْمُزَعْفَرُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الزِّينَةِ. وَأَمَّا الرَّجُلُ فَقَدْ مَرَّ فِي بَابِ اللِّبَاسِ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ الْمُزَعْفَرُ دُونَ الْمُعَصْفَرِ عَلَى خِلَافٍ فِي ذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ فَإِطْلَاقُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَرَاهَةُ الْمُعَصْفَرِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ صَحِيحٌ.

وَأَمَّا الْمُزَعْفَرُ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.

وَأَمَّا الرَّجُلُ فَيَحْرُمُ كَمَا عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ فِيمَا مَضَى يُكَفَّنُ بِمَا لَهُ لُبْسُهُ حَيًّا.

(وَ) تُكْرَهُ (الْمُغَالَاةُ فِيهِ) أَيْ الْكَفَنِ بِارْتِفَاعِ ثَمَنِهِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَا تُغَالُوا فِي الْكَفَنِ فَإِنَّهُ يُسْلَبُ سَلْبًا سَرِيعًا» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

وَاحْتُرِزَ بِالْمُغَالَاةِ عَنْ تَحْسِينِهِ فِي بَيَاضِهِ وَنَظَافَتِهِ وَسُبُوغِهِ فَإِنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ لِمَا فِي مُسْلِمٍ «إذَا كَفَّنَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ» (2) أَيْ يَتَّخِذْهُ أَبْيَضَ نَظِيفًا سَابِغًا، وَفِي كَامِلِ ابْنِ عَدِيٍّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «حَسِّنُوا أَكْفَانَ مَوْتَاكُمْ فَإِنَّهُمْ يَتَزَاوَرُونَ فِي قُبُورِهِمْ» (وَ) الْمَلْبُوسُ (الْمَغْسُولُ) بِأَنْ يُكَفَّنَ فِيهِ الْمَيِّتُ (أَوْلَى مِنْ الْجَدِيدِ) ؛ لِأَنَّهُ لِلصَّدِيدِ وَالْحَيُّ أَحَقُّ بِالْجَدِيدِ، فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه أَوْصَى أَنْ يُكَفَّنَ فِي ثَوْبِهِ الْخَلَقِ وَزِيَادَةَ ثَوْبَيْنِ، وَقَالَ الْحَيُّ أَحَقُّ بِالْجَدِيدِ مِنْ الْمَيِّتِ إنَّمَا هُوَ لِلصَّدِيدِ، وَقِيلَ: الْجَدِيدُ أَوْلَى لِحَدِيثِ مُسْلِمٍ السَّابِقِ وَكُفِّنَ صلى الله عليه وسلم فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ سُحُولِيَّةٍ جُدُدٍ. قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَهُوَ الْأَصَحُّ مَذْهَبًا وَدَلِيلًا.

(وَ) الصَّغِيرُ (الصَّبِيُّ) أَوْ الصَّبِيَّةُ أَوْ الْخُنْثَى (كَبَالِغٍ فِي تَكْفِينِهِ بِأَثْوَابٍ) ثَلَاثَةٍ تَشْبِيهًا لَهُ بِالْبَالِغِ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ بِأَثْوَابٍ إلَى أَنَّ هَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى

ص: 47

وَالْحَنُوطُ مُسْتَحَبٌّ، وَقِيلَ وَاجِبٌ.

وَلَا يَحْمِلُ الْجِنَازَةَ إلَّا الرِّجَالُ وَإِنْ كَانَ أُنْثَى، وَيَحْرُمُ حَمْلُهَا عَلَى هَيْئَةٍ مُزْرِيَةٍ وَهَيْئَةٍ يُخَافُ مِنْهَا سُقُوطُهَا وَيُنْدَبُ لِلْمَرْأَةِ مَا يَسْتُرُهَا كَتَابُوتٍ، وَلَا يُكْرَهُ الرُّكُوبُ فِي الرُّجُوعِ مِنْهَا.

وَلَا بَأْسَ بِاتِّبَاعِ الْمُسْلِمِ جِنَازَةَ قَرِيبِهِ الْكَافِرِ.

وَيُكْرَهُ اللَّغَطُ فِي الْجِنَازَةِ

ــ

[مغني المحتاج]

الْعَدَدِ لَا فِي جِنْسِ مَا يُكَفَّنُ فِيهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ يَكُنْ بِمَا لَهُ لُبْسُهُ حَيًّا.

(وَالْحَنُوطُ) بِفَتْحِ الْحَاءِ أَيْ ذَرُّهُ كَمَا مَرَّ (مُسْتَحَبٌّ) لَا وَاجِبٌ كَمَا لَا يَجِبُ الطِّيبُ لِلْمُفْلِسِ وَإِنْ وَجَبَتْ كِسْوَتُهُ (وَقِيلَ وَاجِبٌ) كَالْكَفَنِ لِلْأَمْرِ بِهِ.

(وَلَا يَحْمِلُ الْجِنَازَةَ إلَّا الرِّجَالُ) نَدْبًا (وَإِنْ كَانَ) الْمَيِّتُ (أُنْثَى) ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ يَضْعُفْنَ عَنْ الْحَمْلِ فَيُكْرَهُ لَهُنَّ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُنَّ تَعَيَّنَ عَلَيْهِنَّ (وَيَحْرُمُ حَمْلُهَا عَلَى هَيْئَةٍ مُزْرِيَةٍ) كَحَمْلِهَا فِي غِرَارَةٍ أَوْ قُفَّةٍ، وَحَمْلِ الْكَبِيرِ عَلَى الْيَدِ أَوْ الْكَتِفِ مِنْ غَيْرِ نَعْشٍ بِخِلَافِ الصَّغِيرِ (وَهَيْئَةٍ يُخَافُ مِنْهَا سُقُوطُهَا) ؛ لِأَنَّهُ تَعْرِيضٌ لِإِهَانَتِهِ. قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ: وَيُحْمَلُ عَلَى سَرِيرٍ أَوْ لَوْح أَوْ مَحْمَلٍ وَأَيُّ شَيْءٍ حُمِلَ عَلَيْهِ أَجْزَأَ، وَإِنْ خِيفَ تَغَيُّرُهُ وَانْفِجَارُهُ قَبْلَ أَنْ يُهَيَّأَ لَهُ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْأَيْدِي وَالرِّقَابِ لِلْحَاجَةِ حَتَّى يُوصَلَ إلَى الْقَبْرِ (وَيُنْدَبُ لِلْمَرْأَةِ مَا يَسْتُرُهَا كَتَابُوتٍ) وَهُوَ سَرِيرٌ فَوْقَهُ خَيْمَةٌ أَوْ قُبَّةٌ أَوْ مِكَبَّةٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْتَرُ لَهَا، وَأَوَّلُ مَنْ فُعِلَ لَهُ ذَلِكَ زَيْنَبُ زَوْجَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَتْ قَدْ رَأَتْهُ بِالْحَبَشَةِ لَمَّا هَاجَرَتْ وَأَوْصَتْ بِهِ، وَمِثْلُهَا الْخُنْثَى، (وَلَا يُكْرَهُ الرُّكُوبُ) أَيْ لَا بَأْسَ بِهِ (فِي الرُّجُوعِ مِنْهَا) ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم «رَكِبَ فَرَسًا مَعْرُورًا لَمَّا رَجَعَ مِنْ جِنَازَةِ أَبِي الدَّحْدَاحِ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ.

وَأَمَّا فِي الذَّهَابُ فَتَقَدَّمَ أَنَّهُ يُكْرَهُ إلَّا لِعُذْرٍ كَبُعْدِ الْمَكَانِ أَوْ ضَعْفٍ.

(وَلَا بَأْسَ بِاتِّبَاعِ الْمُسْلِمِ) بِتَشْدِيدِ الْمُثَنَّاةِ (جِنَازَةَ قَرِيبِهِ الْكَافِرِ) ؛ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام «أَمَرَ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنْ يُوَارِيَ أَبَا طَالِبٍ» كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

قَالَ الْإِسْنَوِيُّ: كَذَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مُطْلَقِ الْقَرَابَةِ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِمُؤْنَتِهِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ اهـ.

وَقَدْ يُفْهِمُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ تَحْرِيمَ اتِّبَاعِ الْمُسْلِمِ جِنَازَةَ الْكَافِرِ غَيْرِ الْقَرِيبِ، وَبِهِ صَرَّحَ الشَّاشِيُّ. قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَلَا يَبْعُدُ إلْحَاقُ الزَّوْجَةِ وَالْمَمْلُوكِ بِالْقَرِيبِ وَهَلْ يَلْحَقُ بِهِ الْجَارُ كَمَا فِي الْعِيَادَةِ؟ فِيهِ نَظَرٌ اهـ. وَالظَّاهِرُ الْإِلْحَاقُ.

وَيَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ زِيَارَةُ قَبْرِ قَرِيبِهِ الْكَافِرِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَا يَجُوزُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84][التَّوْبَةَ] قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ: وَهَذَا غَلَطٌ فَالْأَكْثَرُونَ قَطَعُوا بِالْجَوَازِ: أَيْ فَيَكُونُ مَكْرُوهًا.

(وَيُكْرَهُ اللَّغَطُ) بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَسُكُونِهَا، وَهُوَ ارْتِفَاعُ الْأَصْوَاتِ (فِي) السَّيْرِ مَعَ (الْجِنَازَةِ) لِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَرِهُوا رَفْعَ الصَّوْتِ عِنْدَ الْجَنَائِزِ وَعِنْدَ الْقِتَالِ وَعِنْدَ الذِّكْرِ. قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ: وَالْمُخْتَارُ بَلْ الصَّوَابُ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ مِنْ السُّكُوتِ فِي حَالِ السَّيْرِ مَعَ الْجِنَازَةِ، وَلَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِقِرَاءَةٍ وَلَا ذِكْرٍ وَلَا غَيْرِهِمَا، بَلْ يَشْتَغِلُ بِالتَّفَكُّرِ فِي الْمَوْتِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَمَا يَفْعَلُهُ جَهَلَةُ الْقُرَّاءِ بِالتَّمْطِيطِ وَإِخْرَاجِ الْكَلَامِ عَنْ مَوْضُوعِهِ فَحَرَامٌ يَجِبُ إنْكَارُهُ، وَكَرِهَ الْحَسَنُ وَغَيْرُهُ قَوْلَهُمْ: اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ، وَسَمِعَ ابْنُ عُمَرَ قَائِلًا

ص: 48

وَإِتْبَاعُهَا بِنَارٍ.

وَلَوْ اخْتَلَطَ مُسْلِمُونَ بِكَفَّارٍ وَجَبَ غُسْلُ الْجَمِيعِ وَالصَّلَاةُ، فَإِنْ شَاءَ صَلَّى عَلَى الْجَمِيع بِقَصْدِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ الْأَفْضَلُ وَالْمَنْصُوصُ، أَوْ عَلَى وَاحِدٍ فَوَاحِدٍ نَاوِيًا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مُسْلِمًا، وَيَقُولُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ إنْ كَانَ مُسْلِمًا.

وَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ تَقَدُّمُ غُسْلِهِ، وَتُكْرَهُ قَبْلَ تَكْفِينِهِ، فَلَوْ مَاتَ بِهَدْمٍ وَنَحْوِهِ

ــ

[مغني المحتاج]

يَقُولُ: اسْتَغْفِرُوا لَهُ غَفَرَ اللَّهُ لَكُمْ فَقَالَ: لَا غَفَرَ اللَّهُ لَكَ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ (وَ) يُكْرَهُ (إتْبَاعُهَا) بِسُكُونِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ (بِنَارٍ) فِي مِجْمَرَةٍ أَوْ غَيْرِهَا لِمَا فِيهِ مِنْ التَّفَاؤُلِ الْقَبِيحِ، وَلِخَبَرِ أَبِي دَاوُد «لَا تَتَّبِعْ الْجِنَازَةَ بِصَوْتٍ وَلَا نَارٍ» (1) وَقَالَ الشَّيْخُ نَصْرٌ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ مَعَهَا الْمَجَامِرُ وَالنَّارُ، فَإِنْ أَرَادَ التَّحْرِيمَ فَشَاذٌّ فَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ الْإِجْمَاعَ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَفِعْلُ ذَلِكَ عِنْدَ الْقَبْرِ مَكْرُوهٌ أَيْضًا كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ.

(وَلَوْ اخْتَلَطَ) مَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِ بِغَيْرِهِ وَلَمْ يَتَمَيَّزْ كَمَا لَوْ اخْتَلَطَ (مُسْلِمُونَ) أَوْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ (بِكَفَّارٍ) وَتَعَذَّرَ التَّمْيِيزُ أَوْ غَيْرُ شَهِيدٍ بِشَهِيدٍ أَوْ سِقْطٌ يُصَلَّى عَلَيْهِ بِسِقْطٍ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ (وَجَبَ) لِلْخُرُوجِ عَنْ الْوَاجِبِ (غُسْلُ الْجَمِيعِ) وَتَكْفِينُهُمْ (وَالصَّلَاةُ) عَلَيْهِمْ وَدَفْنُهُمْ إذْ لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ: يُعَارَضُ ذَلِكَ بِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْفَرِيقِ الْآخَرِ مُحَرَّمَةٌ، وَلَا يَتِمُّ تَرْكُ الْمُحَرَّمِ إلَّا بِتَرْكِ الْوَاجِبِ.

أُجِيبَ بِأَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَتْ عَلَى الْفَرِيقِ الْآخَرِ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ (فَإِنْ شَاءَ صَلَّى عَلَى الْجَمِيعِ) دُفْعَةً (بِقَصْدِ الْمُسْلِمِينَ) مِنْهُمْ فِي الْأُولَى وَغَيْرِ الشَّهِيدِ فِي الثَّانِيَةِ وَبِقَصْدِ السِّقْطِ الَّذِي يُصَلَّى عَلَيْهِ فِي الثَّالِثَةِ (وَهُوَ الْأَفْضَلُ وَالْمَنْصُوصُ) ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ صَلَاةٌ عَلَى غَيْرِ مَنْ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ وَالنِّيَّةُ جَازِمَةٌ (أَوْ عَلَى وَاحِدٍ فَوَاحِدٍ نَاوِيًا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ إنْ كَانَ) مِمَّنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ كَأَنْ يَقُولَ فِي الْأُولَى إنْ كَانَ (مُسْلِمًا) وَفِي الثَّانِيَةِ إنْ كَانَ غَيْرَ شَهِيدٍ، وَفِي الثَّالِثَةِ إنْ كَانَ هُوَ الَّذِي يُصَلَّى عَلَيْهِ (وَيَقُولُ) فِي الْأُولَى (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ إنْ كَانَ مُسْلِمًا) وَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ فِي الثَّانِيَةِ وَلَا الثَّالِثَةِ لِانْتِفَاءِ الْمَحْذُورِ وَهُوَ الدُّعَاءُ لِلْكَافِرِ بِالْمَغْفِرَةِ، وَيُعْذَرُ فِي تَرَدُّدِ النِّيَّةِ لِلضَّرُورَةِ كَمَنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ الْخَمْسِ، وَهَذَا التَّخْيِيرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، لَكِنْ مَحَلُّهُ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مَا إذَا لَمْ يَحْصُلُ بِالْإِفْرَادِ تَغَيُّرٌ أَوْ انْفِجَارٌ، وَإِلَّا فَالْوَجْهُ تَعَيُّنُ الْجَمْعِ بِصَلَاةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ كَانَ التَّأْخِيرُ إلَى اجْتِمَاعِهِمْ يُؤَدِّي إلَى تَغَيُّرِ أَحَدِهِمْ تَعَيَّنَ إفْرَادُ كُلٍّ بِصَلَاةٍ وَيُدْفَنُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى بَيْنَ مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَمَقَابِرِ الْكُفَّارِ.

(وَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ) عَلَى الْجِنَازَةِ زَائِدًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي فَصْلِ صَلَاتِهَا شَرْطَانِ أَشَارَ إلَى أَحَدِهِمَا بِقَوْلِهِ (تَقَدُّمُ غُسْلِهِ) أَوْ تَيَمُّمِهِ بِشَرْطِهِ؛ لِأَنَّهُ الْمَنْقُولُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ كَصَلَاةِ نَفْسِهِ (وَتُكْرَهُ) الصَّلَاةُ عَلَيْهِ (قَبْلَ تَكْفِينِهِ) كَمَا قَالَهُ فِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ أَيْضًا وَاسْتَشْكَلَ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَيَيْنِ السَّابِقَيْنِ مَوْجُودَانِ فِيهِ، قَالَ السُّبْكِيُّ: فَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْغُسْلَ شَرْطٌ دُونَ التَّكْفِينِ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ اهـ.

وَرُبَّمَا يُقَالُ إنَّ تَرْكَ السَّتْرِ أَخَفُّ مِنْ تَرْكِ الطَّهَارَةِ بِدَلِيلِ لُزُومِ الْقَضَاءِ فِي الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ (فَلَوْ مَاتَ بِهَدْمٍ وَنَحْوِهِ) كَأَنْ وَقَعَ فِي بِئْرٍ أَوْ بَحْرٍ عَمِيقٍ (وَتَعَذَّرَ إخْرَاجُهُ

ص: 49

وَتَعَذَّرَ إخْرَاجُهُ وَغُسْلُهُ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَتَقَدَّمَ عَلَى الْجِنَازَةِ الْحَاضِرَةِ وَلَا الْقَبْرِ عَلَى الْمَذْهَبِ فِيهِمَا.

وَتَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ، وَيُسَنُّ جَعْلُ صُفُوفِهِمْ ثَلَاثَةً فَأَكْثَرَ.

ــ

[مغني المحتاج]

وَغُسْلُهُ) وَتَيَمُّمُهُ (لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ) لِفَوَاتِ الشَّرْطِ كَمَا نَقَلَهُ الشَّيْخَانِ عَنْ الْمُتَوَلِّي وَأَقَرَّاهُ. وَقَالَ فِي الْمَجْمُوعِ لَا خِلَافَ فِيهِ. قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: وَلَا وَجْهَ لِتَرْكِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَيْسُورَ لَا يَسْقُطُ بِالْمَعْسُورِ، لِمَا صَحَّ «وَاذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الصَّلَاةِ الدُّعَاءُ وَالشَّفَاعَةُ لِلْمَيِّتِ وَجَزَمَ الدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ مَنْ تَعَذَّرَ غُسْلُهُ صُلِّيَ عَلَيْهِ. قَالَ الدَّارِمِيُّ: وَإِلَّا لَزِمَ أَنَّ مَنْ أُحْرِقَ فَصَارَ رَمَادًا أَوْ أَكَلَهُ سَبُعٌ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِنَا قَالَ بِذَلِكَ، وَبَسَطَ الْأَذْرَعِيُّ الْكَلَامَ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَالْقَلْبُ إلَى مَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَمْيَلُ، لَكِنَّ الَّذِي تَلَقَّيْنَاهُ عَنْ مَشَايِخِنَا مَا فِي الْمَتْنِ، ثُمَّ أَشَارَ إلَى الشَّرْطِ الثَّانِي بِقَوْلِهِ (وَيُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَتَقَدَّمَ عَلَى الْجِنَازَةِ الْحَاضِرَةِ) إذَا صَلَّى عَلَيْهَا (وَ) أَنْ (لَا) يَتَقَدَّمَ عَلَى (الْقَبْرِ) إذَا صَلَّى عَلَيْهِ (عَلَى الْمَذْهَبِ فِيهِمَا) اتِّبَاعًا لِمَا جَرَى عَلَيْهِ الْأَوَّلُونَ؛ وَلِأَنَّ الْمَيِّتَ كَالْإِمَامِ، وَالثَّانِي يَجُوزُ التَّقَدُّمُ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ بِإِمَامٍ مَتْبُوعٍ حَتَّى يَتَعَيَّنَ تَقْدِيمُهُ بَلْ هُوَ كَعَبْدٍ جَاءَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ عِنْدَ مَوْلَاهُ، وَاحْتُرِزَ بِالْحَاضِرَةِ عَنْ الْغَائِبَةِ عَنْ الْبَلَدِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي عَلَيْهَا كَمَا مَرَّ، وَإِنْ كَانَتْ خَلْفَ ظَهْرِهِ.

تَنْبِيهٌ إنَّمَا عَبَّرَ بِالْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَا تَلَخَّصَ مِنْ كَلَامِهِ طَرِيقَيْنِ. أَصَحُّهُمَا أَنَّهَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي تَقَدُّمِ الْمَأْمُومِ عَلَى إمَامِهِ، وَالثَّانِي الْقَطْعُ بِالْجَوَازِ، وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا أَنْ يَجْمَعَهُمَا مَكَانٌ وَاحِدٌ، كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ: وَأَنْ لَا يَزِيدَ مَا بَيْنَهُمَا فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ ذِرَاعٍ تَقْرِيبًا تَنْزِيلًا لِلْمَيِّتِ مَنْزِلَةَ الْإِمَامِ.

(وَتَجُوزُ) بِلَا كَرَاهَةٍ، بَلْ يُسْتَحَبُّ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ (الصَّلَاةُ عَلَيْهِ) أَيْ الْمَيِّتِ (فِي الْمَسْجِدِ) إنْ لَمْ يُخْشَ تَلْوِيثُهُ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم «صَلَّى فِيهِ عَلَى سَهْلٍ وَسُهَيْلٍ ابْنَيْ بَيْضَاءَ» كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1) فَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ لِذَلِكَ؛ وَلِأَنَّهُ أَشْرَفُ. قَالَ فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ: وَأَمَّا. حَدِيثُ «مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا شَيْءَ لَهُ» فَضَعِيفٌ صَرَّحَ بِضَعْفِهِ أَحْمَدُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ وَأَيْضًا الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ " فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ " أَمَّا إذَا خِيفَ مِنْهُ تَلْوِيثُ الْمَسْجِدِ فَلَا يَجُوزُ إدْخَالُهُ (وَيُسَنُّ جَعْلُ صُفُوفِهِمْ) أَيْ الْمُصَلِّينَ عَلَى الْمَيِّتِ (ثَلَاثَةً فَأَكْثَرَ) لِحَدِيثٍ صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ «مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ صُفُوفٍ فَقَدْ وَجَبَتْ: أَيْ حَصَلَتْ لَهُ الْمَغْفِرَةُ» وَفِي رِوَايَةٍ فَقَدْ غُفِرَ لَهُ وَفِي مُسْلِمٍ «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصَلِّي عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَبْلُغُونَ مِائَةً كُلُّهُمْ يَشْفَعُونَ فِيهِ إلَّا شُفِّعُوا فِيهِ» وَهُنَا فَضِيلَةُ الصَّفِّ الْأَوَّلِ وَفَضِيلَةُ غَيْرِهِ سَوَاءٌ بِخِلَافِ بَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ لِلنَّصِّ عَلَى كَثْرَةِ الصُّفُوفِ هُنَا. .

ص: 50

وَإِذَا صُلِّيَ عَلَيْهِ فَحَضَرَ مَنْ لَمْ يُصَلِّ صَلَّى.

وَمَنْ صَلَّى لَا يُعِيدُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَا تُؤَخَّرُ لِزِيَادَةِ مُصَلِّينَ، وَقَاتِلُ نَفْسِهِ كَغَيْرِهِ فِي الْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ

ــ

[مغني المحتاج]

فَرْعٌ قَالَ فِي الْبَحْرِ يَتَأَكَّدُ اسْتِحْبَابُ الصَّلَاةِ عَلَى مَنْ مَاتَ فِي وَقْتِ فَضِيلَةٍ كَيَوْمِ عَرَفَةَ وَالْعِيدِ وَيَوْمِ الْجُمُعَةِ وَحُضُورِ دَفْنِهِ. فَقَدْ صَحَّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «أَنَّ مَنْ مَاتَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ وَدُفِنَ فِي يَوْمِهَا وُقِيَ فِتْنَةَ الْقَبْرِ» .

(وَإِذَا صُلِّيَ عَلَيْهِ) أَيْ الْمَيِّتِ (فَحَضَرَ مَنْ) أَيْ شَخْصٌ (لَمْ يُصَلِّ) عَلَيْهِ (صَلَّى) عَلَيْهِ نَدْبًا؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم «صَلَّى عَلَى قُبُورِ جَمَاعَةٍ» وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ إنَّمَا دُفِنُوا بَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ، وَتَقَعُ هَذِهِ الصَّلَاةُ فَرْضًا كَالْأُولَى سَوَاءٌ أَكَانَتْ قَبْلَ الدَّفْنِ أَمْ بَعْدَهُ فَيَنْوِي بِهَا الْفَرْضَ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الْمُتَوَلِّي وَيُثَابُ ثَوَابَهُ.

(وَمَنْ صَلَّى) عَلَى مَيِّتٍ مُنْفَرِدًا أَوْ فِي جَمَاعَةٍ (لَا يُعِيدُ) هَا: أَيْ لَا يُسَنُّ لَهُ إعَادَتُهَا (عَلَى الصَّحِيحِ) ؛ لِأَنَّ الْجِنَازَةَ لَا يُتَنَفَّلُ بِهَا، وَالثَّانِيَةُ تَقَعُ نَفْلًا، نَعَمْ فَاقِدُ الطَّهُورَيْنِ إذَا صَلَّى ثُمَّ وَجَدَ مَاءً يَتَطَهَّرُ بِهِ فَإِنَّهُ يُعِيدُ كَمَا أَفْتَى بِهِ الْقَفَّالُ، وَالثَّانِي يُسَنُّ إعَادَتُهَا فِي جَمَاعَةٍ، سَوَاءٌ أَصَلَّى مُنْفَرِدًا أَمْ فِي جَمَاعَةٍ كَغَيْرِهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ. وَالثَّالِثُ: إنْ صَلَّى مُنْفَرِدًا ثُمَّ وَجَدَ جَمَاعَةً سُنَّ لَهُ الْإِعَادَةُ مَعَهُمْ لِحِيَازَةِ فَضِيلَتِهَا وَإِلَّا فَلَا. وَالرَّابِعُ: تُكْرَهُ إعَادَتُهَا. وَالْخَامِسُ: تَحْرُمُ، وَعَلَى الْأَوَّلِ لَوْ صَلَّى ثَانِيًا وَقَعَتْ صَلَاتُهُ نَفْلًا عَلَى الصَّحِيحِ فِي الْمَجْمُوعِ، وَهَذِهِ خَارِجَةٌ عَنْ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ إذَا لَمْ تَكُنْ مَطْلُوبَةً لَا تَنْعَقِدُ، بَلْ قِيلَ إنَّ هَذِهِ تَقَعُ فَرْضًا كَصَلَاةِ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ، وَلَعَلَّ وَجْهَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْقَصْدُ مِنْ هَذِهِ الصَّلَاةِ الدُّعَاءَ لِلْمَيِّتِ وَالشَّفَاعَةَ لَهُ صَحَّتْ دُونَ غَيْرِهَا.

وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُصَلِّ فَتَقَعُ صَلَاتُهُ فَرْضًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يُتَنَفَّلُ بِهَا كَمَا مَرَّ.

فَإِنْ قِيلَ: قَدْ سَقَطَ الْفَرْضُ بِالْأُولَى فَلَا تَقَعُ الثَّانِيَةُ فَرْضًا. .

أُجِيبَ بِأَنَّ السَّاقِطَ بِالْأُولَى عَنْ الْبَاقِينَ حَرَجُ الْفَرْضِ لَا هُوَ، وَقَدْ يَكُونُ ابْتِدَاءُ الشَّيْءِ غَيْرَ فَرْضٍ وَبِالدُّخُولِ فِيهِ يَصِيرُ فَرْضًا كَحَجِّ التَّطَوُّعِ وَأَحَدِ خِصَالِ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ، وَقَدْ أَوْضَحَ ذَلِكَ السُّبْكِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَقَالَ: فَرْضُ الْكِفَايَةِ إذَا لَمْ يَتِمَّ بِهِ الْمَقْصُودُ، بَلْ تَتَجَدَّدُ مَصْلَحَتُهُ بِتَكَرُّرِ الْفَاعِلِينَ كَتَعَلُّمِ الْعِلْمِ وَحِفْظِ الْقُرْآنِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ إذْ مَقْصُودُهَا الشَّفَاعَةُ لَا يَسْقُطُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ وَإِنْ سَقَطَ الْحَرَجُ، وَلَيْسَ كُلُّ فَرْضٍ يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ مُطْلَقًا.

(وَلَا تُؤَخَّرُ) الصَّلَاةُ (لِزِيَادَةِ مُصَلِّينَ) لِلْخَبَرِ الصَّحِيحِ «أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ» وَلَا بَأْسَ بِانْتِظَارِ الْوَلِيِّ عَنْ قُرْبٍ مَا لَمْ يُخْشَ تَغَيُّرُ الْمَيِّتِ.

تَنْبِيهٌ شَمِلَ كَلَامُهُ صُورَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا إذَا حَضَرَ جَمْعٌ قَلِيلٌ قَبْلَ الصَّلَاةِ لَا يُنْتَظَرُ غَيْرُهُمْ لِيَكْثُرُوا. نَعَمْ قَالَ الزَّرْكَشِيُّ وَغَيْرُهُ: إذَا كَانُوا دُونَ أَرْبَعِينَ فَيُنْتَظَرُ كَمَالُهُمْ عَنْ قُرْبٍ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَدَدَ مَطْلُوبٌ فِيهَا، وَفِي مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ لِلْأَرْبَعِينَ.

قِيلَ: وَحِكْمَتُهُ أَنَّهُ لَمْ يَجْتَمِعْ أَرْبَعُونَ إلَّا كَانَ لِلَّهِ فِيهِمْ وَلِيٌّ، وَحُكْمُ الْمِائَةِ كَالْأَرْبَعِينَ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، وَالصُّورَةُ الثَّانِيَةُ إذَا صَلَّى عَلَيْهِ مَنْ يَسْقُطُ بِهِ الْفَرْضُ لَا تُنْتَظَرُ جَمَاعَةٌ أُخْرَى لِيُصَلُّوا عَلَيْهِ صَلَاةً أُخْرَى بَلْ يُصَلُّونَ عَلَى الْقَبْرِ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّ الْإِسْرَاعَ بِالدَّفْنِ حَقٌّ لِلْمَيِّتِ؛ وَالصَّلَاةَ لَا تَفُوتُ بِالدَّفْنِ.

(وَقَاتِلُ نَفْسِهِ) حُكْمُهُ (كَغَيْرِهِ فِي) وُجُوبِ (الْغُسْلِ) لَهُ (وَالصَّلَاةِ) عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «الصَّلَاةُ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ بَرًّا كَانَ أَوْ فَاجِرًا وَإِنْ عَمِلَ الْكَبَائِرَ» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ

ص: 51

وَلَوْ نَوَى الْإِمَامُ صَلَاةَ غَائِبٍ، وَالْمَأْمُومُ صَلَاةَ حَاضِرٍ، أَوْ عَكَسَ جَازَ.

وَالدَّفْنُ فِي الْمَقْبَرَةِ أَفْضَلُ.

ــ

[مغني المحتاج]

وَقَالَ: هُوَ أَصَحُّ مَا فِي الْبَابِ إلَّا أَنَّ فِيهِ إرْسَالًا وَالْمُرْسَلُ حُجَّةٌ إذَا اعْتَضَدَ بِأَحَدِ أُمُورٍ: مِنْهَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ مَوْجُودٌ هُنَا. وَأَمَّا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُصَلِّ عَلَى الَّذِي قَتَلَ نَفْسَهُ» فَحَمَلَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى الزَّجْرِ عَنْ مِثْلِ فِعْلِهِ، وَصَلَّتْ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ لِئَلَّا يَرْتَكِبَ النَّاسُ مَا ارْتَكَبَ.

وَأَجَابَ ابْنُ حِبَّانَ عَنْهُ فِي صَحِيحِهِ بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ.

فَائِدَةٌ: رَوَى أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ عَنْ مُنْذِرِ بْنِ جُنْدُبٍ أَنَّ وَلَدًا لَهُ اعْتَلَّ مِنْ كَثْرَةِ الْأَكْلِ، فَقَالَ: إنْ مَاتَ لَمْ أُصَلِّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ عَاصِيًا.

(وَلَوْ نَوَى الْإِمَامُ صَلَاةَ غَائِبٍ، وَ) نَوَى (الْمَأْمُومُ صَلَاةَ حَاضِرٍ أَوْ عَكَسَ) كُلٌّ مِنْهُمَا (جَازَ) ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ نِيَّتِهِمَا لَا تَضُرُّ كَمَا لَوْ صَلَّى الظُّهْرَ وَرَاءَ مُصَلِّي الْعَصْرِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا لَوْ نَوَى الْإِمَامُ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا، وَالْمَأْمُومُ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا آخَرَ، فَالْحَاصِلُ أَرْبَعُ مَسَائِلَ. وَلَوْ قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَلَوْ نَوَى الْمَأْمُومُ الصَّلَاةَ عَلَى غَيْرِ مَنْ نَوَاهُ الْإِمَامُ لَشَمِلَ الْأَرْبَعَ.

(وَالدَّفْنُ فِي الْمَقْبَرَةِ أَفْضَلُ) مِنْهُ بِغَيْرِهَا لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ دُعَاءِ الزُّوَّارِ وَالْمَارِّينَ؛ وَلِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْفِنُ أَهْلَهُ وَأَصْحَابَهُ بِالْبَقِيعِ، وَفِي فَتَاوَى الْقَفَّالِ أَنَّ الدَّفْنَ بِالْبَيْتِ مَكْرُوهٌ. قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: إلَّا أَنْ تَدْعُوَ إلَيْهِ حَاجَةٌ أَوْ مَصْلَحَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى لَا مَكْرُوهٌ.

وَأَمَّا دَفْنُهُ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِهِ؛ فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقْبِضْ نَبِيًّا إلَّا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُدْفَنَ فِيهِ، وَاسْتَثْنَى الْأَذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ الشَّهِيدَ فَيُسَنُّ دَفْنُهُ حَيْثُ قُتِلَ لِحَدِيثٍ فِيهِ، وَيُسَنُّ الدَّفْنُ فِي أَفْضَلِ مَقْبَرَةٍ بِالْبَلَدِ كَالْمَقْبَرَةِ الْمَشْهُورَةِ بِالصَّالِحِينَ.

وَلَوْ قَالَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ يُدْفَنُ فِي مِلْكِي أَوْ فِي أَرْضِ التَّرِكَةِ وَالْبَاقُونَ فِي الْمَقْبَرَةِ،.

أُجِيبَ طَالِبُهَا فَإِنْ دَفَنَهُ بَعْضُ الْوَرَثَةِ فِي أَرْضِ نَفْسِهِ لَمْ يُنْقَلْ أَوْ فِي أَرْضِ التَّرِكَةِ فَلِلْبَاقِينَ لَا لِلْمُشْتَرِي نَقْلُهُ، وَالْأَوْلَى تَرْكُهُ وَلَهُ الْخِيَارُ إنْ جُهِلَ وَالدَّفْنُ لَهُ إنْ بَلَى الْمَيِّتُ أَوْ نُقِلَ مِنْهُ وَإِنْ تَنَازَعُوا فِي مَقْبَرَتَيْنِ وَلَمْ يُوصِ الْمَيِّتُ بِشَيْءٍ قَالَ ابْنُ الْأُسْتَاذِ: إنْ كَانَ الْمَيِّتُ رَجُلًا أُجِيبَ الْمُقَدَّمُ فِي الصَّلَاةِ وَالْغُسْلِ فَإِنْ اسْتَوَوْا أُقْرِعَ وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً أُجِيبَ الْقَرِيبُ دُونَ الزَّوْجِ، وَهَذَا كَمَا قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: مَحَلُّهُ عِنْدَ اسْتِوَاءِ التُّرْبَتَيْنِ وَإِلَّا فَيَجِبُ أَنْ يُنْظَرَ إلَى مَا هُوَ أَصْلَحُ لِلْمَيِّتِ فَيُجَابُ الدَّاعِي إلَيْهِ كَمَا لَوْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا أَقْرَبَ أَوْ أَصْلَحَ أَوْ مُجَاوِرَةَ الْأَخْيَارِ وَالْأُخْرَى بِالضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ لَوْ اتَّفَقُوا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلَحِ مَنَعَهُمْ الْحَاكِمُ مِنْ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْمَيِّتِ،.

وَلَوْ تَنَازَعَ الْأَبُ وَالْأُمُّ فِي دَفْنِ وَلَدٍ فَقَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا: أَنَا أَدْفِنُهُ فِي تُرْبَتِي. فَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ إجَابَةُ الْأَبِ.

وَلَوْ كَانَتْ الْمَقْبَرَةُ مَغْصُوبَةً أَوْ اشْتَرَاهَا ظَالِمٌ بِمَالٍ خَبِيثٍ ثُمَّ سَبَلَهَا أَوْ كَانَ أَهْلُهَا أَهْلَ بِدْعَةٍ أَوْ فِسْقٍ أَوْ كَانَتْ تُرْبَتُهَا فَاسِدَةً لِمُلُوحَةٍ أَوْ نَحْوِهَا أَوْ كَانَ نَقْلُ الْمَيِّتِ إلَيْهَا يُؤَدِّي إلَى انْفِجَارِهِ فَالْأَفْضَلُ اجْتِنَابُهَا بَلْ يَجِبُ فِي بَعْضِ ذَلِكَ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ.

وَلَوْ مَاتَ شَخْصٌ فِي سَفِينَةٍ وَأَمْكَنَ مَنْ هُنَاكَ دَفْنُهُ لِكَوْنِهِمْ قُرْبَ الْبَرِّ وَلَا مَانِعَ لَزِمَهُمْ التَّأْخِيرَ لِيَدْفِنُوهُ فِيهِ وَإِلَّا جُعِلَ بَيْنَ لَوْحَتَيْنِ لِئَلَّا يَنْتَفِخَ وَأُلْقِيَ لِيَنْبِذَهُ الْبَحْرُ إلَى مَنْ لَعَلَّهُ يَدْفِنُهُ وَلَوْ ثُقِّلَ بِشَيْءٍ لِيَنْزِلَ إلَى الْقَرَارِ لَمْ

ص: 52

وَيُكْرَهُ الْمَبِيتُ بِهَا.

وَيُنْدَبُ سَتْرُ الْقَبْرِ بِثَوْبٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلًا، وَأَنْ يَقُولَ: بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم

وَلَا يُفْرَشُ تَحْتَهُ شَيْءٌ وَلَا مِخَدَّةٌ.

وَيُكْرَهُ دَفْنُهُ فِي تَابُوتٍ إلَّا فِي أَرْضٍ نَدْيَةٍ أَوْ رِخْوَةٍ.

ــ

[مغني المحتاج]

يَأْثَمُوا. وَإِذَا أَلْقَوْهُ بَيْنَ لَوْحَيْنِ أَوْ فِي الْبَحْرِ وَجَبَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ غُسْلُهُ وَتَكْفِينُهُ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ.

وَلَا يَجُوزُ دَفْنُ مُسْلِمٍ فِي مَقْبَرَةِ الْكُفَّارِ وَلَا عَكْسُهُ، وَإِذَا اخْتَلَطُوا دُفِنُوا فِي مَقْبَرَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ كَمَا مَرَّ، وَمَقْبَرَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ إذَا انْدَرَسَتْ جَازَ أَنْ تُجْعَلَ مَقْبَرَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَمَسْجِدًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ كَذَلِكَ.

وَلَوْ حَفَرَ شَخْصٌ قَبْرًا فِي مَقْبَرَةٍ لَمْ يَكُنْ أَحَقَّ بِهِ مِنْ مَيِّتٍ آخَرَ يَحْضُرُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي بِأَيِّ أَرْضٍ يَمُوتُ لَكِنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا يُزَاحِمَ عَلَيْهِ.

(وَيُكْرَهُ الْمَبِيتُ بِهَا) أَيْ الْمَقْبَرَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْوَحْشَةِ، وَرُبَّمَا رَأَى مَا يُزِيلُ عَقْلَهُ، وَفِي كَلَامِهِ مَا يُشْعِرُ بِعَدَمِ الْكَرَاهَةِ فِي الْقَبْرِ الْمُفْرَدِ. قَالَ الْإِسْنَوِيُّ: وَفِيهِ احْتِمَالٌ وَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِصَحْرَاءَ أَوْ فِي بَيْتٍ مَسْكُونٍ اهـ.

وَالتَّفْرِقَةُ أَظْهَرُ بَلْ كَثِيرٌ مِنْ التُّرَبِ مَسْكُونَةٌ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُكْرَهَ فِيهَا، وَيُؤْخَذُ مِنْ التَّعْلِيلِ أَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا كَانَ مُنْفَرِدًا، وَأَمَّا إذَا كَانُوا جَمَاعَةً كَمَا يَقَعُ الْآنَ كَثِيرًا فِي الْبَيَاتِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لِقِرَاءَةِ قُرْآنٍ أَوْ زِيَارَةٍ فَلَا كَرَاهَةَ فِي ذَلِكَ.

(وَيُنْدَبُ سَتْرُ الْقَبْرِ بِثَوْبٍ) عِنْدَ إدْخَالِ الْمَيِّتِ فِيهِ (وَإِنْ كَانَ) الْمَيِّتُ (رَجُلًا) ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم سَتَرَ قَبْرَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ؛ وَلِأَنَّهُ أَسْتَرُ لِمَا عَسَاهُ أَنْ يَنْكَشِفَ مِمَّا كَانَ يَجِبُ سَتْرُهُ وَهُوَ لِلْأُنْثَى آكَدُ مِنْهُ لِغَيْرِهَا بَلْ قِيلَ يَخْتَصُّ السَّتْرُ بِهَا وَهُوَ ظَاهِرُ النَّصِّ وَلِلْخُنْثَى آكَدُ مِنْ الرَّجُلِ كَمَا فِي الْحَيَاةِ (وَ) يُنْدَبُ (أَنْ يَقُولَ) الَّذِي يُدْخِلُهُ الْقَبْرَ (بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) لِلِاتِّبَاعِ كَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، وَفِي رِوَايَةٍ سُنَّةِ بَدَلَ مِلَّةِ، وَيُسَنُّ أَنْ يَزِيدَ مِنْ الدُّعَاءِ مَا يُنَاسِبُ الْحَالَ.

(وَلَا يُفْرَشُ تَحْتَهُ) فِي الْقَبْرِ (شَيْءٌ) مِنْ الْفِرَاشِ (وَلَا) يُوضَعُ تَحْتَ رَأْسِهِ (مِخَدَّةٌ) بِكَسْرِ الْمِيمِ جَمْعُهَا مَخَادُّ بِفَتْحِهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِكَوْنِهَا آلَةً لِوَضْعِ الْخَدِّ عَلَيْهَا أَيْ يُكْرَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إضَاعَةُ مَالٍ، بَلْ يُوضَعُ بَدَلَهَا حَجَرٌ أَوْ لَبِنَةٌ. وَيُفْضِي بِخَدِّهِ إلَيْهِ أَوْ إلَى التُّرَابِ كَمَا مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ، وَفِي سُنَنِ الْبَيْهَقِيّ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ لَمَّا اُحْتُضِرَ أَوْصَى أَنْ لَا يَجْعَلُوا فِي لَحْدِهِ شَيْئًا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التُّرَابِ.

وَأَوْصَى عُمَرُ أَنَّهُمْ إذَا نَزَّلُوهُ الْقَبْرَ يُفْضُوا بِخَدِّهِ إلَى الْأَرْضِ. وَقَالَ الْبَغَوِيّ: لَا بَأْسَ أَنْ يُبْسَطَ تَحْتَ جَبِينِهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ جُعِلَ فِي قَبْرِهِ صلى الله عليه وسلم فِي قَطِيفَةٍ حَمْرَاءَ.

وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ صَادِرًا عَنْ جُمْلَةِ الصَّحَابَةِ وَلَا بِرِضَاهُمْ وَإِنَّمَا فَعَلَهُ شُقْرَانُ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَلْبَسَهَا أَحَدٌ بَعْدَهُ صلى الله عليه وسلم وَفِي الِاسْتِيعَابِ أَنَّ تِلْكَ الْقَطِيفَةَ أُخْرِجَتْ قَبْلَ أَنْ يُهَالَ التُّرَابُ. تَنْبِيهٌ: لَوْ عَبَّرَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: وَلَا يُتَّخَذُ لَهُ فِرَاشٌ وَلَا مِخَدَّةٌ لَاسْتَغْنَى عَمَّا قَدَّرْتُهُ؛ لِأَنَّ الْمِخَدَّةَ إنْ دَخَلَتْ فِيمَا يُفْرَشُ تَحْتَهُ فَقَدْ دَخَلَتْ فِي لَفْظِ الشَّيْءِ، وَإِنْ لَمْ تَدْخُلْ فِيهِ وَهُوَ الصَّوَابُ لَمْ يَبْقَ لَهَا عَامِلٌ يَرْفَعُهَا.

(وَيُكْرَهُ دَفْنُهُ فِي تَابُوتٍ) بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ (إلَّا فِي أَرْضٍ نَدْيَةٍ) بِسُكُونِ الدَّالِ وَتَخْفِيفِ التَّحْتِيَّةِ (أَوْ رِخْوَةٍ) وَهِيَ بِكَسْرِ الرَّاءِ أَفْصَحُ مِنْ فَتْحِهَا: ضِدُّ الشَّدِيدَةِ فَلَا يُكْرَهُ

لِلْمَصْلَحَةِ

وَلَا تُنَفَّذُ وَصِيَّتُهُ بِهِ إلَّا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا إذَا كَانَ فِي

ص: 53

وَيَجُوزُ الدَّفْنُ لَيْلًا، وَوَقْتَ كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ مَا لَمْ يَتَحَرَّهُ، وَغَيْرُهُمَا أَفْضَلُ.

وَيُكْرَهُ تَجْصِيصُ الْقَبْرِ

ــ

[مغني المحتاج]

الْمَيِّتِ تَهْرِيَةٌ بِحَرِيقٍ أَوْ لَذْعٍ بِحَيْثُ لَا يَضْبُطُهُ إلَّا التَّابُوتُ أَوْ كَانَتْ امْرَأَةً لَا مَحْرَمَ لَهَا كَمَا قَالَهُ الْمُتَوَلِّي لِئَلَّا يَمَسَّهَا الْأَجَانِبُ عِنْدَ الدَّفْنِ أَوْ غَيْرِهِ، وَأَلْحَقَ فِي الْمُتَوَسِّطِ بِذَلِكَ دَفْنَهُ فِي أَرْضٍ مَسْبَعَةٍ بِحَيْثُ لَا يَصُونُهُ مِنْ نَبْشِهَا إلَّا التَّابُوتُ.

(وَيَجُوزُ) بِلَا كَرَاهَةٍ (الدَّفْنُ لَيْلًا) ؛ لِأَنَّ عَائِشَةَ وَفَاطِمَةَ وَالْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ مَا عَدَا عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - دُفِنُوا لَيْلًا، وَقَدْ فَعَلَهُ صلى الله عليه وسلم كَمَا صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ. أَمَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ فَإِنَّهُمْ لَا يُمَكَّنُونَ مِنْ إخْرَاجِ جَنَائِزِهِمْ نَهَارًا، وَعَلَى الْإِمَامِ مَنْعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الْجِزْيَةِ (وَ) كَذَا يَجُوزُ (وَقْتَ كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ) بِلَا كَرَاهَةٍ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ لَهُ سَبَبًا مُتَقَدِّمًا أَوْ مُقَارِنًا، وَهُوَ الْمَوْتُ (مَا لَمْ يَتَحَرَّهُ) فَإِنْ تَحَرَّاهُ كُرِهَ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ وَاقْتَضَاهُ كَلَامُ الرَّوْضَةِ، وَإِنْ اقْتَضَى الْمَتْنُ عَدَمَ الْجَوَازِ، وَجَرَى عَلَيْهِ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ مَنْهَجِهِ، وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى عَدَمِ الْجَوَازِ الْمُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ، وَعَلَى الْكَرَاهَةِ حُمِلَ خَبَرُ مُسْلِمٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ «ثَلَاثُ سَاعَاتٍ نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الصَّلَاةِ فِيهِنَّ، وَأَنْ نَقْبُرَ فِيهِنَّ مَوْتَانَا، وَذَكَرَ وَقْتَ الِاسْتِوَاءِ، وَالطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ» وَظَاهِرُ الْخَبَرِ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ تَحَرِّي الدَّفْنِ فِي الْوَقْتَيْنِ الْمُتَعَلِّقَيْنِ بِالْفِعْلِ، وَهُمَا بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَبَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَجَرَى عَلَى ذَلِكَ الْإِسْنَوِيُّ وَصَوَّبَ فِي الْخَادِمِ كَرَاهَةَ تَحَرِّي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا، وَهُوَ الظَّاهِرُ (وَغَيْرُهُمَا) أَيْ اللَّيْلِ، وَوَقْتِ الْكَرَاهَةِ (أَفْضَلُ) أَيْ فَاضِلٌ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُخَافَ مِنْ تَأْخِيرِهِ إلَى غَيْرِهِمَا تَغَيُّرًا لِسُهُولَةِ الِاجْتِمَاعِ وَالْوَضْعِ فِي الْقَبْرِ قَالَ الْإِسْنَوِيُّ: وَمَا ذَكَرَ مِنْ تَفْضِيلِ غَيْرِ أَوْقَاتِ الْكَرَاهَةِ عَلَيْهَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ فِي الرَّوْضَةِ وَلَا فِي الْمَجْمُوعِ وَلَا يَتَّجِهُ صِحَّتُهُ، فَإِنَّ الْمُبَادَرَةَ مُسْتَحَبَّةٌ اهـ.

وَيَرُدُّ ذَلِكَ الشَّرْطُ الْمُتَقَدِّمُ، وَلَوْ عَبَّرَ بِقَوْلِهِ وَالسُّنَّةُ غَيْرُهُمَا لَاسْتَغْنَى عَنْ التَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ. .

فَرْعٌ: يَحْصُلُ مِنْ الْأَجْرِ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ الْمَسْبُوقَةِ بِالْحُضُورِ مَعَهُ قِيرَاطٌ، وَيَحْصُلُ مِنْهُ وَالْحُضُورُ مَعَهُ إلَى تَمَامِ الدَّفْنِ لَا لِلْمُوَارَاةِ فَقَطْ قِيرَاطَانِ لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ «مَنْ شَهِدَ الْجِنَازَةَ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ» وَفِي رِوَايَةٍ «حَتَّى يُفْرَغَ مِنْ دَفْنِهَا فَلَهُ قِيرَاطَانِ. قِيلَ وَمَا الْقِيرَاطَانِ: قَالَ: مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ» وَلِمُسْلِمٍ «أَصْغَرُهُمَا مِثْلُ أُحُدٍ» وَعَلَى ذَلِكَ تُحْمَلُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ " حَتَّى يُوضَعُ فِي اللَّحْدِ " وَهَلْ ذَلِكَ بِقِيرَاطِ الصَّلَاةِ أَوْ بِدُونِهِ فَيَكُونُ ثَلَاثَةَ قَرَارِيطَ؟ فِيهِ احْتِمَالٌ، لَكِنْ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ التَّصْرِيحُ بِالْأَوَّلِ، وَيَشْهَدُ لِلثَّانِي مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مَرْفُوعًا «مَنْ شَيَّعَ جِنَازَةً حَتَّى يُقْضَى دَفْنُهَا كُتِبَ لَهُ ثَلَاثَةُ قَرَارِيطَ» وَبِمَا تَقَرَّرَ عُلِمَ أَنَّهُ لَوْ صَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ حَضَرَ وَحْدَهُ وَمَكَثَ حَتَّى دُفِنَ لَمْ يَحْصُلُ لَهُ الْقِيرَاطُ الثَّانِي كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمَجْمُوعِ وَغَيْرِهِ لَكِنْ لَهُ أَجْرٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَوْ تَعَدَّدَتْ الْجَنَائِزُ وَاتَّحَدَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا دُفْعَةً وَاحِدَةً: هَلْ يَتَعَدَّدُ الْقِيرَاطُ بِتَعَدُّدِهَا أَوْ لَا نَظَرًا لِاتِّحَادِ الصَّلَاةِ؟ . قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: الظَّاهِرُ التَّعَدُّدُ وَبِهِ أَجَابَ قَاضِي حَمَاةَ الْبَارِزِيُّ، وَهُوَ ظَاهِرٌ.

(وَيُكْرَهُ تَجْصِيصُ الْقَبْرِ)

ص: 54

وَالْبِنَاءُ وَالْكِتَابَةُ عَلَيْهِ.

وَلَوْ بُنِيَ فِي مَقْبَرَةٍ مُسَبَّلَةٍ هُدِمَ.

وَيُنْدَبُ أَنْ يُرَشَّ الْقَبْرُ بِمَاءٍ،

ــ

[مغني المحتاج]

أَيْ تَبْيِيضُهُ بِالْجِصِّ، وَهُوَ الْجِبْسُ وَقِيلَ الْجِيرُ، وَالْمُرَادُ هُنَا هُمَا أَوْ أَحَدُهُمَا (وَالْبِنَاءُ) عَلَيْهِ كَقُبَّةٍ أَوْ بَيْتٍ لِلنَّهْيِ عَنْهُمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَخَرَجَ بِتَجْصِيصِهِ تَطْيِيبُهُ، فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ. وَقَالَ فِي الْمَجْمُوعِ: إنَّهُ الصَّحِيحُ وَإِنْ خَالَفَ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ فِي ذَلِكَ فَجَعَلَاهُ كَالتَّجْصِيصِ (وَالْكِتَابَةُ عَلَيْهِ) سَوَاءٌ أَكُتِبَ اسْمُ صَاحِبِهِ أَوْ غَيْرِهِ فِي لَوْحٍ عِنْدَ رَأْسِهِ أَمْ فِي غَيْرِهِ لِلنَّهْيِ عَنْهُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: هَكَذَا أَطْلَقُوهُ، وَالْقِيَاسُ الظَّاهِرُ تَحْرِيمُ كِتَابَةِ الْقُرْآنِ عَلَى الْقَبْرِ لِتَعَرُّضِهِ لِلدَّوْسِ عَلَيْهِ وَالنَّجَاسَةِ وَالتَّلْوِيثِ بِصَدِيدِ الْمَوْتَى عِنْدَ تَكْرَارِ النَّبْشِ فِي الْمَقْبَرَةِ الْمُسَبَّلَةِ اهـ.

لَكِنَّ هَذَا غَيْرُ مُحَقَّقٍ، فَالْمُعْتَمَدُ إطْلَاقُ الْأَصْحَابِ. وَيُكْرَهُ أَنْ يُجْعَلَ عَلَى الْقَبْرِ مِظَلَّةٌ؛ لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رَأَى قُبَّةً فَنَحَاهَا، وَقَالَ: دَعُوهُ يُظِلُّهُ عَمَلُهُ، وَفِي الْبُخَارِيِّ لَمَّا مَاتَ الْحَسَنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - ضَرَبَتْ امْرَأَتُهُ الْقُبَّةَ عَلَى قَبْرِهِ سَنَةً، ثُمَّ رُفِعَتْ فَسَمِعُوا صَائِحًا يَقُولُ: أَلَا هَلْ وَجَدُوا مَا فَقَدُوا، فَأَجَابَهُ آخَرُ: بَلْ يَئِسُوا فَانْقَلَبُوا، وَيُكْرَهُ تَقْبِيلُ التَّابُوتِ الَّذِي يُجْعَلُ عَلَى الْقَبْرِ كَمَا يُكْرَهُ تَقْبِيلُ الْقَبْرِ وَاسْتِلَامُهُ وَتَقْبِيلُ الْأَعْتَابِ عِنْدَ الدُّخُولِ لِزِيَارَةِ الْأَوْلِيَاءِ، فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي ارْتَكَبَهَا النَّاسُ {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر: 8] .

(وَلَوْ بُنِيَ) عَلَيْهِ (فِي مَقْبَرَةٍ مُسَبَّلَةٍ) وَهِيَ الَّتِي جَرَتْ عَادَةُ أَهْلِ الْبَلَدِ بِالدَّفْنِ فِيهَا (هُدِمَ) الْبِنَاءُ؛ لِأَنَّهُ يَضِيقُ عَلَى النَّاسِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَبْنِيَ قُبَّةً أَوْ بَيْتًا أَوْ مَسْجِدًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، وَمِنْ الْمُسَبَّلِ - كَمَا قَالَ الدَّمِيرِيُّ وَغَيْرُهُ - قَرَافَةُ مِصْرَ فَإِنَّ ابْنَ عَبْدِ الْحَكَمِ ذَكَرَ فِي تَارِيخِ مِصْرَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ أَعْطَاهُ الْمُقَوْقَسُ فِيهَا مَالًا جَزِيلًا، وَذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ أَنَّهَا تُرْبَةُ الْجَنَّةِ فَكَاتَبَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِي ذَلِكَ. فَكَتَبَ إلَيْهِ إنِّي لَا أَعْرِفُ تُرْبَةَ الْجَنَّةِ إلَّا لِأَجْسَادِ الْمُؤْمِنِينَ فَاجْعَلُوهَا لِمَوْتَاكُمْ، وَقَدْ أَفْتَى جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِهَدْمِ مَا بُنِيَ فِيهَا.

تَنْبِيهٌ ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ الْبِنَاءَ فِي الْمَقْبَرَةِ الْمُسَبَّلَةِ مَكْرُوهٌ، وَلَكِنْ يُهْدَمُ فَإِنَّهُ أَطْلَقَ فِي الْبِنَاءِ، وَفَصَلَ فِي الْهَدْمِ بَيْنَ الْمُسَبَّلَةِ وَغَيْرِهَا إذْ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ كَلَامِهِ فِي الْكَرَاهَةِ عَلَى التَّحْرِيمِ لِفَسَادِهِ؛ لِأَنَّ التَّجْصِيصَ وَالْكِتَابَةَ وَالْبِنَاءَ فِي غَيْرِ الْمُسَبَّلَةِ لَا حُرْمَةَ فِيهِ، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ، وَلَكِنَّهُ صَرَّحَ فِي الْمَجْمُوعِ وَغَيْرِهِ بِتَحْرِيمِ الْبِنَاءِ فِيهَا وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، فَلَوْ صَرَّحَ بِهِ هُنَا كَانَ أَوْلَى.

فَإِنْ قِيلَ: يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ: هَدْمُ الْحُرْمَةِ.

أُجِيبَ بِالْمَنْعِ، فَقَدْ قَالَ فِي الرَّوْضَةِ فِي آخِرِ شُرُوطِ الصَّلَاةِ: إنَّ غَرْسَ الشَّجَرَةِ فِي الْمَسْجِدِ مَكْرُوهٌ قَالَ: فَإِنْ غُرِسَتْ قُطِعَتْ، وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ كَلَامَيْ الْمُصَنِّفِ بِحَمْلِ الْكَرَاهَةِ عَلَى مَا إذَا بَنَى عَلَى الْقَبْرِ خَاصَّةً بِحَيْثُ يَكُونُ الْبِنَاءُ وَاقِعًا فِي حَرِيمِ الْقَبْرِ، وَالْحُرْمَةُ مَا عَلَى إذَا بَنَى عَلَى الْقَبْرِ قُبَّةً أَوْ بَيْتًا يَسْكُنُ فِيهِ: وَالْمُعْتَمَدُ الْحُرْمَةُ مُطْلَقًا.

(وَيُنْدَبُ أَنْ يُرَشَّ الْقَبْرُ بِمَاءٍ) ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم فَعَلَهُ بِقَبْرِ وَلَدِهِ إبْرَاهِيمَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي مَرَاسِيلِهِ وَتَفَاؤُلًا بِالرَّحْمَةِ وَتَبْرِيدًا لِمَضْجَعِ الْمَيِّتِ؛ وَلِأَنَّ فِيهِ حِفْظًا لِلتُّرَابِ أَنْ يَتَنَاثَرَ. قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ طَهُورًا بَارِدًا وَالظَّاهِرُ كَرَاهَتُهُ بِالنَّجِسِ أَوْ تَحْرِيمُهُ اهـ.

وَاَلَّذِي يَنْبَغِي الْكَرَاهَةُ، وَأَمَّا التَّحْرِيمُ

ص: 55

وَيُوضَعُ عَلَيْهِ حَصًى، وَعِنْدَ رَأْسِهِ حَجَرٌ أَوْ خَشَبَةٌ.

وَجَمْعُ الْأَقَارِبِ فِي مَوْضِعٍ.

وَزِيَارَةُ الْقُبُورِ لِلرِّجَالِ،

ــ

[مغني المحتاج]

فَفِي غَايَةِ الْبُعْدِ، وَخَرَجَ بِالْمَاءِ مَاءُ الْوَرْدِ فَالرَّشُّ بِهِ مَكْرُوهٌ كَمَا فِي زِيَادَةِ الرَّوْضَةِ؛ لِأَنَّهُ إضَاعَةُ مَالٍ. قَالَ الْإِسْنَوِيُّ: وَلَوْ قِيلَ بِتَحْرِيمِهِ لَمْ يَبْعُدْ، وَقَالَ السُّبْكِيُّ: لَا بَأْسَ بِالْيَسِيرِ مِنْهُ إذَا قُصِدَ بِهِ حُضُورُ الْمَلَائِكَةِ؛ لِأَنَّهَا تُحِبُّ الرَّائِحَةَ الطَّيِّبَةَ. وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ مَانِعُ الْحُرْمَةِ مِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ، وَيُكْرَهُ أَيْضًا أَنْ يُطْلَى بِالْخَلُوقِ (وَيُوضَعُ عَلَيْهِ حَصًى) لِمَا رَوَى الشَّافِعِيُّ مُرْسَلًا «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم وَضَعَهُ عَلَى قَبْرِ ابْنِهِ إبْرَاهِيمَ» .

وَرُوِيَ «أَنَّهُ رَأَى عَلَى قَبْرِهِ فُرْجَةً فَأَمَرَ بِهَا فَسُدَّتْ وَقَالَ: إنَّهَا لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَإِنَّ الْعَبْدَ إذَا عَمِلَ شَيْئًا أَحَبَّ اللَّهُ مِنْهُ أَنْ يُتْقِنَهُ» وَيُسَنُّ أَيْضًا وَضْعُ الْجَرِيدِ الْأَخْضَرِ عَلَى الْقَبْرِ وَكَذَا الرَّيْحَانُ وَنَحْوُهُ مِنْ الشَّيْءِ الرَّطْبِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْغَيْرِ أَخْذُهُ مِنْ عَلَى الْقَبْرِ قَبْلَ يُبْسِهِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ لَمْ يُعْرِضْ عَنْهُ إلَّا عِنْدَ يُبْسِهِ لِزَوَالِ نَفْعِهِ الَّذِي كَانَ فِيهِ وَقْتَ رُطُوبَتِهِ وَهُوَ الِاسْتِغْفَارُ (وَ) أَنْ يُوضَعَ (عِنْدَ رَأْسِهِ حَجَرٌ أَوْ خَشَبَةٌ) أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ «؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم وَضَعَ عِنْدَ رَأْسِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ صَخْرَةً وَقَالَ: أَتَعَلَّمُ بِهَا قَبْرَ أَخِي لِأَدْفِنَ إلَيْهِ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِي» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَعَنْ الْمَاوَرْدِيُّ اسْتِحْبَابُ ذَلِكَ عِنْدَ رِجْلَيْهِ أَيْضًا.

(وَ) يُنْدَبُ (جَمْعُ الْأَقَارِبِ) لِلْمَيِّتِ (فِي مَوْضِعٍ) وَاحِدٍ مِنْ الْمَقْبَرَةِ؛ لِأَنَّهُ أَسْهَلُ عَلَى الزَّائِرِ. قَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ: وَيُسَنُّ أَنْ يُقَدَّمَ الْأَبُ إلَى الْقِبْلَةِ، ثُمَّ الْأَسَنُّ فَالْأَسَنُّ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ فِيمَا إذَا دُفِنُوا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ كَمَا قَالَهُ غَيْرُهُ، وَيُتَّجَهُ كَمَا قَالَ الدَّمِيرِيُّ: إلْحَاقُ الزَّوْجَيْنِ وَالْعُتَقَاءِ وَالْأَصْدِقَاءِ بِالْأَقَارِبِ.

(وَ) يُنْدَبُ (زِيَارَةُ الْقُبُورِ) الَّتِي فِيهَا الْمُسْلِمُونَ (لِلرِّجَالِ) بِالْإِجْمَاعِ، وَكَانَتْ زِيَارَتُهَا مَنْهِيًّا عَنْهَا، ثُمَّ نُسِخَتْ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا» ، وَلَا تَدْخُلُ النِّسَاءُ فِي ضَمِيرِ الرِّجَالِ عَلَى الْمُخْتَارِ، «وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يَخْرُجُ إلَى الْبَقِيعِ، فَيَقُولُ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا بِكُمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَاحِقُونَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَهْلِ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ» وَرُوِيَ «فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْمَوْتَ» وَإِنَّمَا نَهَاهُمْ أَوَّلًا لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ فَلَمَّا اسْتَقَرَّتْ قَوَاعِدُ الْإِسْلَامِ وَاشْتَهَرَتْ أَمَرَهُمْ بِهَا، وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ مَا حَاصِلُهُ: أَنَّهُ مَنْ كَانَ يُسْتَحَبُّ لَهُ زِيَارَتُهُ فِي حَيَاتِهِ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ صَاحِبٍ، فَيُسَنُّ لَهُ زِيَارَتُهُ فِي الْمَوْتِ كَمَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَيُسَنُّ لَهُ زِيَارَتُهُ إنْ قُصِدَ بِهَا تَذَكُّرُ الْمَوْتِ أَوْ التَّرَحُّمُ عَلَيْهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ. قَالَ الْإِسْنَوِيُّ: وَهُوَ حَسَنٌ، وَذَكَرَ فِي الْبَحْرِ نَحْوَهُ. قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَالْأَشْبَهُ أَنَّ مَوْضِعَ النَّدْبِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ سَفَرٌ لِزِيَارَةِ الْقُبُورِ فَقَطْ، بَلْ فِي كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ السَّفَرُ لِذَلِكَ، وَاسْتُثْنِيَ قَبْرُ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم وَلَعَلَّ مُرَادَهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ جَوَازًا مُسْتَوِيَ الطَّرَفَيْنِ: أَيْ فَيُكْرَهُ، وَيُسَنُّ الْوُضُوءُ لِزِيَارَةِ الْقُبُورِ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي شَرْحِ الْفُرُوعِ.

أَمَّا قُبُورُ

ص: 56

وَتُكْرَهُ لِلنِّسَاءِ، وَقِيلَ تَحْرُمُ، وَقِيلَ تُبَاحُ، وَيُسَلِّمُ الزَّائِرُ وَيَقْرَأُ وَيَدْعُو.

ــ

[مغني المحتاج]

الْكُفَّارِ فَزِيَارَتُهَا مُبَاحَةٌ، وَإِنْ جَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ بِحُرْمَتِهَا (وَتُكْرَهُ) زِيَارَتُهَا (لِلنِّسَاءِ) ؛ لِأَنَّهَا مَظِنَّةٌ لِطَلَبِ بُكَائِهِنَّ وَرَفْعِ أَصْوَاتِهِنَّ لِمَا فِيهِنَّ مِنْ رِقَّةِ الْقَلْبِ وَكَثْرَةِ الْجَزَعِ وَقِلَّةِ احْتِمَالِ الْمَصَائِبِ، وَإِنَّمَا لَمْ تَحْرُمْ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم «مَرَّ بِامْرَأَةٍ عَلَى قَبْرٍ تَبْكِي عَلَى صَبِيٍّ لَهَا، فَقَالَ لَهَا: اتَّقِ اللَّهَ وَاصْبِرِي» (1) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَلَوْ كَانَتْ الزِّيَارَةُ حَرَامًا لَنَهَى عَنْهَا، وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ «كَيْفَ أَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ يَعْنِي إذَا زُرْتُ الْقُبُورَ، قَالَ: قُولِي السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ (وَقِيلَ تَحْرُمُ) لِمَا رَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «لَعَنَ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ» وَلَيْسَ هَذَا الْوَجْهُ فِي الرَّوْضَةِ، وَبِهِ قَالَ صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ وَغَيْرُهُ (وَقِيلَ تُبَاحُ) جَزَمَ بِهِ فِي الْإِحْيَاءِ وَصَحَّحَهُ الرُّويَانِيُّ إذَا أُمِنَ الِافْتِتَانُ، عَمَلًا بِالْأَصْلِ وَالْخَبَرِ فِيمَا إذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهَا بُكَاءٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَمَحَلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي غَيْرِ زِيَارَةِ قَبْرِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ.

أَمَّا زِيَارَتُهُ فَمِنْ أَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَأَلْحَقَ الدَّمَنْهُورِيُّ بِهِ قُبُورَ بَقِيَّةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَإِنْ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: لَمْ أَرَهُ لِلْمُتَقَدِّمِينَ. قَالَ ابْنُ شُهْبَةَ: فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ زِيَارَةُ قَبْرِ أَبَوَيْهَا وَإِخْوَتِهَا وَسَائِرِ أَقَارِبِهَا كَذَلِكَ فَإِنَّهُمْ أَوْلَى بِالصِّلَةِ مِنْ الصَّالِحِينَ اهـ.

وَالْأَوْلَى عَدَمُ إلْحَاقِهِمْ بِهِمْ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَعْلِيلِ الْكَرَاهَةِ (وَيُسَلِّمُ نَدْبًا)(الزَّائِرُ) لِلْقُبُورِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مُسْتَقْبِلًا وَجْهَهُ قَائِلًا مَا عَلَّمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ إذَا خَرَجُوا لِلْمَقَابِرِ «السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بِكُمْ لَاحِقُونَ أَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ» (3) ، أَوْ «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ» كَمَا رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ.

زَادَ أَبُو دَاوُد «اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ» لَكِنْ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، وَقَوْلُهُ: إنْ شَاءَ اللَّهُ لِلتَّبَرُّكِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْمَوْتِ فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ، أَوْ عَلَى الْإِسْلَامِ، أَوْ إنْ بِمَعْنَى إذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175] وَقَوْلُهُ دَارَ: أَيْ أَهْلَ دَارِ، وَنَصْبُهُ عَلَى الِاخْتِصَاصِ أَوْ النِّدَاءِ، وَيَجُوزُ جَرُّهُ عَلَى الْبَدَلِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْمُتَوَلِّي: لَا يَقُولُ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلًا لِلْخِطَابِ؛ بَلْ يَقُولُ: وَعَلَيْكُمْ السَّلَامُ، فَقَدْ وَرَدَ «أَنَّ شَخْصًا قَالَ: عَلَيْكَ السَّلَامُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: لَا تَقُلْ عَلَيْكَ السَّلَامُ فَإِنَّ عَلَيْكَ السَّلَامُ تَحِيَّةُ الْمَوْتَى» .

وَأَجَابَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ هَذَا إخْبَارٌ عَنْ عَادَةِ الْعَرَبِ لَا تَعْلِيمٌ لَهُمْ (وَيَقْرَأُ) عِنْدَهُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا تَيَسَّرَ، وَهُوَ سُنَّةٌ فِي الْمَقَابِرِ فَإِنَّ الثَّوَابَ لِلْحَاضِرِينَ وَالْمَيِّتُ كَحَاضِرٍ يُرْجَى لَهُ الرَّحْمَةُ، وَفِي ثَوَابِ الْقِرَاءَةِ لِلْمَيِّتِ كَلَامٌ يَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْوَصَايَا (وَيَدْعُو) لَهُ عَقِبَ الْقِرَاءَةِ رَجَاءَ الْإِجَابَةِ؛ لِأَنَّ الدُّعَاءَ يَنْفَعُ الْمَيِّتَ وَهُوَ عَقِبَ الْقِرَاءَةِ أَقْرَبُ إلَى الْإِجَابَةِ، وَعِنْدَ الدُّعَاءِ

ص: 57

وَيَحْرُمُ نَقْلُ الْمَيِّتِ إلَى بَلَدٍ آخَرَ، وَقِيلَ يُكْرَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِقُرْبِ مَكَّةَ أَوْ الْمَدِينَةِ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، نَصَّ عَلَيْهِ.

وَنَبْشُهُ بَعْدَ دَفْنِهِ لِلنَّقْلِ وَغَيْرِهِ حَرَامٌ إلَّا لِضَرُورَةٍ: بِأَنْ دُفِنَ بِلَا غُسْلٍ أَوْ فِي أَرْضٍ، أَوْ ثَوْبٍ مَغْصُوبَيْنِ،

ــ

[مغني المحتاج]

يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَإِنْ قَالَ الْخُرَاسَانِيُّونَ بِاسْتِحْبَابِ اسْتِقْبَالِ وَجْهِ الْمَيِّتِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَيُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنْ الزِّيَارَةِ، وَأَنْ يُكْثِرَ الْوُقُوفَ عِنْدَ قُبُورِ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالْفَضْلِ.

(وَيَحْرُمُ نَقْلُ الْمَيِّتِ) قَبْلَ أَنْ يُدْفَنَ مِنْ بَلَدِ مَوْتِهِ (إلَى بَلَدٍ آخَرَ) لِيُدْفَنَ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ لِمَا فِيهِ مِنْ تَأْخِيرِ دَفْنِهِ وَمِنْ التَّعْرِيضِ لِهَتْكِ حُرْمَتِهِ. قَالَ الْإِسْنَوِيُّ: وَتَعْبِيرُهُمْ بِالْبَلَدِ لَا يُمْكِنُ الْأَخْذُ بِظَاهِرِهِ بَلْ الصَّحْرَاءُ كَذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ يَنْتَظِمُ مِنْهَا مَعَ الْبَلَدِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: مِنْ بَلَدٍ لِبَلَدٍ، مِنْ بَلَدٍ لِصَحْرَاءَ، وَعَكْسُهُ، وَمَنْ صَحْرَاءَ لِصَحْرَاءَ، وَلَا شَكَّ فِي جَوَازِهِ فِي الْبَلْدَتَيْنِ الْمُتَّصِلَتَيْنِ أَوْ الْمُتَقَارِبَتَيْنِ، لَا سِيَّمَا وَالْعَادَةُ جَارِيَةٌ بِالدَّفْنِ خَارِجَ الْبَلَدِ، وَلَعَلَّ الْعِبْرَةَ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ بِمَسَافَةِ مَقْبَرَتِهَا. أَمَّا بَعْدَ دَفْنِهِ فَسَيَأْتِي قَرِيبًا فِي مَسْأَلَةِ نَبْشِهِ (وَقِيلَ) أَيْ قَالَ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ (يُكْرَهُ) ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ عَلَى تَحْرِيمِهِ دَلِيلٌ (إلَّا أَنْ يَكُونَ بِقُرْبِ مَكَّةَ أَوْ الْمَدِينَةِ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، نَصَّ عَلَيْهِ) الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِفَضْلِهَا، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ عَائِدًا إلَى الْكَرَاهَةِ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ عَدَمُ الْحُرْمَةِ أَوْ عَائِدًا إلَيْهِمَا مَعًا. قَالَ الْإِسْنَوِيُّ: وَهُوَ أَوْلَى عَلَى قَاعِدَتِنَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ عَقِبَ الْجُمَلِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْقُرْبِ مَسَافَةٌ لَا يَتَغَيَّرُ فِيهَا الْمَيِّتُ قَبْلَ وُصُولِهِ، وَالْمُرَادُ بِمَكَّةَ جَمِيعُ الْحَرَمِ لَا نَفْسُ الْبَلَدِ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَيَنْبَغِي اسْتِثْنَاءُ الشَّهِيدِ لِخَبَرِ جَابِرٍ قَالَ «أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلَى أُحُدٍ أَنْ يُرَدُّوا إلَى مَصَارِعِهِمْ وَكَانُوا نُقِلُوا إلَى الْمَدِينَةِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ اهـ.

وَتَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ: لَا يَبْعُدُ أَنْ تُلْحَقَ الْقَرْيَةُ الَّتِي فِيهَا صَالِحُونَ بِالْأَمَاكِنِ الثَّلَاثَةِ، وَذَكَرَ أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى بِنَقْلِهِ مِنْ بَلَد مَوْتِهِ إلَى الْأَمَاكِنِ الثَّلَاثَةِ لَزِمَ تَنْفِيذُ وَصِيَّتِهِ أَيْ عِنْدَ الْقُرْبِ وَأَمْنِ التَّغَيُّرِ لَا مُطْلَقًا كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ، وَإِذَا جَازَ النَّقْلُ فَيَنْبَغِي كَمَا قَالَهُ ابْنُ شُهْبَةَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ غُسْلِهِ وَتَكْفِينِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فَرْضَ ذَلِكَ قَدْ تَعَلَّقَ بِالْبَلَدِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَلَا يَسْقُطُ الْفَرْضُ عَنْهُمْ بِجَوَازِ النَّقْلِ، وَلَوْ مَاتَ سُنِّيٌّ فِي بِلَادِ الْمُبْتَدِعَةِ نُقِلَ إنْ لَمْ يُمْكِنَ إخْفَاءُ قَبْرِهِ، وَكَذَا لَوْ مَاتَ أَمِيرُ الْجَيْشِ وَنَحْوُهُ بِدَارِ الْحَرْبِ وَلَوْ دَفَنَّاهُ ثَمَّ لَمْ يُخَفْ عَلَيْهِمْ، وَلَوْ تَعَارَضَ الْقُرْبُ مِنْ الْأَمَاكِنِ الْمَذْكُورَةِ وَدَفْنُهُ بَيْنَ أَهْلِهِ فَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى.

(وَنَبْشُهُ بَعْدَ دَفْنِهِ) وَقَبْلَ الْبِلَى عِنْدَ أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِتِلْكَ الْأَرْضِ (لِلنَّقْلِ وَغَيْرِهِ) كَصَلَاةٍ عَلَيْهِ وَتَكْفِينِهِ (حَرَامٌ) ؛ لِأَنَّ فِيهِ هَتْكًا لِحُرْمَتِهِ (إلَّا لِضَرُورَةٍ: بِأَنْ دُفِنَ بِلَا غُسْلٍ) وَلَا تَيَمُّمٍ بِشَرْطِهِ وَهُوَ مِمَّنْ يَجِبُ غُسْلُهُ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ فَاسْتَدْرَكَ عِنْدَ قُرْبِهِ فَيَجِبُ عَلَى الْمَشْهُورِ نَبْشُهُ وَغُسْلُهُ إنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِنَتْنٍ أَوْ تَقَطُّعٍ، ثُمَّ يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَقِيلَ يُنْبَشُ مَا بَقِيَ مِنْهُ جُزْءٌ، وَقِيلَ لَا يُنْبَشُ مُطْلَقًا، بَلْ يُكْرَهُ لِلْهَتْكِ، وَلَوْ قَالَ كَأَنْ دُفِنَ كَانَ أَوْلَى لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ الْحَصْرُ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ، وَسَأُنَبِّهُ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا تَرَكَهُ (أَوْ) دُفِنَ (فِي أَرْضٍ أَوْ) فِي (ثَوْبٍ مَغْصُوبَيْنِ) وَطَالَبَ بِهِمَا مَالِكُهُمَا فَيَجِبُ النَّبْشُ، وَلَوْ تَغَيَّرَ الْمَيِّتُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ هَتْكُ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ لِيَصِلَ الْمُسْتَحِقُّ إلَى حَقِّهِ، وَيُسَنُّ لِصَاحِبِهِمَا التَّرْكُ، وَمَحَلُّ النَّبْشِ فِي الثَّوْبِ إذَا وُجِدَ مَا يُكَفَّنُ

ص: 58

أَوْ وَقَعَ فِيهِ مَالٌ، أَوْ دُفِنَ، لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ لَا لِلتَّكْفِينِ فِي الْأَصَحِّ.

ــ

[مغني المحتاج]

فِيهِ الْمَيِّتُ وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ النَّبْشُ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَغَيْرِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّا إذَا لَمْ نَجِدْ إلَّا ثَوْبًا يُؤْخَذُ مِنْ مَالِكِهِ قَهْرًا وَلَا يُدْفَنُ عُرْيَانًا وَهُوَ مَا فِي الْبَحْرِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَالْكَفَنُ الْحَرِيرُ كَالْمَغْصُوبِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَفِيهِ نَظَرٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقْطَعَ فِيهِ بِعَدَمِ النَّبْشِ اهـ.

وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى (أَوْ وَقَعَ فِيهِ) أَيْ الْقَبْرِ (مَالٌ) وَإِنْ قَلَّ كَخَاتَمٍ، فَيَجِبُ نَبْشُهُ وَإِنْ تَغَيَّرَ الْمَيِّتُ؛ لِأَنَّ تَرْكَهُ فِيهِ إضَاعَةُ مَالٍ، وَقَيَّدَهُ فِي الْمُهَذَّبِ بِطَلَبِ مَالِكِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَظْهَرُ اعْتِمَادُهُ قِيَاسًا عَلَى الْكَفَنِ، وَالْفَرْقُ بِأَنَّ الْكَفَنَ ضَرُورِيٌّ لِلْمَيِّتِ لَا يُجْدِي.

وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْمَجْمُوعِ وَلَمْ يُوَافِقُوهُ عَلَيْهِ فَقَدْ رُدَّ بِمُوَافَقَةِ صَاحِبَيْ الِانْتِصَارِ وَالِاسْتِقْصَاءِ لَهُ. وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ أَنَّ الْكَلَامَ هُنَا فِي وُجُوبِ النَّبْشِ أَوْ جَوَازِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ الْمُطْلِقِينَ عَلَى الْجَوَازِ، وَكَلَامُ الْمُهَذَّبِ عَلَى الْوُجُوبِ عِنْدَ الطَّلَبِ، فَلَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِإِطْلَاقِهِمْ اهـ.

وَلَوْ بَلَغَ مَالًا لِغَيْرِهِ وَطَلَبَهُ صَاحِبُهُ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ وَلَمْ يَضْمَنْ مِثْلَهُ أَوْ قِيمَتَهُ أَحَدٌ مِنْ الْوَرَثَةِ أَوْ غَيْرِهِمْ كَمَا فِي الرَّوْضَةِ نُبِشَ وَشُقَّ جَوْفُهُ وَأُخْرِجَ مِنْهُ وَرُدَّ لِصَاحِبِهِ. قَالَ فِي الْمَجْمُوعِ: وَالتَّقْيِيدُ بِعَدَمِ الضَّمَانِ غَرِيبٌ، وَالْمَشْهُورُ لِلْأَصْحَابِ إطْلَاقُ الشَّقِّ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ. قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ، فَقَدْ حَكَى صَاحِبُ الْبَحْرِ الِاسْتِثْنَاءَ عَنْ الْأَصْحَابِ وَقَالَ لَا خِلَافَ فِيهِ، وَهَذَا هُوَ الْأَوْجَهُ إنْ ابْتَلَعَ مَالَ نَفْسِهِ فَلَا يُنْبَشُ وَلَا يُشَقُّ لِاسْتِهْلَاكِهِ مَالَهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ (أَوْ دُفِنَ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ) فَيَجِبُ نَبْشُهُ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ، وَيُوَجَّهُ لِلْقِبْلَةِ اسْتِدْرَاكًا لِلْوَاجِبِ، فَإِنْ تَغَيَّرَ لَمْ يُنْبَشْ (لَا لِلتَّكْفِينِ فِي الْأَصَحِّ) ؛ لِأَنَّ غَرَضَ التَّكْفِينِ السَّتْرُ، وَقَدْ حَصَلَ بِالتُّرَابِ مَعَ مَا فِي النَّبْشِ مِنْ الْهَتْكِ. وَالثَّانِي: يُنْبَشُ قِيَاسًا عَلَى الْغُسْلِ بِجَامِعِ الْوُجُوبِ.

تَنْبِيهٌ قَدْ مَرَّ أَنَّ صُوَرَ النَّبْشِ لَا تَنْحَصِرُ فِيمَا قَالَهُ، وَقَدْ ذَكَرْتُ صُوَرًا زِيَادَةً عَلَيْهِ كَمَا عُلِمَ، وَبَقِيَ صُوَرٌ أُخَرُ: مِنْهَا مَا لَوْ دُفِنَتْ امْرَأَةٌ فِي بَطْنِهَا جَنِينٌ تُرْجَى حَيَاتُهُ بِأَنْ يَكُونَ لَهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرُ نُبِشَتْ وَشُقَّ جَوْفُهَا وَأُخْرِجَ تَدَارُكًا لِلْوَاجِبِ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ شَقُّ جَوْفِهَا قَبْلَ الدَّفْنِ، وَإِنْ لَمْ تُرْجَ حَيَاتُهُ لَمْ تُنْبَشْ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ دُفِنَتْ تُرِكَتْ حَتَّى يَمُوتَ ثُمَّ تُدْفَنَ، وَقَوْلُ التَّنْبِيهِ: تُرِكَ عَلَيْهِ شَيْءٌ حَتَّى يَمُوتَ وَجْهٌ ضَعِيفٌ نَبَّهْتُ عَلَيْهِ فِي شَرْحِهِ. وَمِنْهَا مَا لَوْ بُشِّرَ بِمَوْلُودٍ، فَقَالَ: إنْ كَانَ ذَكَرًا فَعَبْدِي حُرٌّ أَوْ أُنْثَى فَأَمَتِي حُرَّةٌ، فَمَاتَ الْمَوْلُودُ وَدُفِنَ وَلَمْ يُعْلَمْ حَالُهُ فَيُنْبَشْ لِيَعْتِقَ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعِتْقَ. وَمِنْهَا مَا لَوْ قَالَ: إنْ وَلَدْت ذَكَرًا فَأَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً أَوْ أُنْثَى فَطَلْقَتَيْنِ، فَوَلَدَتْ مَيِّتًا فَدُفِنَ وَجُهِلَ حَالُهُ، فَالْأَصَحُّ مِنْ زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ فِي الطَّلَاقِ نَبْشُهُ، وَمِنْهَا مَا لَوْ ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى مَيِّتٍ بَعْدَمَا دُفِنَ أَنَّهُ امْرَأَتُهُ وَطَلَبَ الْإِرْثَ وَادَّعَتْ امْرَأَةٌ أَنَّهُ زَوْجُهَا وَطَلَبَتْ الْإِرْثَ، وَأَقَامَ كُلٌّ بَيِّنَةً فَيُنْبَشُ، فَلَوْ نُبِشَ فَبَانَ خُنْثَى تَعَارَضَتْ الْبَيِّنَتَانِ عَلَى الْأَصَحِّ وَيُوقَفُ الْمِيرَاثُ. وَقَالَ الْعَبَّادِيُّ فِي الطَّبَقَاتِ: إنَّهُ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا. وَمِنْهَا أَنْ يَلْحَقَهُ سَيْلٌ أَوْ نَدَاوَةٌ فَيُنْبَشَ لِيُنْقَلَ عَلَى الْأَصَحِّ فِي الْمَجْمُوعِ، وَمِنْهَا مَا لَوْ قَالَ: إنْ رَزَقَنِي اللَّهُ وَلَدًا ذَكَرًا فَلِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا وَدُفِنَ قَبْلَ أَنْ يُعْلَمَ حَالُهُ فَيُنْبَشَ لِقَطْعِ النِّزَاعِ. وَمِنْهَا مَا لَوْ شَهِدَا عَلَى شَخْصِهِ ثُمَّ دُفِنَ وَاشْتَدَّتْ الْحَاجَةُ وَلَمْ تَتَغَيَّرْ الصُّورَةُ

ص: 59

وَيُسَنُّ أَنْ يَقِفَ جَمَاعَةٌ بَعْدَ دَفْنِهِ عِنْدَ قَبْرِهِ سَاعَةً يَسْأَلُونَ لَهُ التَّثْبِيتَ

وَلِجِيرَانِ أَهْلِهِ تَهْيِئَةُ طَعَامٍ يُشْبِعُهُمْ يَوْمَهُمْ وَلَيْلَتَهُمْ، وَيُلَحُّ عَلَيْهِمْ

ــ

[مغني المحتاج]

فَيُنْبَشْ لِيُعْرَفَ، ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الشَّهَادَاتِ، وَسَيَأْتِي مَا فِيهِ. وَمِنْهَا مَا لَوْ اخْتَلَفَتْ الْوَرَثَةُ فِي أَنَّ الْمَدْفُونَ ذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى لِيَعْلَمَ كُلٌّ مِنْ الْوَرَثَةِ قَدْرَ حِصَّتِهِ، وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ ذَلِكَ فِي الْمُنَاسَخَاتِ وَغَيْرِهَا، وَمِنْهَا مَا إذَا تَدَاعَيَا مَوْلُودًا وَدُفِنَ فَإِنَّهُ يُنْبَشُ لِيُلْحِقَهُ الْقَائِفُ بِأَحَدِ الْمُتَدَاعِيَيْنِ. وَمِنْهَا مَا لَوْ دُفِنَ الْكَافِرُ فِي الْحَرَمِ فَيُنْبَشُ وَيُخْرَجُ.

أَمَّا بَعْدَ الْبِلَى عِنْدَ أَهْلِ الْخِبْرَةِ فَلَا يَحْرُمُ نَبْشُهُ بَلْ تَحْرُمُ عِمَارَتُهُ وَتَسْوِيَةُ التُّرَابِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ فِي مَقْبَرَةٍ مُسَبَّلَةٍ لِئَلَّا يَمْتَنِعَ النَّاسُ مِنْ الدَّفْنِ فِيهِ لِظَنِّهِمْ بِذَلِكَ عَدَمَ الْبِلَى. قَالَ الْمُوَفَّقُ حَمْزَةُ الْحْمُويُّ فِي مُشْكَلِ الْوَسِيطِ أَنْ يَكُونَ الْمَدْفُونُ صَحَابِيًّا أَوْ مَنْ اُشْتُهِرَتْ وِلَايَتُهُ فَلَا يَجُوزُ نَبْشُهُ عِنْدَ الِانْمِحَاقِ. قَالَ ابْنُ شُهْبَةَ: وَقَدْ يُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخَانِ فِي الْوَصَايَا أَنَّهُ تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ لِعِمَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ لِمَا فِيهِ مِنْ إحْيَاءِ الزِّيَارَةِ وَالتَّبَرُّكِ، فَإِنْ قَضِيَّتَهُ جَوَازُ عِمَارَةِ قُبُورِ الصَّالِحِينَ مَعَ جَزْمِهِمَا هُنَا بِأَنَّهُ إذَا بَلَى الْمَيِّتُ لَمْ تَجُزْ عِمَارَةُ قَبْرِهِ وَتَسْوِيَةُ التُّرَابِ عَلَيْهِ فِي الْمَقْبَرَةِ الْمُسَبَّلَةِ.

(وَيُسَنُّ أَنْ يَقِفَ جَمَاعَةٌ بَعْدَ دَفْنِهِ عِنْدَ قَبْرِهِ سَاعَةً يَسْأَلُونَ لَهُ التَّثْبِيتَ)«؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ وَاسْأَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ؛ فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ» (1) رَوَاهُ الْبَزَّارُ، وَقَالَ الْحَاكِمُ: إنَّهُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ. وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: أَنَّهُ قَالَ: إذَا دَفَنْتُمُونِي فَأُقِيمُوا بَعْدَ ذَلِكَ حَوْلَ قَبْرِي سَاعَةً قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُفَرَّقُ لَحْمُهَا حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ وَأَعْلَمُ مَاذَا أُرَاجِعُ رُسُلَ رَبِّي.

وَيُسَنُّ تَلْقِينُ الْمَيِّتِ الْمُكَلَّفِ بَعْدَ الدَّفْنِ، فَيُقَالُ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ ابْنَ أَمَةِ اللَّهِ اُذْكُرْ مَا خَرَجْتَ عَلَيْهِ مِنْ دَارِ الدُّنْيَا شَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ، وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ، وَأَنَّ الْبَعْثَ حَقٌّ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، وَأَنَّكَ رَضِيتَ بِاَللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَبِيًّا، وَبِالْقُرْآنِ إمَامًا، وَبِالْكَعْبَةِ قِبْلَةً، وَبِالْمُؤْمِنِينَ إخْوَانًا. لِحَدِيثٍ وَرَدَ فِيهِ. قَالَ فِي الرَّوْضَةِ: وَالْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا، لَكِنَّهُ اعْتَضَدَ بِشَوَاهِدَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَلَمْ تَزَلْ النَّاسُ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ مِنْ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ فِي زَمَنِ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55] وَأَحْوَجُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ إلَى التَّذْكِيرِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَيَقْعُدُ الْمُلَقِّنُ عِنْدَ رَأْسِ الْقَبْرِ، أَمَّا غَيْرُ الْمُكَلَّفِ وَهُوَ الطِّفْلُ وَنَحْوُهُ مِمَّنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ تَكْلِيفٌ فَلَا يُسَنُّ تَلْقِينُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفْتَنُ فِي قَبْرِهِ.

(وَ) يُسَنُّ (لِجِيرَانِ أَهْلِهِ) وَلِأَقَارِبِهِ الْأَبَاعِدِ وَإِنْ كَانَ الْأَهْلُ بِغَيْرِ بَلَدِ الْمَيِّتِ (تَهْيِئَةُ طَعَامٍ يُشْبِعُهُمْ) أَيْ أَهْلَهُ الْأَقَارِبَ (يَوْمَهُمْ وَلَيْلَتَهُمْ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «لَمَّا جَاءَ خَبَرُ قَتْلِ جَعْفَرٍ: اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا فَقَدْ جَاءَهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ» حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ،

ص: 60

فِي الْأَكْلِ.

وَيَحْرُمُ تَهْيِئَتُهُ لِلنَّائِحَاتِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

كِتَابُ الزَّكَاةِ

ــ

[مغني المحتاج]

وَلِأَنَّهُ بِرٌّ وَمَعْرُوفٌ قَالَ الْإِسْنَوِيُّ؛ وَالتَّعْبِيرُ بِالْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَاضِحٌ إذَا مَاتَ فِي أَوَائِلِ اللَّيْلِ، فَلَوْ مَاتَ فِي أَوَاخِرِهِ فَقِيَاسُهُ أَنْ يُضَمَّ إلَى ذَلِكَ اللَّيْلَةَ الثَّانِيَةَ أَيْضًا لَا سِيَّمَا إذَا تَأَخَّرَ الدَّفْنُ عَنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ (وَيُلَحُّ عَلَيْهِمْ) نَدْبًا (فِي الْأَكْلِ) مِنْهُ إنْ اُحْتِيجَ إلَيْهِ لِئَلَّا يَضْعُفُوا، فَرُبَّمَا تَرَكُوهُ اسْتِحْيَاءً أَوْ لِفَرْطِ الْحُزْنِ، وَلَا بَأْسَ بِالْقَسَمِ إذَا عَرَفَ الْحَالِفُ أَنَّهُمْ يَبِرُّونَ قَسَمَهُ.

(وَيَحْرُمُ تَهْيِئَتُهُ لِلنَّائِحَاتِ) وَالنَّادِبَاتِ (وَاَللَّهُ أَعْلَمُ) ؛ لِأَنَّهَا إعَانَةٌ عَلَى مَعْصِيَةٍ قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ.

أَمَّا إصْلَاحُ أَهْلِ الْمَيِّتِ طَعَامًا وَجَمْعُ النَّاسِ عَلَيْهِ فَبِدْعَةٌ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ، رَوَى أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا نَعُدُّ الِاجْتِمَاعَ عَلَى أَهْلِ الْمَيِّتِ وَصُنْعَهُمْ الطَّعَامَ النِّيَاحَةَ. .

خَاتِمَةٌ: صَحَّ أَنَّ الْمَيِّتَ يُبْعَثُ فِي ثِيَابِهِ الَّتِي يَمُوتُ فِيهَا، فَقِيلَ الْمُرَادُ بِالثِّيَابِ الْعَمَلُ، وَاسْتَعْمَلَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ عَلَى ظَاهِرِهِ لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ دَعَا بِثِيَابٍ جُدُدٍ فَلَبِسَهَا، وَمَنْ قَالَ بِهَذَا يَحْتَاجُ أَنْ يُجِيبَ عَنْ كَوْنِهِمْ يُحْشَرُونَ عُرَاةً بِأَنَّ الْبَعْثَ غَيْرُ الْحَشْرِ، وَصَحَّ أَنَّ مَوْتَ الْفَجْأَةِ أَخْذَةُ أَسَفٍ، وَرُوِيَ أَنَّهُ اسْتَعَاذَ مِنْ مَوْتِ الْفَجْأَةِ، وَرَوَى الْمُصَنِّفُ عَنْ أَبِي السَّكَنِ الْهَجَرِيِّ أَنَّ إبْرَاهِيمَ وَدَاوُد وَسُلَيْمَانَ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَاتُوا فَجْأَةً، وَيُقَالُ إنَّهُ مَوْتُ الصَّالِحِينَ، وَحَمَلَ الْجُمْهُورُ الْأَوَّلَ عَلَى مَنْ لَهُ تَعَلُّقَاتٌ يَحْتَاجُ إلَى الْإِيصَاءِ وَالتَّوْبَةِ.

أَمَّا الْمُتَيَقِّظُونَ الْمُسْتَعِدُّونَ فَإِنَّهُ تَخْفِيفٌ وَرِفْقٌ بِهِمْ، وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ أَنَّ مَوْتَ الْفَجْأَةِ رَاحَةٌ لِلْمُؤْمِنِ وَأَخْذَةُ غَضَبٍ لِلْفَاجِرِ. .

ص: 61