المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌قال الله تعال شهد الله انه لا إله إلا هو والملائكة واولو العلم قائما - مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة - ط العلمية - جـ ١

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌فصل وَلما اهبطه سُبْحَانَهُ من الْجنَّة وَعرضه وَذريته لانواع المحن وَالْبَلَاء

- ‌فصل وَهَذَانِ الضلالان اعني الضلال والشقاء يذكرهما سُبْحَانَهُ كثيرا فِي

- ‌فصل وَقَوله تَعَالَى فاما ياتينكم مني هدى هُوَ خطاب لمن اهبطه من الْجنَّة

- ‌فصل ومتابعة هدى الله الَّتِي رتب عَلَيْهَا هَذِه الامور هِيَ تَصْدِيق خَبره من

- ‌فصل وَالْقلب السَّلِيم الَّذِي ينجو من عَذَاب الله هُوَ الْقلب الَّذِي قد سلم

- ‌فصل وَهَذِه الْمُتَابَعَة هِيَ التِّلَاوَة الَّتِي اثنى الله على اهلها فِي قَوْله

- ‌فصل ثمَّ قَالَ تَعَالَى وَمن اعْرِض عَن ذكري فَإِن لَهُ معيشة ضنكا ونحشره

- ‌فصل وَقَوله تَعَالَى فَإِن لَهُ معيشة ضنكا فَسرهَا غير وَاحِد من السّلف بِعَذَاب

- ‌فصل وَقَوله تَعَالَى ونحشره يَوْم الْقِيَامَة أعمى قَالَ رب لم حشرتني اعمى

- ‌فصل وَالْمَقْصُود ان الله سبحانه وتعالى لما اقْتَضَت حكمته وَرَحمته إِخْرَاج

- ‌قَالَ الله تعال شهد الله انه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَة واولو الْعلم قَائِما

- ‌فصل وَهَذَا الحَدِيث لَهُ طرق عديدة مِنْهَا مَا رَوَاهُ ابْن عدي عَن مُوسَى

- ‌فصل إِذا عرف هَذَا فالفكر هُوَ احضار معرفتين فِي الْقلب ليستثمر مِنْهُمَا

- ‌فصل وَإِذا تَأَمَّلت مَا دعى الله سُبْحَانَهُ فِي كِتَابه عباده الى الْفِكر فِيهِ

- ‌فصل فَارْجِع الان الى النُّطْفَة وَتَأمل حَالهَا اولا وَمَا صَارَت اليه ثَانِيًا

- ‌فصل وَالنَّظَر فِي هَذِه الايات وامثالها نَوْعَانِ نظر اليها بالبصر الظَّاهِر

- ‌فصل وَإِذا نظرت الى الارض وَكَيف خلقت رَأَيْتهَا من اعظم آيَات فاطرها

- ‌فصل وَمن آيَاته سُبْحَانَهُ تَعَالَى اللَّيْل وَالنَّهَار وهما من اعْجَبْ آيَاته

- ‌فصل وَمن آيَاته وعجائب مصنوعاته الْبحار المكتنفة لاقطار الارض الَّتِي هِيَ

- ‌فصل وَمن آيَاته سُبْحَانَهُ خلق الْحَيَوَان على اخْتِلَاف صِفَاته واجناسه

- ‌فصل تامل الْعبْرَة فِي مَوضِع هَذَا الْعَالم وتاليف أَجْزَائِهِ ونظمها على احسن

- ‌فصل فَتَأمل خلق السَّمَاء وارجع الْبَصَر فِيهَا كرة بعد كرة كَيفَ ترَاهَا من

- ‌فصل ثمَّ تَأمل حَال الشَّمْس وَالْقَمَر فِي طلوعهما وغروبهما لاقامة دَوْلَتِي

- ‌فصل ثمَّ تَأمل بعد ذَلِك احوال هَذِه الشَّمْس فِي انخفاضها وارتفاعها لاقامة

- ‌فصل ثمَّ تَأمل حَال الشَّمْس وَالْقَمَر وَمَا اودعاه من النُّور والاضاءة وَكَيف

- ‌فصل ثمَّ تَأمل الْحِكْمَة فِي طُلُوع الشَّمْس على الْعَالم كَيفَ قدره الْعَزِيز

- ‌فصل ثمَّ تَأمل الْحِكْمَة فِي مقادير اللَّيْل وَالنَّهَار تجدها على غَايَة

- ‌فصل ثمَّ تَأمل إنارة الْقَمَر وَالْكَوَاكِب فِي ظلمَة اللَّيْل وَالْحكمَة فِي ذَلِك

- ‌فصل ثمَّ تَأمل حكمته تبارك وتعالى فِي هَذِه النُّجُوم وَكَثْرَتهَا وَعَجِيب خلقهَا

- ‌فصل ثمَّ تَأمل اخْتِلَاف سير الْكَوَاكِب وَمَا فِيهِ من الْعَجَائِب كَيفَ تَجِد بَعْضهَا لَا

- ‌فصل ثمَّ تامل هَذَا الْفلك الدوار بشمسه وقمره ونجومه وبروجه وَكَيف يَدُور

- ‌فصل فسل الْمُعَطل الجاحد مَا تَقول فِي دولاب دائر على نهر قد احكمت

- ‌فصل ثمَّ تَأمل الممسك لِلسَّمَوَاتِ والارض الْحَافِظ لَهما ان تَزُولَا اَوْ تقعا

- ‌فصل ثمَّ تَأمل هَذِه الْحِكْمَة الْبَالِغَة فِي الْحر وَالْبرد وَقيام الْحَيَوَان

- ‌فصل ثمَّ تَأمل الْحِكْمَة فِي خلق النَّار على مَا هِيَ عَلَيْهِ من الكمون

- ‌فصل ثمَّ تَأمل حكمته تَعَالَى فِي كَونه خص بهَا الانسان دون غَيره من

- ‌فصل ثمَّ تامل هَذَا الْهَوَاء وَمَا فِيهِ من الْمصَالح فَإِنَّهُ حَيَاة هَذِه الابدان

- ‌فصل ثمَّ تَأمل خلق الارض على مَا هِيَ عَلَيْهِ حِين خلقهَا واقفة سَاكِنة

- ‌فصل ثمَّ تَأمل تَأمل الْحِكْمَة الْبَالِغَة فِي ان جعل مهب الشمَال عَلَيْهَا ارْفَعْ

- ‌فصل ثمَّ تَأمل الْحِكْمَة العجيبة فِي الْجبَال الَّذِي يحسبها الْجَاهِل الغافل

- ‌فصل وَلما اقْتَضَت حكمته تبارك وتعالى ان جعل من الارض السهل والوعر

- ‌فصل وَلما كَانَت الرِّيَاح تجول فِيهَا وَتدْخل فِي تجاويفها وتحدث فِيهَا

- ‌فصل ثمَّ تَأمل حِكْمَة الله عز وجل فِي عزة هذَيْن النَّقْدَيْنِ الذَّهَب وَالْفِضَّة

- ‌فصل وَتَأمل الْحِكْمَة البديعة فِي تيسيره سُبْحَانَهُ على عباده مَا هم احوج

- ‌فصل وَمن ذَلِك سَعَة الارض وامتدادها وَلَوْلَا ذَلِك لضاقت عَن مسَاكِن الانس

- ‌فصل ثمَّ تَأمل الْحِكْمَة الْبَالِغَة فِي نزُول الْمَطَر على الارض من علو ليعم

- ‌فصل ثمَّ تَأمل الْحِكْمَة البا لُغَة فِي إنزاله بِقدر الْحَاجة حَتَّى إِذا اخذت

- ‌فصل ثمَّ تَأمل الْحِكْمَة الالهية فِي اخراج الاقوات وَالثِّمَار والحبوب

- ‌فصل ثمَّ تَأمل إِذا نصبت خيمة اَوْ فسطاطا كَيفَ تمده من كل جَانب

- ‌فصل ثمَّ تَأمل الْحِكْمَة فِي خلق الْوَرق فَإنَّك ترى فِي الورقة الْوَاحِدَة من جملَة

- ‌فصل ثمَّ تَأمل حِكْمَة اللَّطِيف الْخَبِير فِي كَونهَا جعلت زِينَة للشجر وسترا

- ‌فصل ثمَّ تَأمل حكمته سُبْحَانَهُ فِي إبداع الْعَجم والنوى فِي جَوف الثَّمَرَة وَمَا

- ‌فصل ثمَّ تَأمل خلقه الرُّمَّان وماذا فِيهِ من الحكم والعجائب فَإنَّك ترى دَاخل

- ‌فصل ثمَّ تَأمل هَذَا الرّيع والنماء الَّذِي وَضعه الله فِي الزَّرْع حَتَّى صَارَت

- ‌فصل ثمَّ تَأمل الْحِكْمَة فِي الْحُبُوب كالبر وَالشعِير وَنَحْوهمَا كَيفَ يخرج الْحبّ

- ‌فصل ثمَّ تَأمل الْحِكْمَة الباهرة فِي هَذِه الاشجار كَيفَ ترَاهَا فِي كل عَام

- ‌فصل ثمَّ تَأمل الْحِكْمَة فِي شَجَرَة اليقطين والبطيخ والجزر كَيفَ لما اقْتَضَت

- ‌فصل ثمَّ تَأمل هَذِه النَّخْلَة الَّتِي هِيَ احدى آيَات الله تَجِد فِيهَا من

- ‌فصل ثمَّ تَأمل احوال هَذِه العقاقير والادوية الَّتِي يُخرجهَا الله من

- ‌فصل ثمَّ تَأمل الْحِكْمَة الْبَالِغَة فِي اعطائه سُبْحَانَهُ بَهِيمَة الانعام

- ‌فصل ثمَّ تَأمل الْحِكْمَة فِي خلق الات الْبَطْش فِي الْحَيَوَانَات من الانسان

- ‌فصل ثمَّ تَأمل الْحِكْمَة فِي خلقَة الْحَيَوَان الَّذِي يَأْكُل اللَّحْم من الْبَهَائِم

- ‌فصل ثمَّ تَأمل اولا ذَوَات الاربع من الْحَيَوَان كَيفَ ترَاهَا تتبع امهاتها

- ‌فصل ثمَّ تَأمل الْحِكْمَة الْبَالِغَة فِي قَوَائِم الْحَيَوَان كَيفَ اقْتَضَت ان يكون

- ‌فصل ثمَّ تَأمل الْحِكْمَة الْبَالِغَة فِي ان جعل ظُهُور الدَّوَابّ مبسوطة كَأَنَّهَا

- ‌فصل ثمَّ تَأمل الْحِكْمَة فِي كَون فرج الدَّابَّة جعل بارزا من وَرَائِهَا ليتَمَكَّن

- ‌فصل ثمَّ تَأمل كَيفَ كُسِيت اجسام الْحَيَوَان البهيمي هَذِه الْكسْوَة من الشّعْر

- ‌فصل ثمَّ تَأمل حِكْمَة عَجِيبَة جعلت للبهائم والوحوش وَالسِّبَاع وَالدَّوَاب على

- ‌فصل ثمَّ تَأمل الْحِكْمَة الباهرة فِي وَجه الدَّابَّة كَيفَ هُوَ فانك ترى الْعَينَيْنِ

- ‌فصل ثمَّ تَأمل شفر الْفِيل وَمَا فِيهِ من الحكم الباهرة فَإِنَّهُ يقوم لَهُ

- ‌فصل ثمَّ تَأمل خلق الزرافة وَاخْتِلَاف اعضائهم وَشبههَا باعضاء جَمِيع

- ‌فصل ثمَّ تَأمل هَذِه النملة الضعيفة وَمَا اعطيته من الفطنة اَوْ لحيلة فِي

- ‌فصل وَمن عَجِيب الفطنة فِي الْحَيَوَان ان الثَّعْلَب إِذا اعوزه الطَّعَام وَلم

- ‌فصل ثمَّ تَأمل جسم الطَّائِر وخلقته فَإِنَّهُ حِين قدر بَان يكون طائرا فِي

- ‌فصل ثمَّ تَأمل خلقَة الْبَيْضَة وَمَا فِيهَا من المخ الاصفر الخاثر وَالْمَاء

- ‌فصل وَتَأمل الْحِكْمَة فِي حوصلة الطَّائِر وَمَا قدرت لَهُ فَإِن فِي مَسْلَك الطَّعَام

- ‌فصل ثمَّ تَأمل هَذِه الالوان والاصباغ والوشى الَّتِي ترَاهَا فِي كثير من

- ‌فصل تَأمل هَذَا الطَّائِر الطَّوِيل السَّاقَيْن وَأعرف الْمَنْفَعَة فِي طول سَاقيه

- ‌فصل ثمَّ تَأمل احوال النَّحْل وَمَا فِيهَا من العبر والايات فَانْظُر اليها

- ‌فصل وَمن اعْجَبْ امرها مَالا يَهْتَدِي لَهُ اكثر النَّاس ولايعرفونه وَهُوَ

- ‌فصل ثمَّ تَأمل الْعبْرَة الَّتِي ذكرهَا الله عز وجل فِي الانعام وَمَا سقانا

- ‌فصل ثمَّ تَأمل الْعبْرَة فِي السّمك وَكَيْفِيَّة خلقته وَأَنه خلق غير ذِي قَوَائِم

- ‌فصل فاعد الان النّظر فِيك وَفِي نَفسك مرّة ثَانِيَة من الَّذِي دبرك بالطف

- ‌فصل فَانْظُر كَيفَ جعلت آلَات الْجِمَاع فِي الذّكر والانثى جَمِيعًا على وفْق

- ‌فصل فَارْجِع الان الى نَفسك وَكرر النّظر فِيك فَهُوَ يَكْفِيك وَتَأمل اعضاءك

- ‌فصل فاعد النّظر فِي نَفسك وَتَأمل حِكْمَة اللَّطِيف الْخَبِير فِي تركيب الْبدن

- ‌فصل قَالَ الله تَعَالَى وَلَقَد كرمنا بني آدم وحملناهم فِي الْبر وَالْبَحْر

- ‌فصل فاعد النّظر فِي نَفسك وَحِكْمَة الخلاق الْعَلِيم فِي خلقك وَانْظُر الى

- ‌فصل ثمَّ اعينت هَذِه الْحَواس بمخلوقات اخر مُنْفَصِلَة عَنْهَا تكون وَاسِطَة فِي

- ‌فصل ثمَّ تَأمل حَال من عدم الْبَصَر وَمَا يَنَالهُ من الْخلَل فِي أُمُوره فَإِنَّهُ

- ‌فصل وَأما من عدم البيانين بَيَان الْقلب وَبَيَان اللِّسَان فَذَلِك بِمَنْزِلَة

- ‌فصل ثمَّ تَأمل حكمته فِي الاعضاء الَّتِي خلقت فِيك آحادا ومثنى وَثَلَاث

- ‌فصل من ايْنَ للطبيعة هَذَا الِاخْتِلَاف وَالْفرق الْحَاصِل فِي النَّوْع الانسان

- ‌فصل ثمَّ تَأمل لم صَارَت الْمَرْأَة وَالرجل إِذا ادركا اشْتَركَا فِي نَبَات

- ‌فصل ثمَّ تَأمل هَذَا الصَّوْت الْخَارِج من الْحلق وتهيئة آلاته وَالْكَلَام

- ‌فصل وَفِي هَذِه الالات مآرب اخرى وَمَنَافع سوى مَنْفَعَة الْكَلَام فَفِي الحنجرة

- ‌فصل وَمن جعل فِي الْحلق منفذين احدهما للصوت وَالنَّفس الْوَاصِل الى الرئة

- ‌فصل ثمَّ تَأمل حِكْمَة الله تَعَالَى فِي كَثْرَة بكاء الاطفال وَمَا لَهُم فِيهِ

- ‌فصل وَكَذَلِكَ اعطاهم من الْعُلُوم الْمُتَعَلّقَة بصلاح معاشهم ودنياهم بِقدر

- ‌فصل وَمن حكمته سُبْحَانَهُ مَا مَنعهم من الْعلم علم السَّاعَة وَمَعْرِفَة آجالهم

- ‌فصل وَمِنْهَا انه سُبْحَانَهُ يجب ان يتفضل عَلَيْهِم وَيتم عَلَيْهِم نعمه وَيُرِيهمْ

- ‌فصل وَمِنْهَا انه سُبْحَانَهُ لَهُ الاسماء الْحسنى وَلكُل اسْم من اسمائه اثر من

- ‌فصل وَمِنْه انه سُبْحَانَهُ يعرف عباده عزه فِي قَضَائِهِ وَقدره ونفوذ مَشِيئَته

- ‌فصل وَمِنْهَا انه يعرف العَبْد حَاجته إِلَى حفظه لَهُ ومعونته وصيانته وانه

- ‌فصل وَمِنْهَا انه سُبْحَانَهُ يستجلب من عَبده بذلك مَا هُوَ من اعظم أَسبَاب

- ‌فصل وَمِنْهَا انه سُبْحَانَهُ يسْتَخْرج بذلك من عَبده تَمام عبوديته فَإِن تَمام

- ‌فصل وَمِنْهَا ان العَبْد يعرف حَقِيقَة نَفسه وَأَنَّهَا الظالمة وان مَا صدر مِنْهَا

- ‌فصل وَمِنْهَا تَعْرِيفه سُبْحَانَهُ عَبده سَعَة حلمه وَكَرمه فِي ستره عَلَيْهِ وَأَنه لَو

- ‌فصل وَمِنْهَا تَعْرِيفه عَبده انه لَا سَبِيل لَهُ إِلَى النجَاة إِلَّا بعفوه ومغفرته

- ‌فصل وَمِنْهَا تَعْرِيفه عَبده كرمه سُبْحَانَهُ فِي قبُول تَوْبَته ومغفرته لَهُ على

- ‌فصل وَمِنْهَا إِقَامَة حجَّة عدله على عَبده ليعلم العَبْد ان لله عَلَيْهِ الْحجَّة

- ‌فصل وَمِنْهَا ان يُعَامل العَبْد بني جنسه فِي إسائتهم اليه وزلاتهم مَعَه

- ‌فصل وَمِنْهَا انه إِذا عرف هَذَا فاحسن الى من اساء اليه وَلم يُقَابله

- ‌فصل وَمِنْهَا ان يخلع صولة الطَّاعَة من قلبه وَينْزع عَنهُ رِدَاء الْكبر

- ‌فصل وَمِنْهَا ان لله عز وجل على الْقُلُوب انواعا من الْعُبُودِيَّة من الخشية

- ‌فصل وَمِنْهَا انه يعرف العَبْد مِقْدَار نعْمَة معافاته وفضله فِي توفيقه لَهُ

- ‌فصل وَمِنْهَا ان التَّوْبَة توجب للتائب آثارا عَجِيبَة من المقامات الَّتِي لَا

- ‌فصل وَمِنْهَا ان الله سُبْحَانَهُ يُحِبهُ ويفرح بتوبته اعظم فَرح وَقد تقرر ان

- ‌فصل وَمِنْهَا انه إِذا شهد ذنُوبه ومعاصيه وتفريطه فِي حق ربه استكثر

- ‌فصل وَمِنْهَا ان الذَّنب يُوجب لصَاحبه التقيظ والتحرز من مصائد عدوه

- ‌فصل وَمِنْهَا ان الْقلب يكون ذاهلا عَن عدوه معرضًا عَنهُ مشتغلا بِبَعْض

- ‌فصل وَمِنْهَا ان مثل هَذَا يصير كالطبيب ينْتَفع بِهِ المرضى فِي علاجهم

- ‌فصل وَمِنْهَا انه سُبْحَانَهُ يُذِيق عَبده الم الْحجاب عَنهُ وَالْعَبْد وَزَوَال ذَلِك

- ‌فصل وَمِنْهَا ان الْحِكْمَة الالهية اقْتَضَت تركيب الشَّهْوَة وَالْغَضَب فِي الانسان

- ‌فصل وَمِنْهَا ان الله سُبْحَانَهُ إِذا أَرَادَ بِعَبْدِهِ خيرا انساه رُؤْيَة طاعاته

- ‌فصل وَمِنْهَا ان شُهُود العَبْد ذنُوبه وخطاياه مُوجب لَهُ ان لَا يرى لنَفسِهِ

- ‌فصل وَمِنْهَا انه وَيُوجب لَهُ الامساك عَن عُيُوب النَّاس والفكر فِيهَا فَإِنَّهُ فِي

- ‌فصل وَمِنْهَا انه إِذا شهدنفسه مَعَ ربه مسيئا خاطئا مفرطا مَعَ فرط إِحْسَان

- ‌فصل وَإِذا تَأَمَّلت حكمته سُبْحَانَهُ فِيمَا ابتلى بِهِ عباده وصفوته بِمَا ساقهم

- ‌فصل ثمَّ تَأمل حَال الكليم مُوسَى عليه السلام وَمَا آلت اليه محنته

- ‌فصل فَإِذا جِئْت الى النَّبِي وتأملت سيرته مَعَ قومه وَصَبره فِي الله

- ‌فصل وَإِذا تَأَمَّلت الْحِكْمَة الباهرة فِي هَذَا الدّين القويم وَالْملَّة

- ‌فصل وبصائر النَّاس فِي هَذَا النُّور الباهر تَنْقَسِم الى ثَلَاثَة اقسام احدها

- ‌فصل قد شهِدت الْفطر والعقول بِأَن للْعَالم رَبًّا قَادِرًا حَلِيمًا عليما رحِيما

الفصل: ‌قال الله تعال شهد الله انه لا إله إلا هو والملائكة واولو العلم قائما

وَرَثَة الانبياء وتطلع يرْكض فِي ميدان جَهله مَعَ الْجَاهِلين ويبرز عَلَيْهِم فِي الْجَهَالَة فيظن انه من السَّابِقين وَهُوَ عِنْد الله وَرَسُوله وَالْمُؤمنِينَ عَن تِلْكَ الوراثة النَّبَوِيَّة بمعزل وَإِذا انْزِلْ الْوَرَثَة مَنَازِلهمْ مِنْهَا فمنزلته مِنْهَا اقصى وابعد منزل

نزلُوا بِمَكَّة فِي قبائل هَاشم

وَنزلت بِالْبَيْدَاءِ ابعد منزل

وعياذا بك مِمَّن جعل الْمَلَامَة بضاعته والعذل نصيحته فَهُوَ دَائِما يبدى فِي الْمَلَامَة وَيُعِيد ويكرر على العذل فَلَا يُفِيد وَلَا يَسْتَفِيد بل عياذا بك من عَدو فِي صُورَة نَاصح وَولى فِي مسلاخ بعيد كاشح يَجْعَل عداوته واذاه حذرا وإشفاقا وتنفيره وتخذيله اسعافا وإرفاقا وَإِذا كَانَت الْعين لَا تكَاد إِلَّا على هَؤُلَاءِ تفتح وَالْمِيزَان بهم يخف وَلَا يرجح فَمَا احرى اللبيب بِأَن لَا يعيرهم من قلبه جزا من الِالْتِفَات ويسافر فِي طَرِيق مقْصده بَينهم سَفَره الى الاحياء بَين الاموات وَمَا احسن مَا قَالَ الْقَائِل:

وَفِي الْجَهْل قبل الْمَوْت موت لأَهله

واجسامهم قبل الْقُبُور قُبُور

وارواحهم فِي وَحْشَة من جسومهم

وَلَيْسَ لَهُم حَتَّى النشور نشور اللَّهُمَّ فلك الْحَمد واليك المشتكى وانت الْمُسْتَعَان وَبِك المستغاث وَعَلَيْك التكلان وَلَا حول وَلَا قُوَّة الا بك وانت حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل فلنشرع الان فِي الْمَقْصُود بحول الله وقوته فَنَقُول الاصل الاول فِي الْعلم وفضله وشرفه وَبَيَان عُمُوم الْحَاجة اليه وَتوقف كَمَال العَبْد ونجاته فِي معاشه ومعاده عَلَيْهِ

‌قَالَ الله تعال شهد الله انه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَة واولو الْعلم قَائِما

بِالْقِسْطِ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم اسْتشْهد سُبْحَانَهُ باولى الْعلم على اجل مشهود عَلَيْهِ وهوتوحيده فَقَالَ شهد الله انه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَة واولو الْعلم قَائِما بِالْقِسْطِ وَهَذَا يدل على فضل الْعلم واهله من وُجُوه احدها استشهادهم دون غَيرهم من الْبشر وَالثَّانِي اقتران شَهَادَتهم بِشَهَادَتِهِ وَالثَّالِث اقترانها بِشَهَادَة مَلَائكَته وَالرَّابِع ان فِي ضمن هَذَا تزكيتهم وتعديلهم فان الله لَا يستشهد من خلقه الا الْعُدُول وَمِنْه الاثر الْمَعْرُوف عَن النَّبِي يحمل هَذَا الْعلم من كل خلف عدوله ينفون عَنهُ تَحْرِيف الغالين وانتحال المبطلين وَتَأْويل الْجَاهِلين وَقَالَ مُحَمَّد بن احْمَد بن يَعْقُوب بن شيبَة رَأَيْت رجلا قدم رجلا الى اسماعيل بن إِسْحَاق القَاضِي

ص: 48

فَادّعى عَلَيْهِ دَعْوَى فَسَأَلَ الْمُدعى عَلَيْهِ فانكر فَقَالَ للْمُدَّعى الك بَيِّنَة قَالَ نعم فلَان وَفُلَان قَالَ اما فلَان فَمن شهودي واما فلَان فَلَيْسَ من شهودي قَالَ فيعرفه القَاضِي قَالَ نعم قَالَ بِمَاذَا قَالَ اعرفه بكتب الحَدِيث قَالَ فَكيف تعرفه فِي كتبه الحَدِيث قَالَ مَا علمت الا خيرا قَالَ فان النَّبِي قَالَ يحمل هَذَا الْعلم من كل خلف عدوله فَمن عدله رَسُول الله اولى مِمَّن عدلته انت فَقَالَ قُم فهاته فقد قبلت شَهَادَته وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله الْكَلَام على هَذَا الحَدِيث فِي مَوْضِعه الْخَامِس انه وَصفهم بكونهم اولى الْعلم وَهَذَا يدل على اختصاصهم بِهِ وانهم اهله واصحابه لَيْسَ بمستعار لَهُم السَّادِس انه سُبْحَانَهُ اسْتشْهد بِنَفسِهِ وَهُوَ اجل شَاهد ثمَّ بِخِيَار خلقه وهم مَلَائكَته وَالْعُلَمَاء من عباده ويكفيهم بِهَذَا فضلا وشرفا السَّابِع انه اسْتشْهد بهم على اجل مشهود بِهِ واعظمه واكبره وَهُوَ شَهَادَة ان لَا إِلَه إِلَّا الله والعظيم الْقدر انما يستشهد على الامر الْعَظِيم اكابر الْخلق وساداتهم الثَّامِن انه سُبْحَانَهُ جعل شَهَادَتهم حجَّة على المنكرين فهم بِمَنْزِلَة آدلته وآياته وبراهنيه الدَّالَّة على توحيده التَّاسِع انه سُبْحَانَهُ أفرد الْفِعْل المتضمن لهَذِهِ الشَّهَادَة لصادرة مِنْهُ وَمن مَلَائكَته وَمِنْهُم وَلم يعْطف شَهَادَتهم بِفعل آخر غير شَهَادَته وَهَذَا يدل على شدَّة ارتباط شَهَادَتهم بِشَهَادَتِهِ فَكَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ شهد لنَفسِهِ بِالتَّوْحِيدِ على السنتهم وانطقهم بِهَذِهِ الشَّهَادَة فَكَانَ هُوَ الشَّاهِد بهَا لنَفسِهِ إِقَامَة وإنطاقا وتعليما وهم الشاهدون بهَا لَهُ إِقْرَارا واعترافا وَتَصْدِيقًا وإيمانا الْعَاشِر انه سُبْحَانَهُ جعلهم مؤدين لحقه عِنْد عباده بِهَذِهِ الشَّهَادَة فَإِذا ادوها فقد ادوا الْحق الْمَشْهُود بِهِ فَثَبت الْحق الْمَشْهُود بِهِ فَوَجَبَ على الْخلق الاقرار بِهِ وَكَانَ ذَلِك غَايَة سعادتهم فِي معاشهم ومعادهم وكل من ناله الْهدى بِشَهَادَتِهِم واقر بِهَذَا الْحق بِسَبَب شَهَادَتهم فَلهم من الاجر مثل اجره وَهَذَا فضل عَظِيم لَا يدرى قدره الا الله وَكَذَلِكَ كل من شهد بهَا عَن شَهَادَتهم فَلهم من الاجر مثل اجره ايضا فَهَذِهِ عشرَة اوجه فِي هَذِه الاية الْحَادِي عشر فِي تَفْضِيل الْعلم وَأَهله انه سُبْحَانَهُ نفي التَّسْوِيَة بَين أَهله وَبَين غَيرهم كَمَا نفى التَّسْوِيَة بَين اصحاب الْجنَّة واصحاب النَّار فَقَالَ تَعَالَى قل هَل يستوى الَّذين يعلمُونَ وَالَّذين لَا يعلمُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى لَا يستوى اصحاب النَّار واصحاب الْجنَّة وَهَذَا يدل على غَايَة فَضلهمْ وشرفهم الْوَجْه الثَّانِي عشر انه سُبْحَانَهُ جعل اهل الْجَهْل بِمَنْزِلَة العميان الَّذين لَا يبصرون فَقَالَ افمن يعلم انما انْزِلْ اليك من رَبك الْحق كمن هُوَ اعمى فَمَا ثمَّ الا عَالم اَوْ اعمى وَقد وصف سُبْحَانَهُ اهل الْجَهْل بِأَنَّهُم صم بكم عمي فِي غير مَوضِع من كِتَابه الْوَجْه الثَّالِث عشر انه سُبْحَانَهُ اخبر عَن اولى الْعلم بانهم يرَوْنَ ان مَا انْزِلْ اليه من ربه حَقًا وَجعل هَذَا ثَنَاء عَلَيْهِم واستشهادا بهم فَقَالَ تَعَالَى وَيرى الَّذين اوتو الْعلم الَّذِي انْزِلْ اليك من رَبك هُوَ الْحق الْوَجْه الرَّابِع عشر انه سُبْحَانَهُ امْر بسؤالهم وَالرُّجُوع الى أَقْوَالهم وَجعل ذَلِك كَالشَّهَادَةِ مِنْهُم فَقَالَ وَمَا ارسلنا قبلك إِلَّا رجَالًا نوحي اليهم فاسئلوا اهل الذّكر إِن

ص: 49

كُنْتُم لَا تعلمُونَ واهل الذّكر هم اهل الْعلم بِمَا انْزِلْ على الانبياء الْوَجْه الْخَامِس عشر انه سُبْحَانَهُ شهد لاهل الْعلم شَهَادَة فِي ضمنهَا الاستشهاد بهم على صِحَة مَا انْزِلْ الله على رَسُوله فَقَالَ تَعَالَى افغير الله ابْتغى حكما وَهُوَ الَّذِي أنزل اليكم الْكتاب مفصلا وَالَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب يعلمُونَ انه منزل من رَبك بِالْحَقِّ فَلَا تكونن من الممترين الْوَجْه السَّادِس عشر انه سُبْحَانَهُ سلى نبيه بايمان اهل الْعلم بِهِ وامره ان لَا يعبأ بالجاهلين شَيْئا فَقَالَ تَعَالَى وقرآنا فرقناه لتقرأه على النَّاس على مكث ونزلناه تَنْزِيلا قل آمنُوا بِهِ اولا تؤمنوا إِن الَّذين اوتوا الْعلم من قبله إِذا يُتْلَى عَلَيْهِم يخرون للأذقان سجدا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبنَا إِن كَانَ وعد رَبنَا لمفعولا وَهَذَا شرف عَظِيم لهل الْعلم وَتَحْته ان اهله الْعَالمُونَ قد عرفوه وآمنوا بِهِ وَصَدقُوا فَسَوَاء آمن بِهِ غَيرهم اولا الْوَجْه السَّابِع عشر انه سُبْحَانَهُ مدح اهل الْعلم واثنى عَلَيْهِم وشرفهم بَان جعل كِتَابه آيَات بَيِّنَات فِي صُدُورهمْ وَهَذِه خَاصَّة ومنقبة لَهُم دون غَيرهم فَقَالَ تَعَالَى وَكَذَلِكَ انزلنا اليك الْكتاب فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُم الْكتاب يُؤمنُونَ بِهِ وَمن هَؤُلَاءِ من يُؤمن بِهِ وَمَا يجْحَد بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ وَمَا كنت تتلو من قبله من كتاب وَلَا تخطه بيمينك إِذا لارتاب المبطلون بل هُوَ آيَات بَيِّنَات فِي صُدُور الَّذين اوتوا الْعلم مَا يجْحَد بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ وَسَوَاء كَانَ الْمَعْنى ان الْقُرْآن مُسْتَقر فِي صُدُور الَّذين اوتوا الْعلم ثَابت فِيهَا مَحْفُوظ وَهُوَ فِي نَفسه آيَات بَيِّنَات فَيكون اخبر عَنهُ بخبرين احدهما انه آيَات بَيِّنَات الثَّانِي انه مَحْفُوظ مُسْتَقر ثَابت فِي صُدُور الَّذين اوتوا الْعلم اَوْ كَانَ الْمَعْنى أَنه آيَات بَيِّنَات فِي صُدُورهمْ أَي كَونه آيَات بَيِّنَات مَعْلُوم لَهُم ثَابت فِي صُدُورهمْ وَالْقَوْلَان متلازمان ليسَا بمختلفين وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ فَهُوَ مدح لَهُم وثناء عَلَيْهِم فِي ضمنه الاستشهاد بهم فَتَأَمّله الْوَجْه الثَّامِن عشر أَنه سُبْحَانَهُ أَمر نبيه أَن يسْأَله مزِيد الْعلم فَقَالَ تَعَالَى فتعالى الله الْملك الْحق وَلَا تعجل بِالْقُرْآنِ من قبل ان يقْضى اليك وحيه وَقل رب زِدْنِي علما وَكفى بِهَذَا شرفا للْعلم ان امْر نبيه ان يسْأَله الْمَزِيد مِنْهُ الْوَجْه التَّاسِع عشر أَنه سُبْحَانَهُ اخبر عَن رفْعَة دَرَجَات اهل الْعلم والايمان خَاصَّة فَقَالَ تَعَالَى يَا ايها الَّذين آمنُوا إِذا قيل لكم تَفَسَّحُوا فِي الْمجَالِس فافسحوا يفسح الله لكم وَإِذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم وَالَّذين أُوتُوا الْعلم دَرَجَات وَالله بماتعملون خَبِير وَقد أخبر سُبْحَانَهُ فِي كِتَابه بِرَفْع الدَّرَجَات فِي اربعة مَوَاضِع احدها هَذَا وَالثَّانِي قَوْله إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين إِذا ذكر الله وجلت قُلُوبهم واذا تليت عَلَيْهِم آيَاته زادتهم إِيمَانًا وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ الَّذين يُقِيمُونَ الصَّلَاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ اولئك هم الْمُؤْمِنُونَ حَقًا لَهُم دَرَجَات عِنْد رَبهم ومغفرة ورزق كريم وَالثَّالِث قَوْله تَعَالَى وَمن يَأْته مُؤمنا قد عمل الصَّالِحَات اولئك لَهُم الدَّرَجَات العلى وَالرَّابِع قَوْله تَعَالَى وَفضل الله الْمُجَاهدين على القاعدين اجرا

ص: 50

عَظِيما دَرَجَات مِنْهُ ومغفرة وَرَحْمَة فَهَذِهِ اربعة مَوَاضِع فِي ثَلَاثَة مِنْهَا الرّفْعَة بالدرجات لاهل الايمان الَّذِي هُوَ الْعلم النافع وَالْعَمَل الصَّالح وَالرَّابِع الرّفْعَة بِالْجِهَادِ فَعَادَت رفْعَة الدَّرَجَات كلهَا إِلَى الْعلم وَالْجهَاد اللَّذين بهما قوام الدّين الْوَجْه الْعشْرُونَ انه سُبْحَانَهُ اسْتشْهد بِأَهْل الْعلم والايمان يَوْم الْقِيَامَة على بطلَان قَول الْكفَّار فَقَالَ تَعَالَى وَيَوْم تقوم السَّاعَة يقسم المجرمون مَا لَبِثُوا غير سَاعَة كَذَلِك كَانُوا يؤفكون وَقَالَ الَّذين اوتو الْعلم والايمان لقد لبثتم فِي كتاب الله إِلَى يَوْم الْبَعْث فَهَذَا يَوْم الْبَعْث وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُم لَا تعلمُونَ الْوَجْه الْحَادِي وَالْعشْرُونَ انه سُبْحَانَهُ اخبر انهم اهل خَشيته بل خصهم من بَين النَّاس بذلك فَقَالَ تَعَالَى إِنَّمَا يخْشَى الله من عباده الْعلمَاء إِن الله عَزِيز غَفُور وَهَذَا حصر لخشيته فِي أولى الْعلم وَقَالَ تَعَالَى جزاؤهم عِنْد رَبهم جنَّات عدن تجرى من تحتهَا الانهار خَالِدين فِيهَا ابدا رضى الله عَنْهُم وَرَضوا عَنهُ ذَلِك لمن خشى ربه وَقد اخبر ان اهل خَشيته هم الْعلمَاء فَدلَّ على ان هَذَا الْجَزَاء الْمَذْكُور للْعُلَمَاء بِمَجْمُوع النصين وَقَالَ ابْن مَسْعُود رضى الله عَنهُ كفى بخشية الله علما وَكفى بالاغترار بِاللَّه جهلا الْوَجْه الثَّانِي وَالْعشْرُونَ انه سُبْحَانَهُ اخبر عَن امثاله الَّتِي يضْربهَا لِعِبَادِهِ يدلهم على صِحَة مَا أخبر بِهِ ان اهل الْعلم هم المنتفعون بهَا المختصون بعلمها فَقَالَ تَعَالَى وَتلك الامثال نَضْرِبهَا للنَّاس وَمَا يَعْقِلهَا إِلَّا الْعَالمُونَ وَفِي الْقُرْآن بضعَة واربعون مثلا وَكَانَ بعض السّلف إِذا مر بِمثل لَا يفهمهُ يبكي وَيَقُول لست من الْعَالمين الْوَجْه الثَّالِث وَالْعشْرُونَ انه سُبْحَانَهُ ذكر مناظرة إِبْرَاهِيم لابيه وَقَومه وغلبته لَهُم بِالْحجَّةِ وَأخْبر عَن تفضيله بذلك وَرَفعه دَرَجَته بِعلم الْحجَّة فَقَالَ تَعَالَى عقيب مناظرته لابيه وَقَومه فِي سُورَة الانعام وَتلك حجتنا آتيناها إِبْرَاهِيم على قومه نرفع دَرَجَات من نشَاء إِن رَبك حَكِيم عليم قَالَ زيد بن أسلم رضى الله عَنهُ نرفع دَرَجَات من نشَاء بِعلم الْحجَّة الْوَجْه الرَّابِع وَالْعشْرُونَ انه سُبْحَانَهُ أخبر انه خلق الْخلق وَوضع بَيته الْحَرَام والشهر الْحَرَام وَالْهدى والقلائد ليعلم عباده أَنه بِكُل شَيْء عليم وعَلى كل شَيْء قدير فَقَالَ تَعَالَى الله الَّذِي خلق سبع سموات وَمن الارض مِثْلهنَّ يتنزل الامر بَينهُنَّ لِتَعْلَمُوا ان الله على كل شَيْء قدير وان الله قد احاط بِكُل شَيْء علما فَدلَّ على ان علم الْعباد برَبهمْ وَصِفَاته وعبادته وَحده هُوَ الْغَايَة الْمَطْلُوبَة من الْخلق والامر الْوَجْه الْخَامِس وَالْعشْرُونَ ان الله سُبْحَانَهُ امْر اهل الْعلم بالفرح بِمَا آتَاهُم وَأخْبر انه خير مِمَّا يجمع النَّاس فَقَالَ تَعَالَى قل بِفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هُوَ خير مِمَّا يجمعُونَ وَفسّر فضل الله بالايمان وَرَحمته بِالْقُرْآنِ والايمان وَالْقُرْآن هما الْعلم النافع وَالْعَمَل الصَّالح وَالْهدى وَدين الْحق وهما افضل علم وافضل عمل الْوَجْه السَّادِس وَالْعشْرُونَ انه سُبْحَانَهُ شهد لمن آتَاهُ الْعلم بانه قد آتَاهُ خيرا كثيرا فَقَالَ تَعَالَى يُؤْتى الْحِكْمَة من يَشَاء وَمن يُؤْت الْحِكْمَة فقد اوتى خيرا كثيرا {قَالَ}

ص: 51

ابْن قُتَيْبَة وَالْجُمْهُور الْحِكْمَة إِصَابَة الْحق وَالْعَمَل بِهِ وَهِي الْعلم النافع وَالْعَمَل الصَّالح الْوَجْه السَّابِع وَالْعشْرُونَ انه سُبْحَانَهُ عدد نعمه وفضله على رَسُوله وَجعل من اجلها ان آتَاهُ الْكتاب وَالْحكمَة وَعلمه مَا لم يكن يعلم فَقَالَ تَعَالَى وَأنزل الله عَلَيْك الْكتاب وَالْحكمَة وعلمك مَا لم تكن تعلم وَكَانَ فضل الله عَلَيْك عَظِيما الْوَجْه الثَّامِن وَالْعشْرُونَ انه سُبْحَانَهُ ذكر عباده الْمُؤمنِينَ بِهَذِهِ النِّعْمَة وَأمرهمْ بشكرها وَأَن يذكروه على إسدائها اليهم فَقَالَ تَعَالَى كَمَا ارسلنا فِيكُم رَسُولا مِنْكُم يَتْلُو عَلَيْكُم آيَاتنَا ويزكيكم ويعلمكم الْكتاب وَالْحكمَة ويعلمكم مَا لم تَكُونُوا تعلمُونَ فاذكروني اذكركم واشكروا لي وَلَا تكفرون الْوَجْه التَّاسِع وَالْعشْرُونَ انه سُبْحَانَهُ لما اخبر مَلَائكَته بِأَنَّهُ يُرِيد ان يَجْعَل فِي الارض خَليفَة قَالُوا لَهُ اتجعل فِيهَا من يفْسد فِيهَا ويسفك الدِّمَاء وَنحن نُسَبِّح بحَمْدك ونقدس لَك قَالَ اني اعْلَم مَالا تعلمُونَ وَعلم آدم الاسماء كلهَا ثمَّ عرضهمْ على الْمَلَائِكَة فَقَالَ انبئوني باسماء هَؤُلَاءِ ان كُنْتُم صَادِقين قَالُوا سُبْحَانَكَ لاعلم لنا الا مَا علتمنا كلمتناانك انت الْعَلِيم الْحَكِيم الى آخر قصَّة آدم وَأمر الْمَلَائِكَة بِالسُّجُود لآدَم فَأبى ابليس فلعنه وَأخرجه من السَّمَاء وَبَيَان فضل الْعلم من هَذِه الْقِصَّة من وُجُوه احدها انه سُبْحَانَهُ رد على الْمَلَائِكَة لما سَأَلُوهُ كَيفَ يَجْعَل فِي الارض من هم اطوع لَهُ مِنْهُ فَقَالَ اني اعْلَم مَالا تعلمُونَ فَأجَاب سُؤَالهمْ بِأَنَّهُ يعلم من بواطن الامور وحقائقها مَالا يعلمونه وَهُوَ الْعَلِيم الْحَكِيم فَظهر من هَذَا الْخَلِيفَة من خِيَار خلقه وَرُسُله وأنبيائه وصالحي عباده وَالشُّهَدَاء وَالصديقين وَالْعُلَمَاء وطبقات اهل الْعلم والايمان من هُوَ خير من الْمَلَائِكَة وَظهر من ابليس من هُوَ شَرّ الْعَالمين فَأخْرج سُبْحَانَهُ هَذَا وَهَذَا وَالْمَلَائِكَة لم يكن لَهَا علم لَا بِهَذَا وَلَا بِهَذَا وَلَا بِمَا فِي خلق آدم واسكانه الارض من الحكم الباهرة الثَّانِي انه سُبْحَانَهُ لما اراد اظهار تَفْضِيل آدم وتمييزه وفضله ميزه عَلَيْهِم بِالْعلمِ فَعلمه الاسماء كلهَا ثمَّ عرضهمْ على الْمَلَائِكَة فَقَالَ انبئوني باسماء هَؤُلَاءِ إِن كُنْتُم صَادِقين جَاءَ فِي التَّفْسِير انهم قَالُوا لن يخلق رَبنَا خلقا هُوَ اكرم عَلَيْهِ منا فظنوا انهم خير وافضل من الْخَلِيفَة الَّذِي يَجعله الله فِي الارض فَلَمَّا امتحنهم بِعلم مَا علمه لهَذَا الْخَلِيفَة اقروا بِالْعَجزِ وَجَهل مَا لم يعلموه فَقَالُوا سُبْحَانَكَ لاعلم لنا إِلَّا مَا علمتنا انك انت الْعَلِيم الْحَكِيم فَحِينَئِذٍ اظهر لَهُم فضل آدم بِمَا خصّه بِهِ من الْعلم فَقَالَ يَا آدم انبئهم باسمائهم فَلَمَّا انبأهم بِأَسْمَائِهِمْ أقرُّوا لَهُ بِالْفَضْلِ الثَّالِث انه سُبْحَانَهُ لما ان عرفهم فضل آدم بِالْعلمِ وعجزهم عَن معرفَة مَا علمه قَالَ لَهُم الم اقل لكم اني اعْلَم غيب السَّمَوَات والارض وَاعْلَم مَا تبدون وَمَا كُنْتُم تكتمون فعرفهم سُبْحَانَهُ نَفسه بِالْعلمِ وانه احاط علما بظاهرهم وَبَاطِنهمْ وبغيب السَّمَوَات والارض فتعرف اليهم بِصفة الْعلم وعرفهم فضل نبيه وكليمه بِالْعلمِ وعجزهم عَمَّا آتَاهُ آدم من الْعلم وَكفى بِهَذَا شرفا للْعلم الرَّابِع انه سُبْحَانَهُ جعل فِي آدم

ص: 52

من صِفَات الْكَمَال مَا كَانَ بِهِ افضل من غَيره من الْمَخْلُوقَات وَأَرَادَ سُبْحَانَهُ ان يظْهر لملائكته فَضله وشرفه فأظهر لَهُم احسن مَا فِيهِ وَهُوَ علمه فَدلَّ على ان الْعلم اشرف مَا فِي الانسان وان فَضله وشرفه إِنَّمَا هُوَ بِالْعلمِ وَنَظِير هَذَا مَا فعله بِنَبِيِّهِ يُوسُف عليه السلام لما أَرَادَ اظهار فَضله وشرفه على اهل زَمَانه كلهم اظهر للْملك واهل مصر من علمه بِتَأْوِيل رُؤْيَاهُ مَا عجز عَنهُ عُلَمَاء التَّعْبِير فَحِينَئِذٍ قدمه ومكنه وَسلم اليه خَزَائِن الارض وَكَانَ قبل ذَلِك قد حَبسه على مَا رَآهُ من حسن وَجهه وجمال صورته وَلما ظهر لَهُ حسن صُورَة علمه وجمال مَعْرفَته اطلقه من الْحَبْس ومكنه فِي الارض فَدلَّ على ان صُورَة الْعلم عِنْد بني آدم ابهى واحسن من الصُّورَة الحسية وَلَو كَانَت اجمل صُورَة وَهَذَا وَجه مُسْتَقل فِي تَفْضِيل الْعلم مُضَاف الى مَا تقدم فتم بِهِ ثَلَاثُونَ وَجها الْوَجْه الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ انه سُبْحَانَهُ ذمّ اهل الْجَهْل فِي مَوَاضِع كَثِيرَة من كِتَابه فَقَالَ تَعَالَى وَلَكِن اكثرهم يجهلون {وَقَالَ} وَلَكِن اكثرهم لَا يعلمُونَ وَقَالَ تَعَالَى ام تحسب ان اكثرهم يسمعُونَ اَوْ يعْقلُونَ ان هم الا كالانعام بل هم اضل سَبِيلا فَلم يقْتَصر سُبْحَانَهُ على تَشْبِيه الْجُهَّال بالانعام حَتَّى جعلهم اضل سَبِيلا مِنْهُم وَقَالَ ان شَرّ الدَّوَابّ عِنْد الله الصم الْبكم الَّذين لَا يعْقلُونَ اخبر ان الْجُهَّال شَرّ الدَّوَابّ عِنْده على اخْتِلَاف اصنافها من الْحمير وَالسِّبَاع وَالْكلاب والحشرات وَسَائِر الدَّوَابّ فالجهال شَرّ مِنْهُم وَلَيْسَ عَليّ دين الرُّسُل اضر من الْجُهَّال بل اعداؤهم على الْحَقِيقَة وَقَالَ تَعَالَى لنَبيه وَقد اعاذه فلاتكونن من الْجَاهِلين وَقَالَ كليمه مُوسَى عليه الصلاة والسلام اعوذ بِاللَّه ان اكون من الْجَاهِلين وَقَالَ لأوّل رسله نوح عليه السلام إِنِّي أعظك أَن تكون من الْجَاهِلين فَهَذِهِ حَال الْجَاهِلين عِنْده والاول حَال اهل الْعلم عِنْده وَاخْبَرْ سُبْحَانَهُ عَن عُقُوبَته لاعدائه انه مَنعهم علم كِتَابه ومعرفته وفقهه فَقَالَ تَعَالَى وَإِذا قَرَأت الْقُرْآن جعلنَا بَيْنك وَبَين الَّذين لَا يُؤمنُونَ بالاخرة حِجَابا مَسْتُورا وَجَعَلنَا على قُلُوبهم اكنة ان يفقهوه وَفِي آذانهم وقرا وَأمر نبيه بالاعراض عَنْهُم فَقَالَ وَأعْرض عَن الْجَاهِلين واثنى على عباده بالاعراض عَنْهُم ومتاركتهم كَمَا فِي قَوْله وَإِذا سمعُوا اللَّغْو اعرضوا عَنهُ وَقَالُوا لنا اعمالنا وَلكم اعمالكم سَلام عَلَيْكُم لَا نبتغي الْجَاهِلين وَقَالَ تَعَالَى وَإِذا خاطبهم الجاهلون قَالُوا سَلاما وكل هَذَا يدل على قبح الْجَهْل عِنْده وبغضه للْجَهْل وَأَهله وَهُوَ كَذَلِك عِنْد النَّاس فَإِن كل اُحْدُ يتبرا مِنْهُ وَإِن كَانَ فيهالوجه الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ ان الْعلم حَيَاة وَنور وَالْجهل موت وظلمة وَالشَّر كُله سَببه عدم الْحَيَاة والنور وَالْخَيْر كُله سَببه النُّور والحياة فَإِن النُّور يكْشف عَن حقائق الاشياء وَيبين مراتبها والحياة هِيَ المصححة لصفات الْكَمَال الْمُوجبَة لتسديد الاقوال والاعمال فَكلما تصرف من الْحَيَاة فَهُوَ خير كُله كالحياء الَّذِي سَببه كَمَال حَيَاة الْقلب وتصوره حَقِيقَة الْقبْح ونفرته مِنْهُ وضده الوقاحة

ص: 53

وَالْفُحْش وَسَببه موت الْقلب وَعدم نفرته من الْقَبِيح وكالحياء الَّذِي هُوَ الْمَطَر الَّذِي بِهِ حَيَاة كل شَيْء قَالَ تَعَالَى اَوْ من كَانَ مَيتا فاحييناه وَجَعَلنَا لَهُ نورا يمشى بِهِ فِي النَّاس كمن مثله فِي الظُّلُمَات لَيْسَ بِخَارِج مِنْهَا كَانَ مَيتا بِالْجَهْلِ قلبه فأحياه بِالْعلمِ وَجعل لَهُ من الايمان نورا يمشى بِهِ فِي النَّاس وَقَالَ تَعَالَى يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله وآمنوا بِرَسُولِهِ يُؤْتكُم كِفْلَيْنِ من رَحمته وَيجْعَل لكم نورا تمشون بِهِ وَيغْفر لكم وَالله غَفُور رَحِيم لِئَلَّا يعلم اهل الْكتاب ان لَا يقدرُونَ على شَيْء من فضل الله وان الْفضل بيد الله يؤتيه من يَشَاء وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم وَقَالَ تَعَالَى وَالله ولي الَّذين آمنُوا يخرجهم من الظُّلُمَات الى النُّور وَالَّذين كفرُوا اولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النُّور إِلَى الظُّلُمَات اولئك اصحاب النَّار هم فِيهَا خَالدُونَ وَقَالَ تَعَالَى وَكَذَلِكَ اوحينا اليك روحا من امرنا مَا كنت تَدْرِي مَا الْكتاب وَلَا الايمان وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نورا نهدي بِهِ من نشَاء من عبادنَا وانك لتهدي الى صِرَاط مُسْتَقِيم فَأخْبر انه روح تحصل بِهِ الْحَيَاة وَنور يحصل بِهِ الاضاءة والاشراف فَجمع بَين الاصلين الْحَيَاة والنور وَقَالَ تَعَالَى قد جَاءَكُم من الله نوروكتاب مُبين يهدي بِهِ الله من اتبع رضوانه سبل السَّلَام ويخرجهم من الظُّلُمَات الى النُّور باذنه ويهديهم الى صِرَاط مُسْتَقِيم وَقَالَ تَعَالَى فآمنوا بِاللَّه وَرَسُوله والنور الَّذِي انزلنا وَالله بِمَا تعْمل ون خَبِير وَقَالَ تَعَالَى يَا أَيهَا النَّاس قد جَاءَكُم برهَان من ربكُم وأنزلنا اليكم نورا مُبينًا وَقَالَ تَعَالَى قد انْزِلْ الله اليكم ذكرا رَسُولا يَتْلُو عَلَيْكُم آيَات الله مبينات ليخرج الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات من الظُّلُمَات الى النُّور وَقَالَ تَعَالَى الله نور السَّمَوَات والارض مثل نوره كمشكاة فِيهَا مِصْبَاح الْمِصْبَاح فِي زجاجة الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَب درى يُوقد من شَجَرَة مباركة زيتونة لَا شرقية وَلَا غربية يكَاد زيتها يضيء وَلَو لم تمسسه نَار نور على نور يهدي الله لنوره من يَشَاء وَيضْرب الله الامثال للنَّاس وَالله بِكُل شَيْء عليم فَضرب سُبْحَانَهُ مثلا لنوره الَّذِي قذفه فِي قلب الْمُؤمن كَمَا قَالَ ابي بن كَعْب رضى الله عَنهُ مثل نوره فِي قلب عَبده الْمُؤمن وَهُوَ نور الْقُرْآن والايمان الَّذِي اعطاه إِيَّاه كَمَا قَالَ فِي آخر الْآيَة نور على نور يعْنى نور الايمان على نور الْقُرْآن كَمَا قَالَ بعض السّلف يكَاد الْمُؤمن ينْطق بالحكمة وان لم يسمع فِيهَا بالاثر فَإِذا سمع فِيهَا بالاثر كَانَ نورا على نور وَقد جمع الله سُبْحَانَهُ بَين ذكر هذَيْن النورين وهما الْكتاب والايمان فِي غير مَوضِع من كِتَابه كَقَوْلِه مَا كنت تدرى مَا الْكتاب وَلَا الايمان وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نورا نهدي بِهِ من نشَاء من عبادنَا وَقَوله تَعَالَى قل بِفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هُوَ خير مِمَّا يجمعُونَ ففضل الله الايمان وَرَحمته الْقُرْآن وَقَوله تَعَالَى اَوْ من كَانَ مَيتا فاحييناه وَجَعَلنَا لَهُ نورا يمشى بِهِ فِي النَّاس كمن مثله فِي الظُّلُمَات لَيْسَ بِخَارِج مِنْهَا وَقد تقدّمت هَذِه الايات وَقَالَ فِي آيَة النُّور نور على نور

ص: 54

وَهُوَ نور الايمان على نور الْقُرْآن وَفِي حَدِيث النواس بن سمْعَان رضى الله عَنهُ عَن النَّبِي ان الله ضرب مثلا صراطا مُسْتَقِيمًا وعَلى كَتِفي الصِّرَاط داران لَهما ابواب مفتحة على الابواب ستور وداع يَدْعُو على الصِّرَاط وداع يَدْعُو فَوْقه وَالله يَدْعُو الى دَار السَّلَام وَيهْدِي من يَشَاء الى صِرَاط مُسْتَقِيم والابواب الَّتِي على كَتِفي الصِّرَاط حُدُود الله فَلَا يَقع اُحْدُ فِي حُدُود الله حَتَّى يكْشف السّتْر وَالَّذِي يَدْعُو من فَوْقه واعظ ربه رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَهَذَا لَفظه والامام احْمَد وَلَفظه والداعي على رَأس الصِّرَاط كتاب الله والداعي فَوق الصِّرَاط واعظ الله فِي قلب كل مُؤمن فَذكر الاصلين وهما دَاعِي الْقُرْآن وداعي الايمان وَقَالَ حُذَيْفَة حَدثنَا رَسُول الله ان الامانة نزلت فِي جذر قُلُوب الرِّجَال ثمَّ نزل الْقُرْآن فَعَلمُوا من الايمان ثمَّ علمُوا من الْقُرْآن وَفِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث ابي مُوسَى الاشعري رضى الله عَنهُ عَن النَّبِي مثل الْمُؤمن الَّذِي يقْرَأ الْقُرْآن كَمثل الاترجة طعمها طيب وريحها طيب وَمثل الْمُؤمن الَّذِي لَا يقْرَأ الْقُرْآن كَمثل التمرة طعمها طيب وَلَا ريح لَهَا وَمثل الْمُنَافِق الَّذِي يقْرَأ الْقُرْآن كالريحانة رِيحهَا طيب وطعمها مر وَمثل الْمُنَافِق الَّذِي لَا يقْرَأ الْقُرْآن كَمثل الحنظلة طعمها مرولا ريح لَهَا فَجعل النَّاس اربعة اقسام اهل الايمان وَالْقُرْآن وهم خِيَار النَّاس الثَّانِي اهل الايمان الَّذين لَا يقرءُون الْقُرْآن وهم دونهم فَهَؤُلَاءِ هم السُّعَدَاء والاشقياء قِسْمَانِ احدهما من اوتى قُرْآنًا بِلَا إِيمَان فَهُوَ مُنَافِق وَالثَّانِي من لَا اوتى قُرْآنًا وَلَا إِيمَانًا وَالْمَقْصُود ان الْقُرْآن والايمان هما نور يَجعله الله فِي قلب من يَشَاء من عباده وأنهما اصل كل خير فِي الدُّنْيَا والاخرة وعلمهما اجل الْعُلُوم وافضلها بل لَا علم فِي الْحَقِيقَة ينفع صَاحبه الا علمهما وَالله يهدي من يَشَاء الى صِرَاط مُسْتَقِيم الْوَجْه الثَّالِث وَالثَّلَاثُونَ ان الله سُبْحَانَهُ جعل صيد الْكَلْب الْجَاهِل ميتَة يحرم اكلها وأباح صيد الْكَلْب الْمعلم وَهَذَا ايضا من شرف الْعلم انه لَا يُبَاح إِلَّا صيد الْكَلْب الْعَالم واما الْكَلْب الْجَاهِل فَلَا يحل اكل صَيْده فَدلَّ على شرف الْعلم وفضله قَالَ الله تَعَالَى يَسْأَلُونَك مَاذَا أحل لَهُم قل احل لكم الطَّيِّبَات وَمَا علمْتُم من الْجَوَارِح مكلبين تعلمونهن مِمَّا علمكُم الله فَكُلُوا مِمَّا امسكن عَلَيْكُم واذْكُرُوا اسْم الله عَلَيْهِ وَاتَّقوا الله ان الله سريع الْحساب وَلَوْلَا مزية الْعلم والتعليم وشرفهما كَانَ صيد الْكَلْب الْمعلم وَالْجَاهِل سَوَاء الْوَجْه الرَّابِع وَالثَّلَاثُونَ ان الله سُبْحَانَهُ اُخْبُرْنَا عَن صَفيه وكليمه الَّذِي كتب لَهُ التوارة بِيَدِهِ وَكَلمه مِنْهُ اليه انه رَحل الى رجل عَالم يتَعَلَّم مِنْهُ ويزداد علما الى علمه فَقَالَ وَإِذ قَالَ مُوسَى لفتاه لَا أَبْرَح حَتَّى ابلغ مجمع الْبَحْرين اَوْ امضى حقبا حرصا مِنْهُ على لِقَاء هَذَا الْعَالم وعَلى التَّعَلُّم مِنْهُ فَلَمَّا لقِيه سلك مَعَه مَسْلَك المتعلم مَعَ معلمه وَقَالَ لَهُ هَل اتبعك على ان تعلمن مِمَّا علمت رشدا فبدأه بعد السَّلَام بالاستئذان على مُتَابَعَته وانه لَا يتبعهُ إِلَّا باذنه وَقَالَ على ان تعلمن مِمَّا علمت

ص: 55

رشدا فَلم يَجِيء ممتحنا وَلَا متعلما وَإِنَّمَا جَاءَ متعلما مستزيدا علما إِلَى علمه وَكفى بِهَذَا فضلا وشرفا للْعلم فَإِن نَبِي الله وكليمه سَافر ورحل حَتَّى لقى النصب من سَفَره فِي تعلم ثَلَاث مسَائِل من رجل عَالم وَلما سمع بِهِ لم يقر لَهُ قَرَار حَتَّى لقِيه وَطلب مِنْهُ مُتَابَعَته وتعليمه وَفِي قصتهما عبر وآيات وَحكم لَيْسَ هَذَا مَوضِع ذكرهَا الْوَجْه الْخَامِس وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لينفروا كَافَّة فلولا نفر من كل فرقة مِنْهُم طَائِفَة ليتفقهوا فِي الدّين ولينذروا قَومهمْ إِذا رجعُوا اليهم لَعَلَّهُم يحذرون ندب تَعَالَى الْمُؤمنِينَ الى التفقه فِي الدّين وَهُوَ تعلمه وانذار قَومهمْ إِذا رجعُوا اليهم وَهُوَ التَّعْلِيم وَقد اخْتلف فِي الاية فَقيل الْمَعْنى ان الْمُؤمنِينَ لم يَكُونُوا لينفروا كلهم للتفقه والتعلم بل يَنْبَغِي ان ينفر من كل فرقة مِنْهُم طَائِفَة تتفقه تِلْكَ الطَّائِفَة ثمَّ ترجع تعلم القاعدين فَيكون النفير على هَذَا نفير تعلم والطائفة تقال على الْوَاحِد فَمَا زَاد قَالُوا فَهُوَ دَلِيل على قبُول خبر الْوَاحِد وعَلى هَذَا نفير تعلم والطائفة تقال على الْوَاحِد فَمَا زَاد قَالُوا فَهُوَ دَلِيل على قبُول خير الْوَاحِد وعَلى هَذَا حملهَا الشَّافِعِي وَجَمَاعَة وَقَالَت طَائِفَة اخرى الْمَعْنى وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لينفروا إِلَى الْجِهَاد كلهم بل يَنْبَغِي ان تنفر طَائِفَة للْجِهَاد وَفرْقَة تقعد تتفقه فِي الدّين فَإِذا جَاءَت الطَّائِفَة الَّتِي نفرت فقهتها الْقَاعِدَة وعلمتها مَا انْزِلْ من الدّين والحلال وَالْحرَام وعَلى هَذَا فَيكون قَوْله ليتفقهوا ولينذروا للفرقة الَّتِي نفرت مِنْهَا طَائِفَة وَهَذَا قَول الاكثرين وعَلى هَذَا فالنفير نفير جِهَاد على اصله فَإِنَّهُ حَيْثُ اسْتعْمل إِنَّمَا يفهم مِنْهُ الْجِهَاد قَالَ الله تَعَالَى {انفروا خفافا وثقالا وَجَاهدُوا بأموالكم وَأَنْفُسكُمْ} وَقَالَ النَّبِي لَا هِجْرَة بعد الْفَتْح وَلَكِن جِهَاد وَنِيَّة وَإِذا استنفرتم فانفروا وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوف من هَذِه اللَّفْظَة وعَلى الْقَوْلَيْنِ فَهُوَ ترغيب فِي التفقه فِي الدّين وتعلمه وتعليمه فَإِن ذَلِك يعدل الْجِهَاد بل رُبمَا يكون افضل مِنْهُ كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيره فِي الْوَجْه الثَّامِن وَالْمِائَة ان شَاءَ الله تَعَالَى الْوَجْه السَّادِس وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى {وَالْعصر إِن الْإِنْسَان لفي خسر إِلَّا الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصبرِ} قَالَ الشَّافِعِي رضى الله عَنهُ لَو فكر النَّاس كلهم فِي هَذِه السُّورَة لكفتهم وَبَيَان ذَلِك ان الْمَرَاتِب اربعة وباستكمالها يحصل للشَّخْص غَايَة كَمَاله احداها معرفَة الْحق الثَّانِيَة عمله بِهِ الثَّالِثَة تَعْلِيمه من لَا يُحسنهُ الرَّابِعَة صبره على تعلمه وَالْعَمَل بِهِ وتعليمه فَذكر تَعَالَى الْمَرَاتِب الاربعة فِي هَذِه السُّورَة واقسم سُبْحَانَهُ فِي هَذِه السُّورَة بالعصر ان كل اُحْدُ فِي خسر الا الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وهم الَّذين عرفُوا الْحق وَصَدقُوا بِهِ فَهَذِهِ مرتبَة وَعمِلُوا الصَّالِحَات وهم الَّذين عمِلُوا بِمَا علموه من الْحق فَهَذِهِ مرتبَة اخرى وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وصّى بِهِ بَعضهم بَعْضًا تَعْلِيما وارشادا فَهَذِهِ مرتبَة ثَالِثَة وَتَوَاصَوْا بِالصبرِ صَبَرُوا على الْحق ووصى بَعضهم بَعْضًا بِالصبرِ عَلَيْهِ والثبات فَهَذِهِ مرتبَة رَابِعَة وهذانهاية الْكَمَال فَإِن الْكَمَال ان يكون الشَّخْص كَامِلا فِي نَفسه مكملا لغيره وكماله باصلاح قوتيه العلمية والعملية فصلاح الْقُوَّة العلمية بالايمان

ص: 56

وَصَلَاح الْقُوَّة العملية بِعَمَل الصَّالِحَات وتكميله غَيره بتعليمه اياه وَصَبره عَلَيْهِ وتوصيته بِالصبرِ على الْعلم وَالْعَمَل فَهَذِهِ السُّورَة على اختصارها هِيَ من اجْمَعْ سور الْقُرْآن للخير بحذافيره وَالْحَمْد لله الَّذِي جعل كِتَابه كَافِيا عَن كل مَا سواهُ شافيا من كل دَاء هاديا الى كل خير الْوَجْه السَّابِع وَالثَّلَاثُونَ انه سُبْحَانَهُ ذكر فَضله ومنته على انبيائه وَرُسُله واوليائه وعباده بِمَا آتَاهُم من الْعلم فَذكر نعْمَته على خَاتم انبيائه وَرُسُله بقوله وَأنزل الله عَلَيْك الْكتاب وَالْحكمَة وعلمك مَا لم تكن تعلم وَكَانَ فضل الله عَلَيْك عَظِيما وَقد تقدّمت هَذِه الاية وَقَالَ فِي يُوسُف وَلما بلغ اشده آتيناه حكما وعلما وَكَذَلِكَ تجزى الْمُحْسِنِينَ وَقَالَ فِي كليمه مُوسَى وَلما بلغ اشده واستوى آتيناه حكما وعلما وَكَذَلِكَ نجزي الْمُحْسِنِينَ وَلما كَانَ الَّذِي آتَاهُ مُوسَى من ذَلِك أمرا عَظِيما خصّه بِهِ على غَيره وَلَا يثبت لَهُ إِلَّا الأقوياء أولو الْعَزْم هيأه لَهُ بعد أَن بلغ أشده واستوى يَعْنِي تمّ كلمت قوته وَقَالَ فِي حق الْمَسِيح يَا عِيسَى ابْن مَرْيَم اذكر نعمتي عَلَيْك وعَلى والدتك إِذْ ايدتك بِروح الْقُدس تكلم النَّاس فِي المهد وكهلا وَإِذ علمتك الْكتاب وَالْحكمَة والتوراة والانجيل وَقَالَ فِي حَقه ويعلمه الْكتاب وَالْحكمَة والتوراة والانجيل فَجعل تَعْلِيمه مِمَّا بشر بِهِ امهِ واقر عينهَا بِهِ وَقَالَ فِي حق دَاوُد وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَة وَفصل الْخطاب وَقَالَ فِي حق الْخضر صَاحب مُوسَى وفتاه فوجدا عبدا من عبادنَا آتيناه رَحْمَة من عندنَا وعلمناه من لدنا علما فَذكر من نعمه عَلَيْهِ تَعْلِيمه وَمَا آتَاهُ من رَحمته وَقَالَ تَعَالَى يذكر نعْمَته على دَاوُد وَسليمَان وَدَاوُد وَسليمَان إِذْ يحكمان فِي الْحَرْث إِذْ نفشت فِيهِ غنم الْقَوْم وَكُنَّا لحكمهم شَاهِدين ففهمناها سُلَيْمَان وكلا آتَيْنَا حكما وعلما فَذكر النَّبِيين الكريمين وَأثْنى عَلَيْهِمَا بالحكم وَالْعلم وَخص بفهم الْقَضِيَّة احدهما وَقد ذكرت الْحكمَيْنِ الداوودي والسليماني ووجههما وَمن صَار من الائمة الى هَذَا وَمن صَار الى هَذَا وترجيح الحكم السُّلَيْمَانِي من عدَّة وُجُوه وموافقته للْقِيَاس وقواعد الشَّرْع فِي كتاب الِاجْتِهَاد والتقليد وَقَالَ تَعَالَى قل من انْزِلْ الْكتاب الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نورا وَهدى للنَّاس تجعلونه قَرَاطِيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم مَا لم تعلمُوا انتم وَلَا آباؤكم قل الله يَعْنِي الَّذِي انزله جعل سُبْحَانَهُ تعليمهم مَا لم يعلمُوا هم وَلَا آباؤهم دَلِيلا على صِحَة النُّبُوَّة والرسالة إِذْ لَا ينَال هَذَا الْعلم إِلَّا من جِهَة الرُّسُل فَكيف يَقُولُونَ مَا أنزل الله على بشر من شَيْء وَهَذَا من فضل الْعلم وشرفه وَأَنه دَلِيل على صِحَة النُّبُوَّة والرسالة وَالله الْمُوفق للرشاد وَقَالَ تَعَالَى لقد من الله على الْمُؤمنِينَ إِذْ بعث فيهم رَسُولا من انفسهم يَتْلُو عَلَيْهِم آيَاته ويزكيهم وَيُعلمهُم الْكتاب وَالْحكمَة وَإِن كَانُوا من قبل لفي ضلال مُبين وَقَالَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي بعث فِي الاميين رَسُولا مِنْهُم يَتْلُو عَلَيْهِم آيَاته ويزكيهم وَيُعلمهُم الْكتاب وَالْحكمَة وان كَانُوا من قبل لفي ضلال مُبين وَآخَرين مِنْهُم لما يلْحقُوا بهم وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم

ص: 57

ذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم يَعْنِي وَبعث فِي آخَرين مِنْهُم لما يلْحقُوا بهم وَقد اخْتلف فِي هَذَا اللحاق الْمَنْفِيّ فَقيل هُوَ اللحاق فِي الزَّمَان أَي يتَأَخَّر زمانهم عَنْهُم وَقيل هُوَ اللحاق فِي الْفضل والسبق وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ فامتن عَلَيْهِم سُبْحَانَهُ بَان علمهمْ بعد الْجَهْل وهداهم بعد الضَّلَالَة ويالها من منَّة عَظِيمَة فَاتَت المنن وجلت ان يقدر الْعباد لَهَا على ثمن الْوَجْه الثَّامِن وَالثَّلَاثُونَ ان اول سُورَة انزلها الله فِي كِتَابه سُورَة الْقَلَم فَذكر فِيهَا مَا من بِهِ على الانسان من تَعْلِيمه مَا لم يعلم فَذكر فِيهَا فَضله بتعليمه وتفضيله الْإِنْسَان بِمَا علمه اياه وَذَلِكَ يدل على شرف التَّعْلِيم وَالْعلم فَقَالَ تَعَالَى {اقْرَأ باسم رَبك الَّذِي خلق خلق الْإِنْسَان من علق اقْرَأ وَرَبك الأكرم الَّذِي علم بالقلم علم الْإِنْسَان مَا لم يعلم} فَافْتتحَ السُّورَة بالامر بِالْقِرَاءَةِ الناشئة عَن الْعلم وَذكر خلقه خُصُوصا وعموما فَقَالَ {الَّذِي خلق خلق الْإِنْسَان من علق اقْرَأ وَرَبك الأكرم} وَخص الانسان من بَين الْمَخْلُوقَات لما اودعه من عجائبه وآياته الدَّالَّة على ربوبيته وَقدرته وَعلمه وحكمته وَكَمَال رَحمته وانه لَا إِلَه غَيره وَلَا رب سواهُ وَذكر هُنَا مبدا خلقه من علق لكَون الْعلقَة مبدأ الاطوار الَّتِي انْتَقَلت اليها النُّطْفَة فَهِيَ مبدأ تعلق التخليق ثمَّ اعاد الْأَمر بِالْقِرَاءَةِ مخبرا عَن نَفسه بِأَنَّهُ الاكرم وَهُوَ الافعل من الْكَرم وَهُوَ كَثْرَة الْخَيْر وَلَا اُحْدُ أولى بذلك مِنْهُ سُبْحَانَهُ فَإِن الْخَيْر كُله بيدَيْهِ وَالْخَيْر كُله مِنْهُ وَالنعَم كلهَا هُوَ موليها والكمال كُله وَالْمجد كُله لَهُ فَهُوَ الاكرم حَقًا ثمَّ ذكر تَعْلِيمه عُمُوما وخصوصا فَقَالَ الَّذِي علم بالقلم فَهَذَا يدْخل فِيهِ تَعْلِيم الْمَلَائِكَة وَالنَّاس ثمَّ ذكر تَعْلِيم الانسان خُصُوصا فَقَالَ {علم الْإِنْسَان مَا لم يعلم} فاشتملت هَذِه الْكَلِمَات على انه معطى الموجودات كلهَا بِجَمِيعِ اقسامها فان الْوُجُود لَهُ مَرَاتِب اربعة احداها مرتبتها الخارجية الْمَدْلُول عَلَيْهَا بقوله خلق الْمرتبَة الثَّانِيَة الذهنية الْمَدْلُول عَلَيْهَا بقوله {علم الْإِنْسَان مَا لم يعلم} الْمرتبَة الثَّالِثَة وَالرَّابِعَة اللفظية والخطية فالخطية مُصَرح بهَا فِي قَوْله الَّذِي علم بالقلم واللفظية من لَوَازِم التَّعْلِيم بالقلم فَإِن الْكِتَابَة فرع النُّطْق والنطق فرع التَّصَوُّر فاشتملت هَذِه الْكَلِمَات على مَرَاتِب الْوُجُود كلهَا وانه سُبْحَانَهُ هُوَ معطيها بخلقه وتعليمه فَهُوَ الْخَالِق الْمعلم وكل شَيْء فِي الْخَارِج فبخلقه وجد وكل علم فِي الذِّهْن فبتعليمه حصل وكل لفظ فِي اللِّسَان اَوْ خطّ فِي البنان فباقداره وخلقه وتعليمه وَهَذَا من آيَات قدرته وبراهين حكمته لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الرَّحْمَن الرَّحِيم وَالْمَقْصُود انه سُبْحَانَهُ تعرف إِلَى عباده بِمَا علمهمْ إِيَّاه بِحِكْمَتِهِ من الْخط وَاللَّفْظ وَالْمعْنَى فَكَانَ الْعلم اُحْدُ الادلة الدَّالَّة عَلَيْهِ بل من اعظمها وأظهرها وَكفى بِهَذَا شرفا وفضلا لَهُ الْوَجْه التَّاسِع وَالثَّلَاثُونَ انه سُبْحَانَهُ سمى الْحجَّة العلمية سُلْطَانا قَالَ ابْن عَبَّاس رضى الله عَنهُ كل سُلْطَان فِي الْقُرْآن فَهُوَ حجَّة وَهَذَا كَقَوْلِه تَعَالَى قَالُوا اتخذ الله ولدا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الارض ان عنْدكُمْ من سُلْطَان بِهَذَا اتقولون على الله

ص: 58

مَالا تعلمُونَ يَعْنِي مَا عنْدكُمْ من حجَّة بِمَا قُلْتُمْ ان هُوَ الا قَول على الله بِلَا علم وَقَالَ تَعَالَى {إِن هِيَ إِلَّا أَسمَاء سميتموها أَنْتُم وآباؤكم مَا أنزل الله بهَا من سُلْطَان} يَعْنِي مَا أنزل بهَا حجَّة وَلَا برهانا بل هِيَ من تِلْقَاء انفسكم وآبائكم وَقَالَ تَعَالَى {أم لكم سُلْطَان مُبين فَأتوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنْتُم صَادِقين} يَعْنِي حجَّة وَاضِحَة فائتوا بهَا إِن كُنْتُم صَادِقين فِي دعواكم إِلَّا موضعا وَاحِدًا اخْتلف فِيهِ وَهُوَ قَوْله {مَا أغْنى عني ماليه هلك عني سلطانيه} فَقيل المُرَاد بِهِ الْقُدْرَة وَالْملك أَي ذهب عني مَالِي وملكي فَلَا مَال لي وَلَا سُلْطَان وَقيل هُوَ على بَابه أَي انْقَطَعت حجتي وَبَطلَت فَلَا حجَّة لي وَالْمَقْصُود ان الله سُبْحَانَهُ سمى علم الْحجَّة سُلْطَانا لانها توجب تسلط صَاحبهَا واقتداره فَلهُ بهَا سُلْطَان على الْجَاهِلين بل سُلْطَان الْعلم اعظم من سُلْطَان الْيَد وَلِهَذَا ينقاد النَّاس للحجة مَالا ينقادون لليد فان الْحجَّة تنقاد لَهَا الْقُلُوب واما الْيَد فَإِنَّمَا ينقاد لَهَا الْبدن فالحجة تأسر الْقلب وتقوده وتذل الْمُخَالف وان اظهر العناد والمكابرة فقلبه خاضع لَهَا ذليل مقهور تَحت سلطانها بل سُلْطَان الجاه ان لم يكن مَعَه علم يساس بِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَة سُلْطَان السبَاع والاسود وَنَحْوهَا قدرَة بِلَا علم وَلَا رَحْمَة بِخِلَاف سُلْطَان الْحجَّة فَإِنَّهُ قدرَة بِعلم وَرَحْمَة وَحِكْمَة وَمن لم يكن لَهُ اقتدار فِي علمه فَهُوَ اما لضعف حجَّته وسلطانه واما لقهر سُلْطَان الْيَد وَالسيف لَهُ والا فالحجة ناصرة نَفسهَا ظَاهِرَة على الْبَاطِل قاهرة لَهُ الْوَجْه الاربعون ان الله تَعَالَى وصف اهل النَّار بِالْجَهْلِ وَاخْبَرْ انه سد عيهم طرق الْعلم فَقَالَ تَعَالَى حِكَايَة عَنْهُم {وَقَالُوا لَو كُنَّا نسْمع أَو نعقل مَا كُنَّا فِي أَصْحَاب السعير فَاعْتَرفُوا بذنبهم فسحقا لأَصْحَاب السعير} فَأخْبرُوا انهم كَانُوا لَا يسمعُونَ وَلَا يعْقلُونَ والسمع وَالْعقل هما اصل الْعلم وَبِهِمَا ينَال وَقَالَ تَعَالَى {وَلَقَد ذرأنا لِجَهَنَّم كثيرا من الْجِنّ وَالْإِنْس لَهُم قُلُوب لَا يفقهُونَ بهَا وَلَهُم أعين لَا يبصرون بهَا وَلَهُم آذان لَا يسمعُونَ بهَا أُولَئِكَ كالأنعام بل هم أضلّ أُولَئِكَ هم الغافلون} فاخبر سُبْحَانَهُ انهم لم يحصل لَهُم علم من جِهَة من جِهَات الْعلم الثَّلَاث وَهِي الْعقل والسمع وَالْبَصَر كَمَا قَالَ فِي مَوضِع آخر {صم بكم عمي فهم لَا يعْقلُونَ} وَقَالَ تَعَالَى افلم يَسِيرُوا فِي الارض فَتكون لَهُم قُلُوب يعْقلُونَ بهَا اَوْ آذان يسمعُونَ بهَا فانها لاتعمى الابصار وَلَكِن تعمى الْقُلُوب الَّتِي فِي الصُّدُور وَقَالَ تَعَالَى وجعلنالهم سمعا وابصارا وافئدة فَمَا اغنى عَنْهُم سمعهم وَلَا ابصارهم وَلَا افئدتهم من شَيْء إِذْ كَانُوا يجحدون بآيَات الله وحاق بهم مَا كَانُوا بِهِ يستهزؤن فقد وصف اهل الشَّقَاء كَمَا ترى بِعَدَمِ الْعلم وشبههم بالانعام تَارَة وَتارَة بالحمار الَّذِي يحمل الاسفار وَتارَة جعلهم اضل من الانعام وَتارَة جعلهم شَرّ الدَّوَابّ عِنْده وَتارَة جعلهم امواتا غير احياء وَتارَة اخبر انهم فِي ظلمات الْجَهْل والضلال وَتارَة اخبر ان على قُلُوبهم اكنة وَفِي آذانهم وقرا وعَلى ابصارهم غشاوة وَهَذَا كُله يدل على قبح الْجَهْل وذم اهله وبغضه لَهُم كَمَا انه يحب

ص: 59

اهل الْعلم ويمدحهم ويثنى عَلَيْهِم كَمَا تقدم وَالله الْمُسْتَعَان الْوَجْه الْحَادِي والاربعون مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث مُعَاوِيَة رضى الله عَنهُ قَالَ سَمِعت رَسُول الله يَقُول من يرد الله بِهِ خيرا يفقهه فِي الدّين وَهَذَا يدل على ان من لم يفقهه فِي دينه لم يرد بِهِ خيرا كَمَا ان من اراد بِهِ خير افقهه فِي دينه وَمن فقهه فِي دينه فقد اراد بِهِ خيرا إِذا اريد بالفقه الْعلم المستلزم للْعَمَل واما ان اريد بِهِ مُجَرّد الْعلم فَلَا يدل على ان من فقه فِي الدّين فقد اريد بِهِ خيرا فَإِن الْفِقْه حِينَئِذٍ يكون شرطا لارادة الْخَيْر وعَلى الاول يكون مُوجبا وَالله اعْلَم الْوَجْه الثَّانِي والاربعون مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ ايضا من حَدِيث ابي مُوسَى رضى الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله ان مثل مَا بَعَثَنِي الله بِهِ من الْهدى وَالْعلم كَمثل غيث اصاب ارضا فَكَانَت مِنْهَا طَائِفَة طيبَة قبلت المَاء فانبتت الْكلأ والعشب الْكثير وَكَانَ مِنْهَا اجادب امسكت المَاء فنفع الله بهَا النَّاس فَشَرِبُوا مِنْهَا وَسقوا وزرعوا واصاب طَائِفَة مِنْهَا اخرى إِنَّمَا هِيَ قيعان لاتمسك مَاء وَلَا تنْبت كلأ فَذَلِك مثل من فقه فِي دين الله ونفعه مَا بَعَثَنِي الله بِهِ فَعلم وَعلم وَمثل من لم يرفع بذلك راسا وَلم يقبل هدى الله الَّذِي ارسلت بِهِ شبه الْعلم وَالْهدى الَّذِي جَاءَ بِهِ بالغيث لما يحصل بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا من الْحَيَاة والنافع والاغذية والادوية وَسَائِر مصَالح الْعباد فَإِنَّهَا بِالْعلمِ والمطر وَشبه الْقُلُوب بالاراضي الَّتِي قع عَلَيْهَا الْمَطَر لانها الْمحل الَّذِي يمسك المَاء فينبت سَائِر انواع النَّبَات النافع كَمَا ان الْقُلُوب تعي الْعلم فيثمر فِيهَا ويزكو وَتظهر بركته وثمرته ثمَّ قسم النَّاس الى ثَلَاثَة اقسام بِحَسب قبولهم واستعدادهم لحفظه وَفهم مَعَانِيه واستنباط احكامه واستخراج حكمه وفوائده احدها اهل الْحِفْظ والفهم الَّذين حفظوه وعقلوه وفهموا مَعَانِيه واستنبطوا وُجُوه الاحكام وَالْحكم والفوائد مِنْهُ فَهَؤُلَاءِ بِمَنْزِلَة الارض الَّتِي قبلت المَاء وَهَذَا بِمَنْزِلَة الْحِفْظ فأنبتت الْكلأ والعشب الْكثير وَهَذَا هُوَ الْفَهم فِيهِ والمعرفة والاستنباط فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَة انبات الْكلأ والعشب بِالْمَاءِ فَهَذَا مثل الْحفاظ الْفُقَهَاء اهل الرِّوَايَة والدراية الْقسم الثَّانِي اهل الْحِفْظ الَّذين رزقوا حفظه وَنَقله وَضَبطه وَلم يرزقوا تفقها فِي مَعَانِيه وَلَا استنباطا وَلَا استخراجا لوجوه الحكم والفوائد مِنْهُ فهم بِمَنْزِلَة من يقرا الْقُرْآن ويحفظه ويراعي حُرُوفه واعرابه وَلم يرْزق فِيهِ فهما خَاصّا عَن الله كَمَا قَالَ على ابْن ابي طَالب رضى الله عَنهُ إِلَّا فهما يؤتيه الله عبدا فِي كِتَابه وَالنَّاس متفاوتون فِي الْفَهم عَن الله وَرَسُوله اعظم تفَاوت فَرب شخص يفهم من النَّص حكما اَوْ حكمين وَيفهم مِنْهُ الآخر مائَة اَوْ مِائَتَيْنِ فَهَؤُلَاءِ بِمَنْزِلَة الارض الَّتِي امسكت المَاء للنَّاس فانتفعوا بِهِ هَذَا يشرب مِنْهُ وَهَذَا يسقى وَهَذَا يزرع فَهَؤُلَاءِ القسمان هم السُّعَدَاء والاولون ارْفَعْ دَرَجَة واعلى قدرا وَذَلِكَ فضل الله يؤتيه من يَشَاء وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم الْقسم الثَّالِث الَّذين لَا نصيب لَهُم مِنْهُ لَا حفظا وَلَا فهما وَلَا رِوَايَة وَلَا دراية بل هم بِمَنْزِلَة

ص: 60

الارض الَّتِي هِيَ قيعان لَا تنْبت وَلَا تمسك المَاء وَهَؤُلَاء هم الاشقياء والقسمان الاولان اشْتَركَا فِي الْعلم والتعليم كل بِحَسب مَا قبله وَوصل اليه فَهَذَا يعلم الفاظ الْقُرْآن ويحفظها وَهَذَا يعلم مَعَانِيه واحكامه وعلومه وَالْقسم الثَّالِث لَا علم وَلَا تَعْلِيم فهم الَّذين لم يرفعوا بهدى الله راسا وَلم يقبلوه وَهَؤُلَاء شَرّ من الانعام وهم وقود النَّار فقد اشْتَمَل هَذَا الحَدِيث الشريف الْعَظِيم على التَّنْبِيه على شرف الْعلم والتعليم وَعظم موقعه وشقاء من لَيْسَ من اهله وَذكر اقسام بني آدم بِالنِّسْبَةِ فِيهِ إِلَى شقيهم وسعيدهم وتقسم سعيدهم الى سَابق مقرب وَصَاحب يَمِين مقتصد وَفِيه دلَالَة على ان حَاجَة الْعباد الى الْعلم كحاجتهم الى الْمَطَر بل اعظم وانهم إِذا فقدوا الْعلم فهم بِمَنْزِلَة الارض الَّتِي فقدت الْغَيْث قَالَ الامام احْمَد النَّاس محتاجون الى الْعلم اكثر من حَاجتهم إِلَى الطَّعَام وَالشرَاب لَان الطَّعَام وَالشرَاب يحْتَاج اليه فِي الْيَوْم مرّة اَوْ مرَّتَيْنِ وَالْعلم يحْتَاج اليه بِعَدَد الانفاس وَقد قَالَ تَعَالَى انْزِلْ من السَّمَاء مَاء فسالت اودية بِقَدرِهَا فَاحْتمل السَّيْل زبدا رابيا وَمِمَّا يوقدون عَلَيْهِ فِي النَّار ابْتِغَاء حلية اَوْ مَتَاع زبد مثله كَذَلِك يضْرب الله الْحق وَالْبَاطِل شبه سُبْحَانَهُ الْعلم الَّذِي أنزلهُ على رَسُوله بِالْمَاءِ الَّذِي انزله من السَّمَاء لما يحصل لكل وَاحِد مِنْهُمَا من الْحَيَاة ومصالح الْعباد فِي معاشهم ومعادهم ثمَّ شبه الْقُلُوب بالاودية فَقلب كَبِير يسع علما كثيرا كواد عَظِيم يسع مَاء كثيرا وقلب صَغِيرا إِنَّمَا يسع علما قَلِيلا كواد صَغِير إِنَّمَا يسع مَاء قَلِيلا فَقَالَ فسالت اودية بِقَدرِهَا فَاحْتمل السَّيْل زبدا رابيا هَذَا مثل ضَرْبَة الله تَعَالَى للْعلم حِين تخالط الْقُلُوب بشاشته فَإِنَّهُ يسْتَخْرج مِنْهَا زبد الشُّبُهَات البالطة فيطفو على وَجه الْقلب كَمَا يسْتَخْرج السَّيْل من الْوَادي زبدا يَعْلُو فقوق المَاء وَأخْبر سُبْحَانَهُ انه راب يطفو ويعلو على المَاء لايستقر فِي ارْض الْوَادي كَذَلِك الشُّبُهَات الْبَاطِلَة إِذا أخرجهَا الْعلم ربت فَوق الْقُلُوب وطفت فَلَا تَسْتَقِر فِيهِ بل تجفى وترمى فيستقر فِي الْقلب مَا ينفع صَاحبه وَالنَّاس من الْهدى وَدين الْحق كَمَا يسْتَقرّ فِي الْوَادي المَاء الصافي وَيذْهب الزّبد جفَاء وَمَا يعقل عَن الله امثاله إِلَّا الْعَالمُونَ ثمَّ ضرب سُبْحَانَهُ لذَلِك مثلا آخر فَقَالَ وَمِمَّا يوقدون عَلَيْهِ فِي النَّار ابْتِغَاء حلية اَوْ مَتَاع زبد مثله يَعْنِي أَن مِمَّا يُوقد عَلَيْهِ بَنو آدم من الذَّهَب وَالْفِضَّة والنحاس وَالْحَدِيد يخرج مِنْهُ خبثه وَهُوَ الزّبد الَّذِي تلقيه النَّار وتخرجه من ذَلِك الْجَوْهَر بِسَبَب مخالطتها فَإِنَّهُ يقذف ويلقى بِهِ ويستقر الْجَوْهَر الْخَالِص وَحده وَضرب سُبْحَانَهُ مثلا بِالْمَاءِ لما فِيهِ من الْحَيَاة والتبريد وَالْمَنْفَعَة ومثلا بالنَّار لما فِيهَا من الاضاءة والاشراف والاحراق فآيات الْقُرْآن تحيي الْقُلُوب كَمَا تحيا الارض بِالْمَاءِ وَتحرق خبثها وشبهاتها وشهواتها وسخائمها كَمَا تحرق النَّار مَا يلقى فِيهَا وتميز جيدها من زبدها كَمَا تميز النَّار الْخبث من الذَّهَب وَالْفِضَّة والنحاس وَنَحْوه مِنْهُ فَهَذَا بعض مَا فِي هَذَا الْمثل الْعَظِيم من العبر وَالْعلم قَالَ الله تَعَالَى وَتلك

ص: 61

الامثال نَضْرِبهَا للنَّاس وَمَا يَعْقِلهَا الا الْعَالمُونَ الْوَجْه الثَّالِث والاربعون مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ ايضا من حَدِيث سهل بن سعد رضى الله عَنهُ ان رَسُول الله قَالَ لعَلي رضى الله عَنهُ لَان يهدي الله بك رجلا وَاحِدًا خير لَك من حمر النعم وَهَذَا يدل على فضل الْعلم والتعليم وَشرف منزلَة اهله بِحَيْثُ إِذا اهْتَدَى رجل وَاحِد بالعالم كَانَ ذَلِك خيرا لَهُ من حمر النعم وَهِي خِيَارهَا واشرفها عِنْد أَهلهَا فَمَا الظَّن بِمن يَهْتَدِي بِهِ كل يَوْم طوائف من النَّاس الْوَجْه الرَّابِع والاربعون مَا روى مُسلم فِي صحيحيه من حَدِيث ابي هُرَيْرَة رضى الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم

من دَعَا الى هدى كَانَ لَهُ من الاجر مثل اجور من تبعه لَا ينقص ذَلِك من اجورهم شَيْئا وَمن دَعَا الى ضَلَالَة كَانَ عَلَيْهِ من الاثم مثل آثام من تبعه لَا ينقص ذَلِك من آثامهم شَيْئا اخبر ان المتسبب الى الْهدى بدعوته لَهُ مثل اجْرِ من اهْتَدَى بِهِ والمتسبب الى الضَّلَالَة بدعوته عَلَيْهِ مثل إِثْم من ضل بِهِ لَان هَذَا بذل قدرته فِي هِدَايَة النَّاس وَهَذَا بذل قدرته فِي ضلالتهم فَنزل كل وَاحِد مِنْهُمَا بِمَنْزِلَة الْفَاعِل التَّام وَهَذِه قَاعِدَة الشَّرِيعَة كَمَا هُوَ مَذْكُور فِي غير هَذَا الْموضع قَالَ تَعَالَى ليحملوا اوزارهم كَامِلَة يَوْم الْقِيَامَة وَمن اوزار الَّذين يضلونهم بِغَيْر علم الا سَاءَ مَا يزرون وَقَالَ تَعَالَى وليحملن اثقالهم واثقالا مَعَ اثقالهم وَهَذَا يدل على ان من دَعَا الامة إِلَى غير سنة رَسُول الله فهوعدوه حَقًا لانه قطع وُصُول اجْرِ من اهْتَدَى بسنته اليه وَهَذَا من اعظم معاداته نَعُوذ بِاللَّه من الخذلان الْوَجْه الْخَامِس والاربعون مَا خرجا فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث ابْن مَسْعُود رضى الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله لَا حسد إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رجل آتَاهُ الله مَالا فَسَلَّطَهُ على هَلَكته فِي الْحق وَرجل آتَاهُ الله الْحِكْمَة فَهُوَ يقْضى بهَا وَيعلمهَا فاخبر انه لَا يَنْبَغِي لَاحَدَّ ان يحْسد احدا يَعْنِي حسد غِبْطَة ويتمنى مثل حَاله من غير ان يتَمَنَّى زَوَال نعْمَة الله عَنهُ إِلَّا فِي وَاحِدَة من هَاتين الخصلتين وَهِي الاحسان الى النَّاس بِعِلْمِهِ اَوْ بِمَالِه وَمَا عدا هذَيْن فَلَا يَنْبَغِي غبطته وَلَا تمنى مثل حَاله لقلَّة مَنْفَعَة النَّاس بِهِ الْوَجْه السَّادِس والاربعون قَالَ التِّرْمِذِيّ حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الاعلى حَدثنَا سَلمَة بن رَجَاء حَدثنَا الْوَلِيد بن حميد حَدثنَا الْقَاسِم عَن ابي امامة الْبَاهِلِيّ قَالَ ذكر لرَسُول الله رجلَانِ احدهما عَالم وَالْآخر عَابِد فَقَالَ رَسُول الله فصل الْعَالم على العابد كفضلي على أدناكم ثمَّ قَالَ رَسُول الله ان الله وَمَلَائِكَته واهل السَّمَوَات والارض حَتَّى النملة فِي جحرها وَحَتَّى الْحُوت فِي الْبَحْر ليصلون على معلمي النَّاس الْخَيْر قَالَ التِّرْمِذِيّ هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب سَمِعت أَبَا عمار الْحُسَيْن ابْن حُرَيْث الْخُزَاعِيّ قَالَ سَمِعت الفضيل بن عِيَاض يَقُول عَالم عَامل معلم يدعى كَبِيرا فِي ملكوت السَّمَوَات وَهَذَا مروى عَن الصَّحَابَة قَالَ ابْن عَبَّاس عُلَمَاء هَذِه الامة رجلَانِ فَرجل اعطاه الله علما

ص: 62

فبذله للنَّاس وَلم يَأْخُذ عَلَيْهِ صفدا وَلم يشتر بِهِ ثمنا اولئك يصلى عَلَيْهِم طير السَّمَاء وحيتان الْبَحْر ودواب الارض والكرام الكاتبون وَرجل آتَاهُ الله علما فضن بِهِ عَن عباده واخذ بِهِ صفدا وَاشْترى بِهِ ثمنا فَذَلِك ياتي يَوْم الْقِيَامَة يلجم بلجام من نَار ذكره ابْن عبد الْبر مَرْفُوعا وَفِي رَفعه نظر وَقَوله ان الله وَمَلَائِكَته واهل السَّمَوَات والارض يصلونَ على معلم النَّاس الْخَيْر لما كَانَ تَعْلِيمه للنَّاس الْخَيْر سَببا لنجاتهم وسعادتهم وَزَكَاة نُفُوسهم جازاه الله من جنس عمله بَان جعل عَلَيْهِ من صلَاته وَصَلَاة مَلَائكَته واهل الارض مَا يكون سَببا لنجاته وسعادته وفلاحه وايضا فَإِن معلم النَّاس الْخَيْر لما كَانَ مظْهرا لدين الرب واحكامه ومعرفا لَهُم بأسمائه وَصِفَاته جعل الله من صلَاته وَصَلَاة أهل سمواته وأرضه عَلَيْهِ مَا يكون تنويها بِهِ وتشريفا لَهُ وإظهارا للثناء عَلَيْهِ بَين اهل السماءوالارض الْوَجْه السَّابِع والاربعون مَا رَوَاهُ ابو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ من حَدِيث ابي الدَّرْدَاء رضى الله عَنهُ قَالَ سَمِعت رَسُول الله يَقُول من سلك طَرِيقا يَبْتَغِي فِيهِ علما سلك الله بِهِ طَرِيقا الى الْجنَّة وَإِن الْمَلَائِكَة لتَضَع اجنحتها رضَا لطَالب الْعلم وان الْعَالم ليَسْتَغْفِر لَهُ من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الارض حَتَّى الْحيتَان فِي المَاء وَفضل الْعَالم على العابد كفضل الْقَمَر على سَائِر الْكَوَاكِب ان الْعلمَاء وَرَثَة الانبياء ان الانبياء لم يورثوا دِينَارا وَلَا درهما إِنَّمَا ورثوا الْعلم فَمن اخذه اخذ بحظ وافر وَقد رَوَاهُ الْوَلِيد بن مُسلم عَن خَالِد بن يزِيد عَن عُثْمَان ابْن ايمن عَن ابي الدَّرْدَاء قَالَ سَمِعت رَسُول الله يَقُول من غَدا لعلم يتعلمه فتح الله لَهُ بِهِ طَرِيقا الى الْجنَّة وفرشت لَهُ الْمَلَائِكَة اكنافها وصلت عَلَيْهِ مَلَائِكَة السَّمَاء وحيتان الْبَحْر وللعالم من الْفضل على العابد كفضل الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر على سَائِر الْكَوَاكِب وَالْعُلَمَاء وَرَثَة الانبياء ان الانبياء لم يورثوا دِينَارا وَلَا درهما إِنَّمَا ورثوا الْعلم فَمن اخذ بِالْعلمِ اخذ بحظ وافر وَمَوْت الْعَالم مُصِيبَة لَا تجبر وثلمة نسد وَنجم طمس وَمَوْت قَبيلَة ايسر من موت عَالم وَهَذَا حَدِيث حسن وَالطَّرِيق الَّتِي يسلكها الى الْجنَّة جَزَاء على سلوكه فِي الدُّنْيَا طَرِيق الْعلم الموصلة الى رضَا ربه وَوضع الْمَلَائِكَة اجنحتها لَهُ تواضعا لَهُ وتوقيرا وإكراما لما يحملهُ من مِيرَاث النُّبُوَّة ويطلبه وَهُوَ يدل على الْمحبَّة والتعظيم فَمن محبَّة الْمَلَائِكَة لَهُ وتعظيمه تضع اجنحتها لَهُ لِأَنَّهُ طَالب لما بِهِ حَيَاة الْعَالم ونجاته فَفِيهِ شبه من الْمَلَائِكَة وَبَينه وَبينهمْ تناسب فان الْمَلَائِكَة انصح خلق الله وانفعهم لبني آدم وعَلى ايديهم حصل لَهُم كل سَعَادَة وَعلم وَهدى وَمن نفعهم لبني آدم ونصحهم انهم يَسْتَغْفِرُونَ لمسيئهم ويثنون على مؤمنيهم ويعينونهم على اعدائهم من الشَّيَاطِين ويحرصون على مصَالح العَبْد اضعاف حرصه على مصلحَة نَفسه بل يُرِيدُونَ لَهُ من خير الدُّنْيَا والاخرة مَا لَا يُريدهُ العَبْد وَلَا يخْطر بِبَالِهِ كَمَا قَالَ بعض التَّابِعين وجدنَا الْمَلَائِكَة انصح خلق الله لِعِبَادِهِ وَوجدنَا الشَّيَاطِين اغش الْخلق للعباد وَقَالَ تَعَالَى الَّذين يحملون

ص: 63

الْعَرْش وَمن حوله يسبحون بِحَمْد رَبهم ويؤمنون بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ للَّذين آمنُوا رَبنَا وسعت كل شَيْء رَحْمَة وعلما فَاغْفِر للَّذين تَابُوا وَاتبعُوا سَبِيلك وقهم عَذَاب الْجَحِيم رَبنَا وادخلهم جنَّات عدن الَّتِي وعدتهم وَمن صلح من آبَائِهِم وازواجهم وذرياتهم إِنَّك انت الْعَزِيز الْحَكِيم وقهم السَّيِّئَات وَمن تق السَّيِّئَات يَوْمئِذٍ فقد رَحمته وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْز الْعَظِيم فَأَي نصح للعباد مثل هَذَا الا نصح الانبياء فَإِذا طلب العَبْد الْعلم فقد سعى فِي اعظم مَا ينصح بِهِ عباد الله فَلذَلِك تحبه الْمَلَائِكَة وتعظمه حَتَّى تضع اجنحتها لَهُ رضَا ومحبة وتعظيما وَقَالَ ابو حَاتِم الرَّازِيّ سَمِعت ابْن ابي اويس يَقُول سَمِعت مَالك بن انس يَقُول معنى قَول رَسُول الله تضع اجنحتها يَعْنِي تبسطها بِالدُّعَاءِ لطَالب الْعلم بَدَلا من الايدي وَقَالَ احْمَد بن مَرْوَان الْمَالِكِي فِي كتاب المجالسة لَهُ حَدثنَا زَكَرِيَّا بن عبد الرَّحْمَن الْبَصْرِيّ قَالَ سَمِعت احْمَد بن شُعَيْب يَقُول كُنَّا عِنْد بعض الْمُحدثين بِالْبَصْرَةِ فحدثنا بِحَدِيث النَّبِي ان الْمَلَائِكَة لتَضَع اجنحتها لطَالب الْعلم وَفِي الْمجْلس مَعنا رجل من الْمُعْتَزلَة فَجعل يستهزئ بِالْحَدِيثِ فَقَالَ وَالله لاطرقن غَدا نَعْلي بمسامير فأطأ بهَا أَجْنِحَة الْمَلَائِكَة فَفعل وَمَشى فِي النَّعْلَيْنِ فجفت رِجْلَاهُ جَمِيعًا وَوَقعت فيهمَا الاكلة وَقَالَ الطَّبَرَانِيّ سَمِعت أَبَا يحيى زَكَرِيَّا بن يحيى السَّاجِي قَالَ كُنَّا نمشي فِي بعض ازقة الْبَصْرَة إِلَى بَاب بعض الْمُحدثين فاسرعنا الْمَشْي وَكَانَ مَعنا رجل ماجن مِنْهُم فِي دينه فَقَالَ ارْفَعُوا ارجلكم عَن اجنحة الْمَلَائِكَة لاتكسروها كالمستهزيء فَمَا زَالَ من مَوْضِعه حَتَّى جَفتْ رِجْلَاهُ وَسقط وَفِي السّنَن وَالْمَسَانِيد من حَدِيث صَفْوَان ابْن عَسَّال بعسال قَالَ قلت يَا رَسُول الله إِنِّي جِئْت أطلب الْعلم قَالَ مرْحَبًا بطالب الْعلم إِن طَالب الْعلم لتحف بِهِ الْمَلَائِكَة وتظله بأجنحتها فيركب بَعضهم بَعْضًا حَتَّى تبلغ السَّمَاء الدنيامن حبهم لما يطْلب وَذكر حَدِيث الْمسْح على الْخُفَّيْنِ قَالَ ابوعبد الله الْحَاكِم اسناده صَحِيح وَقَالَ ابْن عبد الْبر هُوَ حَدِيث صَحِيح حسن ثَابت مَحْفُوظ مَرْفُوع وَمثله لَا يُقَال بِالرَّأْيِ فَفِي هَذَا الحَدِيث حف الْمَلَائِكَة لَهُ بأجنحتها الى السَّمَاء وَفِي الاول وَضعهَا اجنحتها لَهُ فالوضع تواضع وتوقير وتبجيل والحف بالاجنحة حفظ وحماية وصيانة فتضمن الحديثان تَعْظِيم الْمَلَائِكَة لَهُ وحبها اياه وحياطته وَحفظه فَلَو لم يكن لطَالب الْعلم إِلَّا هَذَا الْحَظ الجزيل لكفى بِهِ شرفا وفضلا وَقَوله ان الْعَالم ليَسْتَغْفِر لَهُ من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الارض حَتَّى الْحيتَان فِي المَاء فَإِنَّهُ لما كَانَ الْعَالم سَببا فِي حُصُول الْعلم الَّذِي بِهِ نجاة النُّفُوس من أَنْوَاع المهلكات وَكَانَ سَعْيه مفصورا على هَذَا وَكَانَت نجاة الْعباد على يَدَيْهِ جوزي من جنس عمله وَجعل من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض ساعيا فِي نجاته من اسباب الهلكات باستغفارهم لَهُ وَإِذا كَانَت الْمَلَائِكَة تستغفر للؤمنين فَكيف لَا تستغفر لخاصتهم وخلاصتهم وَقد قيل ان من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الارض المستغفرين

ص: 64

للْعَالم عَام فِي الْحَيَوَانَات ناطقها وبهيمها طيرها وَغَيره ويؤكد هَذَا قَوْله حَتَّى الْحيتَان فِي المَاء وَحَتَّى النملة فِي جحرها فَقيل سَبَب هَذَا الاسْتِغْفَار ان الْعَالم يعلم الْخلق مُرَاعَاة هَذِه الْحَيَوَانَات ويعرفهم مَا يحل مِنْهَا وَمَا يحرم ويعرفهم كَيْفيَّة تنَاولهَا واستخدامها وركوبها وَالِانْتِفَاع بهَا وَكَيْفِيَّة ذَبحهَا على احسن الْوُجُوه وارفقها بِالْحَيَوَانِ والعالم اشفق النَّاس على الْحَيَوَان واقومهم بِبَيَان مَا خلق لَهُ وَبِالْجُمْلَةِ فالرحمة والاحسان الَّتِي خلق بهما وَلَهُمَا الْحَيَوَان وَكتب لَهما حظهما مِنْهُ إِنَّمَا يعرف بِالْعلمِ فالعالم معرف لذَلِك فَاسْتحقَّ ان تستغفر لَهُ الْبَهَائِم وَالله أعلم وَقَوله وَفضل الْعَالم على العابد كفضل الْقَمَر على سَائِر الْكَوَاكِب تَشْبِيه مُطَابق لحَال الْقَمَر وَالْكَوَاكِب فان الْقَمَر يضيء الافاق ويمتد نوره فِي اقطار الْعَالم وَهَذِه حَال الْعَالم وَأما الْكَوْكَب فنوره لَا يُجَاوز نَفسه اَوْ مَا قرب مِنْهُ وَهَذِه حَال العابد الَّذِي يضيء نور عِبَادَته عَلَيْهِ دون غَيره وان جَاوز نور عِبَادَته غَيره فَإِنَّمَا يُجَاوِزهُ غير بعيد كَمَا يُجَاوز ضوء الْكَوْكَب لَهُ مُجَاوزَة يسيرَة وَمن هَذَا الاثر الْمَرْوِيّ إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة يَقُول الله للعابد ادخل الْجنَّة فَإِنَّمَا كَانَت منفعتك لنَفسك وَيُقَال للْعَالم اشفع تشفع فَإِنَّمَا كَانَت منفعتك للنَّاس وروى ابْن جريج عَن عطاءعن ابْن عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة يُؤْتى بالعابد والفقيه فَيُقَال للعابد ادخل الْجنَّة وَيُقَال للفقيه اشفع تشفع وَفِي التَّشْبِيه الْمَذْكُور لطيفه اخرى وَهُوَ ان الْجَهْل كالليل فِي ظلمته وجنسه وَالْعُلَمَاء والعباد بِمَنْزِلَة الْقَمَر وَالْكَوَاكِب الطالعة فِي تِلْكَ الظلمَة وَفضل نور الْعَالم فِيهَا على نور العابد كفضل نور الْقَمَر على الْكَوَاكِب وايضا فالدين قوامه وزينته واضاءته بعلمائه وعباده فَإِذا ذهب علماؤه وعباده ذهب الدّين كَمَا ان السَّمَاء اضاءتها وَزينتهَا بقمرها وكواكبها فَإِذا خسف قمرها وانتشرت كواكبها اتاها ماتوعد وَفضل عُلَمَاء الدّين على الْعباد كفضل مَا بَين الْقَمَر وَالْكَوَاكِب فَإِن قيل كَيفَ وَقع تَشْبِيه الْعَالم بالقمر دون الشَّمْس وَهِي اعظم نورا قيل فِيهِ فَائِدَتَانِ احداهما ان نور الْقَمَر لما كَانَ مستفادا من غَيره كَانَ تَشْبِيه الْعَالم الَّذِي نوره مُسْتَفَاد من شمس الرسَالَة بالقمر اولى من تشبيهه بالشمس الثَّانِيَة ان الشَّمْس لَا يخْتَلف حَالهَا فِي نورها وَلَا يلْحقهَا محاق وَلَا تفَاوت فِي الاضاءة واما الْقَمَر فَإِنَّهُ يقل نوره وَيكثر ويمتليء وَينْقص كَمَا ان الْعلمَاء فِي الْعلم على مَرَاتِبهمْ من كثرته وقلته فيفضل كل مِنْهُم فِي علمه بِحَسب كثرته وقلته وظهوره وخفائه كَمَا يكون الْقَمَر كَذَلِك فعالم كالبدر لَيْلَة تمه وَآخر دونه بليلة وثانية وثالثة وَمَا بعْدهَا إِلَى آخر مراتبه وهم دَرَجَات عِنْد الله فَإِن قيل تَشْبِيه الْعلمَاء بالنجوم أَمر مَعْلُوم كَقَوْلِه اصحابي كَالنُّجُومِ وَلِهَذَا هِيَ فِي تَعْبِير الرُّؤْيَا عبارَة عَن الْعلمَاء فَكيف وَقع تشبيههم هُنَا بالقمر قيل اما تَشْبِيه الْعلمَاء بالنجوم فَإِن النُّجُوم يهتدى بهَا فِي ظلمات الْبر وَالْبَحْر وَكَذَلِكَ الْعلمَاء والنجوم زِينَة للسماء

ص: 65

فَكَذَلِك الْعلمَاء زِينَة للآرض وَهِي رجوم للشياطين حائلة بَينهم وَبَين استراق السّمع لِئَلَّا يلبسوا بِمَا يسترقونه من الْوَحْي الْوَارِد الى الرُّسُل من الله على ايدي مَلَائكَته وَكَذَلِكَ الْعلمَاء رجوم لشياطين الانس وَالْجِنّ الَّذِي يُوحى بَعضهم الى بعض زخرف القَوْل غرُورًا فَالْعُلَمَاء رجوم لهَذَا الصِّنْف من الشَّيَاطِين ولولاهم لطمست معالم الدّين بتلبيس المضلين وَلَكِن الله سُبْحَانَهُ اقامهم حراسا وَحفظه لدينِهِ ورجوما لاعدائه واعداء رسله فَهَذَا وَجه تشبيههم بالنجوم وَأما تشبههم بالقمر فَذَلِك كَانَ فِي مقَام تَفْضِيلهمْ على اهل الْعِبَادَة الْمُجَرَّدَة وموازنة مَا بَينهمَا من الْفضل وَالْمعْنَى انهم يفضلون الْعباد الَّذين لَيْسُوا بعلماء كَمَا يفضل الْقَمَر سَائِر الْكَوَاكِب فَكل من التشبهين لَائِق بموضعه وَالْحَمْد لله وَقَوله ان الْعلمَاء وَرَثَة الانبياء هَذَا من اعظم المناقب لاهل الْعلم فَإِن الانبياء خير خلق الله فورثتهم خير الْخلق بعدهمْ وَلما كَانَ كل موروث ينْتَقل مِيرَاثه الى ورثته اذهم الَّذين يقومُونَ مقَامه من بعده وَلم يكن بعد الرُّسُل من يقوم مقامهم فِي تَبْلِيغ مَا ارسلوا بِهِ الا الْعلمَاء كَانُوا احق النَّاس بميراثهم وَفِي هَذَا تَنْبِيه على انهم اقْربْ النَّاس اليهم فَإِن الْمِيرَاث إِنَّا يكون لاقرب النَّاس الى الْمَوْرُوث وَهَذَا كَمَا انه ثَابت فِي مِيرَاث الدِّينَار وَالدِّرْهَم فَكَذَلِك هُوَ فِي مِيرَاث النُّبُوَّة وَالله يخْتَص برحمته من يَشَاء وَفِيه ايضا ارشاد وامر للْأمة بطاعهم واحترامهم وتعزيزهم وتوفيرهم وإجلالهم فَإِنَّهُم وَرَثَة من هَذِه بعض حُقُوقهم على الْأمة وخلفاؤهم فيهم وَفِيه تَنْبِيه على ان محبتهم من الدّين وبغضهم منَاف للدّين كَمَا هُوَ ثَابت لموروثهم وَكَذَلِكَ معاداتهم ومحاربتهم معاداة ومحاربة لله كَمَا هُوَ فِي موروثهم قَالَ على كرم الله وَجهه ورضى عَنهُ محبَّة الْعلمَاء دين يدان بِهِ وَقَالَ فِيمَا يرْوى عَن ربه عز وجل من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وورثة الانبياء سَادَات اولياء لله عز وجل وَفِيه تَنْبِيه للْعُلَمَاء على سلوك هدى الانبياء وطريقتهم فِي التَّبْلِيغ من الصَّبْر وَالِاحْتِمَال ومقابلة إساءة النَّاس اليهم بالاحسان والرفق بهم واستجلابهم الى الله باحسن الطّرق وبذل مَا يُمكن من النَّصِيحَة لَهُم فَإِنَّهُ بذلك يحصل لَهُ نصِيبهم من هَذَا الْمِيرَاث الْعَظِيم قدره الْجَلِيل خطره وَفِيه ايضا تَنْبِيه لاهل الْعلم على تربية الامة كَمَا يربى الْوَالِد وَلَده فيبربونهم بالتدريج والترقي من صغَار الْعلم إِلَى كباره وتحميلهم مِنْهُ مَا يُطِيقُونَ كَمَا يفعل الاب بولده الطِّفْل فِي ايصال الْغذَاء اليه فَإِن ارواح الْبشر بِالنِّسْبَةِ الى الانبياء وَالرسل كالاطفال بِالنِّسْبَةِ الى آبَائِهِم بل دون هَذِه النِّسْبَة بِكَثِير وَلِهَذَا كل روح لم تربها الرُّسُل لم تفلح وَلم تصلح لصالحه كَمَا قيل

وَمن لَا يربيه الرَّسُول ويسقه

لبانا لَهُ قد در من ثدي قدسه فَذَاك لَقِيط مَاله نِسْبَة الولا

وَلَا يتَعَدَّى طور ابناء جنسه

وَقَوله ان الانبياء لم يورثوا دِينَارا وَلَا درهما إِنَّمَا ورثوا الْعلم هَذَا من كَمَال الانبياء وَعظم

ص: 66

نصحهمْ للأمم وَتَمام نعْمَة الله عَلَيْهِم وعَلى اممهم ان ازاح جَمِيع الْعِلَل وحسم جَمِيع الْموَاد الَّتِي توهم بعض النُّفُوس ان الانبياء من وجنس الْمُلُوك الَّذين يُرِيدُونَ الدُّنْيَا وملكها فحماهم الله سبحانه وتعالى من ذَلِك اتم الحماية ثمَّ لما كَانَ الْغَالِب على النَّاس ان احدهم يُرِيد الدُّنْيَا لوَلَده من بعده وَيسْعَى ويتعب وَيحرم نَفسه لوَلَده سد هَذِه الذريعة عَن انبيائه وَرُسُله وَقطع هَذَا الْوَهم الَّذِي عساه ان يخالط كثيرا من النُّفُوس الَّتِي تَقول فَلَعَلَّهُ ان لم يطْلب الدُّنْيَا لنَفسِهِ فَهُوَ يحصلها لوَلَده فَقَالَ نَحن معاشر الانبياء لَا نورث مَا تركنَا هُوَ صَدَقَة فَلم تورث الانبياء دِينَارا وَلَا درهما وَإِنَّمَا ورثوا الْعلم واما قَوْله تَعَالَى وَورث سُلَيْمَان دَاوُد فَهُوَ مِيرَاث الْعلم والنبوة لَا غير وَهَذَا بِاتِّفَاق اهل الْعلم من الْمُفَسّرين وَغَيرهم وَهَذَا لَان دَاوُد عليه السلام كَانَ لَهُ اولاد كَثِيرَة سوى سُلَيْمَان فَلَو كَانَ الْمَوْرُوث هُوَ المَال لم يكن سُلَيْمَان مُخْتَصًّا بِهِ وايضا فَإِن كَلَام الله يصان عَن الاخبار بِمثل هَذَا فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَة ان يُقَال مَاتَ فلَان وَورثه ابْنه وَمن الْمَعْلُوم ان كل اُحْدُ يَرِثهُ ابْنه وَلَيْسَ فِي الاخبار بِمثل هَذَا فَائِدَة وايضا فَإِن مَا قبل الاية وَمَا بعْدهَا يبين ان المُرَاد بِهَذِهِ الوراثة وراثة الْعلم والنبوة لَا وراثة المَال قَالَ تَعَالَى وَلَقَد آتَيْنَا دَاوُود وَسليمَان علما وَقَالا الْحَمد لله الَّذِي فضلنَا على كثير من عباده الْمُؤمنِينَ وَورث سُلَيْمَان دَاوُود وَإِنَّمَا سيق هَذَا لبَيَان فضل سُلَيْمَان وَمَا خصّه الله بِهِ من كرامته وميراثه مَا كَانَ لابيه من اعلى الْمَوَاهِب وَهُوَ الْعلم والنبوة ان هَذَا لَهو الْفضل الْمُبين وَكَذَلِكَ قَول زَكَرِيَّا عليه الصلاة والسلام وَإِنِّي خفت الموَالِي من ورائي وَكَانَت امْرَأَتي عاقرا فَهَب لي من لَدُنْك وليا يَرِثنِي وَيَرِث من آل يَعْقُوب واجعله رب رَضِيا فَهَذَا مِيرَاث الْعلم والنبوة والدعوة الى الله وَإِلَّا فَلَا يظنّ بني كريم انه يخَاف عصبته ان يرثوه مَاله فَيسْأَل الله الْعَظِيم ولدا يمنعهُم مِيرَاثه وَيكون احق بِهِ مِنْهُم وَقد نزه الله انبياءه وَرُسُله عَن هَذَا وَأَمْثَاله فبعدا لمن حرف كتاب الله ورد على رَسُوله كَلَامه وَنسب الانبياء الى مَا هم بُرَآء منزهون عَنهُ وَالْحَمْد لله على توفيقه وهدايته وَيذكر عَن ابي هُرَيْرَة رضى الله عَنهُ انه مر بِالسوقِ فَوَجَدَهُمْ فِي تجاراتهم وبيوعاتهم فَقَالَ انتم هَهُنَا فِيمَا انتم فِيهِ وميراث رَسُول الله يقسم فِي مَسْجده فَقَامُوا سرَاعًا الى الْمَسْجِد فَلم يَجدوا فِيهِ الا الْقُرْآن وَالذكر ومجالس الْعلم فَقَالُوا ايْنَ مَا قلت يَا أَبَا هُرَيْرَة فَقَالَ هَذَا مِيرَاث مُحَمَّد يقسم بَين ورثته وَلَيْسَ بمواريثكم ودنياكم اَوْ كَمَا قَالَ وَقَوله فَمن اخذه اخذ بحظ وافر اعظم الحظوظ واجداها مانفع العَبْد ودام نَفعه لَهُ وَلَيْسَ هَذَا الا حَظه من الْعلم وَالدّين فَهُوَ الْحَظ الدَّائِم النافع الَّذِي إِذا انْقَطَعت الحظوظ لاربابها فَهُوَ مَوْصُول لَهُ ابد الابدين وَذَلِكَ لانه مَوْصُول بالحي الَّذِي لَا يَمُوت فَلذَلِك لاينقطع وَلَا يفوت وَسَائِر الحظوظ تعدم وتتلاشى بتلاشي متعلقاتها كَمَا قَالَ تَعَالَى وَقدمنَا الى مَا عمِلُوا من عمل فجعلناه هباءمنثورا فَإِن الْغَايَة لما كَانَت مُنْقَطِعَة زائلة تبعتها اعمالهم فَانْقَطَعت

ص: 67

عَنْهُم احوج مَا يكون الْعَامِل الى عمله وَهَذِه هِيَ الْمُصِيبَة الَّتِي لَا تجبر عياذا بِاللَّه واستعانة بِهِ وافتقارا وتوكلا عَلَيْهِ وَلَا حول وَلَا قُوَّة الا بِاللَّه وَقَوله موت الْعَالم مُصِيبَة لاتجبر وثلمة لَا تسد وَنجم طمس وَمَوْت قَبيلَة ايسر من موت عَالم لما كَانَ صَلَاح الْوُجُود بالعلماء ولولاهم كَانَ النَّاس كَالْبَهَائِمِ بل أَسْوَأ حَالا كَانَ موت الْعَالم مُصِيبَة لَا يجبرها الا خلف غَيره لَهُ وايضا فَإِن الْعلمَاء هم الَّذين يسوسون الْعباد والبلاد والممالك فموتهم فَسَاد لنظام الْعَالم وَلِهَذَا لَا يزَال الله يغْرس فِي هَذَا الدّين مِنْهُم خالفا عَن سالف يحفظ بهم دينه وَكتابه وعباده وَتَأمل إِذا كَانَ فِي الْوُجُود رجل قد فاق الْعَالم فِي الْغنى وَالْكَرم وحاجتهم الى مَا عِنْده شَدِيدَة وَهُوَ محسن اليهم بِكُل مُمكن ثمَّ مَاتَ وانقطعت عَنْهُم تِلْكَ الْمَادَّة فموت الْعَالم اعظم مُصِيبَة من موت مثل هَذَا بِكَثِير وَمثل هَذَا يَمُوت بِمَوْتِهِ أُمَم وخلائق كَمَا قيل:

تعلم مَا الرزية فقد مَال

وَلَا شَاة تَمُوت وَلَا بعير

وَلَكِن الرزية فقد حر

يَمُوت بِمَوْتِهِ بشر كثير وَقَالَ آخر

فَمَا كَانَ قيس هلكه هلك وَاحِد

وَلكنه بُنيان قوم تهدما وَالْوَجْه الثَّامِن والاربعون مَا روى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث الْوَلِيد بن مُسلم حَدثنَا روح بن جنَاح عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله فَقِيه اشد على الشَّيْطَان من الف عَابِد قَالَ التِّرْمِذِيّ غَرِيب لانعرفه الا من هَذَا الْوَجْه من حَدِيث الْوَلِيد بن مُسلم قلت قد رَوَاهُ ابو جَعْفَر مُحَمَّد بن الْحسن بن عَليّ اليقطيني حَدثنَا عمر بن سعيد بن سِنَان حَدثنَا هِشَام بن عمار حَدثنَا الْوَلِيد بن مُسلم حَدثنَا روح بن جنَاح عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب عَن ابي هُرَيْرَة عَن النَّبِي قَالَ الْخَطِيب والاول هُوَ الْمَحْفُوظ عَن روح مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس وَمَا أرى الْوَهم وَقع فِي هَذَا الحَدِيث إِلَّا من ابي جَعْفَر لَان عمر بن سِنَان عِنْده عَن هِشَام بن عمار عَن الْوَلِيد عَن روح عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد حَدِيث فِي السَّمَاء بَيت يُقَال لَهُ الْبَيْت الْمَعْمُور حِيَال الْكَعْبَة وَحَدِيث ابْن عَبَّاس كَانَا فِي كتاب ابْن سِنَان عَن هِشَام يَتْلُو احدهما الاخر فَكتب ابو جَعْفَر اسناد حَدِيث ابي هُرَيْرَة رضى الله عَنهُ ثمَّ عَارضه لسهو اوزاغ نظره فَنزل الى متن حَدِيث ابْن عَبَّاس فَركب متن هَذَا على اسناد هَذَا وكل وَاحِد مِنْهُمَا ثِقَة مَأْمُون برِئ من تعمد الْغَلَط وَقد رَوَاهُ ابو احْمَد بن عدي عَن مُحَمَّد بن سعيد بن مهْرَان حَدثنَا شَيبَان ابو الرّبيع السمان عَن ابي الزِّنَاد عَن الاعرج عَن ابي هُرَيْرَة رضى الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله لكل شَيْء دعامة ودعامة الاسلام الْفِقْه فِي الدّين والفقيه اشد على الشَّيْطَان من ألف

ص: 68

عَابِد وَلِهَذَا الحَدِيث عِلّة وَهُوَ انه روى من كَلَام ابي هُرَيْرَة وَهُوَ اشبه رَوَاهُ همام بن يحيى حَدثنَا يزِيد بن عِيَاض حَدثنَا صَفْوَان بن سليم عَن سُلَيْمَان عَن يسَار عَن ابي هُرَيْرَة رضى الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله مَا عبد الله بِشَيْء افضل من فقه فِي الدّين قَالَ وَقَالَ ابو هُرَيْرَة لَان افقه سَاعَة احب الي من ان احيي لَيْلَة اصليها حَتَّى اصبح والفقيه اشد على الشَّيْطَان من ألف عَابِد وَلكُل شَيْء دعامة ودعامة الدّين الْفِقْه وَقد روى باسناد فِيهِ من لَا يحْتَج بِهِ من حَدِيث عَاصِم بن ابي النجودعن زر بن حُبَيْش عَن عمر بن الْخطاب يرفعهُ ان الْفَقِيه اشد على الشَّيْطَان من الف ورع وَألف مُجْتَهد والف متعبد وَقَالَ الْمُزنِيّ روى عَن ابْن عَبَّاس انه قَالَ ان الشَّيَاطِين قَالُوا لابليس يَا سيدنَا مالنا نرَاك تفرح بِمَوْت الْعَالم مَالا تفرح بِمَوْت العابد والعالم لَا نصيب مِنْهُ وَالْعَابِد نصيب مِنْهُ قَالَ انْطَلقُوا فَانْطَلقُوا الى عَابِد فاتوه فِي عِبَادَته فَقَالُوا إِنَّا نُرِيد ان نَسْأَلك فَانْصَرف فَقَالَ ابليس هَل يقدر رَبك ان يَجْعَل الدُّنْيَا فِي جَوف بَيْضَة فَقَالَ لَا أَدْرِي فَقَالَ اترونه كفر فِي سَاعَة ثمَّ جاؤوا الى عَالم فِي حلقته يضْحك اصحابه ويحدثهم فَقَالُوا إِنَّا نُرِيد ان نَسْأَلك فَقَالَ سل فَقَالَ هَل يقدر رَبك ان يَجْعَل الدُّنْيَا فِي جَوف بَيْضَة قَالَ نعم قَالُوا كَيفَ قَالَ يَقُول كن فَيكون فَقَالَ أَتَرَوْنَ ذَلِك لَا يعدو نَفسه وَهَذَا يفْسد على عَالما كثيرا وَقد رويت هَذِه الْحِكَايَة على وَجه آخر وَإِنَّهُم سَأَلُوا العابد فَقَالُوا هَل يقدر رَبك أَن يخلق مثل نَفسه فَقَالَ لاادري فَقَالَ اترونه لم تَنْفَعهُ عِبَادَته مَعَ جَهله وسألوا عَن ذَلِك فَقَالَ هَذِه الْمَسْأَلَة محَال لِأَنَّهُ لَو كَانَ مثله لم يكن مخلوقا فكونه مخلوقا وَهُوَ مثل نَفسه مُسْتَحِيل فَإِذا كَانَ مخلوقا لم يكن مثله بل كَانَ عبدا من عبيده وخلقا من خلقه فَقَالَ أَتَرَوْنَ ذَلِك اترون هَذَا يهدم فِي سَاعَة مَا ابنيه فِي سِنِين اوكما قَالَ وروى عَن عبد الله بن عَمْرو فضل الْعَالم على العابد سبعين دَرَجَة بَين كل دَرَجَتَيْنِ حضر الْفرس سبعين عَاما وَذَلِكَ ان الشَّيْطَان يضع الْبِدْعَة فيبصرها الْعَالم وَينْهى عَنْهَا وَالْعَابِد مقبل على عبَادَة ربه لَا يتَوَجَّه لَهَا وَلَا يعرفهَا وَهَذَا مَعْنَاهُ صَحِيح فَإِن الْعَالم يفْسد على الشَّيْطَان مَا يسْعَى فِيهِ ويهدم مَا يبنيه فَكل مَا أَرَادَ إحْيَاء بِدعَة وإماتة سنة حَال الْعَالم بَينه وَبَين ذَلِك فَلَا شَيْء اشد عَلَيْهِ من بَقَاء الْعَالم بَين ظهراني الامة وَلَا شَيْء احب اليه من زَوَاله من بَين اظهرهم ليتَمَكَّن من إِفْسَاد الدّين وإغواء الامة وَأما العابد فغايته ان يجاهده ليسلم مِنْهُ فِي خَاصَّة نَفسه وهيهات لَهُ ذَلِك الْوَجْه التَّاسِع والاربعون مَا روى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث ابي هُرَيْرَة رضى الله عَنهُ قَالَ سَمِعت رَسُول الله يَقُول الدُّنْيَا ملعونة مَلْعُون مَا فِيهَا إِلَّا ذكر الله وَمَا وَالَاهُ وعالم ومتعلم قَالَ التِّرْمِذِيّ هَذَا حَدِيث حسن وَلما كَانَت الدُّنْيَا حقيرة عِنْد الله لاتساوي لَدَيْهِ جنَاح بعوضة كَانَت وَمَا فِيهَا فِي غَايَة الْبعد مِنْهُ وَهَذَا هُوَ حَقِيقَة اللَّعْنَة وَهُوَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا خلقهَا مزرعة للآخرة ومعبرا اليها يتزود مِنْهَا عبَادَة اليه فَلم يكن يقرب مِنْهَا إِلَّا مَا كَانَ متضمنا

ص: 69

لاقامة ذكره ومفضيا الى محابه وهوالعلم الَّذِي بِهِ يعرف الله ويعبد وَيذكر ويثنى عَلَيْهِ ويمجد وَلِهَذَا خلقهَا وَخلق اهلها كَمَا قَالَ تَعَالَى وَمَا خلقت الْجِنّ والانس الا ليعبدون {وَقَالَ} الله الَّذِي خلق سبع سموات وَمن الارض مِثْلهنَّ يتنزل الامر بَينهُنَّ لِتَعْلَمُوا ان الله على كل شَيْء قدير وان الله قد احاط بِكُل شَيْء علما فتضمنت هَاتَانِ الايتان انه سُبْحَانَهُ إِنَّمَا خلق السَّمَوَات والارض وَمَا بَينهمَا ليعرف باسمائه وَصِفَاته وليعبد فَهَذَا الْمَطْلُوب وَمَا كَانَ طَرِيقا اليه من الْعلم والتعلم فَهُوَ الْمُسْتَثْنى من اللَّعْنَة واللعنة وَاقعَة على مَا عداهُ إِذْ هُوَ بعيد عَن الله وَعَن محابه وَعَن دينه وَهَذَا هُوَ مُتَعَلق الْعقَاب فِي الاخرة فَإِنَّهُ كَمَا كَانَ مُتَعَلق اللَّعْنَة الَّتِي تضمن الذَّم والبغض فَهُوَ مُتَعَلق الْعقَاب وَالله سُبْحَانَهُ إِنَّمَا يحب من عباده ذكره وعبادته ومعرفته ومحبته ولوازم ذَلِك وَمَا افضى اليه وَمَا عداهُ فَهُوَ مبغوض لَهُ مَذْمُوم عِنْده الْوَجْه الْخَمْسُونَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث ابي جَعْفَر الرَّازِيّ عَن الرّبيع بن انس قَالَ قَالَ رَسُول الله من خرج فِي طلب الْعلم فَهُوَ فِي سَبِيل الله حَتَّى يرجع قَالَ التِّرْمِذِيّ هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب رَوَاهُ بَعضهم فَلم يرفعهُ وَإِنَّمَا جعل طلب الْعلم من سَبِيل الله لَان بِهِ قوام الاسلام كَمَا ان قوامه بِالْجِهَادِ فقوام الدّين بِالْعلمِ وَالْجهَاد وَلِهَذَا كَانَ الْجِهَاد نَوْعَيْنِ جِهَاد بِالْيَدِ والسنان وَهَذَا المشارك فِيهِ كثير وَالثَّانِي الْجِهَاد بِالْحجَّةِ وَالْبَيَان وَهَذَا جِهَاد الْخَاصَّة من اتِّبَاع الرُّسُل وَهُوَ جِهَاد الائمة وَهُوَ افضل الجهادين لعظم منفعَته وَشدَّة مُؤْنَته وَكَثْرَة اعدائه قَالَ تَعَالَى فِي سُورَة الْفرْقَان وَهِي مَكِّيَّة وَلَو شِئْنَا لبعثنا فِي كل قَرْيَة نذيرا فلاتطع الْكَافرين وجاهدهم بِهِ جهادا كَبِيرا فَهَذَا جِهَاد لَهُم بِالْقُرْآنِ وَهُوَ أكبر الجهادين وَهُوَ جِهَاد الْمُنَافِقين ايضا فَإِن الْمُنَافِقين لم يَكُونُوا يُقَاتلُون الْمُسلمين بل كانوامعهم فِي الظَّاهِر وَرُبمَا كَانُوا يُقَاتلُون عدوهم مَعَهم وَمَعَ هَذَا فقد قَالَ تَعَالَى يَا أَيهَا النَّبِي جَاهد الْكفَّار وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِم وَمَعْلُوم ان جِهَاد الْمُنَافِقين بِالْحجَّةِ وَالْقُرْآن وَالْمَقْصُود ان سَبِيل الله هِيَ الْجِهَاد وَطلب الْعلم ودعوة الْخلق بِهِ الى الله وَلِهَذَا قَالَ معَاذ رضى الله عَنهُ عَلَيْكُم بِطَلَب الْعلم فَإِن تعلمه لله خشيَة ومدارسته عبَادَة ومذاكرته تَسْبِيح والبحث عَنهُ جِهَاد وَلِهَذَا قرن سُبْحَانَهُ بَين الْكتاب الْمنزل وَالْحَدِيد النَّاصِر كَمَا قَالَ تَعَالَى لقد ارسلنا رسلنَا بِالْبَيِّنَاتِ وأنزلنا مَعَهم الْكتاب واميزان ليقوم النَّاس بِالْقِسْطِ وانزلنا الْحَدِيد فِيهِ بَأْس شَدِيد وَمَنَافع للنَّاس وليعلم الله من ينصره وَرُسُله بِالْغَيْبِ ان الله قوي عَزِيز فَذكر الْكتاب وَالْحَدِيد إِذْ بهما قوام الدّين كَمَا قيل:

فَمَا هُوَ إِلَّا الْوَحْي اوحدمرهف

تميل ظباه اخدعا كل مَا يل

فَهَذَا شِفَاء الدَّاء من كل عَاقل

وَهَذَا دَوَاء الدَّاء من كل جَاهِل

وَلما كَانَ كل من الْجِهَاد بِالسَّيْفِ وَالْحجّة يُسمى سَبِيل الله فسر الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم

ص: 70

{قَوْله} اطيعوا الله واطيعوا الرَّسُول واولي الامر مِنْكُم بالامراء وَالْعُلَمَاء فَإِنَّهُم المجاهدون فِي سَبِيل الله هَؤُلَاءِ بِأَيْدِيهِم وَهَؤُلَاء بالسنتم بألسنتهم فَطلب الْعلم وتعليمه من اعظم سَبِيل الله عز وجل قَالَ كَعْب الاحبار طَالب الْعلم كالغادي الرايح فِي سَبِيل الله عز وجل وَجَاء عَن بعض الصَّحَابَة رضى الله عَنْهُم إِذا جَاءَ الْمَوْت طَالب الْعلم وَهُوَ على هَذِه الْحَال مَاتَ وَهُوَ شَهِيد وَقَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة من طلب الْعلم فقد بَايع الله عز وجل وَقَالَ ابو الدَّرْدَاء من رأى الغدو والرواح الى الْعلم لَيْسَ بجهاد فقد نقص فِي عقله ورأيه الْوَجْه الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ حَدثنَا مَحْمُود بن غيلَان حَدثنَا ابو اسامة عَن الاعمش عَن ابي صَالح عَن ابي هُرَيْرَة قَالَ قَالَ رَسُول الله من سلك طَرِيقا يلْتَمس فِيهِ علما سهل الله لَهُ طَرِيقا الى الْجنَّة قَالَ التِّرْمِذِيّ هَذَا حَدِيث حسن قَالَ بَعضهم وَلم يقل فِي هَذَا الحَدِيث صَحِيح لانه يُقَال دلّس الاعمش فِي هَذَا الحَدِيث لانه رَوَاهُ بَعضهم فَقَالَ حدثت عَن ابي صَالح والْحَدِيث رَوَاهُ مُسلم فِي صَحِيحه من اوجه عَن الاعمش عَن ابي صَالح قَالَ الْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرك هُوَ صَحِيح على شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم رَوَاهُ عَن الاعمش جمَاعَة مِنْهُم زايدة وَأَبُو مُعَاوِيَة وَابْن نمير وَقد تقدم حَدِيث ابي الدَّرْدَاء فِي ذَلِك والْحَدِيث مَحْفُوظ وَله اصل وَقد تظاهر الشَّرْع وَالْقدر على ان الْجَزَاء من جنس الْعَمَل فَكَمَا سلك طَرِيقا يطْلب فِيهِ حَيَاة قلبه ونجاته من الْهَلَاك سلك الله بِهِ طَرِيقا يحصل لَهُ ذَلِك وَقد روى من حَدِيث عَائِشَة رَوَاهُ ابْن عدي من حَدِيث مُحَمَّد بن عبد الْملك الانصاري عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَنْهَا مَرْفُوعا وَلَفظه اوحى الله الى انه من سلك مسلكا يطْلب الْعلم سهلت لَهُ طَرِيقا الى الْجنَّة الْوَجْه الثَّانِي الْخَمْسُونَ ان النَّبِي دَعَا لمن سمع كَلَامه ووعاه وبلغه بالنضرة وَهِي الْبَهْجَة ونضارة الْوَجْه وتحسينه فَفِي التِّرْمِذِيّ وَغَيره من حَدِيث ابْن مَسْعُود عَن النَّبِي قَالَ نضر الله امرا سمع مَقَالَتي فوعاها وحفظها وَبَلغهَا فَرب حَامِل فقه الى من هُوَ افقه مِنْهُ ثَلَاث لَا يغل عَلَيْهِنَّ قلب مُسلم اخلاص الْعَمَل لله ومناصحة ائمة الْمُسلمين وَلُزُوم جَمَاعَتهمْ فَإِن دعوتهم تحيط من ورائهم وروى هَذَا الاصل عَن النَّبِي ابْن مَسْعُود ومعاذ بن جبل وَأَبُو الدَّرْدَاء وَجبير بن مطعم وانس بن مَالك وَزيد بن ثَابت والنعمان بن بشير قَالَ التِّرْمِذِيّ حَدِيث ابْن مَسْعُود حَدِيث حسن صَحِيح وَحَدِيث زيد بن ثَابت حَدِيث حسن وَأخرج الْحَاكِم فِي صَحِيحه حَدِيث جُبَير بن مطعم والنعمان بن بشير وَقَالَ فِي حَدِيث جُبَير على شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم وَلَو لم يكن فِي فضل الْعلم الا هَذَا وَحده لكفى بِهِ شرفا فَإِن النَّبِي دَعَا لمن سمع كَلَامه ووعاه وَحفظه وبلغه وَهَذِه هِيَ مَرَاتِب الْعلم اولها وَثَانِيها سَمَاعه وعقله فَإِذا سَمعه وعاه بِقَلْبِه أَي عقله وَاسْتقر فِي قلبه كَمَا يسْتَقرّ الشَّيْء الَّذِي يوعى فِي وعائه وَلَا يخرج مِنْهُ

ص: 71

وَكَذَلِكَ عقله هُوَ بِمَنْزِلَة عقل الْبَعِير وَالدَّابَّة وَنَحْوهَا حَتَّى لَا تشرد وَتذهب وَلِهَذَا كَانَ الوعي وَالْعقل قدرا زَائِدا على مُجَرّد إِدْرَاك الْمَعْلُوم الْمرتبَة الثَّالِثَة تعامده وَحفظه حَتَّى لاينساه فَيذْهب الْمرتبَة الرَّابِعَة تبليغه وبثه فِي الامة ليحصل بِهِ ثَمَرَته ومقصوده وَهُوَ بثه فِي الامة فَهُوَ بِمَنْزِلَة الْكَنْز المدفون فِي الارض الَّذِي لَا ينْفق مِنْهُ وَهُوَ معرض لذهابه فَإِن الْعلم مَا لم ينْفق مِنْهُ وَيعلم فَإِنَّهُ يُوشك ان يذهب فَإِذا انفق مِنْهُ نما وزكا على الانفاق فَمن قَامَ بِهَذِهِ الْمَرَاتِب الاربع دخل تَحت هَذِه الدعْوَة النَّبَوِيَّة المتضمنة لجمال الظَّاهِر وَالْبَاطِن فَإِن النضرة هِيَ الْبَهْجَة وَالْحسن الَّذِي يكساه الْوَجْه من آثَار الايمان وابتهاج الْبَاطِن بِهِ وَفَرح الْقلب وسروره والتذاذه بِهِ فتظهر هَذِه الْبَهْجَة وَالسُّرُور والفرحة نضارة على الْوَجْه وَلِهَذَا يجمع لَهُ سُبْحَانَهُ بَين الْبَهْجَة وَالسُّرُور والنضرة كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى فوقاهم الله شَرّ ذَلِك الْيَوْم ولقاهم نَضرة وسرورا فالنضرة فِي وُجُوههم وَالسُّرُور فِي قُلُوبهم فالنعيم وَطيب الْقلب يظْهر نضارة فِي الْوَجْه كَمَا قَالَ تَعَالَى تعرف فِي وُجُوههم نَضرة النَّعيم وَالْمَقْصُود ان هَذِه النضرة فِي وَجه من سمع سنة رَسُول الله ووعاها وحفظها وَبَلغهَا فَهِيَ اثر تِلْكَ الْحَلَاوَة والبهجة وَالسُّرُور الَّذِي فِي قلبه وباطنه وَقَوله رب حَامِل فقه الى من هُوَ افقه مِنْهُ تَنْبِيه على فَائِدَة التَّبْلِيغ وان الْمبلغ قد يكون افهم من الْمبلغ فَيحصل لَهُ فِي تِلْكَ الْمقَالة مَا لم يحصل للمبلغ اَوْ يكون الْمَعْنى ان الْمبلغ قد يكون افقه من الْمبلغ فَإِذا سمع تِلْكَ الْمقَالة حملهَا على احسن وجوهها واستنبط فقهها وَعلم المُرَاد مِنْهَا وَقَوله ثَلَاث لَا يغل عَلَيْهِنَّ قلب مُسلم إِلَى آخِره اي لايحمل الغل وَلَا يبْقى فِيهِ مَعَ هَذِه الثَّلَاثَة فَإِنَّهَا تنفى الغل والغش وَهُوَ فَسَاد الْقلب وسخايمه فالمخلص لله إخلاصه يمْنَع غل قلبه ويخرجه ويزيله جملَة لانه قد انصرفت دواعي قلبه وإرادته إِلَى مرضاة ربه فَلم يبْق فِيهِ مَوضِع للغل والغش كَمَا قَالَ تَعَالَى كَذَلِك لنصرف عَنهُ السوء والفحشاء إِنَّه من عبادنَا المخلصين فَلَمَّا اخلص لرَبه صرف عَنهُ دواعي السوء والفحشاء فَانْصَرف عَنهُ السوء والفحشاء وَلِهَذَا لما علم ابليس انه لَا سَبِيل لَهُ على اهل الاخلاص استثناهم من شرطته الَّتِي اشترطها للغواية والاهلاك فَقَالَ فبعزتك لاغوينهم اجمعين إِلَّا عِبَادك مِنْهُم المخلصين قَالَ تَعَالَى إِن عبَادي لَيْسَ لَك عَلَيْهِم سُلْطَان إِلَّا من اتبعك من الغاوين فالاخلاص هُوَ سَبِيل الْخَلَاص وَالْإِسْلَام هُوَ مركب السَّلامَة والايمان خَاتم الامان وَقَوله ومناصحة ائمة الْمُسلمين هَذَا ايضا منَاف للغل والغش فَإِن النَّصِيحَة لَا تجامع الغل إِذْ هِيَ ضِدّه فَمن نصح الائمة والامة فقد برِئ من الغل وَقَوله وَلُزُوم جَمَاعَتهمْ هَذَا ايضا مِمَّا يطهر الْقلب من الغل والغش فَإِن صَاحبه للزومه جمَاعَة الْمُسلمين يحب لَهُم مَا يحب لنَفسِهِ وَيكرهُ لَهُم مَا يكره لَهَا ويسوؤه مَا يسؤوهم ويسره مَا يسرهم وَهَذَا بِخِلَاف من انجاز عَنْهُم واشتغل بالطعن

ص: 72

عَلَيْهِم وَالْعَيْب والذم لَهُم كَفعل الرافضة والخوارج والمعتزلة وَغَيرهم فَإِن قُلُوبهم ممتلئة نحلا وغشا وَلِهَذَا تَجِد الرافضة ابعد النَّاس من الاخلاص اغشهم للائمة والامة واشدهم بعدا عَن جمَاعَة الْمُسلمين فَهَؤُلَاءِ اشد النَّاس غلا وغشا بِشَهَادَة الرَّسُول والامة عَلَيْهِم وشهادتهم على انفسهم بذلك فانهم لايكونون قطّ الا اعوانا وظهرا على اهل الاسلام فاي عَدو قَامَ للْمُسلمين كَانُوا اعوان ذَلِك الْعَدو وبطانته وَهَذَا امْر قد شاهدته الامة مِنْهُم وَمن لم يُشَاهد فقد سمع مِنْهُ مَا يصم الاذان ويشجي الْقُلُوب وَقَوله فَإِن دعوتهم تحيط من ورائهم هَذَا من احسن الْكَلَام وأوجزه وافخمه معنى شبه دَعْوَة الْمُسلمين بالسور والسياج الْمُحِيط بهم الْمَانِع من دُخُول عدوهم عَلَيْهِم فَتلك الدعْوَة الَّتِي هِيَ دَعْوَة الاسلام وهم داخلونها لما كَانَت سورا وسياجا عَلَيْهِم اخبر ان من لزم جمَاعَة الْمُسلمين احاطت بِهِ تِلْكَ الدعْوَة الَّتِي هِيَ دَعْوَة الاسلام كَمَا احاطت بهم فالدعوة تجمع شَمل الامة وتلم شعثها وتحيط بهَا فَمن دخل فِي جماعتها احاطت بِهِ وشملته الْوَجْه الثَّالِث وَالْخَمْسُونَ ان النَّبِي امْر بتبليغ الْعلم عَنهُ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث عبد الله ابْن عَمْرو قَالَ قَالَ رَسُول الله بلغُوا عني وَلَو آيَة وَحَدثُوا عَن بني إِسْرَائِيل وَلَا حرج وَمن كذب عَليّ مُتَعَمدا فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار وَقَالَ ليبلغ الشَّاهِد مِنْكُم الْغَائِب روى ذَلِك ابو بكرَة ووابصة بن معبد وعمار بن يَاسر وَعبد الله بن عمر وَعبد الله بن عَبَّاس واسماء بنت يزِيد بن السكن وحجير وابو قريع وسرى بنت نَبهَان وَمُعَاوِيَة بن حيدة الْقشيرِي وَعم ابي حرَّة وَغَيرهم فَأمر بالتبلغ عَنهُ لما فِي ذَلِك من حُصُول الْهدى بالتبلغ وَله اجْرِ من بلغ عَنهُ واجر من قبل ذَلِك الْبَلَاغ وَكلما كثر التبلغ عَنهُ تضَاعف لَهُ الثَّوَاب فَلهُ من الاجر بِعَدَد كل مبلغ وكل مهتد بذلك الْبَلَاغ سوى مَاله من اجْرِ عمله الْمُخْتَص بِهِ فَكل من هدى واهتدى بتبليغه فَلهُ اجره لانه هُوَ الدَّاعِي اليه وَلَو لم يكن فِي تَبْلِيغ الْعلم عَنهُ الا حُصُول مَا يُحِبهُ لكفى بِهِ فضلا وعلامة الْمُحب الصَّادِق ان يسْعَى فِي حُصُول مَحْبُوب محبوبه ويبذل جهده وطاقته فِيهَا وَمَعْلُوم انه لَا شَيْء احب الى رَسُول الله من ايصاله الْهدى الى جَمِيع الامة فالمبلغ عَنهُ ساع فِي حُصُول محابه فَهُوَ اقْربْ النَّاس مِنْهُ واحبهم اليه وَهُوَ نَائِبه وخليفته فِي امته وَكفى بِهَذَا فضلا وشرفا للْعلم واهله الْوَجْه الرَّابِع وَالْخَمْسُونَ ان النَّبِي قدم بالفضائل العلمية فِي أعلا الولايات الدِّينِيَّة واشرفها وَقدم بِالْعلمِ بالافضل على غَيره فروى مُسلم فِي صَحِيحه من حَدِيث ابي مَسْعُود البدري عَن النَّبِي يؤم الْقَوْم اقرؤهم لكتاب الله فَإِن كَانُوا فِي الْقِرَاءَة سَوَاء فأعلمهم بِالسنةِ فَإِن كَانُوا فِي السّنة سَوَاء فاقدمهم إسلاما اَوْ سنا وَذكر الحَدِيث فَقدم فِي الامامة تفضيله الْعلم على تقدم الاسلام وَالْهجْرَة وَلما كَانَ

ص: 73

الْعلم بِالْقُرْآنِ افضل من الْعلم بِالسنةِ لشرف معلومه على مَعْلُوم السّنة قدم الْعلم بِهِ ثمَّ قدم الْعلم بِالسنةِ على تقدم الْهِجْرَة وَفِيه من زِيَادَة الْعَمَل ماهو متميز بِهِ لَكِن إِنَّمَا رَاعى التَّقْدِيم بِالْعلمِ ثمَّ بِالْعَمَلِ وراعى التَّقْدِيم بِالْعلمِ بالافضل على غَيره وَهَذَا يدل على شرف الْعلم وفضله وَإِن اهله هم اهل التَّقَدُّم الى الْمَرَاتِب الدِّينِيَّة الْوَجْه الْخَامِس وَالْخَمْسُونَ مَا ثَبت فِي صَحِيح البُخَارِيّ من حَدِيث عُثْمَان بن عَفَّان رضى الله عَنهُ عَن النَّبِي انه قَالَ خَيركُمْ من تعلم الْقُرْآن وَعلمه وَتعلم الْقُرْآن وتعليمه يتَنَاوَل تعلم حُرُوفه وَتَعْلِيمهَا وَتعلم مَعَانِيه وَتَعْلِيمهَا وَهُوَ اشرف قسمي علمه وتعليمه فَإِن الْمَعْنى هُوَ الْمَقْصُود وَاللَّفْظ وَسِيلَة اليه فنعلم الْمَعْنى وتعليمه تعلم الْغَايَة وَتَعْلِيمهَا وَتعلم اللَّفْظ الْمُجَرّد وتعليمه تعلم الْوَسَائِل وَتَعْلِيمهَا وَبَينهمَا كَمَا بَين الغايات والوسائل الْوَجْه السَّادِس وَالْخَمْسُونَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيره فِي نُسْخَة عَمْرو ابْن الْحَارِث عَن دراج عَن ابي الْهَيْثَم عَن ابي سعيد عَن النَّبِي قَالَ لن يشْبع الْمُؤمن من خير يسمعهُ حَتَّى يكون منتهاه الْجنَّة قَالَ التِّرْمِذِيّ هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب وَهَذِه نُسْخَة مَعْرُوفَة رَوَاهَا النَّاس وسَاق احْمَد فِي الْمسند أَكْثَرهَا اَوْ كثيرا مِنْهَا وَلِهَذَا الحَدِيث شَوَاهِد فَجعل النَّبِي النهمة فِي الْعلم وَعدم الشِّبَع مِنْهُ من لَوَازِم الايمان واوصاف الْمُؤمنِينَ وَاخْبَرْ ان هَذَا لَا يزَال دأب الْمُؤمن حَتَّى دُخُوله الْجنَّة وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّة الاسلام إِذا قيل لاحدهم الى مَتى تطلب الْعلم فَيَقُول الى الْمَمَات قَالَ نعيم ابْن حَمَّاد سَمِعت عبد الله بن الْمُبَارك رضى الله عَنهُ يَقُول وَقد عابه قوم فِي كَثْرَة طلبه للْحَدِيث فَقَالُوا لَهُ الى مَتى تسمع قَالَ إِلَى الْمَمَات وَقَالَ الْحُسَيْن بن مَنْصُور الخصاص قلت لاحمد بن حَنْبَل رضى الله عَنهُ الى مَتى يكْتب الرجل الحَدِيث قَالَ الى الْمَوْت وَقَالَ عبد الله بن مُحَمَّد الْبَغَوِيّ سَمِعت احْمَد بن حَنْبَل رضى الله عَنهُ يَقُول إِنَّمَا اطلب الْعلم الى ان ادخل الْقَبْر وَقَالَ مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل الصَّائِغ كنت اصوغ مَعَ ابي بِبَغْدَاد فَمر بِنَا احْمَد بن حَنْبَل وَهُوَ يعدو ونعلاه فِي يَدَيْهِ فَأخذ ابي بِمَجَامِع ثَوْبه فَقَالَ يَا ابا عبد الله الا تَسْتَحي إِلَى مَتى تعدو مَعَ هَؤُلَاءِ قَالَ إِلَى الْمَوْت وَقَالَ عبد الله بن بشر الطَّالقَانِي ارجو ان يأتيني أَمر ابي والمحبرة بَين يَدي وَلم يفارقني الْعلم والمحبرة وَقَالَ حميد بن مُحَمَّد بن يزِيد الْبَصْرِيّ جَاءَ ابْن بسطَام الْحَافِظ يسألني عَن الحَدِيث فَقلت لَهُ مَا اشد حرصك على الحَدِيث فَقَالَ اَوْ مَا احب ان اكون فِي قطار آل رَسُول الله وَقيل لبَعض الْعلمَاء مَتى يحسن بِالْمَرْءِ ان يتَعَلَّم قَالَ مَا حسنت بِهِ الْحَيَاة وَسُئِلَ الْحسن عَن الرجل لَهُ ثَمَانُون سنة ايحسن ان يطْلب الْعلم قَالَ إِن كَانَ يحسن بِهِ ان يعِيش الْوَجْه السَّابِع وَالْخَمْسُونَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ ايضا من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن الْفضل عَن المَقْبُري عَن ابي هُرَيْرَة رضى الله عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول الله الْكَلِمَة الْحِكْمَة ضَالَّة الْمُؤمن فَحَيْثُ وجدهَا فَهُوَ احق بهَا قَالَ التِّرْمِذِيّ هَذَا

ص: 74

حَدِيث غَرِيب لانعرفه الا من هَذَا الْوَجْه وَإِبْرَاهِيم ابْن الْفضل الْمَدِينِيّ المَخْزُومِي يضعف فِي الحَدِيث من قبل حفظه وَهَذَا ايضا شَاهد لما تقدم وَله شَوَاهِد وَالْحكمَة هِيَ الْعلم فَإِذا فَقده الْمُؤمن فَهُوَ بِمَنْزِلَة من فقد ضَالَّة نفيسة من نفائسه فَإِذا وجدهَا قر قلبه وفرحت نَفسه بوجدانها كَذَلِك الْمُؤمن إِذا وجد ضَالَّة قلبه وروحه الَّتِي هُوَ دَائِما فِي طلبَهَا ونشدانها والتفتيش عَلَيْهَا وَهَذَا من احسن الامثلة فَإِن قلب الْمُؤمن يطْلب الْعلم حَيْثُ وجده اعظم من طلب صَاحب الضَّالة لَهَا الْوَجْه الثَّامِن وَالْخَمْسُونَ قَالَ التِّرْمِذِيّ حَدثنَا ابو كريب حَدثنَا خلف بن ايوب عَن عَوْف عَن ابْن سِيرِين عَن ابي هُرَيْرَة رضى الله عَنهُ عَن النَّبِي خصلتان لَا يَجْتَمِعَانِ فِي مُنَافِق حسن سمت وَفقه فِي الدّين قَالَ التِّرْمِذِيّ هَذَا حَدِيث غَرِيب وَلَا يعرف هَذَا الحَدِيث من حَدِيث عَوْف الا من حَدِيث هَذَا الشَّيْخ خلف بن أَيُّوب العامري وَلم أر احدا يرْوى عَنهُ غير ابي كريب مُحَمَّد بن الْعَلَاء وَلَا أَدْرِي كَيفَ هُوَ وَهَذِه شَهَادَة بَان من اجْتمع فِيهِ حسن السمت وَالْفِقْه فِي الدّين فَهُوَ مُؤمن واحرى بِهَذَا الحَدِيث ان يكون حَقًا وَإِن كَانَ اسناده فِيهِ جَهَالَة فان حسن السمت وَالْفِقْه فِي الدّين من اخص عَلَامَات الايمان وَلنْ يجمعهما الله فِي مُنَافِق فان النِّفَاق ينافيهما وينافيانه الْوَجْه التَّاسِع وَالْخَمْسُونَ قَالَ التِّرْمِذِيّ حَدثنَا مُسلم ابْن حَاتِم الانصاري حَدثنَا ابوحاتم الْبَصْرِيّ حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الله الانصاري عَن ابيه عَن عَليّ بن زيد عَن سعيد بن الْمسيب قَالَ قَالَ انس بن مَالك رضى الله عَنهُ قَالَ رَسُول الله يَا بني ان قدرت ان تصبح وتمسي وَلَيْسَ فِي قَلْبك غش لَاحَدَّ فافعل ثمَّ قَالَ يَا بني وَذَلِكَ من سنتي وَمن احيا سنتي فقد احبني وَمن احبني كَانَ معي فِي الْجنَّة وَفِي الحَدِيث قصَّة طَوِيلَة قَالَ التِّرْمِذِيّ هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب من هَذَا الْوَجْه وَمُحَمّد بن عبد الله الانصاري صَدُوق وابوه ثِقَة وَعلي بن زيد صَدُوق الا انه رُبمَا يرفع الشَّيْء الَّذِي يوقفه غَيره سَمِعت مُحَمَّد بن بِشَارَة يَقُول قَالَ ابو الْوَلِيد قَالَ شُعْبَة حَدثنَا على بن زيد وَكَانَ رفاعا قَالَ التِّرْمِذِيّ وَلَا يعرف لسَعِيد من السميب عَن انس رِوَايَة الا هَذَا الحَدِيث بِطُولِهِ وَقد روى عباد الْمنْقري هَذَا الحَدِيث عَن عَليّ بن زيد عَن انس وَلم يذكر فِيهِ عَن سعيد بن الْمسيب وذاكرت بِهِ مُحَمَّد بن اسمعيل فَلم يعرفهُ وَلم يعرف لسَعِيد بن الْمسيب عَن انس هَذَا الحَدِيث وَلَا غَيره وَمَات انس سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَسَعِيد بن الْمسيب سنة خمس وَتِسْعين بعده بِسنتَيْنِ قلت وَلِهَذَا الحَدِيث شَوَاهِد مِنْهَا مَا رَوَاهُ الدَّارمِيّ عبد الله حَدثنَا مُحَمَّد بن عُيَيْنَة عَن مَرْوَان بن مُعَاوِيَة الْفَزارِيّ عَن كثير ابْن عبد الله عَن ابيه عَن جده ان النَّبِي قَالَ لِبلَال بن الْحَارِث اعْلَم قَالَ مَا أعلم يَا رَسُول الله قَالَ اعْلَم يَا بِلَال قَالَ مَا اعْلَم يَا رَسُول الله قَالَ انه من احيا سنة من سُنَنِي قد اميتت بعدِي كَانَ لَهُ من الاجر مثل من عمل بهَا من غير ان ينقص من اجورهم شَيْء وَمن ابتدع

ص: 75

بِدعَة ضَلَالَة لَا يرضاها الله وَرَسُوله كَانَ عَلَيْهِ مثل آثام من عمل بهَا لَا ينقص ذَلِك من اوزار النَّاس شَيْئا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَنهُ وَقَالَ حَدِيث حسن قَالَ وَمُحَمّد بن عُيَيْنَة مصيصي شَامي وَكثير ابْن عبد الله هُوَ ابْن عَمْرو بن عَوْف الْمُزنِيّ وَفِي حَدِيثه ثَلَاثَة اقوال لاهل الحَدِيث مِنْهُم من يُصَحِّحهُ وَمِنْهُم من يُحسنهُ وهما لِلتِّرْمِذِي وَمِنْهُم من يُضعفهُ وَلَا يرَاهُ حجَّة كالامام احْمَد وَغَيره وَلَكِن هَذَا الاصل ثَابت من وُجُوه كَحَدِيث من دَعَا الى هدى كَانَ لَهُ من الاجر مثل احور من اتبعهُ وَهُوَ صَحِيح من وُجُوه وَحَدِيث من دلّ على خير فَلهُ مثل اجْرِ فَاعله وَهُوَ حَدِيث حسن رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيره فَهَذَا الاصل مَحْفُوظ عَن النَّبِي فَالْحَدِيث الضَّعِيف فِيهِ بِمَنْزِلَة الشواهد والمتابعات فَلَا يضر ذكره الْوَجْه السِّتُّونَ ان النَّبِي اوصى بِطَلَبِهِ الْعلم خيرا وَمَا ذَاك الا لفضل مطلوبهم وشرفه قَالَ التِّرْمِذِيّ حَدثنَا سُفْيَان بن وَكِيع حَدثنَا ابو دَاوُد الْحَفرِي عَن سُفْيَان عَن ابي هرون قَالَ كُنَّا نأتي ابا سعيد فَيَقُول مرْحَبًا بِوَصِيَّة رَسُول الله ان النَّبِي قَالَ ان النَّاس لكم تبع وان رجَالًا يأتونكم من اقطار الارض يتفقهون فِي الدّين فَإِذا اتوكم فَاسْتَوْصُوا بهم خيرا حَدثنَا قُتَيْبَة حَدثنَا روح بن قيس عَن ابي هرون الْعَبْدي عَن ابي سعيد الْخُدْرِيّ عَن النَّبِي قَالَ يأتيكم رجال من قبل الْمشرق يتعلمون فَإِذا جاؤكم فَاسْتَوْصُوا بهم خيرا فَكَانَ ابو سعيد إِذا رآنا قَالَ مرْحَبًا بِوَصِيَّة رَسُول الله قَالَ التِّرْمِذِيّ هَذَا حَدِيث لانعرفه الا من حَدِيث ابي هرون الْعَبْدي عَن ابي سعيد قَالَ ابو بكر الْعَطَّار قَالَ عَليّ ابْن الْمَدِينِيّ قَالَ يحيى بن سعيد كَانَ شُعْبَة يضعف ابا هرون الْعَبْدي قَالَ يحيى وَمَا زَالَ ابْن عَوْف يرْوى عَن ابي هرون حَتَّى مَاتَ وَأَبُو هرون اسْمه عمَارَة بن جُوَيْن الْوَجْه الْحَادِي وَالسِّتُّونَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث ابي دَاوُد عَن عبد الله بن سنحبرة عَن سنحبرة عَن النَّبِي قَالَ من طلب الْعلم كَانَ كَفَّارَة لما مضى هَذَا الاصل لم اجد فِيهِ الا هَذَا الحَدِيث وَلَيْسَ بِشَيْء فان ابا دَاوُد هُوَ نفيع الاعمى غير ثِقَة وَلَكِن قد تقدم ان الْعَالم يسْتَغْفر لَهُ من فِي السَّمَوَات وَمن فِي الارض وَقد رويت آثَار عديدة عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة فِي هَذَا الْمَعْنى مِنْهَا مَا رَوَاهُ الثَّوْريّ عَن عبد الْكَرِيم عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس ان ملكا موكلا بطالب الْعلم حَتَّى يردهُ من حَيْثُ ابداه مغفورا لَهُ وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ قطر بن خَليفَة عَن ابي الطُّفَيْل عَن عَليّ مَا انتعل عبد قطّ وَلَا تخفف وَلَا لبس ثوبا ليغدو فِي طلب الْعلم إِلَّا غفرت ذنُوبه حَيْثُ يخطو عِنْد بَاب بَيته وَقد رَوَاهُ ابْن عدي مَرْفُوعا وَقَالَ لَيْسَ يرويهِ عَن قطر غير اسمعيل ابْن يحيى التَّمِيمِي قلت وَقد رَوَاهُ اسمعيل بن يحيى هَذَا عَن الثَّوْريّ حَدثنَا مُحَمَّد بن ايوب الْجوزجَاني عَن مجَالد عَن الشّعبِيّ عَن الاسود عَن عَائِشَة مَرْفُوعا من انتعل ليتعلم خيرا غفر لَهُ قبل ان

ص: 76

يخطو وَقد رَوَاهُ عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد الْمحَاربي عَن قطر عَن ابي الطُّفَيْل عَن عَليّ وَهَذِه الاسانيد وان لم تكن بمفردها حجَّة فَطلب الْعلم من افضل الْحَسَنَات والحسنات يذْهبن السَّيِّئَات فجدير ان يكون طلب الْعلم ابْتِغَاء وَجه الله يكفر ماضي من السَّيِّئَات فقد دلّت النُّصُوص ان اتِّبَاع السَّيئَة الْحَسَنَة تمحوها فَكيف بِمَا هُوَ من افضل الْحَسَنَات واجل الطَّاعَات فالعمدة على ذَلِك لاعلى حَدِيث ابي دَاوُد وَالله اعْلَم وَقد روى عَن عمر بن الْخطاب رضى الله عَنهُ ان الرجل ليخرج من منزله وَعَلِيهِ من الذُّنُوب مثل جبال تهَامَة فَإِذا سمع الْعلم خَافَ وَرجع وَتَابَ فَانْصَرف الى منزله وَلَيْسَ عَلَيْهِ ذَنْب فلاتفارقوا مجَالِس الْعلمَاء الْوَجْه الثَّانِي وَالسِّتُّونَ مَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي سنَنه من حَدِيث عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ رضى الله عَنْهُمَا قَالَ خرج رَسُول الله فَإِذا فِي الْمَسْجِد مجلسان مجْلِس يتفقهون ومجلس يدعونَ الله تَعَالَى ويسألونه فَقَالَ كلا المجلسين إِلَى خير اماهؤلاء فَيدعونَ الله وَأما هَؤُلَاءِ فيتعلمون ويفقهون الْجَاهِل هَؤُلَاءِ افضل بالتعليم ارسلت ثمَّ قعد مَعَهم الْوَجْه الثَّالِث وَالسِّتُّونَ ان الله تبارك وتعالى يباهي مَلَائكَته بالقوم الَّذين يتذاكرون الْعلم ويذكرون الله ويحمدونه على مَا من عَلَيْهِم بِهِ مِنْهُ قَالَ التِّرْمِذِيّ حَدثنَا مُحَمَّد بن بشار حَدثنَا مَرْحُوم بن عبد الْعَزِيز الْعَطَّار حَدثنَا ابو نعَامَة عَن ابي عُثْمَان عَن ابي سعيد قَالَ خرج مُعَاوِيَة الى الْمَسْجِد فَقَالَ م يجلسكم قَالُوا جلسنا نذْكر الله عز وجل قَالَ الله مَا اجلسكم إِلَّا ذَلِك قَالُوا الله مَا اجلسنا إِلَّا ذَلِك قَالَ أما إِنِّي لم استحلفكم تُهْمَة لكم وَمَا كَانَ اُحْدُ بمنزلتي من رَسُول الله اقل حَدِيثا عَنهُ مني ان رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ وَآله وَسلم خرج على حَلقَة من اصحابه قَالَ مَا يجلسكم قَالُوا جلسنا نذْكر الله ونحمده لما هدَانَا للاسلام وَمن علينا بك قَالَ الله مَا اجلسكم إِلَّا ذَلِك قَالُوا الله مَا اجلسنا إِلَّا ذَلِك قَالَ أما إِنِّي لم استحلفكم تُهْمَة لكم انه اتاني جِبْرِيل فَأَخْبرنِي ان الله تَعَالَى يباهي بكم الْمَلَائِكَة قَالَ التِّرْمِذِيّ هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب لَا نعرفه الا من هَذَا الْوَجْه وابو نعَامَة السَّعْدِيّ اسْمه عَمْرو بن عِيسَى وَأَبُو عُثْمَان النَّهْدِيّ اسْمه عبد الرَّحْمَن بن مل فَهَؤُلَاءِ كَانُوا قد جَلَسُوا يحْمَدُونَ الله بِذكر اوصافه وآلائه ويثنون عَلَيْهِ بذلك ويذكرون حسن الْإِسْلَام ويعترفون لله بِالْفَضْلِ الْعَظِيم إِذْ هدَاهُم لَهُ وَمن عَلَيْهِم بِرَسُولِهِ وَهَذَا اشرف علم على الاطلاق وَلَا يَعْنِي بِهِ الا الراسخون فِي الْعلم فَإِنَّهُ يتَضَمَّن معرفَة الله وَصِفَاته وافعاله وَدينه وَرَسُوله ومحبة ذَلِك وتعظيمه والفرح بِهِ وَأَحْرَى بأصحاب هَذَا الْعلم ان يباهي الله بهم الْمَلَائِكَة وَقد بشر النَّبِي الرجل الَّذِي كَانَ يحب سُورَة الاخلاص وَقَالَ احبها لانها صفة الرَّحْمَن عز وجل فَقَالَ حبك اياها ادخلك الْجنَّة وَفِي لفظ آخر اخبروه ان الله يُحِبهُ فَدلَّ على ان من احب صِفَات الله احبه الله وَأدْخلهُ الْجنَّة والجهمية اشد النَّاس نفرة وتنفيرا عَن صِفَاته ونعوت كَمَاله يعاقبون ويذمون من

ص: 77

يذكرهَا ويقرؤها ويجمعها ويعتني بهَا وَلِهَذَا لَهُم المقت والذم عِنْد الامة وعَلى لِسَان كل عَالم من عُلَمَاء الاسلام وَالله تَعَالَى اشد بغضا ومقتا لَهُم جَزَاء وفَاقا الْوَجْه الرَّابِع وَالسِّتُّونَ ان افضل منَازِل الْخلق عِنْد الله منزلَة الرسَالَة والنبوة فَالله يصطفى من الْمَلَائِكَة رسلًا وَمن النَّاس وَكَيف لَا يكون افضل الْخلق عِنْد الله من جعلهم وسائط بَينه وَبَين عباده فِي تَبْلِيغ رسالاته وتعريف اسمائه وَصِفَاته وأفعاله واحكامه ومراضيه ومساخطه وثوابه وعقابه وخصهم بوحيه واختصهم بتفضيله وارتضاهم لرسالته إِلَى عباده وجعلهم ازكى الْعَالمين نفوسا واشرفهم اخلاقا واكملهم علوما واعمالا واحسنهم خلقَة واعظمهم محبَّة وقبولا فِي قُلُوب النَّاس وبرأهم من كل وصم وعيب وكل خلق دنيء وَجعل اشرف مَرَاتِب النَّاس بعدهمْ مرتبَة خلافتهم ونيابتهم فِي اممهم فانهم يخلفونهم على منهاجهم وطريقهم من نصيحتهم للْأمة وارشادهم الضال وتعليمهم الْجَاهِل ونصرهم الْمَظْلُوم واخذهم على يَد الظَّالِم وامرهم بِالْمَعْرُوفِ وَفعله ونهيهم عَن الْمُنكر وَتَركه والدعوة الى الله بالحكمة للمستجيبين وَالْمَوْعِظَة الْحَسَنَة للمعرضين الغافلين والجدال بِالَّتِي هِيَ احسن للمعاندين المعارضين فَهَذِهِ حَال اتِّبَاع الْمُرْسلين وَورثه النَّبِيين قَالَ تَعَالَى قل هَذِه سبيلي ادعو الى الله على بَصِيرَة انا وَمن اتبعني وَسَوَاء كَانَ الْمَعْنى أَنا وَمن اتبعني على بَصِيرَة وانا ادعو الى الله اَوْ الْمَعْنى ادعو الى الله على بَصِيرَة وَالْقَوْلَان متلازمان فَإِنَّهُ لَا يكون من اتِّبَاعه حَقًا إِلَّا من دَعَا الى الله على بَصِيرَة كَمَا كَانَ متبوعه يفعل فَهَؤُلَاءِ خلفاء الرُّسُل حَقًا وورثتهم دون النَّاس وهم أولو الْعلم الَّذين قَامُوا بِمَا جَاءَ بِهِ علما وَعَملا وهداية وارشادا وصبرا وجهادا وَهَؤُلَاء هم الصديقون وهم افضل اتِّبَاع الانبياء ورأسهم وإمامهم الصّديق الاكبر ابو بكر رضى الله عَنهُ قَالَ الله تَعَالَى وَمن يطع الله وَالرَّسُول فَأُولَئِك مَعَ الَّذين انْعمْ الله عَلَيْهِم من النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحسن اولئك رَفِيقًا ذَلِك الْفضل من الله وَكفى بِاللَّه عليما فَذكر مَرَاتِب السُّعَدَاء وَهِي اربعة وَبَدَأَ باعلاهم مرتبَة ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ إِلَى آخر الْمَرَاتِب وَهَؤُلَاء الاربعة هم اهل الْجنَّة الَّذين هم اهلها جعلنَا الله مِنْهُم بمنه وَكَرمه الْوَجْه الْخَامِس وَالسِّتُّونَ ان الانسان إِنَّمَا يُمَيّز على غَيره من الْحَيَوَانَات بفضيلة الْعلم وَالْبَيَان وَإِلَّا فَغَيره من الدَّوَابّ وَالسِّبَاع أَكثر أكلا مِنْهُ واقوى بطشا وَأكْثر جماعا واولادا واطول اعمارا وَإِنَّمَا ميز على الدَّوَابّ والحيوانات بِعِلْمِهِ وَبَيَانه فَإِذا عدم الْعلم بقى مَعَه الْقدر الْمُشْتَرك بَينه وَبَين سَائِر الدَّوَابّ وَهِي الحيوانية الْمَحْضَة فَلَا يبْقى فِيهِ فضل عَلَيْهِم بل قد يبْقى شرا مِنْهُم كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي هَذَا الصِّنْف من النَّاس إِن شَرّ الدَّوَابّ عِنْد الله الصم الْبكم الَّذين لَا يعْقلُونَ فَهَؤُلَاءِ هم الْجُهَّال وَلَو علم الله فيهم خيرا لاسمعهم أَي لَيْسَ عِنْدهم مَحل قَابل للخير وَلَو كَانَ محلهم قَابلا للخير لاسمعهم أَي

ص: 78

لافهمهم والسمع هَهُنَا سمع فهم والا فَسمع الصَّوْت حَاصِل لَهُم وَبِه قَامَت حجَّة الله عَلَيْهِم قَالَ تَعَالَى وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِين قَالُوا سمعنَا وهم لَا يسمعُونَ وَقَالَ تَعَالَى وَمثل الَّذين كفرُوا كَمثل الَّذِي ينعق بمالا يسمع الا دُعَاء ونداء صم بكم عمى فهم لَا يعْقلُونَ وَسَوَاء كَانَ الْمَعْنى وَمثل دَاعِي الَّذين كفرُوا كَمثل الَّذِي ينعق بِمَا لَا يسمع من الدَّوَابّ إِلَّا اصواتا مُجَرّدَة اَوْ كَانَ الْمَعْنى وَمثل الَّذين كفرُوا حِين ينادون كَمثل دَوَاب الَّذِي ينعق بهَا فَلَا تسمع الا صَوت الدُّعَاء والنداء فالقولان متلازمان بل هما وَاحِد وَإِن كَانَ التَّقْدِير الثَّانِي اقْربْ إِلَى اللَّفْظ وأبلغ فِي الْمَعْنى فعلى التَّقْدِيرَيْنِ لم يحصل لَهُم من الدعْوَة إِلَّا الصَّوْت الْحَاصِل للأنعام فَهَؤُلَاءِ لم يحصل لَهُم حَقِيقَة الانسانية الَّتِي يُمَيّز بهَا صَاحبهَا عَن سَائِر الْحَيَوَان والسمع يُرَاد بِهِ ادراك الصَّوْت وَيُرَاد بِهِ فهم الْمَعْنى وَيُرَاد بِهِ الْقبُول والاجابة وَالثَّلَاثَة فِي الْقُرْآن فَمن الاول قَوْله قد سمع الله قَول الَّتِي تُجَادِلك فِي زَوجهَا وتشتكي الى الله وَالله يسمع تحاوركما إِن الله سميع بَصِير وَهَذَا اصرح مَا يكون فِي إِثْبَات صفة السّمع ذكر الْمَاضِي والمضارع وَاسم الْفَاعِل سمع وَيسمع وَهُوَ سميع وَله السّمع كَمَا قَالَت عَائِشَة رضى الله عَنْهَا الْحَمد لله الَّذِي وسع سَمعه الاصوات لقد جَاءَت المجادلة تَشْكُو إِلَى رَسُول الله وَأَنا فِي جَانب الْبَيْت وَأَنه ليخفى على بعض كَلَامهَا فَأنْزل الله قد سمع الله قَول الَّتِي تُجَادِلك فِي زَوجهَا وَالثَّانِي سمع الْفَهم كَقَوْلِه وَلَو علم الله فيهم خيرا لاسمعهم أَي لافهمهم وَلَو اسمعهم لتولوا وهم معرضون لما فِي قُلُوبهم من الْكبر والاعراض عَن قبُول الْحق ففيهم آفتان إِحْدَاهمَا انهم لَا يفهمون الْحق لجهلهم وَلَو فهموه لتولوا عَنهُ وهم معرضون عَنهُ لكبرهم وَهَذَا غَايَة النَّقْص وَالْعَيْب وَالثَّالِث سمع الْقبُول والاجابة كَقَوْلِه تَعَالَى لَو خَرجُوا فِيكُم مَا زادوكم إِلَّا خبالا وَلَا وضعُوا خلالكم يبغونكم الْفِتْنَة وَفِيكُمْ سماعون لَهُم أَي قابلون مستجيبون وَمِنْه قَوْله سماعون للكذب أَي قابلون لَهُ مستجيبون لاهله وَمِنْه قَول الْمصلى سمع الله لمن حَمده أَي اجاب الله حمد من حَمده وَدُعَاء من دَعَاهُ وَقَول النَّبِي إِذا قَالَ الامام سمع الله لمن حَمده فَقولُوا رَبنَا وَلَك الْحَمد يسمع الله لكم أَي يجيبكم وَالْمَقْصُود ان الانسان إِذا لم يكن لَهُ علم بِمَا يصلحه فِي معاشه ومعاده كَانَ الْحَيَوَان البهيم خيرا مِنْهُ لسلامته فِي الْمعَاد مِمَّا يهلكه دون الانسان الْجَاهِل الْوَجْه السَّادِس وَالسِّتُّونَ إِن الْعلم حَاكم على مَا سواهُ وَلَا يحكم عَلَيْهِ شَيْء فَكل شَيْء اخْتلف فِي وجوده وَعَدَمه وَصِحَّته وفساده ومنفعته ومضرته ورجحانه ونقصانه وكماله ونقصه ومدحه وذمه ومرتبته فِي الْخَيْر وجودته ورداءته وقربه وَبعده وإفضائه إِلَى مَطْلُوب كَذَا وَعدم إفضائه وَحُصُول الْمَقْصُود بِهِ وَعدم حُصُوله إِلَى سَائِر جِهَات المعلومات فَإِن الْعلم حَاكم على ذَلِك كُله فَإِذا حكم الْعلم انْقَطع النزاع وَوَجَب الِاتِّبَاع وَهُوَ الْحَاكِم على الممالك والسياسات والاموال

ص: 79

والاقلام فَملك لَا يتأيد بِعلم لَا يقوم وَسيف بِلَا علم مِخْرَاق لاعب وقلم بِلَا علم حُرْمَة حَرَكَة عابث وَالْعلم مسلط حَاكم على ذَلِك كُله وَلَا يحكم شَيْء من ذَلِك على الْعلم وَقد اخْتلف فِي تَفْضِيل مداد الْعلمَاء على دم الشُّهَدَاء وَعَكسه وَذكر لكل قَول وُجُوه من التراجيح والادلة وَنَفس هَذَا النزاع دَلِيل على تَفْضِيل الْعلم ومرتبته فَإِن الْحَاكِم فِي هَذِه المسئلة هُوَ الْعلم فِيهِ واليه وَعِنْده يَقع التحاكم والتخاصم والمفضل مِنْهُمَا من حكم لَهُ بِالْفَضْلِ فَإِن قيل فَكيف يقبل حكمه لنَفسِهِ قيل وَهَذَا ايضا دَلِيل على تفضيله وعلو مرتبته وشرفه فَإِن الْحَاكِم إِنَّمَا لم يسغْ ان يحكم لنَفسِهِ لاجل مَظَنَّة التُّهْمَة وَالْعلم تلْحقهُ تُهْمَة فِي حكمه لنَفسِهِ فَإِنَّهُ إِذا حكم حكم بِمَا تشهد الْعُقُول وَالنَّظَر بِصِحَّتِهِ وتتلقاه بِالْقبُولِ ويستحيل حكمه لتهمة فَإِنَّهُ إِذا حكم بهَا انْعَزل عَن مرتبته وانحط عَن دَرَجَته فَهُوَ الشَّاهِد الْمُزَكي الْعدْل وَالْحَاكِم الَّذِي لَا يجور وَلَا يعْزل فَإِن قيل فَمَاذَا حكمه فِي هَذِه المسئلة الَّتِي ذكرتموها قيل هَذِه المسئلة كثر فِيهَا الْجِدَال واتسع المجال وأدلى كل مِنْهُمَا بحجته واستعلى بمرتبته وَالَّذِي يفصل النزاع وَيُعِيد المسالة إِلَى مواقع الاجماع الْكَلَام فِي أَنْوَاع مَرَاتِب الْكَمَال وَذكر الافضل مِنْهُمَا وَالنَّظَر فِي أَي هذَيْن الامرين اولى بِهِ واقرب اليه فَهَذِهِ الاصول الثَّلَاثَة تبين الصَّوَاب وَيَقَع بهَا فصل الْخطاب فاما مَرَاتِب الْكَمَال فاربع النُّبُوَّة والصديقية وَالشَّهَادَة وَالْولَايَة وَقد ذكرهَا الله سُبْحَانَهُ فِي قَوْله وَمن يطع الله وَالرَّسُول فَأُولَئِك مَعَ الَّذين انْعمْ الله عَلَيْهِم من النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحسن اولئك رَفِيقًا ذَلِك الْفضل من الله وَكفى بِاللَّه عليما وَذكر تَعَالَى هَؤُلَاءِ الاربع فِي سُورَة الْحَدِيد فَذكر تَعَالَى الايمان بِهِ وبرسوله ثمَّ ندب الْمُؤمنِينَ الى ان تخشع قُلُوبهم لكتابه ووحيه ثمَّ ذكر مَرَاتِب الْخَلَائق شقيهم وسعيدهم فَقَالَ إِن المصدقين والمصدقات واقرضوا الله قرضا حسنا يُضَاعف لَهُم وَلَهُم اجْرِ كريم وَالَّذين آمنُوا بِاللَّه وَرُسُله اولئك هم الصديقون والشهداءعند رَبهم لَهُم اجرهم ونورهم وَالَّذين كفرُوا وكذبوا بِآيَاتِنَا اولئك اصحاب الْجَحِيم وَذكر الْمُنَافِقين قبل ذَلِك فاستوعبت هَذِه الاية اقسام الْعباد شقيهم وسعيدهم وَالْمَقْصُود انه ذكر فِيهَا الْمَرَاتِب الاربعة الرسَالَة والصديقية وَالشَّهَادَة وَالْولَايَة فأعلا هَذِه الْمَرَاتِب النُّبُوَّة والرسالة ويليها الصديقية فالصديقون هم أَئِمَّة اتِّبَاع الرُّسُل ودرجتهم اعلا الدَّرَجَات بعد النُّبُوَّة فَإِن جرى قلم الْعَالم بالصديقية وسال مداده بهَا كَانَ افضل من دم الشَّهِيد الَّذِي لم يحلقه فِي رُتْبَة الصديقية وان سَالَ دم الشَّهِيد بالصديقية وقطر عَلَيْهَا كَانَ افضل من مداد الْعَالم الَّذِي قصر عَنْهَا فافضلهما صديقهما فان اسْتَويَا فِي الصديقية اسْتَويَا فِي الْمرتبَة وَالله اعْلَم والصديقية هِيَ كَمَال الايمان بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول علما وَتَصْدِيقًا وقياما فَهِيَ رَاجِعَة إِلَى نفس الْعلم فَكل من كَانَ اعْلَم بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول واكمل تَصْدِيقًا لَهُ كَانَ اتم صديقية فالصديقية شَجَرَة اصولها الْعلم وفروعها التَّصْدِيق وثمرتها الْعَمَل فَهَذِهِ كَلِمَات

ص: 80

جَامِعَة فِي مسئلة الْعَالم والشهيد وايهما افضل الْوَجْه السَّابِع وَالسِّتُّونَ ان النُّصُوص النَّبَوِيَّة قد تَوَاتَرَتْ بَان افضل الاعمال إِيمَان بِاللَّه فَهُوَ رَأس الامر والاعمال بعده على مراتبها ومنازلها والايمان لَهُ ركنان احدهما معرفَة مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول وَالْعلم بِهِ وَالثَّانِي تَصْدِيقه بالْقَوْل وَالْعَمَل والتصديق بِدُونِ الْعلم والمعرفة محَال فَإِنَّهُ فرع الْعلم بالشَّيْء الْمُصدق بِهِ فَإِذا الْعلم من الايمان بِمَنْزِلَة الرّوح من الْجَسَد ولاتقوم شَجَرَة الايمان الا على سَاق الْعلم والمعرفة فالعلم إِذا اجل المطالب واسنى الْمَوَاهِب الْوَجْه الثَّامِن وَالسِّتُّونَ ان صِفَات الْكَمَال كلهَا ترجع إِلَى الْعلم وَالْقُدْرَة والارادة والارادة فرع الْعلم فإنهاتستلزم الشُّعُور بالمراد فَهِيَ مفتقرة إِلَى الْعلم فِي ذَاتهَا وحقيقتها وَالْقُدْرَة لَا تُؤثر إِلَّا بِوَاسِطَة الارادة وَالْعلم لايفتقر فِي تعلقه بالمعلوم إِلَى وَاحِدَة مِنْهُمَا وَأما الْقُدْرَة وإلارادة فَكل مِنْهَا يفْتَقر فِي تعلقه بالمراد والمقدور إِلَى الْعلم وَذَلِكَ يدل على فضيلته وَشرف مَنْزِلَته الْوَجْه التَّاسِع وَالسِّتُّونَ ان الْعلم اعم الصِّفَات تعلقا بمتعلقه واوسعها فَإِنَّهُ يتَعَلَّق بِالْوَاجِبِ والممكن والمستحيل والجائز وَالْمَوْجُود والمعدوم فذات الرب سُبْحَانَهُ وَصِفَاته واسماؤه مَعْلُومَة لَهُ وَيعلم الْعباد من ذَلِك مَا علمهمْ الْعَلِيم الْخَبِير وَأما الْقُدْرَة والارادة فَكل مِنْهُمَا خَاص التَّعَلُّق اما الْقُدْرَة فَإِنَّمَا تتَعَلَّق بالممكن خَاصَّة لابالمستحيل وَلَا بِالْوَاجِبِ فَهِيَ اخص من الْعلم من هَذَا الْوَجْه وأعم من الارادة فَإِن الارادة لاتتعلق الا بِبَعْض الممكنات وَهُوَ مَا أُرِيد وجوده فالعلم اوسع وأعم وأشمل فِي ذَاته ومتعلقه الْوَجْه السبعون ان الله سُبْحَانَهُ اخبر عَن اهل الْعلم بِأَنَّهُ جعلهم ائمة يهْدُونَ بأَمْره وياتم بهم من بعدهمْ فَقَالَ تَعَالَى وجعلناهم ائمة يهْدُونَ بامرنا لما صَبَرُوا وَكَانُوا يآياتنا يوقنون وَقَالَ فِي مَوضِع آخر وَالَّذين يَقُولُونَ رَبنَا هَب لنا من ازواجنا وَذُرِّيَّاتنَا قُرَّة اعين واجعلنا لِلْمُتقين إِمَامًا أَي ائمة يقْتَدى بِنَا من بَعدنَا فَأخْبر سُبْحَانَهُ ان بِالصبرِ وَالْيَقِين تنَال الامامة فِي الدّين وَهِي ارْفَعْ مَرَاتِب الصديقين وَالْيَقِين هُوَ كَمَال الْعلم وغايته فبتكميل مرتبَة الْعلم تحصل إِمَامَة الدّين وَهِي ولَايَة آلتها الْعلم يخْتَص الله بهَا من يَشَاء من عباده الْوَجْه الْحَادِي وَالسَّبْعُونَ ان حَاجَة الْعباد إِلَى الْعلم ضَرُورِيَّة فَوق حَاجَة الْجِسْم إِلَى الْغذَاء لَان الْجِسْم يحْتَاج إِلَى الْغذَاء فِي الْيَوْم مرّة اَوْ مرَّتَيْنِ وحاجة الانسان إِلَى الْعلم بِعَدَد الانفاس لَان كل نفس من انفاسه فَهُوَ مُحْتَاج فِيهِ إِلَى ان يكون مصاحبا لايمان اَوْ حِكْمَة فَإِن فَارقه الايمان اَوْ حِكْمَة فِي نفس من انفاسه فقد عطب وَقرب هَلَاكه وَلَيْسَ إِلَى حُصُول ذَلِك سَبِيل إِلَّا بِالْعلمِ فالحاجة إِلَيْهِ فَوق الْحَاجة إِلَى الطَّعَام وَالشرَاب وَقد ذكر الامام احْمَد هَذَا الْمَعْنى بِعَيْنِه فَقَالَ النَّاس احوج إِلَى الْعلم مِنْهُم إِلَى الطَّعَام وَالشرَاب لَان الطَّعَام وَالشرَاب يحْتَاج إِلَيْهِ فِي الْيَوْم مرّة اَوْ مرَّتَيْنِ وَالْعلم يحْتَاج اليه كل وَقت الْوَجْه الثَّانِي وَالسَّبْعُونَ إِن صَاحب الْعلم اقل تعبا وَعَملا وَأكْثر اجرا وَاعْتبر هَذَا بِالشَّاهِدِ فَإِن الصناع والإجراء يعانون

ص: 81

الاعمال الشاقة بِأَنْفسِهِم والاستاذ الْمعلم يجلس بأمرهم وينهاهم وَيُرِيهمْ كَيْفيَّة الْعَمَل وَيَأْخُذ اضعاف مَا يأخذونه وَقد اشار النَّبِي إِلَى هَذَا الْمَعْنى حَيْثُ قَالَ افضل الاعمال إِيمَان بِاللَّه ثمَّ الْجِهَاد فالجهاد فِيهِ بذل النَّفس وَغَايَة الْمَشَقَّة والايمان علم الْقلب وَعَمله وتصديقه وَهُوَ افضل الاعمال مَعَ ان مشقة الْجِهَاد فَوق مشقته باضعاف مضاعفة وَهَذَا لَان الْعلم يعرف مقادير الاعمال ومراتبها وفاضلها من مفضولها وراجحها من مرجوحها فصاحبه لَا يخْتَار لنَفسِهِ الا افضل الاعمال وَالْعَامِل بِلَا علم يظنّ ان الْفَضِيلَة فِي كَثْرَة الْمَشَقَّة فَهُوَ يتَحَمَّل المشاق وَإِن كَانَ مَا يعانيه مفضولا وَرب عمل فَاضل والمفضول اكثر مشقة مِنْهُ وَاعْتبر هَذَا بِحَال الصّديق فَإِنَّهُ افضل الامة وَمَعْلُوم ان فيهم من هُوَ اكثر عملا وحجا وصوما وَصَلَاة وَقِرَاءَة مِنْهُ قَالَ ابو بكر بن عَيَّاش مَا سبقكم ابو بكر بِكَثْرَة صَوْم وَلَا صَلَاة وَلَكِن بِشَيْء وقر فِي قلبه وَهَذَا مَوْضُوع الْمثل الْمَشْهُور

من لي بِمثل سيرك المدلل

تمشى رويدا وتجي فِي الاول الْوَجْه الثَّالِث وَالسَّبْعُونَ ان الْعلم إِمَام الْعَمَل وقائد لَهُ وَالْعَمَل تَابع لَهُ ومؤتم بِهِ فَكل عمل لَا يكون خلف الْعلم مقتديا بِهِ فَهُوَ غير نَافِع لصَاحبه بل مضرَّة عَلَيْهِ كَمَا قَالَ بعض السّلف من عبد الله بِغَيْر علم كَانَ مَا يفْسد أَكثر مِمَّا يصلح وألاعمال إِنَّمَا تَتَفَاوَت فِي الْقبُول وَالرَّدّ بِحَسب موافقتها للْعلم ومخالفتها لَهُ فَالْعَمَل الْمُوَافق للْعلم هُوَ المقبول والمخالف لَهُ هُوَ الْمَرْدُود فالعلم هُوَ الْمِيزَان وَهُوَ المحك قَالَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي خلق الْمَوْت والحياة ليَبْلُوكُمْ ايكم احسن عملا وَهُوَ الْعَزِيز الغفور قَالَ الفضيل بن عِيَاض هُوَ اخلص الْعَمَل واصوبه قَالُوا يَا ابا عَليّ مَا اخلصه واصوبه قَالَ ان الْعَمَل إِذا كَانَ خَالِصا وَلم يكن صَوَابا لم يقبل وَإِذا كَانَ صَوَابا وَلم يكن خَالِصا لم يقبل حَتَّى يكون خَالِصا وصوابا فالخالص ان يكون لله وَالصَّوَاب ان يكون على السّنة وَقد قَالَ تَعَالَى فَمن كَانَ يَرْجُو لِقَاء ربه فليعمل عملا صَالحا وَلَا يُشْرك بِعبَادة ربه احدا فَهَذَا هُوَ الْعَمَل المقبول الَّذِي لَا يقبل الله من الاعمال سواهُ وَهُوَ ان يكون مُوَافقا لسنة رَسُول الله مرَادا بِهِ وَجه الله وَلَا يتَمَكَّن الْعَامِل من الاتيان بِعَمَل يجمع هذَيْن الوصفين إِلَّا بِالْعلمِ فَإِنَّهُ إِن لم يعلم مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول لم يُمكنهُ قَصده وَإِن لم يعرف معبوده لم يُمكنهُ إِرَادَته وَحده فلولا الْعلم لما كَانَ عمله مَقْبُولًا فالعلم هُوَ الدَّلِيل على الاخلاص وَهُوَ الدَّلِيل على الْمُتَابَعَة وَقد قَالَ الله تَعَالَى إِنَّمَا يتَقَبَّل الله من الْمُتَّقِينَ واحسن مَا قيل فِي تَفْسِير الاية إِنَّه إِنَّمَا يتَقَبَّل الله عمل من اتَّقَاهُ فِي ذَلِك الْعَمَل وتقواه فِيهِ ان يكون لوجهه على مُوَافقَة امْرَهْ وَهَذَا إِنَّمَا يحصل بِالْعلمِ وَإِذا كَانَ هَذَا منزلَة الْعلم وموقعه علم انه اشرف شَيْء واجله وافضله وَالله أعلم الْوَجْه الرَّابِع وَالسَّبْعُونَ ان الْعَامِل بِلَا علم كالسائر بِلَا دَلِيل وَمَعْلُوم ان عطب مثل هَذَا اقْربْ من سَلَامَته

ص: 82

وان قدر سَلَامَته اتِّفَاقًا نَادرا فَهُوَ غير مَحْمُود بل مَذْمُوم عِنْد الْعُقَلَاء وَكَانَ شيخ الاسلام ابْن تَيْمِية يَقُول من فَارق الدَّلِيل ضل السَّبِيل وَلَا دَلِيل إِلَّا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول قَالَ الْحسن الْعَامِل على غير علم كالسالك على غير طَرِيق وَالْعَامِل على غير علم مَا يفْسد اكثر مِمَّا يصلح فَاطْلُبُوا اللم طلبا لَا تضروا بِالْعبَادَة واطلبوا الْعِبَادَة طلبا لَا تضروا بِالْعلمِ فَإِن قوما طلبُوا الْعِبَادَة وَتركُوا الْعلم حى خَرجُوا بِأَسْيَافِهِمْ على امة مُحَمَّد وَلَو طلبُوا الْعلم لم يدلهم على مَا فعلوا وَالْفرق بَين هَذَا وَبَين مَا قبله ان الْعلم مرتبته فِي الْوَجْه الاول مرتبَة المطاع الْمَتْبُوع المقتدى بِهِ المتبع حكمه المطاع امْرَهْ ومرتبته فِيهِ فيهذا الْوَجْه مرتبَة الدَّلِيل المرشد الى الْمَطْلُوب الْموصل إِلَى الْغَايَة الْوَجْه الْخَامِس وَالسَّبْعُونَ ان النَّبِي ثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنهُ انه كَانَ يَقُول اللَّهُمَّ رب جِبْرِيل وَمِيكَائِيل وإسرافيل فاطر السَّمَوَات والارض عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة انت تحكم بَين عِبَادك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهدني لما اخْتلف فِيهِ من الْحق باذنك انك تهدى من تشَاء الى صِرَاط مُسْتَقِيم وَفِي بعض السّنَن انه كَانَ يكبر تَكْبِيرَة الاحرام فِي صَلَاة اللَّيْل ثمَّ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاء وَالْهِدَايَة هِيَ الْعلم بِالْحَقِّ مَعَ قَصده وإيثاره على غَيره فالمهتدي هُوَ الْعَامِل بِالْحَقِّ المريد لَهُ وَهِي اعظم نعْمَة لله على العَبْد وَلِهَذَا امرنا سُبْحَانَهُ ان نَسْأَلهُ هِدَايَة الصِّرَاط الْمُسْتَقيم كل يَوْم وَلَيْلَة فِي صلواتنا الْخمس فَإِن العَبْد مُحْتَاج الى معرفَة الْحق الَّذِي يرضى الله فِي كل حَرَكَة غاهرة وباطنة فَإِذا عرفهَا فَهُوَ مُحْتَاج إِلَى من يلهمه قصد الْحق فَيجْعَل إِرَادَته فِي قلبه ثمَّ إِلَى من يقدره على فعله وَمَعْلُوم ان مَا يجهله العَبْد اضعاف اضعاف مَا يُعلمهُ وَإِن كل مَا يعلم انه حق لَا تطاوعه نَفسه على غرادته وَلَو اراده لعجز عَن كثير مِنْهُ فَهُوَ مُضْطَر كل وَقت إِلَى هِدَايَة تتَعَلَّق بالماضي وبالحال والمستقبل أما الْمَاضِي فَهُوَ مُحْتَاج إِلَى محاسبة نَفسه عَلَيْهِ وَهل وَقع على السداد فيشكر الله عَلَيْهِ ويستديمه ام خرج فِيهِ عَن الْحق فيتوب إِلَى الله تَعَالَى مِنْهُ ويتسغفره ويعزم على ان لَا يعود وَأما الْهِدَايَة فِي الْحَال فَهِيَ مَطْلُوبَة مِنْهُ فَإِنَّهُ ابْن وقته فَيحْتَاج ان يعلم حكم مَا هُوَ متلبس بِهِ من الافعال هَل هُوَ صَوَاب ام خطأ وَأما الْمُسْتَقْبل فحاجته فِي الْهِدَايَة اظهر ليَكُون سيره على الطَّرِيق وَإِذا كَانَ هَذَا شَأْن الْهِدَايَة علم ان العَبْد اشد شَيْء اضطرارا اليها وان مَا يُورِدهُ بعض النَّاس من السُّؤَال الْفَاسِد وَهِي انا إِذا كُنَّا مهتدين فَأَي حَاجَة بِنَا ان نسْأَل الله ان يهدينا وَهل هَذَا الا تَحْصِيل الْحَاصِل افسد سُؤال وابعده عَن الصَّوَاب وَهُوَ دَلِيل على ان صَاحبه لم يحصل معنى الْهِدَايَة وَلَا احاط علما بحقيقتها ومسماها فَلذَلِك تكلّف من تكلّف الْجَواب عَنهُ بَان الْمَعْنى ثبتنا على الْهِدَايَة وادمها لنا وَمن احاط علما بحقية الْهِدَايَة وحاجة العَبْد اليها علم ان الَّذِي لم يحصل لَهُ مِنْهَا اضعاف مَا حصل لَهُ انه كل وَقت مُحْتَاج إِلَى هِدَايَة متجددة لاسيما وَالله تَعَالَى خَالق افعال الْقُلُوب والجوارح فَهُوَ كل وَقت مُحْتَاج ان يخلق الله لَهُ هِدَايَة

ص: 83

خَاصَّة ثمَّ ان لم يصرف عَنهُ الْمَوَانِع والصوارف الَّتِي تمنع مُوجب الْهِدَايَة وتصرفها لم ينْتَفع بالهداية وَلم يتم مقصودها لَهُ فَإِن الحكم لَا يَكْفِي فِيهِ وجود مقتضيه بل لَا بُد مَعَ ذَلِك من عدم مانعه ومنافيه وَمَعْلُوم ان وساوس العَبْد وخواطره وشهوات الغي فِي قلبه كل مِنْهَا مَانع وُصُول اثر الْهِدَايَة اليه فَإِن لم يصرفهَا الله عَنهُ لم يهتد هدى تَاما فحاجاته إِلَى هِدَايَة الله لَهُ مقرونة بانفاسه وَهِي اعظم حَاجَة للْعَبد وَذكر النَّبِي فِي الدُّعَاء الْعَظِيم الْقدر من اوصاف الله وربوبيته مَا يُنَاسب الْمَطْلُوب فان فطر السَّمَوَات والارض توسل إِلَى الله بِهَذَا الْوَصْف فِي الْهِدَايَة للفطرة الَّتِي ابْتَدَأَ الْخلق عَلَيْهَا فَذكر كَونه فاطر السَّمَوَات والارض وَالْمَطْلُوب تَعْلِيم الْحق والتوفيق لَهُ فَذكر علمه سُبْحَانَهُ بِالْغَيْبِ وَالشَّهَادَة وان من هُوَ بِكُل شَيْء عليم جدير ان يطْلب مِنْهُ عَبده ان يُعلمهُ ويرشده ويهديه وَهُوَ بِمَنْزِلَة التوسل إِلَى الْغَنِيّ بغناه وسعة كرمه ان يعْطى عَبده شَيْئا من مَاله والتوسل إِلَى الغفور بسعة مغفرته ان يغْفر لعَبْدِهِ ويعفوه ان يعْفُو عَنهُ وبرحمته ان يرحمه ونظائر ذَلِك وَذكر ربوبيته تَعَالَى لجبريل وَمِيكَائِيل وإسرافيل وَهَذَا وَالله اعْلَم لَان الْمَطْلُوب هدى يحيا بِهِ الْقلب وَهَؤُلَاء الثَّلَاثَة الاملاك قد جعل الله تَعَالَى على ايديهم اسباب حَيَاة الْعباد اما جِبْرِيل فَهُوَ صَاحب الْوَحْي الَّذِي يوحيه الله إِلَى الانبياء وَهُوَ سَبَب حَيَاة الدُّنْيَا والاخرة واما مِيكَائِيل فَهُوَ مُوكل بالقطر الَّذِي بِهِ سَبَب حَيَاة كل شَيْء واما إسْرَافيل فَهُوَ الَّذِي ينْفخ فِي الصُّور فيحيى الله الْمَوْتَى بنفخته فَإِذا هم قيام لرب الْعَالمين وَالْهِدَايَة لَهَا ارْبَعْ مَرَاتِب وَهِي مَذْكُورَة فِي الْقُرْآن الْمرتبَة الاولى الْهِدَايَة الْعَامَّة وَهِي هِدَايَة كل مَخْلُوق من الْحَيَوَان والادمي لمصالحه الَّتِي بهَا قَامَ امْرَهْ قَالَ الله تَعَالَى سبح اسْم رَبك الاعلى الَّذِي خلق فسوى وَالَّذِي قدر فهدى فَذكر امورا اربعة الْخلق والتسوية وَالتَّقْدِير وَالْهِدَايَة فسوى خلقه واتقنه وأحكمه ثمَّ قدر لَهُ اسباب مَصَالِحه فِي معاشه وتقلباته وتصرفاته وهداه اليها وَالْهِدَايَة تَعْلِيم فَذكر انه الَّذِي خلق وَعلم كَمَا ذكر نَظِير ذَلِك فِي أول سُورَة انزلها على رَسُوله وَقد تقدم ذَلِك وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَة عَن عدوه فِرْعَوْن انه قَالَ لمُوسَى فَمن رَبكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبنَا الَّذِي اعطى كل شَيْء خلقه ثمَّ هدى وَهَذِه الْمرتبَة اسبق مَرَاتِب الْهِدَايَة وأعمها الْمرتبَة الثَّانِيَة هِدَايَة الْبَيَان وَالدّلَالَة الَّتِي أَقَامَ بهَا حجَّته على عباده وَهَذِه لَا تَسْتَلْزِم الاهتداء التَّام قَالَ تَعَالَى وَأما ثَمُود فهديناهم فاستحبوا الْعَمى على الْهدى يَعْنِي بَينا لَهُم ودللناهم وعرفناهم فآثروا الضَّلَالَة والعمى وَقَالَ تَعَالَى وعادا وَثَمُود وَقد تبين لكم من مساكنهم وزين لَهُم الشَّيْطَان اعمالهم فصدهم عَن السَّبِيل وَكَانُوا مستبصرين وَهَذِه الْمرتبَة اخص من الاولى وأعم من الثَّانِيَة وَهِي هدى التَّوْفِيق والالهام قَالَ الله تَعَالَى وَالله يَدْعُو إِلَى دَار السَّلَام وَيهْدِي من يَشَاء إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم فَعم بالدعوة خلقه وَخص بالهداية من شَاءَ مِنْهُم قَالَ تَعَالَى

ص: 84

إِنَّك لَا تهدي من احببت وَلَكِن الله يهدي من يَشَاء مَعَ قَوْله وَإنَّك لتهدي إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم فَاثْبتْ هِدَايَة الدعْوَة وَالْبَيَان وَنفي هِدَايَة التَّوْفِيق والامام وَقَالَ النَّبِي فِي نشْهد الْحَاجة من يهد الله فَلَا مضل لَهُ وَمن يضلل فَلَا هادي لَهُ وَقَالَ تَعَالَى إِن تحرص على هدَاهُم فَإِن الله لايهدي من يضل أَي من يضله الله لايهتدي أبدا وَهَذِه الْهِدَايَة الثَّالِثَة هِيَ الْهِدَايَة الْمُوجبَة المستلزمة للاهتداء واما الثَّانِيَة فَشرط لاموجب فَلَا يَسْتَحِيل تخلف الْهدى عَنْهَا بِخِلَاف الثَّالِثَة فَإِن تخلف الْهدى عَنْهَا مُسْتَحِيل الْمرتبَة الرَّابِعَة الْهِدَايَة فِي الاخرة إِلَى طَرِيق الْجنَّة وَالنَّار قَالَ تَعَالَى احشرواالذين ظلمُوا وأزواجهم وَمَا كَانُوا يعْبدُونَ من دون الله فاهدوهم إِلَى صِرَاط الْجَحِيم واما قَول اهل الْجنَّة الْحَمد لله الَّذِي هدَانَا لهَذَا وَمَا كُنَّا لنهتدي لَوْلَا ان هدَانَا الله فَيحْتَمل ان يَكُونُوا ارادوا الْهِدَايَة إِلَى طَرِيق الْجنَّة وَأَن يَكُونُوا ارادوا الْهِدَايَة فِي الدُّنْيَا الَّتِي اوصلتهم إِلَى دَار النَّعيم وَلَو قيل إِن كلا الْأَمريْنِ مُرَاد لَهُم وانهم حمدوا الله على هدايته لَهُم فِي الدُّنْيَا وهدايتهم إِلَى طَرِيق الْجنَّة كَانَ احسن وابلغ وَقد ضرب الله تَعَالَى لمن لم يحصل لَهُ الْعلم بِالْحَقِّ واتباعه مثلا مطابقا لحاله فَقَالَ تَعَالَى قل اندعو من دون الله مَالا ينفعنا وَلَا يضرنا ونرد على اعقابنا بعد إِذْ هدَانَا الله كَالَّذي استهوته الشَّيَاطِين فِي الارض حيران لَهُ اصحاب يَدعُونَهُ إِلَى الْهدى ائتنا قل إِن هدى الله هُوَ الْهدى وأمرنا لنسلم لرب الْعَالمين الْوَجْه السَّادِس وَالسَّبْعُونَ ان فَضِيلَة الشَّيْء وشرفه يظْهر تَارَة من عُمُوم منفعَته وَتارَة من شدَّة الْحَاجة اليه وَعدم الِاسْتِغْنَاء عَن وَتارَة من ظُهُور النَّقْص وَالشَّر بفقده وَتارَة من حُصُول اللَّذَّة وَالسُّرُور والبهجة بِوُجُودِهِ لكَونه محبوبا ملائما فادراكه يعقب غَايَة اللَّذَّة وَتارَة من كَمَال الثَّمَرَة المترتبة عَلَيْهِ وَشرف علته الغائية وافضاله إِلَى اجل المطالب وَهَذِه الْوُجُوه وَنَحْوهَا تنشأ وَتظهر من مُتَعَلقَة فَإِذا كَانَ فِي نَفسه كمالا وشرفا بِقطع النّظر عَن متعلقاته جمع جِهَات الشّرف وَالْفضل فِي نَفسه ومتعلقاته وَمَعْلُوم ان هَذِه الْجِهَات بأسرها حَاصِلَة للْعلم فَإِنَّهُ أَعم شَيْء نفعا واكثره وادومه وَالْحَاجة اليه فَوق الْحَاجة إِلَى الْغذَاء بل فَوق الْحَاجة إِلَى التنفس إِذْ غَايَة مايتصور من فقدهما فقد حَيَاة الْجِسْم وَأما فقد الْعلم فَفِيهِ فقد حَيَاة الْقلب وَالروح فَلَا غنى للْعَبد عَنهُ طرفَة عين وَلِهَذَا إِذا فقد من الشَّخْص كَانَ شرا من الْحمير بل كَانَ شرا من الدَّوَابّ عِنْد الله وَلَا شَيْء انقص مِنْهُ حِينَئِذٍ وَأما حُصُول اللَّذَّة والبهجة بِوُجُودِهِ فَلِأَنَّهُ كَمَال فِي نَفسه وَهُوَ ملائم غَايَة الملاءمة للنفوس فان الْجَهْل مرض وَنقص وَهُوَ فِي غَايَة الايذاء والايلام للنَّفس وَمن لم يشْعر بِهَذِهِ الملاءمة والمنافرة فَهُوَ لفقد حسه وَنَفسه وَمَا لجرح ميت إيلام فحصوله للنَّفس إِدْرَاك مِنْهَا لغاية محبوبها واتصال بِهِ وَذَلِكَ غَايَة لذتها وفرحتها وَهَذَا بِحَسب الْمَعْلُوم فِي نَفسه ومحبة النَّفس لَهُ ولذتها بِقُرْبِهِ والعلوم والمعلومات

ص: 85

متفاوته فِي ذَلِك اعظم التَّفَاوُت وابينه فَلَيْسَ علم النُّفُوس بفاطرها وباريها ومبدعها ومحبته والتقرب اليه كعلمها بالطبيعة واحوالها وعوارضه وصحتها وفسادها وحركاتها وَهَذَا بتبين بِالْوَجْهِ السَّابِع وَالسبْعين وَهُوَ ان شرف الْعلم تَابع لشرف معلومه لوثوق النَّفس بأدلة وجوده وبراهينه ولشدة الْحَاجة إِلَى مَعْرفَته وَعظم النَّفْع بهَا وَلَا ريب ان اجل مَعْلُوم وأعظمه واكبره فَهُوَ الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ رب الْعَالمين وقيوم السَّمَوَات والارضين الْملك الْحق الْمُبين الْمَوْصُوف بالكمال كُله المنزه عَن كل عيب وَنقص وَعَن كل تَمْثِيل وتشبيه فِي كَمَاله وَلَا ريب ان الْعلم بِهِ وباسمائه وَصِفَاته وافعاله اجل الْعُلُوم وافضلها ونسبته إِلَى سَائِر الْعُلُوم كنسبة مَعْلُومَة إِلَى سَائِر المعلومات وكما ان الْعلم بِهِ اجل الْعُلُوم واشرفها فَهُوَ اصلها كلهَا كَمَا ان كل مَوْجُود فَهُوَ مُسْتَند فِي وجوده إِلَى الْملك الْحق الْمُبين ومفتقر اليه فِي تحقق ذَاته وأينيته وكل علم فَهُوَ تَابع للْعلم بِهِ مفتقر فِي تحقق ذَاته اليه فالعلم بِهِ اصل كل علم كَمَا انه سُبْحَانَهُ رب كل شَيْء ومليكه وموجده وَلَا ريب ان كَمَال الْعلم بِالسَّبَبِ التَّام وَكَونه سَببا يسْتَلْزم الْعلم بمسببه كَمَا ان الْعلم بِالْعِلَّةِ التَّامَّة وَمَعْرِفَة كَونهَا عِلّة يسْتَلْزم الْعلم بمعلوله وكل مَوْجُود سوى الله فَهُوَ مُسْتَند فِي وجوده اليه استناد الْمَصْنُوع إِلَى صانعه وَالْمَفْعُول الى فَاعله فالعلم بِذَاتِهِ سُبْحَانَهُ وَصِفَاته وافعاله يسْتَلْزم الْعلم بِمَا سواهُ فَهُوَ فِي ذَاته رب كل شَيْء ومليكه وَالْعلم بِهِ اصل كل علم ومنشؤه فَمن عرف الله عرف مَا سواهُ وَمن جهل ربه فَهُوَ لما سواهُ اجهل قَالَ تَعَالَى وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِين نسوا الله فأنساهم انفسهم فَتَأمل هَذِه الاية تَجِد تحتهَا معنى شريفا عَظِيما وَهُوَ ان من نسى ربه انساه ذَاته وَنَفسه فَلم يعرف حَقِيقَته وَلَا مَصَالِحه بل نسى مَا بِهِ صَلَاحه وفلاحه فِي معاشه ومعاده فَصَارَ معطلا مهملا بِمَنْزِلَة الانعام السائبة بل رُبمَا كَانَت الانعام اخبر بمصالحها مِنْهُ لبقائها هداها الَّذِي اعطاها إِيَّاه خَالِقهَا وَأما هَذَا فَخرج عَن فطرته الَّتِي خلق عَلَيْهَا فنسى ربه فأنساه نَفسه وصفاتها وَمَا تكمل بِهِ وتزكوبه وتسعد بِهِ فِي معاشها ومعادها قَالَ الله تَعَالَى وَلَا تُطِع من اغفلنا قلبه عَن ذكرنَا وَاتبع هَوَاهُ وَكَانَ امْرَهْ فرطا فَغَفَلَ عَن ذكر ربه فانفرط عَلَيْهِ امْرَهْ وَقَلبه فَلَا الْتِفَات لَهُ إِلَى مَصَالِحه وكماله وَمَا تزكو بِهِ نَفسه وَقَلبه بل هُوَ مشتت الْقلب مضيعه مفرط الامر حيران لايهتدي سَبِيلا وَالْمَقْصُود ان الْعلم بِاللَّه اصل كل علم وَهُوَ اصل علم العَبْد بسعادته وكماله ومصالح دُنْيَاهُ وآخرته وَالْجهل بِهِ مُسْتَلْزم للْجَهْل بِنَفسِهِ ومصالحها وكمالها وَمَا تزكو بِهِ وتفلح بِهِ فالعلم بِهِ سَعَادَة العَبْد وَالْجهل بِهِ اصل شقاوته يزِيدهُ ايضاحا الْوَجْه الثَّامِن وَالسَّبْعُونَ انه لَا شَيْء اطيب للْعَبد وَلَا الذ وَلَا اهنأ وَلَا انْعمْ لِقَلْبِهِ وعيشه من محبَّة فاطره وباريه ودوام ذكره وَالسَّعْي فِي مرضاته وَهَذَا هُوَ الْكَمَال الَّذِي لاكمال للْعَبد بِدُونِهِ وَله خلق الْخلق ولاجله نزل الْوَحْي وارسلت الرُّسُل وَقَامَت السَّمَوَات والارض وَوجدت الْجنَّة وَالنَّار ولاجله شرعت الشَّرَائِع

ص: 86

وَوضع الْبَيْت الْحَرَام وَوَجَب حجه على النَّاس إِقَامَة لذكره الَّذِي هُوَ من تَوَابِع محبته وَالرِّضَا بِهِ وَعنهُ ولاجل هَذَا امْر بِالْجِهَادِ وَضرب اعناق من اباه وآثر غَيره عَلَيْهِ وَجعل لَهُ فِي الاخرة دَار الهوان خَالِدا مخلدا وعَلى هَذَا الامر الْعَظِيم اسست الْملَّة ونصبت الْقبْلَة وَهُوَ قطب رحى الْخلق والامر الَّذِي مدارهما عَلَيْهِ ولاسبيل إِلَى الدُّخُول إِلَى ذَلِك إِلَّا من بَاب الْعلم فَإِن محبَّة الشَّيْء فرع عَن الشُّعُور بِهِ واعرف الْخلق بِاللَّه اشدهم حبا لَهُ فَكل من عرف الله احبه وَمن عرف الدُّنْيَا واهلها زهد فيهم فالعلم يفتح هَذَا الْبَاب الْعَظِيم الَّذِي هُوَ سر الْخلق وَالْأَمر كَمَا سَيَأْتِي بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى الْوَجْه التَّاسِع وَالسَّبْعُونَ ان اللَّذَّة بالمحبوب تضعف وتقوى بِحَسب قُوَّة الْحبّ وَضَعفه فَكلما كَانَ الْحبّ اقوى كَانَت اللَّذَّة اعظم وَلِهَذَا تعظم لَذَّة الظمآن بِشرب المَاء الْبَارِد بِحَسب شدَّة طلبه للْمَاء وَكَذَلِكَ الجائع وَكَذَلِكَ من احب شَيْئا كَانَت لذته على قدر حبه إِيَّاه وَالْحب تَابع للْعلم بالمحبوب وَمَعْرِفَة جماله الظَّاهِر وَالْبَاطِن فلذة النّظر إِلَى الله بعد لِقَائِه بِحَسب قُوَّة حبه وإرادته وَذَلِكَ بِحَسب الْعلم بِهِ وبصفات كَمَاله فَإِذا الْعلم هُوَ اقْربْ الطّرق إِلَى اعظم اللَّذَّات وَسَيَأْتِي تَقْرِير هَذَا فِيمَا بعد ان شَاءَ الله تَعَالَى الْوَجْه الثَّمَانُونَ ان كل مَا سوى الله يفْتَقر الى الْعلم لاقوام لَهُ بِدُونِهِ فَإِن الْوُجُود وجودان وجود الْخلق وَوُجُود الامر والخلق وَالْأَمر مصدرهما علم الرب وحكمته فَكل ماضمه الْوُجُود من خلقه وامره صادر عَن علمه وحكمته فَمَا قَامَت السَّمَوَات والارض وَمَا بَينهمَا الا بِالْعلمِ وَلَا بعثت الرُّسُل وأنزلت الْكتب إِلَّا بِالْعلمِ ولاعبد الله وَحده وَحمد واثنى عَلَيْهِ ومجد إِلَّا بِالْعلمِ ولاعرف الْحَلَال من الْحَرَام إِلَّا بِالْعلمِ ولاعرف فضل الاسلام على غَيره الا بِالْعلمِ وَاخْتلف هُنَا فِي مسئلة وَهِي ان الْعلم صفة فعلية اَوْ انفعالية فَقَالَت طَائِفَة هُوَ صفة فَعَلَيهِ لانه شَرط اَوْ جُزْء وَسبب فِي وجود الْمَفْعُول فَإِن الْفِعْل الِاخْتِيَارِيّ يَسْتَدْعِي حَيَاة الْفَاعِل وَعلمه وَقدرته وإرادته وَلَا يتَصَوَّر وجوده بِدُونِ هَذِه الصِّفَات وَقَالَت طَائِفَة هُوَ انفعالي فَإِنَّهُ تَابع للمعلوم مُتَعَلق بِهِ على مَا هُوَ عَلَيْهِ فَإِن الْعَالم يدْرك الْمَعْلُوم على مَا هُوَ بِهِ فادراكه تَابع لَهُ فَكيف يكون مُتَقَدما عَلَيْهِ وَالصَّوَاب ان الْعلم قِسْمَانِ علم فعلى وَهُوَ علم الْفَاعِل الْمُخْتَار بِمَا يُرِيد ان يَفْعَله فَإِنَّهُ مَوْقُوف على ارادته الْمَوْقُوفَة على تصَوره المُرَاد وَعلمه بِهِ فَهَذَا علم قبل الْفِعْل مُتَقَدم عَلَيْهِ مُؤثر فِيهِ وَعلم انفعالي وَهُوَ الْعلم التَّابِع للمعلوم الَّذِي لَا تَأْثِير لَهُ فِيهِ كعلمنا بِوُجُود الانبياء والامم والملوك وَسَائِر الموجودات فَإِن هَذَا الْعلم لَا يُؤثر فِي الْمَعْلُوم وَلَا هُوَ شَرط فِيهِ فَكل من الطَّائِفَتَيْنِ نظرت جزئيا وحكمت كليا وَهَذَا مَوضِع يغلط فِيهِ كثير من النَّاس وكلا الْقسمَيْنِ من الْعلم صفة كَمَال وَعَدَمه من اعظم النَّقْص يُوضحهُ الْوَجْه الْحَادِي وَالثَّمَانُونَ ان فَضِيلَة الشَّيْء تعرف بضده فالضد يظْهر حسنه الضِّدّ وبضدها نتبين الاشياء وَلَا ريب ان الْجَهْل اصل كل فَسَاد وكل ضَرَر يلْحق العَبْد فِي دُنْيَاهُ واخراه فَهُوَ نتيجة

ص: 87

الْجَهْل والا فَمَعَ الْعلم التَّام بَان هَذَا الطَّعَام مثلا مَسْمُوم من اكله قطع امعاءه فِي وَقت معِين لَا يقدم على اكله وان قدر انه قدم عَلَيْهِ لغَلَبَة جوع اَوْ استعجال وَفَاة فَهُوَ لعلمه بموافقة اكله لمقصوده الَّذِي هُوَ احب اليه من الْعَذَاب بِالْجُوعِ اَوْ بِغَيْرِهِ وَهنا اخْتلف فِي مسئلة عَظِيمَة وَهِي ان الْعلم هَل يسْتَلْزم الاهتداء وَلَا يتَخَلَّف عَنهُ الْهدى إِلَّا لعدم الْعلم اونقصه والا فَمَعَ الْمعرفَة الجازمة لَا يتَصَوَّر الضلال وانه لَا يسْتَلْزم الْهدى فقد يكون الرجل عَالما وَهُوَ ضال على عمد هَذَا مِمَّا اخْتلف فِيهِ المتكلمون وارباب السلوك وَغَيرهم فَقَالَت فرقة من عرف الْحق معرفَة لَا يشك فِيهَا اسْتَحَالَ ان لَا يَهْتَدِي وَحَيْثُ ضل فلنقصان علمه وَاحْتَجُّوا من النُّصُوص بقوله تَعَالَى لَكِن الراسخون فِي الْعلم مِنْهُم والمؤمنون يُؤمنُونَ بِمَا أنزل اليك وَمَا انْزِلْ من قبلك فَشهد تَعَالَى لكل راسخ فِي الْعلم بالايمان وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّمَا يخْشَى الله من عباده الْعلمَاء وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى وَيرى الَّذين اوتوا الْعلم الَّذِي انْزِلْ اليك من رَبك هُوَ الْحق وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى شهد الله انه لَا إِلَه الا هُوَ وَالْمَلَائِكَة واولو الْعلم وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى افمن يعلم انما انْزِلْ اليك من رَبك الْحق كمن هُوَ اعمى قسم النَّاس قسمَيْنِ احدهما الْعلمَاء بَان مَا انْزِلْ اليه من ربه هوالحق وَالثَّانِي الْعَمى فَدلَّ على انه لَا وَاسِطَة بَينهمَا وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي وصف الْكفَّار صم بكم عمي فهم لَا يعْقلُونَ وَبِقَوْلِهِ وطبع الله على قُلُوبهم فهم لَا يعلمُونَ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى ختم الله على قُلُوبهم وعَلى سمعهم وعَلى ابصارهم غشاوة وَهَذِه مدارك الْعلم الثَّلَاث قد فَسدتْ عَلَيْهِم وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى أَفَرَأَيْت من اتخذ إلهه هَوَاهُ واضله الله على علم وَختم على سَمعه وَقَلبه وَجعل على بَصَره غشاوة فَمن يهديه من بعد الله أَفلا تذكرُونَ وَقَوله واضله الله على علم قَالَ سعيد بن جُبَير على علمه تَعَالَى فِيهِ قَالَ الزّجاج أَي على مَا سبق فِي علمه تَعَالَى انه ضال قبل ان يخلقه وَختم على سَمعه أَي طبع عَلَيْهِ فَلم يسمع الْهدى وعَلى قلبه فَلم يعقل الْهدى وعَلى بَصَره غشاوة فَلَا يبصر اسباب الْهدى وَهَذَا فِي الْقُرْآن كثير مِمَّا يبين فِيهِ مُنَافَاة الضلال للْعلم وَمِنْه قَوْله تَعَالَى وَمِنْهُم من يستمع اليك حَتَّى إِذا خَرجُوا من عنْدك قَالُوا اللَّذين اوتو الْعلم مَاذَا قَالَ آنِفا اولئك الَّذين طبع الله على قُلُوبهم فَلَو كَانُوا علمُوا مَا قَالَ الرُّسُل لم يسْأَلُوا اهل الْعلم مَاذَا قَالَ وَلما كَانَ مطبوعا على قُلُوبهم وَقَالَ تَعَالَى {وَالَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا صم وبكم فِي الظُّلُمَات} وَقَالَ تَعَالَى قل آمنُوا بِهِ أَولا تؤمنوا أَن الَّذين اوتو الْعلم من قبله إِذا يُتْلَى عَلَيْهِم يخرون للأذقان سجدا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبنَا ان كَانَ وعد رَبنَا لمفعولا فَهَذِهِ شَهَادَة من الله تَعَالَى لاولى الْعلم بالايمان بِهِ وبكلامه وَقَالَ تَعَالَى عَن اهل النَّار وَقَالُوا لَو كُنَّا نسْمع اونعقل مَا كُنَّا فِي اصحاب السعير فَدلَّ على ان اهل الضلال لاسمع لَهُم وَلَا عقل وَقَالَ تَعَالَى {وَتلك الْأَمْثَال نَضْرِبهَا للنَّاس وَمَا يَعْقِلهَا إِلَّا الْعَالمُونَ} اخبر تَعَالَى أَنه لَا

ص: 88

يعقل امثاله الا الْعَالمُونَ وَالْكفَّار لَا يدْخلُونَ فِي مُسَمّى الْعَالمين فهم لَا يعقلونها وَقَالَ تَعَالَى {بل اتبع الَّذين ظلمُوا أهواءهم بِغَيْر علم فَمن يهدي من أضلّ الله} وَقَالَ تَعَالَى {وَقَالَ الَّذين لَا يعلمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمنَا الله أَو تَأْتِينَا آيَة} وَقَالَ تَعَالَى {قل هَل يَسْتَوِي الَّذين يعلمُونَ وَالَّذين لَا يعلمُونَ} وَلَو كَانَ الضلال بِجَامِع الْعلم لَكَانَ الَّذين لَا يعلمُونَ احسن حَالا من الَّذين يعلمُونَ وَالنَّص بِخِلَافِهِ وَالْقُرْآن مَمْلُوء بسلب الْعلم والمعرفة عَن الْكفَّار فَتَارَة يصفهم بانهم لايعلمون وَتارَة بِأَنَّهُم لَا يعْقلُونَ وَتارَة بانهم لَا يَشْعُرُونَ وَتارَة بانهم لَا يفقهُونَ وَتارَة بِأَنَّهُم لَا يسمعُونَ وَالْمرَاد بِالسَّمْعِ الْمَنْفِيّ سمع الْفَهم وَهُوَ سمع الْقلب لَا إِدْرَاك الصَّوْت وَتارَة بِأَنَّهُم لَا يبصرون فَدلَّ ذَلِك كُله على ان الْكفْر مُسْتَلْزم للْجَهْل منَاف للْعلم لَا يجامعه وَلِهَذَا يصف سحبانه الْكفَّار بانهم جاهلون كَقَوْلِه تَعَالَى وَعباد الرَّحْمَن الَّذين يَمْشُونَ على الارض هونا وَإِذا خاطبهم الجاهلون قَالُوا سَلاما وَقَوله تَعَالَى وَإِذا سمعُوا اللَّغْو اعرضوا عَنهُ وَقَالُوا لنا اعمالنا وَلكم اعمالكم سَلام عَلَيْكُم لانبتغي الْجَاهِلين وَقَوله تَعَالَى خُذ الْعَفو وامر بِالْعرْفِ واعرض عَن الْجَاهِلين وَقَالَ النَّبِي لما بلغ قومه من اذاه ذَلِك الْمبلغ اللَّهُمَّ اغْفِر لقومي فانهم لَا يعلمُونَ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنهُ من يرد الله بِهِ خيرا يفقهه فِي الدّين فَدلَّ على ان الْفِقْه مُسْتَلْزم لارادة الله الْخَيْر فِي العَبْد وَلَا يُقَال الحَدِيث دلّ على ان من اراد الله بِهِ خيرا فقهه فِي الدّين وَلَا يدل على ان كل من فقهه فِي الدّين فقد اراد بِهِ خيرا وَبَينهمَا فرق ودليلكم انما يتم بالتقدير الثَّانِي والْحَدِيث لَا يَقْتَضِيهِ لانا نقُول النَّبِي جعل الْفِقْه فِي الدّين دَلِيلا وعلامة على ارادة الله بِصَاحِبِهِ خيرا وَالدَّلِيل يسْتَلْزم الْمَدْلُول وَلَا يتَخَلَّف عَنهُ فَإِن الْمَدْلُول لَازمه وَوُجُود الْمَلْزُوم بِدُونِ لَازمه محَال وَفِي التِّرْمِذِيّ وَغَيره عَنهُ صلى الله عليه وسلم

خصلتان لَا يَجْتَمِعَانِ فِي مُنَافِق حسن سمت وَفقه فِي الدّين فَجعل الْفِقْه فِي الدّين منافيا للنفاق بل لم يكن السّلف يطلقون اسْم الْفِقْه الاعلى الْعلم الَّذِي يَصْحَبهُ الْعَمَل كَمَا سُئِلَ سعد بن إِبْرَاهِيم عَن افقه اهل الْمَدِينَة قَالَ اتقاهم وسال فرقد السنجي الْحسن الْبَصْرِيّ عَن شَيْء فاجابه فَقَالَ إِن الْفُقَهَاء يخالفونك فَقَالَ الْحسن ثكلتك امك فريقد وَهل رَأَيْت بِعَيْنَيْك فَقِيها إِنَّمَا الْفَقِيه الزَّاهِد فِي الدُّنْيَا الرَّاغِب فِي الاخرة البصيربدينه المداوم على عبَادَة ربه الَّذِي لَا يهمز من فَوْقه وَلَا يسخر بِمن دونه وَلَا يبتغى على علم علمه الله تَعَالَى اجرا وَقَالَ بعض السّلف ان الْفَقِيه من لم يقنط النَّاس من رَحْمَة الله وَلم يؤمنهم مكر الله وَلم يدع الْقُرْآن رَغْبَة عَنهُ إِلَى ماسواه وَقَالَ ابْن مَسْعُود رضى الله عَنهُ كفى بخشية الله علما وبالاغترار بِاللَّه جهلا قَالُوا فَهَذَا الْقُرْآن وَالسّنة واطلاق السّلف من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ يدل على ان الْعلم والمعرفة مُسْتَلْزم للهداية وان عدم الْهِدَايَة دَلِيل على الْجَهْل وَعدم الْعلم قَالُوا وَيدل عَلَيْهِ ان الانسان مَا دَامَ عقله مَعَه لَا يُؤثر هَلَاك

ص: 89

نَفسه على نجاتها وعذابها الْعَظِيم الدَّائِم على نعيمها الْمُقِيم وَالْحسن شَاهد بذلك وَلِهَذَا وصف الله سُبْحَانَهُ اهل مَعْصِيَته بِالْجَهْلِ فِي قَوْله تَعَالَى إِنَّمَا التَّوْبَة على الله للَّذين يعْملُونَ السوء بِجَهَالَة ثمَّ يتوبون من قريب فاولئك يَتُوب الله عَلَيْهِم وَكَانَ الله عليما حكيما قَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ كل من عمل ذَنبا من خلق الله فَهُوَ جَاهِل كَانَ جَاهِلا اوعالما ان كَانَ عَالما فَمن اجهل مِنْهُ وان كَانَ لَا يعلم فَمثل ذَلِك وَقَوله ثمَّ يتوبون من قريب فَأُولَئِك يَتُوب الله عَلَيْهِم وَكَانَ الله عليما حكيما قَالَ قبل الْمَوْت وَقَالَ ابْن عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا ذَنْب الْمُؤمن جهل مِنْهُ قَالَ فتادة اجْمَعْ اصحاب رَسُول الله ان كل شَيْء عصى الله فِيهِ فَهُوَ جَهَالَة وَقَالَ السدى كل من عصى الله فَهُوَ جَاهِل قَالُوا وَيدل على صِحَة هَذَا ان مَعَ كَمَال الْعلم لاتصدر الْمعْصِيَة من العَبْد فَإِنَّهُ لَو رأى صَبيا يتطلع عَلَيْهِ من كوَّة لم تتحرك جوارحه لمواقعة الْفَاحِشَة فَكيف يَقع مِنْهُ حَال كَمَال الْعلم بِنَظَر الله اليه ورؤيته لَهُ وعقابه على الذَّنب وتحريمه لَهُ وَسُوء عاقبته فَلَا بُد من غَفلَة الْقلب على هَذَا الْعلم وغيبته عَنهُ فَحِينَئِذٍ يكون وَقَومه فِي الْمعْصِيَة صادرا عَن جهل وغفلة ونسيان مضاد للْعلم والذنب محفوف بجهلين جهل بِحَقِيقَة الاسباب الصارفة عَنهُ وَجَهل بِحَقِيقَة الْمفْسدَة المترتبة عَلَيْهِ وكل وَاحِد من الجهلين تَحْتَهُ جهالات كَثِيرَة فَمَا عصى الله إِلَّا بِالْجَهْلِ وَمَا اطيع الا بِالْعلمِ فَهَذَا بعض مَا احتجت بِهِ هَذِه الطَّائِفَة وَقَالَت الطَّائِفَة الاخرى الْعلم لَا يسْتَلْزم الْهِدَايَة وَكَثِيرًا مَا يكون الضلال عَن عمد وَعلم لَا يشك صَاحبه فِيهِ بل يُؤثر الضلال وَالْكفْر وَهُوَ عَالم بقبحه ومفسدته قَالُوا وَهَذَا شيخ الضلال وداعي الْكفْر وَإِمَام الفجرة إِبْلِيس عَدو الله قد علم امْر الله لَهُ بِالسُّجُود لادم وَلم يشك فِيهِ فخالفه وعاند الامر وباء بلعنة الله وعذابه الدَّائِم مَعَ علمه بذلك ومعرفته بِهِ واقسم لَهُ بعزته انه يغوى خلقه اجمعين الاعباده مِنْهُم المخلصين فَكَانَ غير شَاك فِي الله وَفِي وحدانيته وَفِي الْبَعْث الآخر وَفِي الْجنَّة وَالنَّار وَمَعَ ذَلِك اخْتَار الخلود فِي النَّار وَاحْتِمَال لعنة الله وغضبه وطرده من سمائه وجنته عَن علم بذلك وَمَعْرِفَة لم يحصل لكثير من النَّاس وَلِهَذَا قَالَ رب فأنظرني الى يَوْم يبعثون وَهَذَا اعْتِرَاف مِنْهُ بِالْبَعْثِ وقرار بِهِ وَقد علم قسم ربه ليملأن جَهَنَّم مِنْهُ وَمن اتِّبَاعه فَكَانَ كفره كفر عناد مَحْض لَا كفر جهل وَقَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَن قوم ثَمُود وَأما ثَمُود فهدينهم فاستحبوا الْعَمى على الْهدى يَعْنِي بَينا لَهُم وعرفناهم فعرفوا الْحق وتيقنوه وآثروا الْعَمى عَلَيْهِ فَكَانَ كفر هَؤُلَاءِ عَن جهل وَقَالَ تَعَالَى حاكيا عَن مُوسَى إِنَّه قَالَ لفرعون لقد علمت مَا انْزِلْ هَؤُلَاءِ الا رب السَّمَوَات والارض بصائر وَإِنِّي لاظنك يَا فِرْعَوْن مثبورا أَي هَالكا على قِرَاءَة من فتح التَّاء وَهِي قِرَاءَة الْجُمْهُور وَضمّهَا الْكسَائي وَحده وَقِرَاءَة الْجُمْهُور احسن واوضح وافخم معنى وَبهَا تقوم الدّلَالَة وَيتم الالزام بتحقق كفر فِرْعَوْن وعناده وَيشْهد

ص: 90

لَهَا قَوْله تَعَالَى إِخْبَارًا عَنهُ وَعَن قومه فَلَمَّا جَاءَتْهُم آيَاتنَا مبصرة قَالُوا هَذَا سحر مُبين وجحدوا بهَا واستيقنتها انفسهم ظلما وعلوا فَانْظُر كَيفَ كَانَ عقابة المفسدين فاخبر سُبْحَانَهُ ان تكذيبهم وكفرهم كَانَ عَن يَقِين وَهُوَ اقوى الْعلم ظلما مِنْهُم وعلوا لَا جهلا وَقَالَ تَعَالَى لرَسُوله {قد نعلم إِنَّه ليحزنك الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُم لَا يكذبُونَك وَلَكِن الظَّالِمين بآيَات الله يجحدون} يَعْنِي انهم قد عرفُوا صدقك وانك غير كَاذِب فِيمَا تَقول وَلَكِن عاندوا وجحدوا بالمعرفة قَالَه ابْن عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا والمفسرون قَالَ قَتَادَة يعلمُونَ انك رَسُول وَلَكِن يجحدون قَالَ تَعَالَى وجحدوا بهَا واستقينتها انفسهم ظلماوعلوا وَقَالَ تَعَالَى {يَا أهل الْكتاب لم تكفرون بآيَات الله وَأَنْتُم تَشْهَدُون يَا أهل الْكتاب لم تلبسُونَ الْحق بِالْبَاطِلِ وتكتمون الْحق وَأَنْتُم تعلمُونَ} يَعْنِي تكفرون بِالْقُرْآنِ وبمن جَاءَ بِهِ وانتم تَشْهَدُون بِصِحَّتِهِ وبانه الْحق فكفركم كفر عناد وجحود عَن علم وشهود لَاعن جهل وخفاء وَقَالَ تَعَالَى عَن السَّحَرَة من الْيَهُود وَلَقَد علمُوا لمن اشْتَرَاهُ مَاله فِي الاخرة من خلاق أَي علمُوا من اخذ السحر وَقَبله لَا نصيب لَهُ فِي الاخرة وَمَعَ هَذَا الْعلم والمعرفة فهم يشترونه ويقبلونه ويتلعمونه وَقَالَ تَعَالَى الَّذين آتياناهم الْكتاب يعرفونه كَمَا يعْرفُونَ ابناءهم ذكر هَذِه الْمعرفَة عَن اهل الْكتاب فِي الْقبْلَة كَمَا فِي سُورَة الْبَقَرَة وَفِي التَّوْحِيد كَقَوْلِه فِي الانعام ائنكم لتشهدون انالله آلِهَة اخرى قل لَا اشْهَدْ قل إِنَّمَا هُوَ إِلَه وَاحِد وانني بَرِيء مِمَّا تشركون الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب يعرفونه كَمَا يعْرفُونَ أبنائهم وَفِي الْكتاب انه منزل من عِنْد الله لقَوْله تَعَالَى {وَالَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب يعلمُونَ أَنه منزل من رَبك بِالْحَقِّ} وَقَالَ تَعَالَى {كَيفَ يهدي الله قوما كفرُوا بعد إِيمَانهم وشهدوا أَن الرَّسُول حق وجاءهم الْبَينَات وَالله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين} قَالَ ابْن عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا هم قُرَيْظَة وَالنضير وَمن دَان بدينهم كفرُوا بِالنَّبِيِّ بعد ان كَانُوا قبل مبعثه مُؤمنين بِهِ وشهدوا لَهُ بِالنُّبُوَّةِ وَإِنَّمَا كفرُوا بغيا وحسدا قَالَ الزّجاج اعْلَم الله عز وجل انه لاجهة لهدايتهم لانهم قد استحقوا ان يضلوا بكفرهم لانهم كفرُوا بعد الْبَينَات وَمعنى كَيفَ يهْدِيهم أَي انه لَا يهْدِيهم لَان الْقَوْم عرفُوا الْحق وشهدوا بِهِ وتيقنوه وَكَفرُوا عمدا فَمن ايْنَ تأتيهم الْهِدَايَة فَإِن الَّذِي ترتجى هدايته من كَانَ ضَالًّا وَلَا يدرى انه ضال بل يظنّ انه على هدى فَإِذا عرف الْهدى اهْتَدَى وَأما من عرف الْحق وتيقنه وَشهد بِهِ قلبه ثمَّ اخْتَار الْكفْر والضلال عَلَيْهِ فَكيف يهدي الله مثل هَذَا وَقَالَ تَعَالَى عَن الْيَهُود {فَلَمَّا جَاءَهُم مَا عرفُوا كفرُوا بِهِ فلعنة الله على الْكَافرين} ثمَّ قَالَ {بئْسَمَا اشْتَروا بِهِ أنفسهم أَن يكفروا بِمَا أنزل الله بغيا أَن ينزل الله من فَضله على من يَشَاء من عباده} قَالَ ابْن عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا لم يكن كفرهم شكا وَلَا اشتباها وَلَكِن بغيا مِنْهُم حَيْثُ صَارَت النُّبُوَّة فِي ولد اسماعيل ثمَّ قَالَ بعد ذَلِك {وَلما جَاءَهُم رَسُول}

ص: 91

من عِنْد الله مُصدق لمامعهم نبذ فريق من الَّذين اوتوا الْكتاب كتاب الله وَرَاء ظُهُورهمْ كانهم لَا يعلمُونَ فَلَمَّا شبههم فِي فعلهم هَذَا بِمن لَا يعلم دلّ على انهم بنذوه عَن علم كَفعل من لَا يعلم تَقول إِذا خاطبت من عصاك عمدا كانك لم تعلم مَا فعلت اَوْ كانك لم تعلم بنهي إياك وَمِنْه على اُحْدُ الْقَوْلَيْنِ قَوْله تَعَالَى {فَإِن توَلّوا فَإِنَّمَا عَلَيْك الْبَلَاغ الْمُبين يعْرفُونَ نعْمَة الله ثمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرهم الْكَافِرُونَ} قَالَ السدى يعْنى مُحَمَّدًا وَاخْتَارَهُ الزّجاج فَقَالَ يعْرفُونَ أَن امْر مُحَمَّد حق ثمَّ يُنكرُونَ ذَلِك وَأول الاية يشْهد لهَذَا القَوْل وَقَالَ تَعَالَى واتل عَلَيْهِم نبأ الَّذِي آتيناه آيَاتنَا فانسلخ مِنْهَا فَأتبعهُ الشَّيْطَان فَكَانَ من الغاوين وَلَو شِئْنَا لرفعناه بهَا وَلكنه اخلد إِلَى الارض وَاتبع هَوَاهُ فَمثله كَمثل الْكَلْب قَالُوا فَهَل بعد هَذِه الاية بَيَان فَإِن هَذَا آتَاهُ الله آيَاته فانسلخ مِنْهَا وآثر الضلال والغي وقصته مَعْرُوفَة حَتَّى قيل إِنَّه كَانَ اوتى الِاسْم الاعظم وَمَعَ هَذَا فَلم يَنْفَعهُ علمه وَكَانَ من الغاوين فَلَو استلزم الْعلم والمعرفة الْهِدَايَة لاستلزمه فِي حق هَذَا وَقَالَ تَعَالَى {وعادا وَثَمُود وَقد تبين لكم من مساكنهم وزين لَهُم الشَّيْطَان أَعْمَالهم فصدهم عَن السَّبِيل وَكَانُوا مستبصرين} وَهَذَا يدل على ان قَوْلهم {يَا هود مَا جئتنا بِبَيِّنَة وَمَا نَحن بتاركي آلِهَتنَا عَن قَوْلك وَمَا نَحن لَك بمؤمنين} إِمَّا بهت مِنْهُم وجحود وَإِمَّا نفي لايات الاقتراح والعنت وَلَا يجب الاتيان بهَا وَقد وصف سُبْحَانَهُ ثَمُود بانها كفرت عَن علم وبصيرة بِالْحَقِّ وَلِهَذَا قَالَ {وآتينا ثَمُود النَّاقة مبصرة فظلموا بهَا} يَعْنِي بَيِّنَة مضيئة وَهَذَا كَقَوْلِه تَعَالَى {وَجَعَلنَا آيَة النَّهَار مبصرة} أَي مضيئة وَحَقِيقَة اللَّفْظ انها تجْعَل من رَآهَا مبصرا فَهِيَ توجب لَهُ الْبَصَر فتبصره أَي تَجْعَلهُ ذَا بصر فَهِيَ مُوضحَة مبينَة يُقَال بصر بِهِ إِذا رَآهُ كَقَوْلِه تَعَالَى {فبصرت بِهِ عَن جنب} وَقَوله {بصرت بِمَا لم يبصروا بِهِ} واما ابصره فَلهُ مَعْنيانِ احدهما جعله باصرا بالشَّيْء أَي ذَا بصر بِهِ كاية النَّهَار وَآيَة ثَمُود وَالثَّانِي بِمَعْنى رَآهُ كَقَوْلِك ابصرت زيدا وَفِي حَدِيث ابي شُرَيْح الْعَدْوى احدثك قولا قَالَ بِهِ رَسُول الله يَوْم الْفَتْح فَسَمعته أذناي ووعاه قلبِي وابصرته عَيْنَايَ حِين تكلم بِهِ وَمِنْه قَوْله تَعَالَى فتول عَنْهُم حَتَّى حِين وأبصرهم فسوق يبصرون قيل الْمَعْنى ابصرهم وَمَا يقْضى عَلَيْهِم من الاسر وَالْقَتْل وَالْعَذَاب فِي الاخرة فَسَوف يبصرونك وَمَا يقْضى لَك من النَّصْر والتأييد وَحسن الْعَاقِبَة وَالْمرَاد تقريب المبصر من الْمُخَاطب حَتَّى كانه نصب عَيْنَيْهِ وَرَأى ناظريه وَالْمَقْصُود ان الاية اوجبت لَهُم البصيرة فآثروا الضلال وَالْكفْر عَن علم ويقين وَلِهَذَا وَالله اعْلَم ذكر قصتهم من بَين قصَص سَائِر الامم فِي سُورَة وَالشَّمْس وَضُحَاهَا لانه ذكر فِيهَا انقسام النُّفُوس الى الزكية الراشدة المهتدية والى الْفَاجِرَة الضَّالة الغاوية وَذكر فِيهَا الاصلين الْقدر وَالشَّرْع فَقَالَ {فألهمها فجورها}

ص: 92

{وتقواها} فَهَذَا قدره وقضاؤه ثمَّ قَالَ {قد أَفْلح من زكاها وَقد خَابَ من دساها} فَهَذَا امْرَهْ وَدينه وَثَمُود هدَاهُم فاستحبوا الْعَمى على الْهدى فَذكر قصتهم ليبين سوء عَاقِبَة منمن آثر الْفُجُور على التَّقْوَى والتدسية على التَّزْكِيَة وَالله اعْلَم بِمَا أَرَادَ قَالُوا ويكفى فِي هَذَا اخباره تَعَالَى عَن الْكفَّار انهم يَقُولُونَ بعد مَا عاينوا الْعَذَاب ووردوا الْقِيَامَة وراوا مَا اخبرت بِهِ الرُّسُل يَا ليتنا نرد وَلَا نكذب بآيَات رَبنَا ونكون من الْمُؤمنِينَ بل بدا لَهُم مَا كَانُوا يخفون من قبل وَلَو ردوا لعادوا لمانهوا عَنهُ وَإِنَّهُم لَكَاذِبُونَ فأبي علم ابين من علم من ورد الْقِيَامَة وَرَأى مَا فِيهَا وذاق عَذَاب الاخرة ثمَّ ورد إِلَى الدُّنْيَا لاختار الضلال على الْهدى وَلم يَنْفَعهُ مَا قد عاينه وَرَآهُ وَقَالَ تَعَالَى وَلَو اننا نزلنَا اليهم الْمَلَائِكَة وكلمهم الْمَوْتَى وحشرنا عَلَيْهِم كل شَيْء قبلا ماكانوا ليؤمنوا الا ان يَشَاء الله وَلَكِن اكثرهم يجهلون فَهَل بعد نزُول الْمَلَائِكَة عيَانًا وتكليم الْمَوْتَى لَهُم وشهادتهم للرسول بِالصّدقِ وَحشر كل شَيْء فِي الدُّنْيَا عَلَيْهِم من بَيَان وإيضاح للحق وَهدى وَمَعَ هَذَا فَلَا يُؤمنُونَ وَلَا ينقادون للحق وَلَا يصدقون الرَّسُول وَمن نظر فِي سيرة رَسُول الله مَعَ قومه وَمَعَ الْيَهُود علم انهم كَانُوا جازمين بصدقه لَا يَشكونَ انه صَادِق فِي قَوْله انه رَسُول الله وَلَكِن اخْتَارُوا الضلال وَالْكفْر على الايمان قَالَ الْمسور بن مخرمَة رضى الله عَنهُ لابي جهل وَكَانَ خَاله أَي خَال هَل كُنْتُم تتهمون مُحَمَّدًا بِالْكَذِبِ قبل ان يَقُول مقَالَته الَّتِي قَالَهَا قَالَ ابو جهل لَعنه الله تَعَالَى يَا ابْن اخي وَالله لقد كَانَ مُحَمَّد فِينَا وَهُوَ شَاب يدعى الامين مَا جربنَا عَلَيْهِ كذبا قطّ فَلَمَّا وخطه الشيب لم يكن ليكذب على الله قَالَ يَا خَال فَلم لَا تتبعونه قَالَ يَا ابْن اخي تنازعنا نَحن بَنو هَاشم الشّرف فاطعموا وأطعمنا وَسقوا وسقينا وأجاروا وأجرنا فَلم تجاثينا على الركب وَكُنَّا كفرسي رهان قَالُوا منا نَبِي فَمَتَى ندرك هَذِه وَهَذَا امية بن ابي الصَّلْت كَانَ ينتظره يَوْمًا بِيَوْم وَعلمه عِنْده قبل مبعثه وقصته مَعَ ابي سُفْيَان لما سافرا مَعًا مَعْرُوفَة واخباره برَسُول الله ثمَّ لما تيقنه وَعرف صدقه قَالَ لَا اومن بِنَبِي من غير ثَقِيف ابدا وَهَذَا هِرقل تَيَقّن انه رَسُول الله وَلم يشك فِيهِ وآثر الضلال وَالْكفْر اسْتِبْقَاء لملكه وَلما سَأَلَهُ الْيَهُود عَن التسع آيَات البيانات فاخبرهم بهَا قبلوا يَده وَقَالُوا نشْهد انك نَبِي قَالَ فَمَا يمنعكم ان تتبعوني قَالُوا إِن دَاوُد عليه السلام دَعَا ان لَا يزَال فِي ذُريَّته نَبِي وَإِنَّا نخشى أَن اتَّبَعْنَاك ان تَقْتُلنَا يهود فَهَؤُلَاءِ قد تحققوا نبوته وشهدوا لَهُ بهَا وَمَعَ هَذَا فآثروا الْكفْر والضلال وَلم يصيروا مُسلمين بِهَذِهِ الشَّهَادَة فَقيل لَا يصير الْكَافِر مُسلما بِمُجَرَّد شَهَادَة ان مُحَمَّدًا رَسُول الله حَتَّى يشْهد لله بالوحدانية وَقيل يصير بذلك مُسلما وَقيل إِن كَانَ كفره بتكذيب الرَّسُول كاليهود صَار مُسلما بذلك وَإِن كَانَ كفره بالشرك مَعَ ذَلِك لم يصر مُسلما إِلَّا بِالشَّهَادَةِ بِالتَّوْحِيدِ

ص: 93

كالنصارى وَالْمُشْرِكين وَهَذِه الاقوال الثَّلَاثَة فِي مَذْهَب الامام احْمَد وَغَيره وعَلى هَذَا فانما لم يحكم لهَؤُلَاء الْيَهُود الَّذين شهدُوا لَهُ بالرسالة بِحكم الاسلام لَان مُجَرّد الاقرار والاخبار بِصِحَّة رسَالَته لَا يُوجب الاسلام إِلَّا ان يلْزم طَاعَته ومتابعته وَإِلَّا فَلَو قَالَ انا اعْلَم انه نَبِي وَلَكِن لَا اتبعهُ وَلَا ادين بِدِينِهِ كَانَ من اكفر الْكفَّار كَحال هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورين وَغَيرهم وَهَذَا مُتَّفق عَلَيْهِ بَين الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وائمة السّنة ان الايمان لَا يَكْفِي فِي قَول اللِّسَان بِمُجَرَّدِهِ وَلَا معرفَة الْقلب مَعَ ذَلِك بل لَا بُد فِيهِ من عمل الْقلب وَهُوَ حبه لله وَرَسُوله وانقياده لدينِهِ والتزامه طَاعَته ومتابعة رَسُوله وَهَذَا خلاف من زعم ان الايمان هُوَ مُجَرّد معرفَة الْقلب واقراره وَفِيمَا تقدم كِفَايَة فِي إبِْطَال هَذِه الْمقَالة وَمن قَالَ ان الايمان هُوَ مُجَرّد اعْتِقَاد صدق الرَّسُول فِيمَا جَاءَ بِهِ وَإِن لم يلْتَزم مُتَابَعَته وعاداه وابغضه وقاتله لزمَه ان يكون هَؤُلَاءِ كلهم مُؤمنين وَهَذَا إِلْزَام لامحيد عَنهُ وَلِهَذَا اضْطربَ هَؤُلَاءِ فِي الْجَواب عَن ذَلِك لما ورد عَلَيْهِم وَأَجَابُوا بِمَا يستحي الْعَاقِل من قَوْله كَقَوْل بَعضهم إِن إِبْلِيس كَانَ مستهزئا وَلم يكن يقر بِوُجُود الله وَلَا بِأَن الله ربه وخالقه وَلم يكن يعرف ذَلِك وَكَذَلِكَ فِرْعَوْن وَقَومه لم يَكُونُوا يعْرفُونَ صِحَة نبوة مُوسَى وَلَا يَعْتَقِدُونَ وجود الصَّانِع وَهَذِه فضائح نَعُوذ بِاللَّه من الْوُقُوع فِي أَمْثَالهَا ونصرة المقالات وتقليد اربابها تحمل على أَكثر من هَذَا ونعوذ بِاللَّه من الخذلان قَالُوا وَقد بَين الْقُرْآن ان الْكفْر اقسام احدها كفر صادر عَن جهل وضلال وتقليد الاسلاف وَهُوَ كفر أَكثر الِاتِّبَاع والعوام الثَّانِي كفر جحود وعناد وَقصد مُخَالفَة الْحق ككفر من تقدم ذكره وغالب مَا يَقع هَذَا النَّوْع فِيمَن لَهُ رياسة علمية فِي قومه من الْكفَّار اَوْ رياسة سلطانية اَوْ من لَهُ ماكل واموال فِي قومه فيخاف هَذَا على رياسته وَهَذَا على مَاله ومأكله فيؤثر الْكفْر على الايمان عمدا الثَّالِث كفر إِعْرَاض مَحْض لَا ينظر فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول وَلَا يُحِبهُ وَلَا يبغضه وَلَا يواليه وَلَا يعاديه بل هُوَ معرض عَن مُتَابَعَته ومعاداته وَهَذَانِ القسمان أَكثر الْمُتَكَلِّمين ينكرونهما وَلَا يثبتون من الْكفْر إِلَّا الاول ويجعلون الثَّانِي وَالثَّالِث كفرا لدلالاته على الاول لَا لِأَنَّهُ فِي ذَاته كفر فَلَيْسَ عِنْدهم الْكفْر إِلَّا مُجَرّد الْجَهْل وَمن تَأمل الْقُرْآن وَالسّنة وسير الانبياء فِي أممهم ودعوتهم لَهُم وَمَا جرى لَهُم مَعَهم جزم بخطأ اهل الْكَلَام فِيمَا قَالُوهُ وَعلم ان عَامَّة كفر الامم عَن تَيَقّن وَعلم وَمَعْرِفَة بِصدق انبيائهم وَصِحَّة دَعوَاهُم وَمَا جاؤا بِهِ وَهَذَا الْقُرْآن مَمْلُوء من الاخبار عَن الْمُشْركين عباد الاصنام انهم كَانُوا يقرونَ بِاللَّه وانه هُوَ وَحده رَبهم وخالقهم وَأَن الارض وَمَا فِيهَا لَهُ وَحده وَأَنه رب السَّمَوَات السَّبع وَرب الْعَرْش الْعَظِيم وانه بِيَدِهِ ملكوت كل شَيْء وَهُوَ يجير وَلَا يجار عَلَيْهِ وَأَنه هُوَ الَّذِي سخر الشَّمْس وَالْقَمَر وَانْزِلْ الْمَطَر واخرج النَّبَات وَالْقُرْآن منادعليهم بذلك مُحْتَج بِمَا أقرُّوا بِهِ من ذَلِك على صِحَة مَا دعتهم اليه رسله

ص: 94

فَكيف يُقَال ان الْقَوْم لم يَكُونُوا مقرين قطّ بَان لَهُم رَبًّا وخالقا وَهَذَا بهتان عَظِيم فالكفر امْر وَرَاء مُجَرّد الْجَهْل بل الْكفْر الاغلظ هُوَ مَا انكره هَؤُلَاءِ وَزَعَمُوا انه لَيْسَ بِكفْر قَالُوا وَالْقلب عَلَيْهِ واجبان لَا يصيره مُؤمنا الا بهما جَمِيعًا وَاجِب الْمعرفَة وَالْعلم وواجب الْحبّ والانقياد والاستسلام فَكَمَا لَا يكون مُؤمنا إِذا لم يَأْتِ بِوَاجِب الْعلم والاعتقاد لَا يكون مُؤمنا إِذا لم يَأْتِ بِوَاجِب الْحبّ والانقياد والاستسلام بل إِذا ترك هَذَا الْوَاجِب مَعَ علمه ومعرفته بِهِ كَانَ اعظم كفرا وابعد عَن الايمان من الْكَافِر جهلا فَإِن الْجَاهِل إِذا عرف وَعلم فَهُوَ قريب إِلَى الانقياد والاتباع وَأما المعاند فَلَا دَوَاء فِيهِ قَالَ تَعَالَى {كَيفَ يهدي الله قوما كفرُوا بعد إِيمَانهم وشهدوا أَن الرَّسُول حق وجاءهم الْبَينَات وَالله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين} قَالُوا فحب الله وَرَسُوله بل كَون الله وَرَسُوله احب الى العَبْد من سواهُمَا لَا يكون العَبْد مُسلما الا بِهِ وَلَا ريب ان الْحبّ امْر وَرَاء الْعلم فَمَا كل من عرف الرَّسُول احبه كَمَا تقدم قَالُوا وَهَذَا لحاسد يحملهُ بغض الْمَحْسُود على معاداته وَالسَّعْي فِي اذاه بِكُل مُمكن مَعَ علمه بفضله وَعلمه وانه لَا شَيْء فِيهِ يُوجب عداوته إِلَّا محاسنه وفضائله وَلِهَذَا قيل الْحَاسِد عَدو للنعم والمكارم فالحاسد لم يحملهُ على معاداة الْمَحْسُود جَهله بفضله وكماله وَإِنَّمَا حمله على ذَلِك إِفْسَاد قَصده وإرادته كَمَا هِيَ حَال الرُّسُل وورثتهم مَعَ الرؤساء الَّذين سلبهم الرُّسُل ووارثوهم رئاستهم الْبَاطِلَة فعادوهم وصدوا النُّفُوس عَن متابعتهم ظنا ان الرياسة تبقى لَهُم وينفردون بهَا وَسنة الله فِي هَؤُلَاءِ ان يسلبهم رياسة الدُّنْيَا والاخرة ويصغرهم فِي عُيُون الْخلق مُقَابلَة لَهُم بنقيض قصدهم {وَمَا رَبك بظلام للعبيد} فَهَذَا موارد احتجاج الْفَرِيقَيْنِ وموقف اقدام الطَّائِفَتَيْنِ فاجلس ايها الْمنصف مِنْهُمَا مجْلِس الْحُكُومَة وتوخ بعلمك وعدلك فصل هَذِه الْخُصُومَة فقد ادلى كل مِنْهُمَا بحجج لَا تعَارض ولاتمانع وَجَاء ببينات لَا ترد وَلَا تدافع فَهَل عنْدك شَيْء غير هَذَا يحصل بِهِ فصل الْخطاب وينكشف بِهِ لطَالب الْحق وَجه الصَّوَاب فيرضى الطَّائِفَتَيْنِ وَيَزُول بِهِ الِاخْتِلَاف من الْبَين وَإِلَّا فَخَل الْمطِي وحاديها واعط النُّفُوس باريها

دع الْهوى لِأُنَاس يعْرفُونَ بِهِ

قد كابدوا الْحبّ حَتَّى لَان اصعبه

وَمن عرف قدره وَعرف لذِي الْفضل فَضله فقد قرع بَاب التَّوْفِيق وَالله الفتاح الْعَلِيم فَنَقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق

كلا الطَّائِفَتَيْنِ مَا خرجت عَن مُوجب الْعلم وَلَا عدلت عَن سنَن الْحق وَإِنَّمَا الِاخْتِلَاف والتباين بَينهمَا من عدم التوارد على مَحل وَاحِد وَمن اطلاق الفاظ مجملة بتفصيل مَعَانِيهَا يَزُول الِاخْتِلَاف وَيظْهر ان كل طَائِفَة مُوَافقَة الاخرى على نفس قَوْلهَا وَبَيَان هَذَا ان الْمُقْتَضى قِسْمَانِ

ص: 95

مُقْتَض لَا يتَخَلَّف عَنهُ مُوجبه وَمُقْتَضَاهُ لقصوره فِي نَفسه بل يستلزمه استلزام الْعلَّة التَّامَّة لمعلولها ومقتض غير تَامّ يتَخَلَّف عَنهُ مُقْتَضَاهُ لقصوره فِي نَفسه عَن التَّمام اَوْ لفَوَات شَرط اقتضائه اَوْ قيام مَانع منع تَأْثِيره فان اريد بِكَوْن الْعلم مقتضيا للاهتداء والاقتضاء التَّام الَّذِي لَا يتَخَلَّف عَنهُ اثره بل يلْزمه الاهتداء بِالْفِعْلِ فَالصَّوَاب قَول الطَّائِفَة الثَّانِيَة وَإنَّهُ لَا يلْزم من الْعلم حُصُول الاهتداء الْمَطْلُوب وَإِن اريد بِكَوْنِهِ مُوجبا انه صَالح للاهتداء مُقْتَض لَهُ وَقد يتَخَلَّف عَنهُ مُقْتَضَاهُ لقصوره اَوْ فَوَات شَرط اَوْ قيام مَانع فَالصَّوَاب قَول الطَّائِفَة الاولى وتفصيل هَذِه الْجُمْلَة ان الْعلم بِكَوْن الشَّيْء سَببا لمصْلحَة العَبْد ولذاته وسروره قد يتَخَلَّف عَنهُ عمله بِمُقْتَضَاهُ لاسباب عديدة السَّبَب الاول ضعف مَعْرفَته بذلك السَّبَب الثَّانِي عدم الاهلية وَقد تكون مَعْرفَته بِهِ تَامَّة لَكِن يكون مَشْرُوطًا بِزَكَاة الْمحل وقبوله للتزكية فَإِذا كَانَ الْمحل غير زكي وَلَا قَابل للتزكية كَانَ كالأرض الصلدة الَّتِي لَا تخالطها المَاء فَإِنَّهُ يمْتَنع النَّبَات مِنْهَا لعدم اهليتها وقبولها فَإِذا كَانَ الْقلب قاسيا حجريا لَا يقبل تَزْكِيَة وَلَا تُؤثر فِيهِ النصائح لم ينْتَفع بِكُل علم يُعلمهُ كَمَا لَا تنْبت الارض الصلبة وَلَو اصابها كل مطر وبذر فِيهَا كل بذر كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي هَذَا الصِّنْف من النَّاس {إِن الَّذين حقت عَلَيْهِم كلمة رَبك لَا يُؤمنُونَ وَلَو جَاءَتْهُم كل آيَة حَتَّى يرَوا الْعَذَاب الْأَلِيم} وَقَالَ تَعَالَى وَلَو اننا نزلنَا اليهم الْمَلَائِكَة وكلمهم الْمَوْتَى وحشرنا عَلَيْهِم كل شَيْء قبلا ماكانوا ليؤمنوا إِلَّا ان يَشَاء الله وَقَالَ تَعَالَى قل انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَات والارض وَمَا تغنى الايات وَالنّذر عَن قوم لَا يُؤمنُونَ وَهَذَا فِي الْقُرْآن كثير فَإِذا كَانَ الْقلب قاسيا غليظا جَافيا لَا يعْمل فِيهِ الْعلم شيئاوكذلك إِذا كَانَ مَرِيضا مهينا مائيا لَا صلابة فِيهِ وَلَا قُوَّة وَلَا عَزِيمَة لم يُؤثر فِيهِ الْعلم السَّبَب الثَّالِث قيام مَانع وَهُوَ إِمَّا حسد أَو كبر وَذَلِكَ مَانع إِبْلِيس من الانقياد لِلْأَمْرِ وَهُوَ دَاء الاولين والاخرين الا من عصم الله وَبِه تخلف الايمان عَن الْيَهُود الَّذين شاهدوا رَسُول الله وَعرفُوا صِحَة نبوته وَمن جرى مجراهم وَهُوَ الذيمنع عبد الله بن ابي من الايمان وَبِه تخلف الايمان عَن ابي جهل وَسَائِر الْمُشْركين فانهم لم يَكُونُوا يرتابون فِي صدقه وان الْحق مَعَه لَكِن حملهمْ الْكبر والحسد على الْكفْر وَبِه تخلف الايمان عَن امية واضرابه مِمَّن كَانَ عِنْده علم بنبوة مُحَمَّد السَّبَب الرَّابِع مَانع الرياسة وَالْملك وان لم يقم بِصَاحِبِهِ حسد وَلَا تكبر عَن الانقياد للحق لَكِن لَا يُمكنهُ ان يجْتَمع لَهُ الانقياد وَملكه ورياسته فيضن بِملكه ورياسته كَحال هِرقل واضرابه من مُلُوك الْكفَّار الَّذين علمُوا نبوته وَصدقه واقروا بهَا بَاطِنا واحبوا الدُّخُول فِي دينه لَكِن خَافُوا على ملكهم وَهَذَا دَاء ارباب الْملك وَالْولَايَة والرياسة وَقل من نجا مِنْهُ الا من عصم الله وَهُوَ دَاء فِرْعَوْن وَقَومه وَلِهَذَا قَالُوا {أنؤمن لبشرين مثلنَا وقومهما لنا عَابِدُونَ} انفوا ان يُؤمنُوا ويتبعوا

ص: 96

مُوسَى وهرون وينقادوا لَهما وَبَنُو إِسْرَائِيل عبيد لَهُم وَلِهَذَا قيل ان فِرْعَوْن لما اراد مُتَابعَة مُوسَى وتصديقه شاور هامان وزيره فَقَالَ بَينا انت اله تعبد تصير عبدا تعبد غَيْرك فَأبى الْعُبُودِيَّة وَاخْتَارَ الرياسة والالهية الْمحَال السَّبَب الْخَامِس مَانع الشَّهْوَة وَالْمَال وَهُوَ الَّذِي منع كثيرا من اهل الْكتاب من الايمان خوفًا من بطلَان مَأْكَلهمْ وَأَمْوَالهمْ الَّتِي تصير اليهم من قَومهمْ وَقد كَانَت كفار قُرَيْش يصدون الرجل عَن الايمان بِحَسب شَهْوَته فَيدْخلُونَ عَلَيْهِ مِنْهَا فَكَانُوا يَقُولُونَ لمن يحب الزِّنَا ان مُحَمَّدًا يحرم الزِّنَا وَيحرم الْخمر وَبِه صدوا الاعشى الشَّاعِر عَن الاسلام وَقد فاوضت غير وَاحِد من اهل الْكتاب فِي الاسلام وَصِحَّته فَكَانَ آخر مَا كلمني بِهِ احدهم انا لَا أترك الْخمر واشربها امنا فَإِذا اسلمت حلتم بيني وَبَينهَا وجلدتموني على شربهَا وَقَالَ آخر مِنْهُم بعد ان عرف مَا قلت لَهُ لي اقارب ارباب اموال وَإِنِّي ان اسلمت لم يصل الي مِنْهَا شَيْء وانا اؤمل ان ارثهم اَوْ كَمَا قَالَ وَلَا ريب ان هَذَا الْقدر فِي نفوس خلق كثير من الْكفَّار فتتفق قُوَّة دَاعِي الشَّهْوَة وَالْمَال وَضعف دَاعِي الايمان فيجيب دَاعِي الشَّهْوَة وَالْمَال وَيَقُول لَا أَرغب بنفسي عَن آبَائِي وسلفي السَّبَب السَّادِس محبَّة الاهل والاقارب وَالْعشيرَة يرى انه اذا اتبع الْحق وَخَالفهُم ابعدوه وطردوه عَنْهُم واخرجوه من بَين اظهرهم وَهَذَا سَبَب بَقَاء خلف كثير على الْكفْر بَين قَومهمْ واهاليهم وعشائرهم السَّبَب السَّابِع محبَّة الدَّار والوطن وان لم يكن لَهُ بهَا عشيرة وَلَا اقارب لَكِن يرى ان فِي مُتَابعَة الرَّسُول خُرُوجه عَن دَاره ووطنه الى دَار الغربة والنوى فيضن بوطنه السَّبَب الثَّامِن تخيل ان فِي الاسلام ومتابعة الرَّسُول إزراء وطعنا مِنْهُ على آبَائِهِ وأجداده وذما لَهُم وَهَذَا هُوَ الَّذِي منع ابا طَالب وامثاله عَن الاسلام استعظموا آبَاءَهُم واجدادهم ان يشْهدُوا عَلَيْهِم بالْكفْر والضلال وان يختاروا خلاف مَا اخْتَار اولئك لانفسهم وَرَأَوا انهم ان اسلموا سفهوا احلام اولئك وضللوا عُقُولهمْ ورموهم باقبح القبائح وَهُوَ الْكفْر والشرك وَلِهَذَا قَالَ اعداء الله لابي طَالب عِنْد الْمَوْت ترغب عَن مِلَّة عبد الْمطلب فَكَانَ آخر مَا كَلمهمْ بِهِ هُوَ على مِلَّة عبد الْمطلب فَلم يَدعه اعداء الله الا من هَذَا الْبَاب لعلمهم بتعظيمه اباه عبد الْمطلب وانه انما حَاز الْفَخر والشرف بِهِ فَكيف يَأْتِي امرا يلْزم مِنْهُ غَايَة تنقيصه وذمه وَلِهَذَا قَالَ لَوْلَا ان تكون مسَبَّة على بني عبد الْمطلب لَا قررت بهَا عَيْنك اَوْ كَمَا قَالَ وَهَذَا شعره يُصَرح فِيهِ بِأَنَّهُ قد علم وَتحقّق نبوة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وَصدقه كَقَوْلِه:

وَلَقَد علمت بَان دين مُحَمَّد

من خير اديان الْبَريَّة دينا لَوْلَا الْمَلَامَة اَوْ حذار مسَبَّة

لَوَجَدْتنِي سَمحا بِذَاكَ مُبينًا

ص: 97

وَفِي قصيدته اللامية

فو الله لَوْلَا ان تكون مسَبَّة

تجر على اشياخنا فِي المحافل لَكنا اتبعناه على كل حَاله

من الدَّهْر جدا غير قَول التهازل لقد علمُوا ان ابتنالا مكذب

لدينا ولايعني بقول إِلَّا بَاطِل

والمسبة الَّتِي زعم انها تجر على اشياخه شَهَادَته عَلَيْهِم بالْكفْر والضلال وتسفيه الاحلام وتضليل الْعُقُول فَهَذَا هُوَ الَّذِي مَنعه من الاسلام بعدتيقنه السَّبَب التَّاسِع مُتَابعَة من يعاديه من النَّاس للرسول وَسَبقه الى الدُّخُول فِي دينه وتخصصه وقربه مِنْهُ وَهَذَا الْقدر منع كثيرا من اتِّبَاع الْهدى يكون للرجل عَدو وَيبغض مَكَانَهُ وَلَا يحب ارضا يمشي عَلَيْهَا ويقصد مُخَالفَته ومناقضته فيراه قد اتبع الْحق فيحمله قصد مناقضته ومعاداته على معاداة الْحق واهله وان كَانَ لَا عَدَاوَة بَينه وَبينهمْ وَهَذَا كَمَا جرى للْيَهُود مَعَ الانصار فانهم كَانُوا اعدائهم وَكَانُوا يتواعدونهم بِخُرُوج النَّبِي وانهم يتبعونه ويقاتلونهم مَعَه فَلَمَّا بدرهم اليه الانصار واسلموا حملهمْ معاداتهم على الْبَقَاء على كفرهم ويهوديتهم السَّبَب الْعَاشِر مَانع الالف وَالْعَادَة والمنشأ فَإِن الْعَادة قد تقوى حَتَّى تغلب حكم الطبيعة وَلِهَذَا قيل هِيَ طبيعة ثَانِيَة فيربى الرجل على الْمقَالة وينشأ عَلَيْهَا صَغِيرا فيتربى قلبه وَنَفسه عَلَيْهَا كَمَا يتربى لَحْمه وعظمه على الْغذَاء الْمُعْتَاد وَلَا يعقل نَفسه الا عَلَيْهَا ثمَّ يَأْتِيهِ الْعلم وهلة وَاحِدَة يُرِيد إِزَالَتهَا وإخراجها من قلبه وان يسكن موضعهَا فيعسر عَلَيْهِ الِانْتِقَال ويصعب عَلَيْهِ الزَّوَال وَهَذَا السَّبَب وَإِن كَانَ اضعف الاسباب معنى فَهُوَ اغلبها على الامم وأرباب المقالات والنحل لَيْسَ مَعَ اكثرهم بل جَمِيعهم إِلَّا مَا عَسى ان يشذ الاعادة ومربي تربى عَلَيْهِ طفْلا لَا يعرف غَيرهَا وَلَا يحسن بِهِ فدين العوايد هُوَ الْغَالِب على أَكثر النَّاس فالانتقال عَنهُ كالانتقال عَن الطبيعة الى طبيعة ثَانِيَة فصلوات الله وَسَلَامه على انبيائه وَرُسُله خُصُوصا على خاتمهم وافضلهم مُحَمَّد كَيفَ غيروا عوائد الامم الْبَاطِلَة ونقلوهم الى الايمان حَتَّى استحدثوا بِهِ طبيعة ثَانِيَة خَرجُوا بهَا عَن عَادَتهم وطبيعتهم الْفَاسِدَة وَلَا يعلم مشقة هَذَا على النُّفُوس الا من زاول نقل رجل وَاحِد عَن دينه ومقالته الى الْحق فجزى الله الْمُرْسلين افضل مَا جزى بِهِ احدا من الْعَالمين إِذا عرف ان الْمُقْتَضى نَوْعَانِ فالهدى الْمُقْتَضى وَحده لَا يُوجب الاهتداء وَالْهدى التَّام يُوجب الإهتداء فالاول هدى الْبَيَان الدّلَالَة والتعليم وَلِهَذَا يُقَال هدى فَمَا اهْتَدَى وَالثَّانِي هدى الْبَيَان وَالدّلَالَة مَعَ إِعْطَاء التَّوْفِيق وَخلق الارادة فَهَذَا الْهدى الَّذِي يسلتزم الاهتداء وَلَا يتَخَلَّف عَنهُ مُوجبه فَمَتَى وجد السَّبَب وانتفت الْمَوَانِع لزم وجود حكمه وَهَهُنَا دقيقة بهَا ينْفَصل النزاع وَهِي انه هَل يَنْعَطِف من قيام الْمَانِع وَعدم الشَّرْط

ص: 98

على الْمُقْتَضى امْر يُضعفهُ فِي نَفسه ويسلبه اقتصاءه وقوته اَوْ الِاقْتِضَاء بِحَالهِ وَإِمَّا غلب الْمَانِع فَكَانَ التاثير لَهُ وَمِثَال ذَلِك فِي مسئلتنا انه بِوُجُود هَذِه الْمَوَانِع الْمَذْكُورَة اَوْ بَعْضهَا هَل يضعف الْعلم حَتَّى لَا يصير مؤثرا الْبَتَّةَ اَوْ الْعلم بِحَالهِ وَلَكِن الْمَانِع بقوته غلب فَكَانَ الحكم لَهُ هَذَا سر الْمَسْأَلَة وفقهها فَأَما الاول فَلَا شكّ فِيهِ وَلَكِن الشان فِي الْقسم الثَّانِي وَهُوَ بَقَاء الْعلم بِحَالهِ وَالتَّحْقِيق ان الْمَوَانِع تحجبه وتعميه وَرُبمَا قلبت حَقِيقَته من الْقلب وَالْقُرْآن قد دلّ على هَذَا قَالَ تَعَالَى {وَإِذ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قوم لم تؤذونني وَقد تعلمُونَ أَنِّي رَسُول الله إِلَيْكُم فَلَمَّا زاغوا أزاغ الله قُلُوبهم وَالله لَا يهدي الْقَوْم الْفَاسِقين} فعاقبهم سُبْحَانَهُ بازاغة قُلُوبهم عَن الْحق لما زاغوا عَنهُ ابْتِدَاء وَنَظِيره قَوْله تَعَالَى {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كَمَا لم يُؤمنُوا بِهِ أول مرّة ونذرهم فِي طغيانهم يعمهون} وَلِهَذَا قيل من عرض عَلَيْهِ حق فَرده فَلم يقبله عُوقِبَ بِفساد قلبه وعقله ورأيه وَمن هُنَا قيل لَا رَأْي لصَاحب هوى فان هَوَاهُ يحملهُ على رد الْحق فَيفْسد الله عَلَيْهِ رَأْيه وعقله قَالَ تَعَالَى {فبمَا نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيَات الله وقتلهم الْأَنْبِيَاء بِغَيْر حق وَقَوْلهمْ قُلُوبنَا غلف} اخبر سُبْحَانَهُ ان كفرهم بِالْحَقِّ بعد ان علموه كَانَ سَببا لطبع الله على قُلُوبهم {بل طبع الله عَلَيْهَا بكفرهم} حَتَّى صَارَت غلفًا والغلف جمع اغلف وَهُوَ الْقلب الَّذِي قد غشيه غلاف كالسيف الَّذِي فِي غلافه وكل شَيْء فِي غلافه فَهُوَ اغلف وَجمعه غلف يُقَال سيف اغلف وقوس غلفاء وَرجل اغلف واقلف اذا لم يختن وَالْمعْنَى قُلُوبنَا عَلَيْهَا غشاوة وغطاء فَلَا تفقه مَا تَقول يَا مُحَمَّد وَلم تع شَيْئا من قَالَ ان الْمَعْنى انها غلف للْعلم وَالْحكمَة أَي اوعية لَهَا فَلَا يحْتَاج الى قَوْلك وَلَا تقبله اسْتغْنَاء بِمَا عِنْدهم لوجوه احدها ان غلف جمع اغلف كقلف واقلف وحمر واحمر وجرد واجرد وَغلب واغلب ونظائره والاغلف من الْقُلُوب هُوَ الدَّاخِل فِي الغلاف هَذَا هُوَ الْمَعْرُوف من اللُّغَة الثَّانِي انه لَيْسَ من الِاسْتِعْمَال السائغ الْمَشْهُور ان يُقَال قلب فلَان غلاف لكذا وَهَذَا لَا يكَاد يُوجد فِي شَيْء من نثر كَلَامهم ولانظمه وَلَا نَظِير لَهُ فِي الْقُرْآن فَيحمل عَلَيْهِ وَلَا هُوَ من التَّشْبِيه البديع المستحسن فَلَا يجوز حمل الاية عَلَيْهِ الثَّالِث ان نَظِير قَول هَؤُلَاءِ قَول الاخرين من الْكفَّار {قُلُوبنَا فِي أكنة مِمَّا تدعونا إِلَيْهِ} والاكنة هَناه هِيَ الغلف الَّتِي قُلُوب هَؤُلَاءِ فِيهَا والاكنة كالاوعية والاغطية الَّتِي تغطى الْمَتَاع وَمِنْه الْكِنَايَة لغلاف السِّهَام الرَّابِع ان سِيَاق الاية لَا يحسن مَعَ الْمَعْنى الَّذِي ذَكرُوهُ وَلَا يحسن مُقَابلَته بقوله {بل طبع الله عَلَيْهَا بكفرهم} وَإِنَّمَا يحسن مَعَ هَذَا الْمَعْنى ان يسلب عَنْهُم الْعلم وَالْحكمَة الَّتِي ادعوها كَمَا قيل لَهُم لما ادعوا ذَلِك {وَمَا أُوتِيتُمْ من الْعلم إِلَّا قَلِيلا} وَأما هُنَا فَلَمَّا ادعوا ان قُلُوبهم فِي اغطية واغشية لاتفقه قَوْله قوبلوا بَان عرفهم ان كفرهم ونقضهم ميثاقهم وقتلهم الانبياء كَانَ سَببا

ص: 99

لَان طبع على قُلُوبهم وَلَا ريب ان الْقلب اذا طبع عَلَيْهِ اظلمت صُورَة الْعلم فِيهِ وانطمست وَرُبمَا ذهب اثرها حَتَّى يصير السَّبَب الَّذِي يَهْتَدِي بِهِ المهتدون سَببا لضلال هَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى {يضل بِهِ كثيرا وَيهْدِي بِهِ كثيرا وَمَا يضل بِهِ إِلَّا الْفَاسِقين الَّذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون مَا أَمر الله بِهِ أَن يُوصل ويفسدون فِي الأَرْض أُولَئِكَ هم الخاسرون} فاخبر تَعَالَى ان الْقُرْآن سَبَب لضلال هَذَا الصِّنْف من النَّاس وهوهداه الَّذِي هدى بِهِ رَسُوله وعباده الْمُؤمنِينَ وَلِهَذَا اخبر سُبْحَانَهُ إِنَّه إِنَّمَا يَهْتَدِي بِهِ من اتبع رضوَان الله قَالَ تَعَالَى {وَإِذا مَا أنزلت سُورَة فَمنهمْ من يَقُول أَيّكُم زادته هَذِه إِيمَانًا فَأَما الَّذين آمنُوا فزادتهم إِيمَانًا وهم يستبشرون وَأما الَّذين فِي قُلُوبهم مرض فزادتهم رجسا إِلَى رجسهم وماتوا وهم كافرون} وَلَا شَيْء اعظم فَسَادًا لمحل الْعلم من صَيْرُورَته بِحَيْثُ يضل بِمَا يَهْتَدِي بِهِ فنسبته الى الْهدى وَالْعلم نِسْبَة الْفَم الَّذِي قد استحكمت فِيهِ المرارة الى المَاء العذب كَمَا قيل:

وَمن يَك ذَا فَم مر مَرِيض

يجد مرا بِهِ المَاء الزلالا واذا فسد الْقلب فسد إِدْرَاكه وَإِذا فسد الْفَم فسد إِدْرَاكه وَكَذَلِكَ اذا فَسدتْ الْعين واهل الْمعرفَة من الصيارفة يَقُولُونَ ان من خَافَ فِي نَقده نسى النَّقْد وسلبه فَاشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْخَالِص بالزغل وَمن كَلَام بعض السّلف يَهْتِف الْعلم بِالْعَمَلِ فان اجابه حل والا ارتحل وَقَالَ بعض السّلف كُنَّا نستعين على حفظ الْعلم بِالْعَمَلِ بِهِ فَترك الْعَمَل بِالْعلمِ من اقوى الاسباب فِي ذَهَابه ونسيانه وايضا فَإِن الْعلم يُرَاد للْعَمَل فَإِنَّهُ يمنزلة الدَّلِيل للسائر فَإِذا لم يسر خلف الدَّلِيل لم ينْتَفع بدلالته فَنزل منزلَة من لم يعلم شَيْئا لَان من علم وَلم يعْمل بِمَنْزِلَة الْجَاهِل الَّذِي لَا يعلم كَمَا ان من ملك ذَهَبا وَفِضة وجاع وعرى وَلم يشتر مِنْهَا مَا يَأْكُل ويلبس فَهُوَ بِمَنْزِلَة الْفَقِير العادم كَمَا قيل:

وَمن ترك الانفاق عِنْد احْتِيَاجه

مَخَافَة فقر فَالَّذِي فعل الْفقر وَالْعرب تسمى الْفُحْش وَالْبذَاء جهلا اما لكَونه ثَمَرَة الْجَهْل فيسمى باسم سَببه وموجبه وَأما لَان الْجَهْل يُقَال فِي جَانب الْعلم وَالْعَمَل قَالَ الشَّاعِر:

الا لَا يجهلن اُحْدُ علينا

فنجهل فَوق جهل الحاهلينا

وَمن هَذَا قَول مُوسَى لِقَوْمِهِ وَقد قَالُوا {أتتخذنا هزوا قَالَ أعوذ بِاللَّه أَن أكون من الْجَاهِلين} فَجعل الِاسْتِهْزَاء بِالْمُؤْمِنِينَ جهلا وَمِنْه قَوْله تَعَالَى حِكَايَة عَن يُوسُف انه قَالَ {وَإِلَّا تصرف عني كيدهن أصب إلَيْهِنَّ وأكن من الْجَاهِلين} وَمن هَذَا قَوْله تَعَالَى {خُذ الْعَفو وَأمر}

ص: 100

{بِالْعرْفِ وَأعْرض عَن الْجَاهِلين} لَيْسَ المُرَاد أعراضه عَمَّن لَا علم عِنْده فَلَا يُعلمهُ وَلَا يرشده وَإِنَّمَا المُرَاد اعراضه عَن جهل من جهل عَلَيْهِ فَلَا يُقَابله وَلَا يعاتبه قَالَ مقَاتل وَعُرْوَة وَالضَّحَّاك وَغَيرهم صن نَفسك عَن مقابلتهم على سفههم وَهَذَا كثير فِي كَلَامهم وَمِنْه الحَدِيث إِذا كَانَ صَوْم احدكم فَلَا يصخب وَلَا يجهل وَمن هذاتسمية الْمعْصِيَة جهلا قَالَ قَتَادَة اجْمَعْ اصحاب مُحَمَّد ان كل من عصى الله فَهُوَ جَاهِل وَلَيْسَ المُرَاد انه جَاهِل بِالتَّحْرِيمِ إِذْ لَو كَانَ جاهلال لم يكن عَاصِيا فَلَا يَتَرَتَّب الْحَد فِي الدُّنْيَا والعقوبة فِي الاخرة على جَاهِل بِالتَّحْرِيمِ بل نفس الذَّنب يُسمى جهلا وَإِن علم مرتكبه بِتَحْرِيمِهِ إِمَّا انه لَا يصدر الا عَن ضعف الْعلم ونقصانه وَذَلِكَ جهل فَسمى باسم سَببه وَإِمَّا تَنْزِيلا لفَاعِله منزلَة الْجَاهِل بِهِ الثَّانِي انهم لما ردوا الْحق وَرَغبُوا عَنهُ عوقبوا بالطبع والرين وسلب الْعقل والفهم كَمَا قَالَ تَعَالَى عَن الْمُنَافِقين {ذَلِك بِأَنَّهُم آمنُوا ثمَّ كفرُوا فطبع على قُلُوبهم فهم لَا يفقهُونَ} الثَّالِث ان الْعلم الَّذِي ينْتَفع بِهِ ويستلزم النجَاة والفلاح لم يكن حَاصِلا لَهُم فسلب عَنْهُم حَقِيقَته وَالشَّيْء قد ينتفى لنفي ثَمَرَته وَالْمرَاد مِنْهُ قَالَ تَعَالَى فِي سَاكن النَّار فَإِن لَهُ نَار جَهَنَّم لَا يَمُوت فِيهَا وَلَا يحيا نفى الْحَيَاة لانْتِفَاء فائدتها وَالْمرَاد مِنْهَا وَيَقُولُونَ لَا مَال إِلَّا مَا انفق وَلَا علم إِلَّا مَا نفع وَلِهَذَا نفى عَنهُ سُبْحَانَهُ عَن الْكفَّار الاسماع والابصار والعقول لما لم ينتفعوا بهَا وَقَالَ تَعَالَى {وَجَعَلنَا لَهُم سمعا وأبصارا وأفئدة فَمَا أغْنى عَنْهُم سمعهم وَلَا أَبْصَارهم وَلَا أفئدتهم من شَيْء إِذْ كَانُوا يجحدون بآيَات الله} وَقَالَ تَعَالَى {وَلَقَد ذرأنا لِجَهَنَّم كثيرا من الْجِنّ وَالْإِنْس لَهُم قُلُوب لَا يفقهُونَ بهَا وَلَهُم أعين لَا يبصرون بهَا وَلَهُم آذان لَا يسمعُونَ بهَا} وَلما لم يحصل لَهُم الْهدى الْمَطْلُوب بِهَذِهِ الْحَواس كَانُوا يمنزلة فاقديها قَالَ تَعَالَى {صم بكم عمي فهم لَا يعْقلُونَ} فالقلب يُوصف بالبصر والعمى والسمع والصمم والنطق والبكم بل هَذِه لَهُ اصلا وللعين والاذن وَاللِّسَان تبعا فَإِذا عدمهَا الْقلب فصاحبه اعمى مَفْتُوح الْعين اصم وَلَا آفَة باذنه ابكم وَإِن كَانَ فصيح اللِّسَان قَالَ تَعَالَى فَإِنَّهَا لاتعمى الابصار وَلَكِن تعمى الْقُلُوب الَّتِي فِي الصُّدُور فَلَا تنَافِي بَين قيام الْحجَّة بِالْعلمِ وَبَين سلبه ونفيه بالطبع والختم والقفل على قُلُوب من لَا يعْمل بِمُوجب الْحجَّة وينقاد لَهَا قَالَ تَعَالَى وَإِذا قَرَأت الْقُرْآن جعلنَا بَيْنك وَبَين الَّذين لايؤمنون بالاخرة حِجَابا مَسْتُورا وَجَعَلنَا على قُلُوبهم اكنة ان يفقهوه وَفِي آذانهم وقرا وَإِذا ذكرت رَبك فِي الْقُرْآن وَحده ولوا على أدبارهم نفورا فَأخْبر سُبْحَانَهُ انه مَنعهم فقه كَلَامه وَهُوَ الادراك الَّذِي ينْتَفع بِهِ من فقهه وَلم يكن ذَلِك مَانِعا لَهُم من الادراك الَّذِي تقوم بِهِ الْحجَّة عَلَيْهِم فانهم لَو لم يفهموه جملَة مَا ولوا على أدبارهم نفورا عِنْد ذكر تَوْحِيد الله فَلَمَّا ولوا عِنْد ذكر التَّوْحِيد دلّ على انهم كَانُوا يفهمون الْخطاب وان الَّذِي غشى قُلُوبهم كَالَّذي غشى آذانهم وَمَعْلُوم انهم لم يعدموا لاسمع جملَة ويصيروا كالاصم وَلذَلِك

ص: 101

ينفى سُبْحَانَهُ عَنْهُم السّمع تَارَة ويثبته اخرى قَالَ الله تَعَالَى {وَلَو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم} وَمَعْلُوم انهم قد سمعُوا الْقُرْآن وَأمر الرَّسُول باسماعهم إِيَّاه وَقَالَ تَعَالَى {وَقَالُوا لَو كُنَّا نسْمع أَو نعقل مَا كُنَّا فِي أَصْحَاب السعير} فَهَذَا السّمع الْمَنْفِيّ عَنْهُم سمع الْفَهم وَالْفِقْه وَالْمعْنَى وَلَو علم الله فيهم خيرا لاسمعهم سمعا يَنْتَفِعُونَ بِهِ وَهُوَ فقهه الْمَعْنى وعقله والا فقد سَمِعُوهُ سمعا تقوم بِهِ عَلَيْهِم الْحجَّة وَلَكِن لما سَمِعُوهُ مَعَ شدَّة بغضه وكراهته ونفرتهم عَنهُ لم يفهموه وَلم يعقلوه وَالرجل إِذا اشتدت كَرَاهَته للْكَلَام ونفرته عَنهُ لم يفهم مَا يُرَاد بِهِ فَينزل منزلَة من لم يسمعهُ قَالَ تَعَالَى {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السّمع وَمَا كَانُوا يبصرون} نفى عَنهُ استطاعة السّمع مَعَ صِحَة حواسهم وسلامتها وَإِنَّمَا لفرط بغضهم ونفرتهم عَنهُ وَعَن كَلَامه صَارُوا بِمَنْزِلَة من لَا يَسْتَطِيع ان يسمعهُ وَلَا يرَاهُ وَهَذَا اسْتِعْمَال مَعْرُوف للخاصة والعامة يَقُولُونَ لَا اطيق انْظُر الى فلَان وَلَا استطيع ان اسْمَع كَلَامه من بغضه ونفرته عَنهُ وَبَعض الجبرية يحْتَج بِهَذِهِ الاية وَشبههَا على مَذْهَبهم وَلَا دلَالَة فِيهَا إِذْ لَيْسَ المُرَاد سلبهم السّمع وَالْبَصَر الَّذِي تقوم بِهِ الْحجَّة قطعا وَإِنَّمَا المُرَاد سلب السّمع الَّذِي يَتَرَتَّب عَلَيْهِ فَائِدَته وثمرته وَالْقدر حق وَلَكِن الْوَاجِب تَنْزِيل الْقُرْآن مَنَازِله وَوضع الايات موَاضعهَا وَاتِّبَاع الْحق حَيْثُ كَانَ وَمثل هَذَا إِذا لم يحصل لَهُ فهم الْخطاب لَا يعْذر بذلك لَان الافة مِنْهُ وَهُوَ بِمَنْزِلَة من سد اذنيه عِنْد الْخطاب فَلم يسمعهُ فَلَا يكون ذَلِك عذرا لَهُ وَمن هَذَا قَوْلهم {قُلُوبنَا فِي أكنة مِمَّا تدعونا إِلَيْهِ وَفِي آذاننا وقر وَمن بَيْننَا وَبَيْنك حجاب} يعنون انهم فِي ترك الْقبُول مِنْهُ ومحبة الاسماع لما جَاءَ بِهِ وإيثار الاعراض عَنهُ وَشدَّة النفار عَنهُ بِمَنْزِلَة من لَا يعقله وَلَا يسمعهُ وَلَا يبصر الْمُخَاطب لَهُم بِهِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَقُولُونَ لَا خُلُود فِي النَّار وَلَو كُنَّا نسْمع اَوْ نعقل مَا كُنَّا فِي اصحاب السعير وَلِهَذَا جعل ذَلِك مَقْدُورًا لَهُم وذنبا اكتسبوه فَقَالَ تَعَالَى {فَاعْتَرفُوا بذنبهم فسحقا لأَصْحَاب السعير} وَالله تَعَالَى يَنْفِي تَارَة عَن هَؤُلَاءِ الْعقل والسمع وَالْبَصَر فانها مدارك الْعلم واسباب حُصُوله وَتارَة ينفى عَنْهُم السّمع وَالْعقل وَتارَة ينفى عَنْهُم السّمع وَالْبَصَر وَتارَة ينفى عَنْهُم الْعقل وَالْبَصَر وَتارَة ينفى عَنْهُم وَحده فنفى الثَّلَاثَة نفي لمدارك الْعلم بطرِيق الْمُطَابقَة وَنفى بَعْضهَا نفي لَهُ بالمطابقة والاخر باللزوم فان الْقلب إِذا فسد فسد السّمع وَالْبَصَر بل اصل فسادهما من فَسَاده وَإِذا فسد السّمع وَالْبَصَر فسد الْقلب فَإِذا اعْرِض عَن سمع الْحق وابغض قَائِله بِحَيْثُ لَا يحب رُؤْيَته امْتنع وُصُول الْهدى الى الْقلب ففسد وَإِذا فسد السّمع وَالْعقل تبعهما فَسَاد الْبَصَر فَكل مدرك من هَذِه يَصح بِصِحَّة الاخر وَيفْسد بفساده فَلهَذَا يَجِيء فِي الْقُرْآن نفي ذَلِك صَرِيحًا ولزوما وَبِهَذَا التَّفْصِيل يعلم اتِّفَاق الادلة من الجانين وَفِي اسْتِدْلَال الطَّائِفَة الثَّانِيَة بقوله {الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب يعرفونه كَمَا يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم} ونظائرها نظر فان الله تَعَالَى حَيْثُ قَالَ {الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب} لم يَكُونُوا إِلَّا ممدوحين مُؤمنين وَإِذا اراد ذمهم وَالْأَخْبَار عَنْهُم بالعناد وايثار الضلال اتى بِلَفْظ

ص: 102

الَّذين اوتوا الْكتاب مَبْنِيا للْمَفْعُول فالاول كَقَوْلِه تَعَالَى {الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب من قبله هم بِهِ يُؤمنُونَ وَإِذا يُتْلَى عَلَيْهِم قَالُوا آمنا بِهِ إِنَّه الْحق من رَبنَا إِنَّا كُنَّا من قبله مُسلمين أُولَئِكَ يُؤْتونَ أجرهم مرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} الايات وَكَقَوْلِه تَعَالَى {أفغير الله أَبْتَغِي حكما وَهُوَ الَّذِي أنزل إِلَيْكُم الْكتاب مفصلا وَالَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب يعلمُونَ أَنه منزل من رَبك بِالْحَقِّ فَلَا تكونن من الممترين} فَهَذَا فِي سِيَاق مدحهم والاستشهاد بهم لَيْسَ فِي سِيَاق ذمهم والاخبار بعنادهم وجحودهم كَمَا استشهدهم فِي قَوْله تَعَالَى قل كفى بِاللَّه شَهِيدا ببني وَبَيْنكُم وَمن عِنْده علم الْكتاب وَفِي قَوْله فاسلألوا اهل الذّكر ان كُنْتُم لَا تعلمُونَ وَقَالَ تَعَالَى {الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب يتلونه حق تِلَاوَته أُولَئِكَ يُؤمنُونَ بِهِ وَمن يكفر بِهِ فَأُولَئِك هم الخاسرون} وَاخْتلف فِي الضَّمِير فِي يتلونه حق تِلَاوَته فَقيل هُوَ ضمير الْكتاب الَّذِي اوتوه قَالَ ابْن مَسْعُود يحلونَ حَلَاله ويحرمون حرَامه ويقرؤنه كَمَا انْزِلْ وَلَا يحرفونه عَن موَاضعه قَالُوا وانزلت فِي مؤمني اهل الْكتاب وَقيل هَذَا وصف للْمُسلمين وَالضَّمِير فِي يتلونه للْكتاب الَّذِي هُوَ الْقُرْآن وَهَذَا بعيد إِذا عرف ان الْقُرْآن يأباه وَلَا يرد على مَا ذكرنَا قَوْله تَعَالَى {الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب يعرفونه كَمَا يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم وَإِن فريقا مِنْهُم ليكتمون الْحق وهم يعلمُونَ} بل هَذَا حجَّة لنا ايضا لما ذكرنَا فَإِنَّهُ أخبر فِي الاول عَن معرفتهم بِرَسُولِهِ وَدينه وقبلته كَمَا يعْرفُونَ ابناءهم اسْتِشْهَادًا بهم على من كفر وثناء عَلَيْهِم وَلِهَذَا ذكر الْمُفَسِّرُونَ انهم عبد الله بن سَلام واصحابه وَخص فِي آخر الاية بالذم طَائِفَة مِنْهُم فَدلَّ على ان الاولين غير مذمومين وكونهم دخلُوا فِي جملَة الاولين بِلَفْظ الْمُضمر لَا يُوجب ان يُقَال آتَيْنَاهُم الْكتاب عِنْد الاطلاق فانهم دخلُوا فِي هَذَا اللَّفْظ ضمنا وتبعا فَلَا يلْزم تنَاوله لَهُم قصدا واختيارا وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَة الانعام قل ائنكم لتشهدون ان مَعَ الله آلِهَة اخرى قل لَا اشْهَدْ قل إِنَّمَا هُوَ اله وَاحِدَة وإنني برِئ مِمَّا تشركون الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب يعرفونه كَمَا يعْرفُونَ ابناءهم قيل الرَّسُول وَصدقه وَقيل الْمَذْكُور هُوَ التَّوْحِيد وَالْقَوْلَان متلازما اذ ذَلِك فِي معرض الاستشهاد والاحتجاج على الْمُشْركين لافي معرض ذمّ الَّذين آتَاهُم الْكتاب فَإِن السُّورَة مَكِّيَّة وَالْحجاج كَانَ فِيهَا مَعَ اهل الشّرك والسياق يدل على الِاحْتِجَاج لاذم الْمَذْكُورين من اهل الْكتاب واما الثَّانِي فكقوله وان الَّذين اوتوا الْكتاب ليعلمون انه الْحق من رَبهم وَمَا الله بغافل عَمَّا يعلمُونَ وَلَئِن اتيت الَّذين اوتوا الْكتاب بِكُل آيَة ماتبعوا قبلتك فَهَذَا شَهَادَته سُبْحَانَهُ للَّذين اوتوا الْكتاب والاول شَهَادَته للَّذين آتَاهُم الْكتاب بِأَنَّهُم يُؤمنُونَ وَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين أُوتُوا الْكتاب آمنُوا بِمَا نزلنَا مُصدقا لما مَعكُمْ من قبل أَن نطمس وُجُوهًا فنردها على أدبارها} وَقَالَ تَعَالَى {وَقل للَّذين أُوتُوا الْكتاب والأميين أأسلمتم} وَهَذَا خطاب لمن لم يسلم مِنْهُم وَإِلَّا فَلم يُؤمر

ص: 103

ان يَقُول هَذَا لمن اسْلَمْ مِنْهُم وَصدق بِهِ وَلِهَذَا لَا يذكر سُبْحَانَهُ الَّذين اوتوا نَصِيبا من الْكتاب الا بالذم ايضا كَقَوْلِه {ألم تَرَ إِلَى الَّذين أُوتُوا نَصِيبا من الْكتاب يُؤمنُونَ بالجبت والطاغوت} الاية وَقَالَ تَعَالَى {ألم تَرَ إِلَى الَّذين أُوتُوا نَصِيبا من الْكتاب يشْتَرونَ الضَّلَالَة ويريدون أَن تضلوا السَّبِيل} وَقَالَ {ألم تَرَ إِلَى الَّذين أُوتُوا نَصِيبا من الْكتاب يدعونَ إِلَى كتاب الله ليحكم بَينهم ثمَّ يتَوَلَّى فريق مِنْهُم وهم معرضون} فالاقسام اربعة الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب وَهَذَا لَا يذكرهُ سُبْحَانَهُ إِلَّا فِي معرض الْمَدْح وَالَّذين اوتوا نَصِيبا من الْكتاب لَا يكون قطّ الا فِي معرض الذَّم وَالَّذين اوتوا الْكتاب اعم مِنْهُ فانه قد يتناولهما وَلَكِن لَا يفرد بِهِ الممدوحون قطّ وَيَا أهل الْكتاب يعم الْجِنْس كُله ويتناول الممدوح مِنْهُ والمذموم كَقَوْلِه من اهل الْكتاب امة قَائِمَة يَتلون آيَات الله آنَاء اللَّيْل وهم يَسْجُدُونَ يُؤمنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْم الاخر الْآيَة وَقَالَ فِي الذَّم {لم يكن الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب وَالْمُشْرِكين منفكين} وَهَذَا الْفَصْل ينْتَفع بِهِ جدا فِي أكبر مسَائِل اصول الاسلام وَهِي مسئلة الايمان وَاخْتِلَاف اهل الْقبْلَة فِيهِ وَقد ذكرنَا فِيهِ نكتا حسانا يَتَّضِح بهَا الْحق فِي الْمَسْأَلَة وَالله اعْلَم الْوَجْه الثَّانِي وَالثَّمَانُونَ ان الله سُبْحَانَهُ فاوت بَين النَّوْع الانساني اعظم تفَاوت يكون بَين المخلوقين فَلَا يعرف اثْنَان من نوع وَاحِد بَينهمَا من التَّفَاوُت مَا بَين خير الْبشر وشرهم وَالله سُبْحَانَهُ خلق الْمَلَائِكَة عقولا بِلَا شهوات وَخلق الْحَيَوَانَات ذَوَات شهوات بِلَا عقول وَخلق الانسان مركبا من عقل وشهوة فَمن غلب عقله شَهْوَته كَانَ خيرا من الْمَلَائِكَة وَمن غلبت شَهْوَته عقله كَانَ شرا من الْحَيَوَانَات وفاوت سُبْحَانَهُ بَينهم فِي الْعلم فَجعل عالمهم معلم الْمَلَائِكَة كَمَا قَالَ تَعَالَى {يَا آدم أنبئهم بِأَسْمَائِهِمْ} وَتلك مرتبَة لَا مرتبَة فَوْقهَا وَجعل جاهلهم بِحَيْثُ لَا يرضى الشَّيْطَان بِهِ وَلَا يصلح لَهُ كَمَا قَالَ الشَّيْطَان لجاهلهم الَّذِي اطاعه فِي الْكفْر {إِنِّي بَرِيء مِنْك} وَقَالَ لجهلتهم الَّذين عصوا رَسُوله إِنِّي بَرِيء مِنْكُم فَللَّه مَا أَشد هَذَا التَّفَاوُت بَين شَخْصَيْنِ احدهما تسْجد لَهُ الْمَلَائِكَة وَيعلمهَا مِمَّا الله علمه والاخر لَا يرضى الشَّيْطَان بِهِ وليا وَهَذَا التَّفَاوُت الْعَظِيم إِنَّمَا حصل بِالْعلمِ وثمرته وَلَو لم يكن فِي الْعلم الا الْقرب من رب الْعَالمين والالتحاق بعالم الْمَلَائِكَة وصحبة الْمَلأ الاعلى لكفى بِهِ فضلا وشرفا فَكيف وَعز الدُّنْيَا وَالْآخِرَة مَنُوط بِهِ ومشروط بحصوله الْوَجْه الثَّالِث وَالثَّمَانُونَ ان اشرف مَا فِي الانسان مَحل الْعلم مِنْهُ وَهُوَ قلبه وسَمعه وبصره وَلما كَانَ الْقلب هُوَ مَحل الْعلم والسمع رَسُوله الَّذِي ياتيه بِهِ وَالْعين طليعته كَانَ ملكا على سَائِر الاعضاء يأمرها فتاتمر لامره ويصرفها فتنقاد لَهُ طَائِعَة بِمَا خص بِهِ من الْعلم دونهَا فَلذَلِك كَانَ ملكهَا والمطاع فِيهَا وَهَكَذَا الْعَالم فِي النَّاس كالقلب فِي الاعضاء وَلما كَانَ صَلَاح الاعضاء بصلاح ملكهَا ومطاعها وفسادها بفساده كَانَت هَذِه حَال النَّاس مَعَ عُلَمَائهمْ

ص: 104

وملوكهم كَمَا قَالَ بعض السّلف صنفان إِذا صلحا صلح سَائِر النَّاس واذا فسدا فسد سَائِر النَّاس الْعلمَاء والامراء قَالَ عبد الله بن الْمُبَارك:

وَهل افسد الدّين الا الملو

ك واحبار سوء ورهبانها وَلما كَانَ للسمع وَالْبَصَر من الادراك مَا لَيْسَ لغَيْرِهِمَا من الاعضاء كَانَا فِي أشرف جُزْء من الانسان وَهُوَ وَجهه وَكَانَا من افضل مَا فِي الانسان من الاجزاء والاعضاء وَالْمَنَافِع وَاخْتلف فِي الافضل مِنْهُمَا فَقَالَت طَائِفَة مِنْهُم ابو الْمَعَالِي وَغَيره السّمع افضل قَالُوا لَان بِهِ تنَال سَعَادَة الدُّنْيَا والاخرة فانها انما تحصل بمتابعة الرُّسُل وَقبُول رسالاتهم وبالسمع عرف ذَلِك فان من لَا سمع لَهُ لَا يعلم مَا جاؤا بِهِ وايضا فان السّمع يدْرك بِهِ اجل شَيْء وافضله وَهُوَ كَلَام الله تَعَالَى الَّذِي فَضله على الْكَلَام كفضل الله على خلقه وايضا فان الْعُلُوم انما تنَال بالتفاهم والتخاطب وَلَا يحصل ذَلِك الا بِالسَّمْعِ وايضا فان مدركه اعم من مدرك الْبَصَر فانه يدْرك الكليات والجزئيات وَالشَّاهِد وَالْغَائِب وَالْمَوْجُود والمعدوم وَالْبَصَر لَا يدْرك الا بعض المشاهدات والسمع يسمع كل علم فاين احدهما من الاخر وَلَو فَرضنَا شَخْصَيْنِ احدهما يسمع كَلَام الرَّسُول وَلَا يرى شخصه والاخر بَصِير يرَاهُ وَلَا يسمع كَلَامه لصممه هَل كَانَا سَوَاء وايضا ففاقد الْبَصَر انما يفقد ادراك بعض الامور الْجُزْئِيَّة الْمُشَاهدَة ويمكنه مَعْرفَتهَا بِالصّفةِ وَلَو تَقْرِيبًا واما فَاقِد السّمع فَالَّذِي فَاتَهُ من الْعلم لَا يُمكن حُصُوله بحاسة الْبَصَر وَلَو قَرِيبا وايضا فان ذمّ الله تَعَالَى للْكفَّار بِعَدَمِ السّمع فِي الْقُرْآن اكثر من ذمه لَهُم بِعَدَمِ الْبَصَر بل انما يذمهم بِعَدَمِ الْبَصَر تبعا لعدم الْعقل والسمع وايضا فان الَّذِي يُورِدهُ السّمع على الْقلب من الْعُلُوم لَا يلْحقهُ فِيهِ كلال وَلَا سآمة وَلَا تَعب مَعَ كثرته وعظمه وَالَّذِي يُورِدهُ الْبَصَر عَلَيْهِ يلْحقهُ فِيهِ الكلال والضعف وَالنَّقْص وَرُبمَا خشى صَاحبه على ذَهَابه مَعَ قلته ونزارته بِالنِّسْبَةِ الى السّمع وَقَالَت طَائِفَة مِنْهُم ابْن قُتَيْبَة بل الْبَصَر افضل فان اعلا النَّعيم وافضله واعظمه لَذَّة هُوَ النّظر الى الله فِي الدَّار الاخرة وَهَذَا انما ينَال بالبصر وَهَذِه وَحدهَا كَافِيَة فِي تفضيله قَالُوا وَهُوَ مُقَدّمَة الْقلب وطليعته ورائده فمنزلته مِنْهُ اقْربْ من منزلَة السّمع وَلِهَذَا كثيرا مَا يقرن بَينهمَا فِي الذّكر بقوله {فاعتبروا يَا أولي الْأَبْصَار} فالاعتبار بِالْقَلْبِ وَالْبَصَر بِالْعينِ وَقَالَ تَعَالَى {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كَمَا لم يُؤمنُوا بِهِ أول مرّة} وَلم يقل واسماعهم وَقَالَ تَعَالَى {فَإِنَّهَا لَا تعمى الْأَبْصَار وَلَكِن تعمى الْقُلُوب الَّتِي فِي الصُّدُور} وَقَالَ تَعَالَى {قُلُوب يَوْمئِذٍ واجفة أبصارها خاشعة} وَقَالَ تَعَالَى {يعلم خَائِنَة الْأَعْين وَمَا تخفي الصُّدُور} وَقَالَ فِي حق رَسُوله {مَا كذب الْفُؤَاد مَا رأى} ثمَّ قَالَ {مَا زاغ الْبَصَر وَمَا طَغى} هَذَا يدل على شدَّة الوصلة والارتباط بَين الْقلب وَالْبَصَر وَلِهَذَا يقْرَأ الانسان مَا فِي قلب

ص: 105

الاخر من عينه وَهَذَا كثير فِي كَلَام النَّاس نظمه ونثره وَهُوَ اكثر من ان نذكرهُ هُنَا وَلما كَانَ الْقلب اشرف الاعضاء كَانَ اشدها ارتباطا بِهِ واشرف من غَيره قَالُوا وَلِهَذَا يأتمنه الْقلب مَالا يأتمن السّمع عَلَيْهِ بل إِذا ارتاب من جِهَة عرض مَا يَأْتِيهِ بِهِ على الْبَصَر ليزكيه ام يردهُ فالبصر حَاكم عَلَيْهِ مؤتمن عَلَيْهِ قَالُوا وَمن هَذَا الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ احْمَد فِي مُسْنده مَرْفُوعا لَيْسَ الْمخبر كالمعاين قَالُوا وَلِهَذَا اخبر الله سُبْحَانَهُ مُوسَى ان قومه افتتنوا من بعده وعبدوا الْعجل فَلم يلْحقهُ فِي ذَلِك مَا لحقه عِنْد رُؤْيَة ذَلِك ومعاينته من القاء الالواح وَكسرهَا لفوت المعاينة على الْخَبَر قَالُوا وَهَذَا إِبْرَاهِيم خَلِيل الله يسْأَل ربه ان يرِيه كَيفَ يحيى الْمَوْتَى وَقد علم ذَلِك بِخَبَر الله لَهُ وَلَكِن طلب افضل الْمنَازل وَهِي طمأنينة الْقلب قَالُوا ولليقين ثَلَاث مَرَاتِب اولها للسمع وَثَانِيها للعين وَهِي الْمُسَمَّاة بِعَين الْيَقِين وَهِي افضل من الْمرتبَة الاولى واكمل قَالُوا وايضا فالبصر يُؤدى الى الْقلب وَيُؤَدِّي عَنهُ فان الْعين مرْآة الْقلب يظْهر فِيهَا مَا يُحِبهُ من الْمحبَّة والبغض والموالاة والمعاداة وَالسُّرُور والحزن وَغَيرهَا وَأما الاذن فَلَا تُؤَدّى عَن الْقلب شَيْئا الْبَتَّةَ وَإِنَّمَا مرتبتها الايصال اليه حسب فالعين اشد تعلقا بِهِ وَالصَّوَاب ان كلا مِنْهُمَا لَهُ خاصية فضل بهَا الاخر فالمدرك بِالسَّمْعِ اعم واشمل والمدرك بالبصر اتم واكمل فالسمع لَهُ الْعُمُوم والشمول وَالْبَصَر لَهُ الظُّهُور والتمام وَكَمَال الادراك واما نعيم اهل الْجنَّة فشيئآن احدهما النّظر الى الله وَالثَّانِي سَماع خطابه وَكَلَامه كَمَا رَوَاهُ عبد الله بن احْمَد فِي الْمسند وَغَيره كَأَن النَّاس يَوْم الْقِيَامَة لم يسمعوا الْقُرْآن اذا سَمِعُوهُ من الرَّحْمَن عز وجل وَمَعْلُوم ان سَلَامه عَلَيْهِم وخطابه لَهُم ومحاضرته اياهم كَمَا فِي التِّرْمِذِيّ وَغَيره لَا يشبهها شَيْء قطّ وَلَا يكون اطيب عِنْدهم مِنْهَا وَلِهَذَا يذكر سُبْحَانَهُ فِي وَعِيد اعدائه انه لايكلمهم كَمَا يذكر احتجابه عَنْهُم وَلَا يرونه فَكَلَامه اعلا نعيم اهل الْجنَّة وَالله اعْلَم الْوَجْه الرَّابِع وَالثَّمَانُونَ ان الله سُبْحَانَهُ فِي الْقُرْآن يعدد على عباده من نعمه عَلَيْهِم ان اعطاهم آلَات الْعلم فيذكر الْفُؤَاد والسمع والابصار وَمرَّة يذكر اللِّسَان الَّذِي يترجم بِهِ عَن الْقلب فَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَة النعم وَهِي سُورَة النَّحْل الَّتِي ذكر فِيهَا اصول النعم وفروعها ومتمماتها ومكملاتها فعددنعمه فِيهَا على عباده وتعرف بهَا اليهم واقتضاهم شكرها وَاخْبَرْ انه يُتمهَا عَلَيْهِم ليعرفوها ويذكروها ويشكروها فاولها فِي اصول النعم وَآخِرهَا فِي مكملاتها قَالَ تَعَالَى {وَالله أخرجكم من بطُون أُمَّهَاتكُم لَا تعلمُونَ شَيْئا وَجعل لكم السّمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تشكرون} فَذكر سُبْحَانَهُ نعْمَته عَلَيْهِم بَان اخرجهم لَا علم لَهُم ثمَّ اعطاهم الاسماع والابصار والافئدة الَّتِي نالوا بهَا من الْعلم مانالوه وانه فعل بهم ذَلِك

ص: 106

ليشكروه وَقَالَ تَعَالَى {وَجَعَلنَا لَهُم سمعا وأبصارا وأفئدة فَمَا أغْنى عَنْهُم سمعهم وَلَا أَبْصَارهم وَلَا أفئدتهم من شَيْء} وَقَالَ تَعَالَى الم نجْعَل لَهُ عينين وَلِسَانًا وشفتين وهديناه النجدين فَذكر هُنَا الْعَينَيْنِ الَّتِي يبصر بهما فَيعلم المشاهدات وَذكر هِدَايَة النجدين وهما طَرِيقا الْخَيْر وَالشَّر وَفِي ذَلِك حَدِيث مَرْفُوع ومرسل وَهُوَ قَول اكثر الْمُفَسّرين وتدل عَلَيْهِ الاية الاخرى {إِنَّا هديناه السَّبِيل إِمَّا شاكرا وَإِمَّا كفورا} وَالْهِدَايَة تكون بِالْقَلْبِ والسمع فقد دخل السّمع فِي ذَلِك لُزُوما وَذكر اللِّسَان والشفتين اللَّتَيْنِ هما آلَة التَّعْلِيم فَذكر الات الْعلم والتعليم وَجعلهَا من آيَاته الدَّالَّة عَلَيْهِ وعَلى قدرته ووحدانيته ونعمه الَّتِي تعرف بهَا الى عباده وَلما كَانَت هَذِه الاعضاء الثَّلَاثَة الَّتِي هِيَ اشرف الاعضاء وملوكها والمنصرفة فِيهَا والحاكمة عَلَيْهَا خصها سبحانه وتعالى بِالذكر فِي السُّؤَال عَنْهَا فَقَالَ إِن السّمع وَالْبَصَر والفؤاد كل اولئك كَانَ عَنهُ مسؤلا فسعادة الانسان بِصِحَّة هَذِه الاعضاء الثَّلَاثَة وشقاوته بفسادها قَالَ ابْن عَبَّاس يسْأَل الله الْعباد فِيمَا استعملوا هَذِه الثَّلَاثَة السّمع وَالْبَصَر والفؤاد وَالله تَعَالَى اعطى العَبْد السّمع ليسمع بِهِ اوامر ربه ونواهيه وعهوده وَالْقلب ليعقلها ويفقهها وَالْبَصَر ليرى آيَاته فيستدل بهَا على وحدانيته وربوبيته فالمقصود باعطائه هَذِه الالات الْعلم وثمرته وَمُقْتَضَاهُ الْوَجْه الْخَامِس والثامنون ان انواع السَّعَادَة الَّتِي تؤثرها النُّفُوس ثَلَاثَة سَعَادَة خارجية عَن ذَات الانسان بل هِيَ مستعارة لَهُ من غَيره يَزُول باسترداد الْعَارِية وَهِي سَعَادَة المَال والحياة فَبينا الْمَرْء بهَا سعيدا ملحوظا بالعناية مرموقا بالابصار إِذا اصبح فِي الْيَوْم الْوَاحِد اذل من وتد بقاع يشج رَأسه بالفهرواجي فالسعادة والفرح بِهَذِهِ كفرح الاقرع بحمة ابْن عَمه وَالْجمال بهَا كجمال الْمَرْء بثيابه وبزينته فاذا جَاوز بَصرك كسوته فَلَيْسَ وَرَاء عبادان قَرْيَة ويحكى عَن بعض الْعلمَاء انه ركب مَعَ تجار فِي مركب فَانْكَسَرت بهم السَّفِينَة فاصبحوا بعدعز الْغنى فِي ذل الْفقر وَوصل الْعَالم الى الْبَلَد فاكرم وَقصد بانواع التحف والكرامات فَلَمَّا ارادوا الرُّجُوع الى بِلَادهمْ قَالُوا لَهُ هَل لَك الى قَوْمك كتاب اَوْ حَاجَة فَقَالَ نعم تَقولُونَ لَهُم اذا اتخدتم مَالا لَا يغرق اذا انْكَسَرت السَّفِينَة فاتخذوا الْعلم تِجَارَة وَاجْتمعَ رجل ذُو هَيْئَة حَسَنَة ولباس جميل ورواء بِرَجُل عَالم فجس المخاضة فَلم ير شَيْئا فَقَالُوا كَيفَ رايته فَقَالَ رَأَيْت دَارا حَسَنَة مزخرفة وَلَكِن لَيْسَ بهَا سَاكن السَّعَادَة الثَّانِيَة سَعَادَة فِي جِسْمه وبدنه كصحته واعتدال مزاجه وتناسب اعضائه وَحسن تركيبه وصفاء لَونه وَقُوَّة اعضائه فَهَذِهِ الصق بِهِ من الاولى وَلَكِن هِيَ فِي الْحَقِيقَة خَارِجَة عَن ذَاته وَحَقِيقَته فان الْإِنْسَان انسان بِرُوحِهِ وَقَلبه لَا بجسمه وبدنه كَمَا قيل:

ص: 107

يَا خَادِم الْجِسْم كم يشقى بخدمته

فَأَنت بِالروحِ لَا بالجسم إِنْسَان فنسبة هَذِه الى روحه وَقَلبه كنسبة ثِيَابه ولباسه الى بدنه فان الْبدن ايضا عَارِية للروح وَآلَة لَهَا ومركب من مراكبها فسعادتها بِصِحَّتِهِ وجماله وحسنة سَعَادَة خَارِجَة عَن ذَاتهَا وحقيقتها السَّعَادَة الثَّالِثَة هِيَ السَّعَادَة الْحَقِيقِيَّة وَهِي سَعَادَة نفسانية روحية قلبية وَهِي سَعَادَة الْعلم النافع ثَمَرَته فانها هِيَ الْبَاقِيَة على تقلب الاحوال والمصاحبة للْعَبد فِي جَمِيع اسفاره وَفِي دوره الثَّلَاثَة اعني دَار الدُّنْيَا وَدَار البرزخ وَدَار الْقَرار وَبهَا يترقى معارج الْفضل ودرجات الْكَمَال اما الاولى فانها تصحبه فِي الْبقْعَة الَّتِي فِيهَا مَاله وجاهه وَالثَّانيَِة تعرضه للزوال والتبدل بنكس الْخلق وَالرَّدّ الى الضعْف فَلَا سَعَادَة فِي الْحَقِيقَة الا فِي هَذِه الثَّالِثَة الَّتِي كلما طَال الامد ازدادات قُوَّة وعلوا وَإِذا عدم المَال والجاه فَهِيَ مَال العَبْد وجاهه وَتظهر قوتها وأثرها بعد مُفَارقَة الرّوح الْبدن اذا انْقَطَعت السعادتان الاوليتان وَهَذِه السَّعَادَة لَا يعرف قدرهَا وَيبْعَث على طلبَهَا الا الْعلم بهَا فَعَادَت السَّعَادَة كلهَا الى الْعلم وَمَا تقضيه وَالله يوفق من يَشَاء لَا مَانع لما اعطى وَلَا معطى لما منع وانما رغب اكثر الْخلق عَن اكْتِسَاب هَذِه السَّعَادَة وتحصيلها وعورة طريقها ومرارة مباديها وتعب تَحْصِيلهَا وانها لاتنال الا على جد من التَّعَب فانها لاتحصل الا بالجد الْمَحْض بِخِلَاف الاوليين فانهما حَظّ قد يحوزه غير طَالبه وبخت قد يحوزه غير جالبه من مِيرَاث اَوْ هبة اَوْ غير ذَلِك واما سَعَادَة الْعلم فَلَا يورثك اياها الا بذل الوسع وَصدق الطّلب وَصِحَّة النِّيَّة وَقد احسن الْقَائِل فِي ذَلِك:

فَقل لمرجي معالي الامور

بِغَيْر اجْتِهَاد رَجَوْت المحالا

وَقَالَ الآخر

لَوْلَا الْمَشَقَّة سَاد للنَّاس كلهم

الْجُود يفقر والإقدام قتال

وَمن طمحت همته الى الامور الْعَالِيَة فَوَاجِب عَلَيْهِ ان يشد على محبَّة اطرق الدِّينِيَّة وَهِي السَّعَادَة وان كَانَت فِي ابتدائها لَا تنفك عَن ضرب من الْمَشَقَّة والكره والتأذي وانها مَتى اكرهت النَّفس عَلَيْهَا وسيقت طَائِعَة وكارهة اليها وَصَبَرت على لاوائها وشدتها افضت مِنْهَا الى رياض مونقة ومقاعد صدق ومقام كريم تَجِد كل لَذَّة دونهَا لعب الصَّبِي بالعصفور بِالنِّسْبَةِ الى لذات الْمُلُوك فَحِينَئِذٍ حَال صَاحبهَا كَمَا قيل:

وَكنت ارى ان قدتناهى بِي الْهوى

الى غَايَة مَا بعْدهَا لي مَذْهَب

ص: 108

فَلَمَّا تلاقينا وعاينت حسنها

تيقنت اني انما كنت العب

فالمكارم منوطة بالمكارة والسعادة لَا يعبر اليها الا على جسر الْمَشَقَّة فَلَا تقطعمسافتها الا فِي سفينة الْجد وَالِاجْتِهَاد قَالَ مُسلم فِي صَحِيحه قَالَ يحيى بن ابي كثير لاينال الْعلم براحة الْجِسْم وَقد قيل من طلب الرَّاحَة ترك الرَّاحَة

فيا وصل الحبيب اما اليه

بِغَيْر مشقة ابدا طَرِيق

وَلَوْلَا جهل الاكثرين بحلاوة هَذِه اللَّذَّة وَعظم قدرهَا لتجالدوا عَلَيْهَا بِالسُّيُوفِ وَلَكِن حفت بحجاب من المكاره وحجبوا عَنْهَا بحجاب من الْجَهْل ليختص الله لَهَا من يَشَاء من عباده وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم الْوَجْه السَّادِس وَالثَّمَانُونَ ان الله تَعَالَى خلق الموجودات وَجعل لكل شَيْء مِنْهَا كمالا يخْتَص بِهِ هُوَ غَايَة شرفه فَإِذا عدم كَمَاله انْتقل الى الرُّتْبَة الَّتِي دونه وَاسْتعْمل فِيهَا فَكَانَ اسْتِعْمَاله فِيهَا كَمَال امثاله فاذا عدم تِلْكَ ايضا نقل الى مَا دونهَا وَلَا تعطل وَهَكَذَا ابدا حَتَّى اذا عدم كل فَضِيلَة صَار كالشوك وكالحطب الَّذِي لَا يصلح الا للوقود فالفرس اذا كَانَت فِيهِ فروسيته التَّامَّة اعد لمراكب الْمُلُوك واكرم أكرام مثله فَإِذا نزل عَنْهَا قَلِيلا اعد لمن دون الْملك فَإِن ازْدَادَ تَقْصِيره فِيهَا اعد لاحاد الاجناد فان تقاصر عَنْهَا جملَة اسْتعْمل اسْتِعْمَال الْحمار اما حول الْمدَار واما لنقل الزبل وَنَحْوه فان عدم ذَلِك اسْتعْمل اسْتِعْمَال الاغنام للذبح والاعدام كَمَا يُقَال فِي الْمثل ان فرسين التقيا احدهما تَحت ملك والاخر تَحت الروايا فَقَالَ فرس الْملك اما انت صَاحِبي وَكنت انا وانت فِي مَكَان وَاحِد فَمَا الَّذِي نزل بك الى هَذِه الْمرتبَة فَقَالَ مَا ذَاك الا انك هملجت قَلِيلا ونعكست انا وَهَكَذَا السَّيْف اذا نباعما هيء لَهُ وَلم يصلح لَهُ ضرب مِنْهُ فاس اَوْ منشار وَنَحْوه وَهَكَذَا الدّور الْعِظَام الحسان اذا خرجت وتهدمت اتَّخذت حظائر للغنم اَوْ الابل وَغَيرهَا وَهَكَذَا الادمي اذا كَانَ صَالحا لاصطفاء الله لَهُ برسالته ونبوته اتَّخذهُ رَسُولا وَنَبِيًّا كَمَا قَالَ تَعَالَى الله اعْلَم حَيْثُ يَجْعَل رسَالَته فاذا كَانَ جوهره قاصرا عَن هَذِه الدرجَة صَالحا لخلافة النُّبُوَّة وميراثها رشحه لذَلِك وبلغه اياه فَإِذا كَانَ قاصرا عَن ذَلِك قَابلا لدرجة الْولَايَة رشح لَهَا وان كَانَ مِمَّن يصلح للْعَمَل وَالْعِبَادَة دون الْمعرفَة وَالْعلم جعل من اهله حَتَّى يَنْتَهِي الى دَرَجَة عُمُوم الْمُؤمنِينَ فان نقص عَن هَذِه الدرجَة وَلم تكن نَفسه قَابِلَة لشَيْء من الْخَيْر اصلا اسْتعْمل حطبا ووقودا للنار وَفِي اثر اسرائيلي ان مُوسَى سَأَلَ ربه عَن شان من يعذبهم من خلقه فَقَالَ يَا مُوسَى ازرع زرعا فزرعه فاوحى اليه ان احصده ثمَّ اوحى اليه ان أنسفه وذره فَفعل وخلص الْحبّ وَحده والعيدان والعصف وَحده فاوحى اليه اني لاجعل فِي النَّار من الْعباد من لَا خير فِيهِ بِمَنْزِلَة العيدان والشوك الَّتِي لَا يصلح الا للنار وَهَكَذَا الانسان يترقى فِي دَرَجَات الْكَمَال دَرَجَة بعد

ص: 109

دَرَجَة حَتَّى يبلغ نِهَايَة مَا يَنَالهُ امثاله مِنْهَا فكم بَين حَاله فِي اول كَونه نُطْفَة وَبَين حَاله والرب يسلم عَلَيْهِ فِي دَاره وَينظر الى وَجهه بكرَة وعشيا وَالنَّبِيّ فِي اول امْرَهْ لما جَاءَهُ الْملك فَقَالَ لَهُ اقْرَأ فَقَالَ مَا أَنا بقارئ وَفِي آخِره امْرَهْ بقول الله لَهُ الْيَوْم اكملت لكم دينكُمْ واتممت عَلَيْكُم نعمتي وَبِقَوْلِهِ لَهُ خَاصَّة وَانْزِلْ عَلَيْك الْكتاب وَالْحكمَة وعلمك مَا لم تكن تعلم وَكَانَ فضل الله عَلَيْك عَظِيما وَحكى ان جمَاعَة من النَّصَارَى تحدثُوا فِيمَا بَينهم فَقَالَ قَائِل مِنْهُم مَا أقل عقول الْمُسلمين يَزْعمُونَ ان نَبِيّهم كَانَ راعي الْغنم فَكيف يصلح راعي الْغنم للنبوة فَقَالَ لَهُ آخر من بَينهم اما هم فوَاللَّه اعقل منا فان الله بِحِكْمَتِهِ يسترعي النَّبِي الْحَيَوَان البهيم فاذا احسن رعايته وَالْقِيَام عَلَيْهِ نَقله مِنْهُ الى رِعَايَة الْحَيَوَان النَّاطِق حِكْمَة من الله وتدريجا لعَبْدِهِ وَلَكِن نَحن جِئْنَا الى مَوْلُود خرج من امْرَأَة يَأْكُل وَيشْرب ويبول ويبكي فَقُلْنَا هَذَا الهنا الَّذِي خلق السَّمَوَات والارض فامسك الْقَوْم عَنهُ فَكيف يحسن بِذِي همة قد ازاح الله عَنهُ علله وعرفه السَّعَادَة والشقاوة ان يرضى بَان يكون حَيَوَانا وَقد أمكنه ان يصير انسانا وَبَان يكون إنْسَانا وَقد امكنه ان يكون ملكا وَبِأَن يكون ملكا وَقد امكنه ان يكون ملكا فِي مقْعد صدق عِنْد مليك مقتدر فتقوم الْمَلَائِكَة فِي خدمته وَتدْخل عَلَيْهِم من كل بَاب سَلام عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنعم عَقبي الدَّار وَهَذَا الْكَمَال إِنَّمَا ينَال بِالْعلمِ ورعايته وَالْقِيَام بِمُوجبِه فَعَاد الامر الى الْعلم وثمرته وَالله تَعَالَى الْمُوفق واعظم النَّقْص واشد الْحَسْرَة نقص الْقَادِر على التَّمام وحسرته على تقويته كَمَا قَالَ بعض السّلف اذا كثرت طرق الْخَيْر كَانَ الْخَارِج مِنْهَا اشد حسرة وَصدق الْقَائِل:

وَلم ار فِي عُيُوب النَّاس عَيْبا

كنقص القادرين على التَّمام فَثَبت انه لَا شَيْء اقبح بالانسان من ان يكون غافلا عَن الْفَضَائِل الدِّينِيَّة والعلوم النافعة والاعمال الصَّالِحَة فَمن كَانَ كَذَلِك فَهُوَ من الهمج الرعاع الَّذين يكدرون المَاء ويغلون الاسعار ان عَاشَ عَاشَ غير حميد وان مَاتَ مَاتَ غير فقيد فقدهم رَاحَة للبلاد والعباد وَلَا تبْكي عَلَيْهِم السَّمَاء وَلَا تستوحش لَهُم الغبراء الْوَجْه السَّابِع وَالثَّمَانُونَ ان الْقلب يَعْتَرِضهُ مرضان يتواردان عَلَيْهِ اذا استحكما فِيهِ كَانَ هَلَاكه وَمَوته وهما مرض الشَّهَوَات وَمرض الشُّبُهَات هَذَانِ اصل دَاء الْخلق الا من عافاه الله وَقد ذكر الله تَعَالَى هذَيْن المرضين فِي كِتَابه اما مرض الشُّبُهَات وَهُوَ اصعبهما واقتلهما للقلب فَفِي قَوْله فِي حق الْمُنَافِقين فِي قُلُوبهم مرض فَزَادَهُم الله مَرضا وَقَوله وليقول الَّذين فِي قُلُوبهم مرض والكافرون مَاذَا أَرَادَ الله بِهَذَا مثلا وَقَالَ تَعَالَى {ليجعل مَا يلقِي الشَّيْطَان فتْنَة للَّذين فِي قُلُوبهم مرض والقاسية قُلُوبهم} فَهَذِهِ ثَلَاثَة مَوَاضِع المُرَاد بِمَرَض الْقلب فِيهَا مرض الْجَهْل والشبهة واما مرض

ص: 110

الشَّهْوَة فَفِي قَوْله يانساء النَّبِي لستن كَأحد من النِّسَاء ان اتقيتن فَلَا تخضعن بالْقَوْل فيطمع الَّذِي فِي قلبه مرض أَي لَا تلن فِي الْكَلَام فيطمع الَّذِي فِي قلبه فجور وزناء قَالُوا وَالْمَرْأَة يَنْبَغِي لَهَا اذا خاطبت الاجانب ان تغلظ كَلَامهَا وتقويه وَلَا تلينه وتكسره فان ذَلِك ابعد من الرِّيبَة والطمع فِيهَا وللقلب امراض اخر من الرِّيَاء وَالْكبر وَالْعجب والحسد وَالْفَخْر وَالْخُيَلَاء وَحب الرياسة والعلو فِي الارض وَهَذَا مرض مركب من مرض الشُّبْهَة والشهوة فَإِنَّهُ لَا بُد فِيهِ من تخيل فَاسد وارادة بَاطِلَة كالعجب وَالْفَخْر وَالْخُيَلَاء وَالْكبر الْمركب من تخيل عَظمته وفضله وَإِرَادَة تَعْظِيم الْخلق لَهُ ومحمدتهم فَلَا يخرج مَرضه عَن شَهْوَة اَوْ شُبْهَة اَوْ مركب مِنْهُمَا وَهَذِه الامراض كلهَا مُتَوَلّدَة عَن الْجَهْل ودواؤها الْعلم كَمَا قَالَ النَّبِي فِي حَدِيث صَاحب الشَّجَّة الَّذِي افتوه بِالْغسْلِ فَمَاتَ قَتَلُوهُ قَتلهمْ الله الا سَأَلُوا اذ لم يعلمُوا انما شِفَاء العي السُّؤَال فَجعل العي وَهُوَ عي الْقلب عَن الْعلم وَاللِّسَان عَن النُّطْق بِهِ مَرضا وشفاؤه سُؤال الْعلمَاء فأمراض الْقُلُوب اصعب من امراض الابدان لَان غَايَة مرض الْبدن ان يُفْضِي بِصَاحِبِهِ الى الْمَوْت وَأما مرض الْقلب فيفضي بِصَاحِبِهِ الى الشَّقَاء الابدي وَلَا شِفَاء لهَذَا الْمَرَض الا بِالْعلمِ وَلِهَذَا سمى الله تَعَالَى كِتَابه شِفَاء لامراض الصُّدُور وَقَالَ تَعَالَى يَا أَيهَا النَّاس قد جاءتكم موعظة من ربكُم مِنْهُ وشفاء لما فِي الصُّدُور وَهدى وَرَحْمَة للْمُؤْمِنين وَلِهَذَا السَّبَب نِسْبَة الْعلمَاء الى الْقُلُوب كنسبة الاطباء الى الابدان وَمَا يُقَال للْعُلَمَاء اطباء الْقُلُوب فَهُوَ لقدر مَا جَامع بَينهمَا والا فالامر اعظم فان كثيرا من الامم يستغنون عَن الاطباء وَلَا يُوجد الاطباء الا فِي الْيَسِير من الْبِلَاد وَقد يعِيش الرجل عمره اَوْ بُرْهَة مِنْهُ لَا يحْتَاج الى طَبِيب واما الْعلمَاء بِاللَّه وامره فهم حَيَاة الْمَوْجُود وروحه وَلَا يسْتَغْنى عَنْهُم طرفَة عين فحاجة الْقلب الى الْعلم لَيست كالحاجة الى التنفس فِي الْهَوَاء بل اعظم وَبِالْجُمْلَةِ فالعلم للقلب مثل المَاء للسمك اذا فَقده مَاتَ فنسبة الْعلم الى الْقلب كنسبة ضوء الْعين اليها وكنسبة سمع الاذن وكنسبة كَلَام اللِّسَان اليه فَإِذا عَدمه كَانَ كَالْعَيْنِ العمياء والاذن الصماء وَاللِّسَان الاخرس وَلِهَذَا يصف سُبْحَانَهُ اهل الْجَهْل بالعمى والصم والبكم وَذَلِكَ صفة قُلُوبهم حَيْثُ فقدت الْعلم النافع فَبَقيت على عماها وصممها وبكمها قَالَ تَعَالَى {وَمن كَانَ فِي هَذِه أعمى فَهُوَ فِي الْآخِرَة أعمى وأضل سَبِيلا} وَالْمرَاد عمى الْقلب فِي الدُّنْيَا وَقَالَ تَعَالَى {ونحشرهم يَوْم الْقِيَامَة على وُجُوههم عميا وبكما وصما مأواهم جَهَنَّم} لانهم هَكَذَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا وَالْعَبْد يبْعَث على مَا مَاتَ عَلَيْهِ وَاخْتلف فِي هَذَا الْعَمى فِي الاخرة فَقيل هوعمى البصيرة بِدَلِيل اخباره تَعَالَى عَن رُؤْيَة الْكفَّار مَا فِي الْقِيَامَة ورؤية الْمَلَائِكَة ورؤية النَّار وَقيل هُوَ عمي الْبَصَر وَرجح هَذَا بَان الاطلاق ينْصَرف اليه وَبِقَوْلِهِ {قَالَ رب لم حشرتني أعمى وَقد كنت بَصيرًا} وَهَذَا عمي الْعين فان الْكَافِر لم يكن بَصيرًا بحجته واجاب هَؤُلَاءِ عَن رُؤْيَة الْكفَّار

ص: 111

فِي الْقِيَامَة بِأَن الله يخرجهم من قُبُورهم الى موقف الْقِيَامَة بصراء ويحشرون من الْموقف الى النَّار عميا قَالَه الْفراء وَغَيره الْوَجْه الثَّامِن وَالثَّمَانُونَ ان الله سُبْحَانَهُ بِحِكْمَتِهِ سلط على العَبْد عدوا عَالما بطرق هَلَاكه واسباب الشَّرّ الَّذِي يلقيه فِيهِ متفننا فِيهَا خَبِيرا بهَا حَرِيصًا عَلَيْهَا لايفتر يقظة وَلَا مناما وَلَا بُد لَهُ من وَاحِدَة من سِتّ ينالها مِنْهُ احدها وَهِي غَايَة مُرَاده مِنْهُ ان يحول بَينه وَبَين الْعلم والايمان فيلقيه فِي الْكفْر فَإِذا ظفر بذلك فرغ مِنْهُ واستراح فان فَاتَتْهُ هَذِه وَهدى للاسلام حرص على تلو الْكفْر وَهِي الْبِدْعَة وَهِي احب اليه من الْمعْصِيَة فان الْمعْصِيَة يُتَاب مِنْهَا والبدعة لَا يُتَاب مِنْهَا لَان صَاحبهَا يرى انه على هدى وَفِي بعض الاثار يَقُول ابليس اهلكت بني آدم بِالذنُوبِ واهلكوني بالاستغفار وَبلا اله الا الله فَلَمَّا رَأَيْت ذَلِك بثثت فيهم الاهواء فهم يذنبون وَلَا يتوبون لانهم يحسبون انهم يحسنون صنعا فاذا ظفر مِنْهُ بِهَذِهِ صيره من رعاته وامرائه فان اعجزته شغله بِالْعَمَلِ الْمَفْضُول عَمَّا هُوَ افضل مِنْهُ ليرتج عَلَيْهِ الَّذِي بَينهمَا وَهِي الْخَامِسَة فان اعجزه ذَلِك صَار الى السَّادِسَة وَهِي تسليط حزبه عَلَيْهِ يؤذونه ويشتمونه ويبهتونه ويرمونه بالعظائم ليحزنه ويشغل قلبه عَن الْعلم والارادة وَسَائِر اعماله فَكيف يُمكن ان يحْتَرز مِنْهُ من لَا علم لَهُ بِهَذِهِ الامور وَلَا بعدوه وَلَا بِمَا يحصنه مِنْهُ فانه لَا ينجو من عدوه الا من عرفه وَعرف طَرِيقه الَّتِي يَأْتِيهِ مِنْهَا وجيشه الَّذِي يَسْتَعِين بِهِ عَلَيْهِ وَعرفت دَاخله ومخارجه وَكَيْفِيَّة محاربته وَبِأَيِّ شَيْء يحاربه وبماذا يداوى جراحته وَبِأَيِّ شَيْء يستمد الْقُوَّة لقتاله وَدفعه وَهَذَا كُله لَا يحصل الا بِالْعلمِ فالجاهل فِي غَفلَة وعمى عَن هَذَا الامر الْعَظِيم والخطب الجسيم وَلِهَذَا جَاءَ ذكر الْعَدو وشأنه وَجُنُوده ومكايده فِي الْقُرْآن كثيرا جدا لحَاجَة النُّفُوس الى معرفَة عدوها وطرق محاربته ومجاهدته فلولا ان الْعلم يكْشف عَن هَذَا لما نجا من نجا مِنْهُ فالعلم هُوَ الَّذِي تحصل بِهِ النجَاة الْوَجْه التَّاسِع وَالثَّمَانُونَ ان اعظم الاسباب الَّتِي يحرم بهَا العَبْد خير الدُّنْيَا والاخرة وَلَذَّة النَّعيم فِي الدَّاريْنِ وَيدخل عَلَيْهِ عَدو مِنْهَا هُوَ الْغَفْلَة المضادة للْعلم والكسل المضاد للارادة والعزيمة هَذَانِ اصل بلَاء العَبْد وحرمانه منَازِل السُّعَدَاء وهما من عدم الْعلم اما الْغَفْلَة فمضادة للْعلم مُنَافِيَة لَهُ وَقد ذمّ سُبْحَانَهُ اهلها وَنهى عَن الْكَوْن مِنْهُم وَعَن طاعتهم وَالْقَبُول مِنْهُم قَالَ تَعَالَى ولاتكن من الغافلين وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا تُطِع من أَغْفَلنَا قلبه عَن ذكرنَا} وَقَالَ تَعَالَى وَلَقَد ذرأنا لِجَهَنَّم كثيرا من الْجِنّ والانس لَهُم قُلُوب لَا يفقهُونَ بهَا وَلَهُم اعين لَا يبصرون بهَا وَلَهُم آذان لَا يسمعُونَ بهَا اولئك كالانعام بل هم اضل واولئك هم الغافلون وَقَالَ النَّبِي فِي وَصيته لِنسَاء الْمُؤمنِينَ لَا تغفلن فتنسين الرَّحْمَة وَسُئِلَ بعض الْعلمَاء عَن عشق الصُّور فَقَالَ قُلُوب غفلت عَن ذكر الله فابتلاها الله بعبودية غَيره فالقلب الغافل مأوى

ص: 112

الشَّيْطَان فانه وسواس خناس قد الْتَقم قلب الغافل يقْرَأ عَلَيْهِ انواع الوساوس والخيالات الْبَاطِلَة فاذا تذكر وَذكر الله انجمع وانضم وخنس وتضاءل لذكر الله فَهُوَ دَائِما بَين الوسوسة والخنس وَقَالَ عُرْوَة بن رُوَيْم ان الْمَسِيح سَأَلَ ربه ان يرِيه مَوضِع الشَّيْطَان من ابْن آدم فَجلى لَهُ فاذا رَأسه راس الْحَيَّة وَاضع راسه على ثَمَرَة الْقلب فَإِذا ذكر العَبْد ربه خنس وَإِذا لم يذكر وضع رَأسه على ثَمَرَة قلبه فمناه وحدثه وَقد روى فِي هَذَا الْمَعْنى حَدِيث مَرْفُوع فَهُوَ دَائِما يترقب غَفلَة العَبْد فيبذر فِي قلبه بذر الاماني والشهوات والخيالات الْبَاطِلَة فيثمر كل حنظل وكل شوك وكل بلَاء وَلَا يزَال يمده بسقيه حَتَّى يغطى الْقلب ويعميه واما الكسل فيتولد عَنهُ الاضاعة والتفريط والحرمان واشد الندامة وَهُوَ منَاف لاراده والعزيمة الَّتِي هِيَ ثَمَرَة الْعلم فان من علم ان كَمَاله ونعيمه فِي شَيْء طلبه بِجهْدِهِ وعزم عَلَيْهِ بِقَلْبِه كُله فَإِن كل اُحْدُ يسْعَى فِي تَكْمِيل نَفسه ولذته وَلَكِن اكثرهم اخطأ الطَّرِيق لعدم علمه بِمَا يَنْبَغِي ان يَطْلُبهُ فالارادة مسبوقة بِالْعلمِ والتصور فتخلفها فِي الْغَالِب إِنَّمَا يكون لتخلف الْعلم والادراك وَإِلَّا فَمَعَ الْعلم التَّام بَان سَعَادَة العَبْد فِي هَذَا الْمطلب ونجاته وفوزه كَيفَ يلْحقهُ كسل فِي النهوض اليه وَلِهَذَا استعاذ النَّبِي من الكسل فَفِي الصَّحِيح عَنهُ انه كَانَ يَقُول اللَّهُمَّ اني اعوذ بك من الْهم والحزن وَالْعجز والكسل والجبن وَالْبخل وضلع الدّين وَغَلَبَة الرِّجَال فاستعاذ من ثَمَانِيَة اشياء كل شَيْئَيْنِ مِنْهَا قرينان وَالْفرق بَينهمَا ان الْمَكْرُوه الْوَارِد على الْقلب اما ان يكون على مَا مضى اَوْ لما يسْتَقْبل فالاول هُوَ الْحزن وَالثَّانِي الْهم وان شِئْت قلت الْحزن على الْمَكْرُوه الَّذِي فَاتَ وَلَا يتَوَقَّع دَفعه والهم على الْمَكْرُوه المنتظر الَّذِي يتَوَقَّع دَفعه وتأمله وَالْعجز والكسل قرينان فان تخلف مصلحَة العَبْد وكماله ولذته وسروره عَنهُ اما ان يكون مصدره عدم الْقُدْرَة فَهُوَ الْعَجز اَوْ يكون قارا عَلَيْهِ لَكِن تخلف لعدم إِرَادَته فَهُوَ الكسل وَصَاحبه يلام عيه مَالا يلام على الْعَجز وَقد يكون الْعَجز ثَمَرَة الكسل فيلام عَلَيْهِ ايضا فكثيرا مَا يكسل الْمَرْء عَن الشَّيْء الَّذِي هُوَ قَادر عَلَيْهِ وتضعف عَنهُ ارادته فيفضي بِهِ الى الْعَجز عَنهُ وَهَذَا هُوَ الْعَجز الَّذِي يلوم الله عَلَيْهِ فِي قَول النَّبِي ان الله يلوم على الْعَجز وَإِلَّا فالعجز الَّذِي لم تخلق لَهُ قدرَة على دَفعه وَلَا يدْخل معجوزه تَحت الْقُدْرَة لَا يلام عَلَيْهِ قَالَ بعض الْحُكَمَاء فِي وَصيته إياك والكسل والضجر فان الكسل لَا ينْهض لمكرمة والضجر إِذا نَهَضَ اليها لَا يصبر عَلَيْهَا والضجر متولدعن الكسل وَالْعجز فَلم يفرده فِي الحَدِيث بِلَفْظ ثمَّ ذكر الْجُبْن وَالْبخل فان الاحسان المتوقع من العَبْد اما بِمَالِه واما بِبدنِهِ فالبخيل مَانع لنفع مَاله والجبان مَانع لنفع بدنه الْمَشْهُور عِنْد النَّاس ان الْبُخْل مُسْتَلْزم الْجُبْن من غير عكس لَان من بخل بِمَالِه فَهُوَ بِنَفسِهِ ابخل والشجاعة تَسْتَلْزِم الْكَرم من غير عكس لَان من جاد بِنَفسِهِ فَهُوَ بِمَالِه اسمح واجود وَهَذَا الَّذِي

ص: 113

قَالُوهُ لَيْسَ بِلَازِم اكثره فان الشجَاعَة وَالْكَرم واضدادها اخلاق وغرائز قد تجمع فِي الرجل وَقد يعْطى بَعْضهَا دون بعض وَقد شَاهد النَّاس من اهل الاقدام والشجاعة والبأس من هُوَ ابخل النَّاس وَهَذَا كثيرا مَا يُوجد فِي امة التّرْك يكون اشجع من لَيْث وابخل من كلب فالرجل قد يسمح بِنَفسِهِ ويضن بِمَالِه وَلِهَذَا يُقَاتل عَلَيْهِ حَتَّى يقتل فَيبْدَأ بِنَفسِهِ دونه فَمن النَّاس من يسمح بِنَفسِهِ وَمَاله وَمِنْهُم من يبخل بِنَفسِهِ وَمِنْهُم من يسمح بِمَالِه وَيبْخَل بِنَفسِهِ وَعَكسه والاقسام الاربعة مَوْجُودَة فِي النَّاس ثمَّ ذكر ضلع الدّين وَغَلَبَة الرِّجَال فان الْقَهْر الَّذِي ينَال العَبْد نَوْعَانِ احدهما قهر بِحَق وَهُوَ ضلع الدّين وَالثَّانِي قهر بباطل وَهُوَ غَلَبَة الرِّجَال فصلوات الله وَسَلَامه على من اوتي جَوَامِع الْكَلم واقتبست كنوز الْعلم وَالْحكمَة من الفاظة وَالْمَقْصُود ان الْغَفْلَة والكسل اللَّذين هما اصل الحرمان سببهما عدم الْعلم فَعَاد النَّقْص كُله الى عدم الْعلم والعزيمة والكمال كُله الى الْعلم والعزيمة وَالنَّاس فِي هَذَا على اربعة اضْرِب الضَّرْب الاول من رزق علما واعين على ذَلِك بِقُوَّة الْعَزِيمَة على الْعَمَل وَهَذَا الضَّرْب خُلَاصَة الْخلق وهم الموصوفون فِي الْقُرْآن بقوله الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وَقَوله اولى الايدي والابصار وَبِقَوْلِهِ افمن كَانَ مَيتا فاحييناه وَجَعَلنَا لَهُ نورا يمشي بِهِ فِي النَّاس كمن مثله فِي الظُّلُمَات لَيْسَ بِخَارِج مِنْهَا فبالحياة تنَال الْعَزِيمَة وبالنور ينَال الْعلم وأئمة هَذَا الضَّرْب هم اولو الْعَزْم من الرُّسُل الضَّرْب الثَّانِي من حرم هَذَا وَهَذَا وهم الموصوفون بقوله إِن شَرّ الدَّوَابّ عِنْد الله الصم الْبكم الَّذين لايعقلون وَبِقَوْلِهِ ام تحسب ان اكثرهم يسمعُونَ اَوْ يعْقلُونَ ان هم الا كالانعام بل هم اضلوا سَبِيلا وَبِقَوْلِهِ انك لَا تسمع الْمَوْتَى وَلَا تسمع الصم الدُّعَاء وَقَوله {وَمَا أَنْت بمسمع من فِي الْقُبُور} وَهَذَا الصِّنْف شَرّ الْبَريَّة يضيقون الديار ويغلون الاسعار وَعند انفسهم انهم يعلمُونَ وَلَكِن ظَاهرا من الْحَيَاة الدُّنْيَا وهم عَن الاخرة هم غافلون ويعلمون وَلَكِن مَا يضرهم وَلَا يَنْفَعهُمْ وينطقون وَلَكِن عَن الْهوى ينطقون ويتكلمون وَلَكِن بِالْجَهْلِ يَتَكَلَّمُونَ ويؤمنون وَلَكِن بالجبت والطاغوت ويعبدون وَلَكِن يعْبدُونَ من دون الله مَالا يضرهم وَلَا يَنْفَعهُمْ ويجادلون وَلَكِن بِالْبَاطِلِ ليدحضوا بِهِ الْحق ويتفكرون ويبيتون وَلَكِن مَالا يرضى من القَوْل يبيتُونَ وَيدعونَ وَلَكِن مَعَ الله الها آخر يدعونَ ويذكرون وَلَكِن إِذا ذكرُوا لَا يذكرُونَ وَيصلونَ وَلَكنهُمْ من الْمُصَلِّين الَّذين هم عَن صلَاتهم ساهون الَّذين هم يراؤن وَيمْنَعُونَ الماعون ويحكمون وَلَكِن حكم الْجَاهِلِيَّة يَبْغُونَ ويكتبون وَلَكِن يَكْتُبُونَ الْكتاب بِأَيْدِيهِم ثمَّ يَقُولُونَ هَذَا من عِنْد الله ليشتروا بِهِ ثمنا قَلِيلا فويل لَهُم مِمَّا كتبت ايديهم وويل لَهُم مِمَّا يسكبون وَيَقُولُونَ إِنَّمَا نَحن مصلحون أَلا انهم هم المفسدون وَلَكِن لَا يَشْعُرُونَ فَهَذَا الضَّرْب نَاس بالصورة وشياطين بِالْحَقِيقَةِ وجلهم إِذا فَكرت فهم حمير اَوْ كلاب اَوْ ذئاب وَصدق البحتري فِي قَوْله:

ص: 114

لم يبْق من جلّ هَذَا النَّاس بَاقِيَة

ينالها الْوَهم الا هَذِه الصُّور وَقَالَ الاخر

لَا تخدعنك اللحاء والصور

تِسْعَة اعشار من ترى بقر فِي شجر السدر مِنْهُم مثل

لَهَا رواء وَمَا لَهَا ثَمَر واحسن من هَذَا كُله قَوْله تَعَالَى وَإِذا رَأَيْتهمْ تعجبك اجسامهم وان يَقُولُوا تسمع لقَولهم كَأَنَّهُمْ خشب مُسندَة عالمهم كَمَا قيل فِيهِ:

زوامل للأسفار لَا علم عِنْدهم

يجيدها الا كعلم الاباعر لعمرك مَا يدْرِي الْبَعِير إِذا غَدا

باوساقه اَوْ رَاح مَا فِي الغرائر واحسن من هَذَا وابلغ واوجز وافصح قَوْله تَعَالَى كَمثل الْحمار يحمل اسفارا بئس مثل الْقَوْم الَّذين كذبُوا بآيَات الله وَالله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين الضَّرْب الثَّالِث من فتح لَهُ بَاب الْعلم وأغلق عَنهُ بَاب الْعَزْم وَالْعَمَل فَهَذَا فِي رُتْبَة الْجَاهِل اَوْ شَرّ مِنْهُ وَفِي الحَدِيث الْمَرْفُوع اشد النَّاس عذَابا يَوْم الْقِيَامَة عَالم لم يَنْفَعهُ الله بِعِلْمِهِ ثبته ابو نعيم وَغَيره فَهَذَا جَهله كَانَ خيرا لَهُ واخف لعذابه من كمله فَمَا زَاده الْعلم إِلَّا وبالا وَعَذَابًا وَهَذَا لَا مطمع فِي صَلَاحه فَإِن التائه عَن الطَّرِيق يُرْجَى لَهُ الْعود اليها إِذا ابصرها فَإِذا عرفهَا وحاد عَنْهَا عمدا فَمَتَى ترجى هدايته قَالَ تَعَالَى كَيفَ يهدي الله قوما كفرُوا بعد إِيمَانهم وشهدوا ان الرَّسُول حق وجاءهم الْبَينَات وَالله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين الضَّرْب الرَّابِع من رزق حظا من الْعَزِيمَة والارادة وَلَكِن قل نصِيبه من الْعلم والمعرفة فَهَذَا اذا وفْق لَهُ الِاقْتِدَاء بداع من دعاة الله وَرَسُوله كَانَ من الَّذين قَالَ الله فيهم {وَمن يطع الله وَالرَّسُول فَأُولَئِك مَعَ الَّذين أنعم الله عَلَيْهِم من النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحسن أُولَئِكَ رَفِيقًا ذَلِك الْفضل من الله وَكفى بِاللَّه عليما} رزقنا الله من فَضله وَلَا احرمنا بِسوء اعمالنا انه غَفُور رَحِيم الْوَجْه التِّسْعُونَ ان كل صفة مدح الله بهَا العَبْد فِي الْقُرْآن فَهِيَ ثَمَرَة الْعلم ونتيجته وكل ذمّ ذمه فَهُوَ ثَمَرَة الْجَهْل ونتيجته فمدحه بالايمان وَهُوَ راس الْعلم ولبه ومدحه بِالْعَمَلِ الصَّالح الَّذِي هُوَ ثَمَرَة الْعلم النافع ومدحه بالشكر وَالصَّبْر والمسارعة فِي الْخيرَات وَالْحب لَهُ وَالْخَوْف مِنْهُ والرجاء والانابة والحلم وَالْوَقار واللب وَالْعقل والعفة وَالْكَرم والايثار على النَّفس والنصيحة لِعِبَادِهِ وَالرَّحْمَة بهم والرأفة وخفض الْجنَاح وَالْعَفو عَن مسيئهم والصفح عَن جانبهم وبذل الاحسان لكافتهم وَدفع السَّيئَة بِالْحَسَنَة والامر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَالصَّبْر فِي مَوَاطِن الصَّبْر وَالرِّضَا بِالْقضَاءِ واللين للأولياء والشدة على الاعداء والصدق فِي الْوَعْد وَالْوَفَاء بالعهد والاعراض

ص: 115

عَن الْجَاهِلين وَالْقَبُول من الناصحين وَالْيَقِين والتوكل والطمأنينة والسكينة والتواصل والتعاطف وَالْعدْل فِي الاقوال والافعال والاخلاق وَالْقُوَّة فِي امْرَهْ والبصيرة فِي دينه وَالْقِيَام بأَدَاء حَقه واستخراجه من المانعين لَهُ والدعوة اليه وَإِلَى مرضاته وجنته والتحذير عَن سبل اهل الضلال وتبيين طرق الغي وَحَال سالكيها والتواصي بِالْحَقِّ والتواصي بِالصبرِ والحض على طَعَام الْمِسْكِين وبر الْوَالِدين وصلَة الارحام وبذل السَّلَام لكافة الْمُؤمنِينَ الى سَائِر الاخلاق المحمودة والافعال المرضية الَّتِي اقْسمْ الله سُبْحَانَهُ على عظمها فَقَالَ تَعَالَى {ن والقلم وَمَا يسطرون مَا أَنْت بِنِعْمَة رَبك بمجنون وَإِن لَك لأجرا غير ممنون وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم} قَالَت عَائِشَة رضى الله عَنْهَا وَقد سُئِلت عَن خلق رَسُول الله فَقَالَت كَانَ خلقه الْقُرْآن فَاكْتفى بذلك السَّائِل وَقَالَ فهمت ان اقوم وَلَا أسَال عَن شَيْء بعْدهَا فَهَذِهِ الاخلاق وَنَحْوهَا هِيَ ثَمَرَة شَجَرَة الْعلم واما شَجَرَة الْجَهْل فتثمر كل ثَمَرَة قبيحة من الْكفْر وَالْفساد والشرك وَالظُّلم وَالْبَغي والعدوان والجزع والهلع والكنود والعجلة والطيش والحدة وَالْفُحْش وَالْبذَاء وَالشح وَالْبخل وَلِهَذَا قيل فِي حد الْبُخْل جهل مقرون بِسوء الظَّن وَمن ثَمَرَته الْغِشّ لِلْخلقِ وَالْكبر عَلَيْهِم وَالْفَخْر وَالْخُيَلَاء وَالْعجب والرياء والسمعة والنفاق وَالْكذب واخلاف الْوَعْد والغلظة على النَّاس والانتقام ومقابلة الْحَسَنَة بِالسَّيِّئَةِ والامر بالمنكر وَالنَّهْي عَن الْمَعْرُوف وَترك الْقبُول من الناصحين وَحب غير الله ورجائه والتوكل عَلَيْهِ وإيثار رِضَاهُ على رضَا الله وَتَقْدِيم امْرَهْ على امْر الله والتماوت عِنْد حق الله والوثوق بِمَا عِنْد حق نَفسه وَالْغَضَب لَهَا والانتصار لَهَا فَإِذا انتهكت حُقُوق نَفسه لم يقم لغضبه شَيْء حَتَّى ينْتَقم بِأَكْثَرَ من حَقه وَإِذا انتهكت محارم الله لم ينبض لَهُ عرق غَضبا لله فَلَا قُوَّة فِي امْرَهْ وَلَا بَصِيرَة فِي دينه وَمن ثَمَرَتهَا الدعْوَة الى سَبِيل الشَّيْطَان وَإِلَى سلوك طرق الْبَغي وَاتِّبَاع الْهوى وايثار الشَّهَوَات على الطَّاعَات وَقيل وَقَالَ وَكَثْرَة السُّؤَال وإضاعة المَال ووأد الْبَنَات وعقوق الامهات وَقَطِيعَة الارحام وإساءة الْجوَار وركوب مركب الخزي والعار وبالحملة فالخير بمجموعه ثَمَر يجتنى من شَجَرَة الْعلم وَالشَّر بمجموعه شوك يجتنى من شَجَرَة الْجَهْل فَلَو ظَهرت صُورَة الْعلم للأبصار لزاد حسنها على صُورَة الشَّمْس وَالْقَمَر وَلَو ظَهرت صُورَة الْجَهْل لَكَانَ منظرها اقبح منظر بل كل خير فِي الْعَالم فَهُوَ من آثَار الْعلم الَّذِي جَاءَت بِهِ الرُّسُل ومسبب عَنهُ وَكَذَلِكَ كل خير يكون الى قيام السَّاعَة وَبعدهَا فِي الْقِيَامَة وكل شَرّ وَفَسَاد حصل فِي الْعَالم وَيحصل الى قيام السَّاعَة وَبعدهَا فِي الْقِيَامَة فسببه مُخَالفَة مَا جَاءَت بِهِ الرُّسُل فِي الْعلم وَالْعَمَل وَلَو لم يكن للْعلم اب ومرب وسائس ووزير الا الْعقل الَّذِي بِهِ عمَارَة الدَّاريْنِ وَهُوَ الَّذِي ارشد الى طَاعَة الرُّسُل وَسلم

ص: 116

الْقلب والجوارح وَنَفسه اليهم وانقاد لحكمه وعزل نَفسه وَسلم الامر الى اهله لكفى بِهِ شرفا وفضلا وَقد مدح الله سُبْحَانَهُ الْعقل وَأَهله فِي كِتَابه فِي مَوَاضِع كَثِيرَة مِنْهُ وذم من لَا عقل لَهُ وَأخْبر انهم اهل النَّار الَّذين لَا سمع لَهُم وَلَا عقل فَهُوَ آلَة كل علم وميزانه الَّذِي بِهِ يعرف صَحِيحه من سقيمه وراجحه من مرجوحه والمرآة الَّتِي يعرف بهَا الْحسن من الْقَبِيح وَقد قيل الْعقل ملك وَالْبدن روحه وحواسه وحركاته كلهَا رعية لَهُ فَإِذا ضعف عَن الْقيام عَلَيْهَا وتعهدها وصل الْخلَل اليها كلهَا وَلِهَذَا قيل من لم يكن عقله اغلب خِصَال الْخَيْر عَلَيْهِ كَانَ حتفه فِي أغلب خِصَال الشَّرّ عَلَيْهِ وروى انه لما هَبَط آدم من الْجنَّة اتاه جِبْرِيل فَقَالَ ان الله احضرك الْعقل وَالدّين وَالْحيَاء لتختار وَاحِدًا مِنْهَا فَقَالَ اخذت الْعقل فَقَالَ الدّين وَالْحيَاء امرنا ان لَا نفارق الْعقل حَيْثُ كَانَ فانحاز اليه وَالْعقل عقلان عقل غريزة وَهُوَ اب الْعلم ومربيه ومتمره وعقل مكتسب مُسْتَفَاد وَهُوَ ولد الْعلم وثمرته ونتيجته فَإِذا اجْتمعَا فِي العَبْد فَذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء واستقام لَهُ امْرَهْ واقبلت عَلَيْهِ جيوش السَّعَادَة من كل جَانب وَإِذا فقد احدهما فالحيوان البهيم احسن حَالا مِنْهُ واذا انْفَرد انْتقصَ الرجل بِنُقْصَان احدهما وَمن النَّاس من يرجح صَاحب الْعقل الغريزي وَمِنْهُم من يرجح صَاحب الْعقل المكتسب وَالتَّحْقِيق ان صَاحب الْعقل الغريزي الَّذِي لَا علم وَلَا تجربة عِنْده آفته الَّتِي يُؤْتى مِنْهُ الاحجام وَترك انتهاز الفرصة لَان عقله يعقله عَن انتهاز الفرصة لعدم علمه بهَا وَصَاحب الْعقل المكتسب يُؤْتى من الاقدام فان علمه بالفرص وطرقها يلقيه على الْمُبَادرَة اليها وعقله الغريزي لَا يُطيق رده عَنهُ فَهُوَ غَالِبا يُؤْتى من إقدامه والاول من احجامه فَإِذا رزق الْعقل الغريزي عقلا ايمانيا مستفادا من مشكاة النُّبُوَّة لَا عقلا معيشيا نفاقيا يظنّ اربابه انهم على شَيْء الا انهم هم الْكَاذِبُونَ فانهم يرَوْنَ الْعقل ان يرْضوا النَّاس على طبقاتهم ويسالموهم ويستجلبوا مَوَدَّتهمْ ومحبتهم وَهَذَا مَعَ انه لَا سَبِيل اليه فَهُوَ ايثار للراحة والدعة وَمؤنَة الاذى فِي الله والموالاة فِيهِ والمعاداة فِيهِ وَهُوَ وان كَانَ اسْلَمْ عاجلة فَهُوَ الهلك فِي الاجلة فَإِنَّهُ مَا ذاق طعم الايمان من لم يوال فِي الله ويعاد فِيهِ فالعقل كل الْعقل مَا اوصل الى رضَا الله وَرَسُوله وَالله الْمُوفق الْمعِين وَفِي حَدِيث مَرْفُوع ذكره ابْن عبد البر وَغَيره اوحى الله الى نَبِي من انبياء بني اسرائيل قل لفُلَان العابد اما زهدك فِي الدُّنْيَا فقد تعجلت بِهِ الرَّاحَة واما انقطاعك الي فقد اكْتسبت بِهِ الْعِزّ فَمَا عملت فِيمَا لي عَلَيْك قَالَ وَمَا لَك على قَالَ هَل واليت فِي وليا اَوْ عاديت فِي عدوا وَذكر ايضا انه اوحى الله الى جِبْرِيل ان اخسف بقرية كَذَا وَكَذَا قَالَ يَا رب ان فيهم فلَانا العابد قَالَ بِهِ فابدأ انه لم يتمعر وَجهه فِي يَوْمًا قطّ الْوَجْه الْحَادِي وَالتِّسْعُونَ حَدِيث ابْن عمر عَن النَّبِي اذا مررتم برياض الْجنَّة فارتعوا قَالُوا يَا رَسُول الله وَمَا رياض الْجنَّة قَالَ

ص: 117

حلق الذّكر فَإِن لله سيارات من الْمَلَائِكَة يطْلبُونَ حلق الذّكر فاذا اتوا عَلَيْهِم صفوا بهم قَالَ عَطاء مجَالِس الذّكر مجَالِس الْحَلَال وَالْحرَام كَيفَ يشترى وَيبِيع ويصوم وَيُصلي وَيتَصَدَّق وينكح وَيُطلق ويحج ذكره الْخَطِيب فِي كتاب الْفَقِيه والمتفقه وَقد تقدم بَيَانه الْوَجْه الثَّانِي وَالتِّسْعُونَ مَا رَوَاهُ الْخَطِيب ايضا عَن ابْن عمر يرفعهُ مجْلِس فقه خير من عبَادَة سِتِّينَ سنة وَفِي رَفعه نظر الْوَجْه الثَّالِث وَالتِّسْعُونَ مَا رَوَاهُ ايضا من حَدِيث عبد الرحمن بن عَوْف يرفعهُ يسير الْفِقْه خير من كثير من الْعِبَادَة وَلَا يثبت رَفعه الْوَجْه الرَّابِع وَالتِّسْعُونَ مَا رَوَاهُ ايضا من حَدِيث انس يرفعهُ فَقِيه افضل عِنْد الله من ألف عَابِد وَهُوَ فِي التِّرْمِذِيّ من حَدِيث روح ابْن جنَاح عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا وَفِي ثبوتهما مرفوعين نظر وَالظَّاهِر ان هَذَا من كَلَام الصَّحَابَة فَمن دونهم الْوَجْه الْخَامِس وَالتِّسْعُونَ مَا رَوَاهُ ايضا عَن ابْن عمر يرفعهُ افضل الْعِبَادَة الْفِقْه الْوَجْه السَّادِس وَالتِّسْعُونَ مَا رَوَاهُ ايضا من حَدِيث نَافِع عَن ابْن عمر يرفعهُ مَا عبد الله بِشَيْء افضل من فقه فِي دين الْوَجْه السَّابِع وَالتِّسْعُونَ مَا رَوَاهُ عَن عَليّ انه قَالَ الْعَالم اعظم اجرا من الصَّائِم الْقَائِم الْغَازِي فِي سَبِيل الله الْوَجْه الثَّامِن وَالتِّسْعُونَ مَا رَوَاهُ المخلص عَن صاعد حَدثنَا الْقَاسِم بن الْفضل بن بزيع حَدثنَا حجاج بن نصير حَدثنَا هِلَال بن عبد الرحمن الْجعْفِيّ عَن عَطاء بن أبي مَيْمُونَة عَن ابي هُرَيْرَة وَأبي ذرأنهما قَالَا بَاب من الْعلم يتعلمه احب الينا من الف رَكْعَة تَطَوّعا وَبَاب من الْعلم نعلمهُ عمل بِهِ اَوْ لم يعْمل احب الينا من مائَة رَكْعَة تَطَوّعا وَقَالا سمعنَا رَسُول الله يَقُول إِذا جَاءَ الْمَوْت طَالب الْعَالم وَهُوَ على هَذِه الْحَال مَاتَ شَهِيدا وَرَوَاهُ ابْن ابي دَاوُد عَن شَاذان عَن حجاج بِهِ قلت وَشَاهده مَا مر من حَدِيث التِّرْمِذِيّ عَن انس يرفعهُ من خرج فِي طلب الْعلم فَهُوَ فِي سَبِيل الله حَتَّى يرجع الْوَجْه التَّاسِع وَالتِّسْعُونَ مَا رَوَاهُ الْخَطِيب ايضا عَن ابي هُرَيْرَة قَالَ لَان اعْلَم بَابا من الْعلم فِي أَمر اَوْ نهي احب الي من سبعين غَزْوَة فِي سَبِيل الله وَهَذَا ان صَحَّ فَمَعْنَاه احب الي من سبعين غَزْوَة بِلَا علم لَان الْعَمَل بِلَا علم فَسَاده اكثر من صَلَاحه اَوْ يُرِيد علما يتعلمه ويعلمه فَيكون لَهُ اجْرِ من عمل بِهِ الى يَوْم الْقِيَامَة وَهَذَا لَا يحصل فِي الْغَزْو الْمُجَرّد الْوَجْه الْمِائَة مَا رَوَاهُ الْخَطِيب ايضا عَن ابي الدَّرْدَاء انه قَالَ مذاكرة الْعلم سَاعَة خير من قيام لَيْلَة الْوَجْه الْحَادِي وَالْمِائَة مَا رَوَاهُ عَن الْحسن قَالَ لَان الْعلم بَابا من الْعلم فاعلمه مُسلما احب الي من ان يكون لي الدُّنْيَا فِي سَبِيل الله الْوَجْه الثَّانِي وَالْمِائَة قَالَ مَكْحُول مَا عبد الله بِأَفْضَل من الْفِقْه الْوَجْه الثَّالِث وَالْمِائَة قَالَ سعيد بن الْمسيب لَيست عبَادَة الله بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاة وَلَكِن بالفقه فِي دينه وَهَذَا الْكَلَام يُرَاد بِهِ امران احدهما انها لَيست بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاة الخاليين عَن الْعلم وَلَكِن بالفقه الَّذِي يعلم بِهِ كَيفَ الصَّوْم وَالصَّلَاة وَالثَّانِي انها لَيست الصَّوْم وَالصَّلَاة

ص: 118

فَقَط بل الْفِقْه فِي دينه من اعظم عباداته الْوَجْه الرَّابِع وَالْمِائَة قَالَ اسحاق بن عبد الله بن ابي فَرْوَة اقْربْ النَّاس من دَرَجَة النُّبُوَّة الْعلمَاء واهل الْجِهَاد وَالْعُلَمَاء دلوا النَّاس على مَا جَاءَت بِهِ الرُّسُل وَقد تقدم الْكَلَام فِي تَفْضِيل الْعَالم على الشَّهِيد وَعَكسه الْوَجْه الْخَامِس وَالْمِائَة قَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة ارْفَعْ النَّاس عِنْد الله منزلَة من كَانَ بَين الله وَبَين عباده وهم الرُّسُل وَالْعُلَمَاء الْوَجْه السَّادِس وَالْمِائَة قَالَ مُحَمَّد بن شهَاب الزُّهْرِيّ مَا عبد الله بِمثل الْفِقْه وَهَذَا الْكَلَام وَنَحْوه يُرَاد بِهِ انه مَا يعبد الله بِمثل ان يتعبد بالفقه فِي الدّين فَيكون نفس التفقه عبَادَة كَمَا قَالَ معَاذ بن جبل عَلَيْكُم بِالْعلمِ فان طلبه لله عبَادَة وَسَيَأْتِي ان شَاءَ الله ذكر كَلَامه بِتَمَامِهِ وَقد يُرَاد بِهِ انه مَا عبد الله بِعبَادة افضل من عبَادَة يصحبها الْفِقْه فِي الدّين لعلم الْفَقِيه فِي دينه بمراتب الْعِبَادَات ومفسداتها وواجبا وسننها وَمَا يكملها وَمَا ينقصها وكلا الْمَعْنيين صَحِيح الْوَجْه السَّابِع وَالْمِائَة قَالَ سهل بن عبد الله التسترِي من أَرَادَ النّظر الى مجَالِس الانبياء فَلْينْظر الى مجَالِس الْعلمَاء وَهَذَا لَان الْعلمَاء خلفاء الرُّسُل فِي أممهم ووارثوهم فِي علمهمْ فمجالسهم مجَالِس خلَافَة النُّبُوَّة الْوَجْه الثَّامِن وَالْمِائَة ان كثيرا من الائمة صَرَّحُوا بِأَن افضل الاعمال بعد الْفَرَائِض طلب الْعلم فَقَالَ الشَّافِعِي لَيْسَ شَيْء بعد الْفَرَائِض افضل من طلب الْعلم وَهَذَا الَّذِي ذكر اصحابه عَنهُ انه مذْهبه وَكَذَلِكَ قَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ وَحَكَاهُ الْحَنَفِيَّة عَن ابي حنيفَة واما الامام احْمَد فَحكى عَنهُ ثَلَاث رِوَايَات احداهن انه الْعلم فَإِنَّهُ قيل لَهُ أَي شَيْء احب اليك اجْلِسْ بِاللَّيْلِ انسخ اَوْ اصلي تَطَوّعا قَالَ نسخك تعلم بِهِ امور دينك فَهُوَ احب الي وَذكر الْخلال عَنهُ فِي كتاب الْعلم نصوصا كَثِيرَة فِي تَفْضِيل الْعلم وَمن كَلَامه فِيهِ النَّاس الى الْعلم احوج مِنْهُم الى الطَّعَام وَالشرَاب وَقد تقدم الرِّوَايَة الثَّانِيَة ان افضل الاعمال بعدالفرائض صَلَاة التَّطَوُّع وَاحْتج لهَذِهِ الرِّوَايَة بقوله وَاعْلَمُوا ان خير اعمالكم الصَّلَاة وَبِقَوْلِهِ فِي حَدِيث ابي ذَر وَقد سَأَلَهُ عَن الصَّلَاة فَقَالَ خيرموضوع وَبِأَنَّهُ اوصى من سَأَلَهُ مُوَافَقَته فِي الْجنَّة بِكَثْرَة السُّجُود وَهُوَ الصَّلَاة وَكَذَلِكَ قَوْله فِي الحَدِيث الاخر عَلَيْك بِكَثْرَة السُّجُود فَإنَّك لَا تسْجد لله سَجْدَة إِلَّا رفعك الله بهَا دَرَجَة وَحط عَنْك بهَا خَطِيئَة وبالاحاديث الدَّالَّة على تَفْضِيل الصَّلَاة وَالرِّوَايَة الثَّالِثَة انه الْجِهَاد فَإِنَّهُ قَالَ لَا اعْدِلْ بِالْجِهَادِ شَيْئا من ذَا يطيقه وَلَا ريب ان اكثر الاحاديث فِي الصَّلَاة وَالْجهَاد وَأما مَالك فَقَالَ ابْن الْقَاسِم سَمِعت مَالِكًا يَقُول ان اقواما ابْتَغوا الْعِبَادَة وأضاعوا الْعلم فَخَرجُوا على امة مُحَمَّد بِأَسْيَافِهِمْ وَلَو ابْتَغوا الْعلم لحجزهم عَن ذَلِك قَالَ مَالك وَكتب ابو مُوسَى الاشعري الى عمر بن الْخطاب انه قرا الْقُرْآن عندنَا عددكذا وَكَذَا فَكتب اليه عمر ان افْرِضْ لَهُم من بَيت المَال فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَام

ص: 119

الثَّانِي كتب اليه انه قد قرا الْقُرْآن عندنَا عدد كثير لأكْثر من ذَلِك فَكتب اليه عمر ان امحهم من الدِّيوَان فَانِي اخاف من ان يسْرع النَّاس فِي الْقُرْآن ان يتفقهوا فِي الدّين فيتأولوه على غير تَأْوِيله وَقَالَ ابْن وهب كنت بَين يَدي مَالك بن انس فَوضعت الواحي وَقمت الى الصَّلَاة فَقَالَ مَا الَّذِي قُمْت اليه بِأَفْضَل من الَّذِي تركته قَالَ شَيخنَا وَهَذِه الامور الثَّلَاثَة الَّتِي فضل كل وَاحِد من الائمة بَعْضهَا وَهِي الصَّلَاة وَالْعلم وَالْجهَاد هِيَ الَّتِي قَالَ فِيهَا عمر بن الْخطاب رضى الله عَنهُ لَوْلَا ثَلَاث فِي الدُّنْيَا لما احببت الْبَقَاء فِيهَا لَوْلَا ان احْمِلْ اَوْ اجهز جَيْشًا فِي سَبِيل الله وَلَوْلَا مكابدة هَذَا اللَّيْل وَلَوْلَا مجالسة اقوام ينتقون اطايب الْكَلَام كَمَا ينتقى اطايب التَّمْر لما احببت الْبَقَاء فالاول الْجِهَاد وَالثَّانِي قيام اللَّيْل وَالثَّالِث مذاكرة الْعلم فاجتمعت فِي الصَّحَابَة بكمالهم وَتَفَرَّقَتْ فِيمَن بعدهمْ الْوَجْه التَّاسِع وَالْمِائَة مَا ذكره ابو نعيم وَغَيره عَن بعض اصحاب رَسُول الله انه قَالَ فضل الْعلم خير من نفل الْعَمَل وَخير دينكُمْ الْوَرع وَقد روى هَذَا مَرْفُوعا من حَدِيث عَائِشَة رضى الله عَنْهَا وَفِي رَفعه نظر وَهَذَا الْكَلَام هُوَ فصل الْخطاب فِي هَذِه المسئلة فَإِنَّهُ إِذا كَانَ كل من الْعلم وَالْعَمَل فرضا فَلَا بُد مِنْهُمَا كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاة فَإِذا كَانَا فضلين وهما النفلان المتطوع بهما ففضل الْعلم ونفله خير من فضل الْعِبَادَة ونفلها لَان الْعلم يعم نَفعه صَاحبه وَالنَّاس مَعَه وَالْعِبَادَة يخْتَص نَفعهَا بصاحبها ولان الْعلم تبقى فَائِدَته وَعلمه بعد مَوته وَالْعِبَادَة تَنْقَطِع عَنهُ وَلما مر من الْوُجُوه السَّابِقَة الْوَجْه الْعَاشِر بعدالمائة مَا رَوَاهُ الْخَطِيب وَأَبُو نعيم وَغَيرهمَا عَن معَاذ بن جبل رضى الله عَنهُ قَالَ تعلمُوا الْعلم فَإِن تعلمه لله خشيَة وَطَلَبه عبَادَة ومدارسته تَسْبِيح والبحث عَنهُ جِهَاد وتعليمه لمن لَا يُحسنهُ صَدَقَة وبذله لاهله قربَة بِهِ يعرف الله ويعبد وَبِه يؤحد وَبِه يعرف الْحَلَال من الْحَرَام وتوصل الارحام وَهُوَ الانيس فِي الوحده والصاحب فِي الْخلْوَة وَالدَّلِيل على السَّرَّاء والمعين على الضراء والوزير عِنْد الاخلاء والقريب عِنْد الغرباء ومنار سَبِيل الْجنَّة يرفع الله بِهِ اقواما فيجعلهم فِي الْخَيْر قادة وسَادَة يقْتَدى بهم ادلة فِي الْخَيْر تقتص آثَارهم وترمق افعالهم وترغب الْمَلَائِكَة فِي خلتهم وبأجنحتهم تمسحهم يسْتَغْفر لَهُم كل رطب ويابس حَتَّى حيتان الْبَحْر وَهُوَ امهِ وسباع الْبر وانعامه وَالسَّمَاء ونجومها وَالْعلم حَيَاة الْقُلُوب من الْعَمى وَنور للأبصار من الظُّلم وَقُوَّة للآبدان من الضعْف يبلغ بِهِ العَبْد منَازِل الابرار والدرجات العلى التفكر فِيهِ يعدل بالصيام ومدارسته بِالْقيامِ وَهُوَ إِمَام للْعَمَل وَالْعَمَل تَابعه يلهمه السُّعَدَاء ويحرمه الاشقياء هَذَا الاثر مَعْرُوف عَن معَاذ وروراه ابو نعيم فِي المعجم من حَدِيث معَاذ مَرْفُوعا الى النَّبِي وَلَا يثبت وحسبه ان يصل الى معَاذ الْوَجْه الْحَادِي

ص: 120

عشر بعدالمائة مَا رَوَاهُ يُونُس بن عبد الاعلى عَن ابْن ابي فديك حَدثنِي عَمْرو بن كثير عَن ابي الْعَلَاء عَن الْحسن عَن رَسُول الله قَالَ من جَاءَهُ الْمَوْت وَهُوَ يطْلب الْعلم ليحيى بِهِ الاسلام فبينه وَبَين الانبياء فِي الْجنَّة دَرَجَة النُّبُوَّة وَقد روى من حَدِيث عَليّ بن زيد بن جدعَان عَن سعيد بن الْمسيب عَن ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي وَهَذَا وَإِن كَانَ لَا يثبت اسناده فَلَا يبعد مَعْنَاهُ من الصِّحَّة فَإِن افضل الدَّرَجَات النُّبُوَّة وَبعدهَا الصديقية وَبعدهَا الشَّهَادَة وَبعدهَا الصّلاح وَهَذِه الدَّرَجَات الاربع الَّتِي ذكرهَا الله تَعَالَى فِي كِتَابه فِي قَوْله {وَمن يطع الله وَالرَّسُول فَأُولَئِك مَعَ الَّذين أنعم الله عَلَيْهِم من النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحسن أُولَئِكَ رَفِيقًا} فَمن طلب الْعلم ليحيى بِهِ الاسلام فَهُوَ من الصديقين ودرجته بعد دَرَجَة النُّبُوَّة الْوَجْه الثَّانِي عشر بعدالمائة قَالَ الْحسن فِي قَوْله تَعَالَى {رَبنَا آتنا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة} هِيَ الْعلم وَالْعِبَادَة {وَفِي الْآخِرَة حَسَنَة} هِيَ الْجنَّة وَهَذَا من احسن التَّفْسِير فَإِن اجل حَسَنَات الدُّنْيَا الْعلم النافع وَالْعَمَل الصَّالح الْوَجْه الثَّالِث عشر بعدالمائة قَالَ ابْن مسعودعليكم بِالْعلمِ قبل ان يرفع وَرَفعه هَلَاك الْعلمَاء فوالذي نَفسِي بِيَدِهِ ليودن رجال قتلوا فِي سَبِيل الله شُهَدَاء ان يَبْعَثهُم الله عُلَمَاء لما يرَوْنَ من كرامتهم وَإِن احدا لم يُولد عَالما وَإِنَّمَا الْعلم بالتعلم الْوَجْه الرَّابِع عشر بعد الْمِائَة قَالَ ابْن عَبَّاس وابو هُرَيْرَة وبعدهما احْمَد بن حَنْبَل تَذَاكر الْعلم بعض لَيْلَة احب الينا من احيائها الْوَجْه الْخَامِس عشر بعدالمائة قَالَ عمر رضى الله عَنهُ ايها النَّاس عَلَيْكُم بِالْعلمِ فَإِن لله سُبْحَانَهُ رِدَاء يُحِبهُ فَمن طلب بَاب من الْعلم رداه الله بردائه فَإِن اذنب ذَنبا استعتبه لِئَلَّا يسلبه رِدَاءَهُ ذَلِك حَتَّى يَمُوت بِهِ قلت وَمعنى استعتاب الله عَبدة ان يطْلب مِنْهُ ان يعتبه أَي يزِيل عَتبه عَلَيْهِ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَار والانابة فَإِذا اناب اليه رفع عَنهُ عتبَة فَيكون قد اعتب ربه أَي ازال عَتبه عَلَيْهِ والرب تَعَالَى قد استعتبه أَي طلب مِنْهُ ان يعتبه وَمن هَذَا قَول ابْن مَسْعُود وَقد وَقعت زَلْزَلَة بِالْكُوفَةِ ان ربكُم يستعتبكم فاعتبوه وَهَذَا هُوَ الاستعتاب الَّذين تقاه سُبْحَانَهُ فِي الاخرة فِي قَوْله {فاليوم لَا يخرجُون مِنْهَا وَلَا هم يستعتبون} أَي لَا نطلب مِنْهُم إِزَالَة عتبنا عَلَيْهِم فَإِن إِزَالَته إِنَّمَا تكون بِالتَّوْبَةِ وَهِي لَا تَنْفَع فِي الاخرة وَهَذَا غير استعتاب العَبْد ربه كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى فَإِن يصبروا فَالنَّار مثوى لَهُم وان يستعتبوا فماهم من المعتبين فَهَذَا مَعْنَاهُ ان يطلبوا إِزَالَة عتبنا عَلَيْهِم وَالْعَفو فماهم من المعتبين أَي ماهم مِمَّن يزَال العتب عَلَيْهِم وَهَذَا الاستعتاب ينفع فِي الدُّنْيَا دون الاخرة الْوَجْه السَّادِس عشر بعدالمائة قَالَ عمر رضى الله عَنهُ موت الف عَابِد اهون من موت عَالم بَصِير بحلال الله وَحَرَامه وَوجه قَول عمر ان هَذَا الْعَالم يهدم على إِبْلِيس كل مَا يبنيه بِعِلْمِهِ وإرشاده واما العابد فنفعه مَقْصُور على نَفسه الْوَجْه السَّابِع عشر بعدالمائة قَول بعض السّلف إِذا اتى على يَوْم

ص: 121

لَا ازْدَادَ فِيهِ علما يقربنِي الى الله فَلَا بورك لي فِي شمس ذَلِك الْيَوْم وَقد رفع هَذَا الى رَسُول الله وَرَفعه اليه بَاطِل وحسبه ان يصل الى وَاحِد من الصَّحَابَة اَوْ التَّابِعين وَفِي مثله قَالَ الْقَائِل إِذا مربي يَوْم وَلم استفد هدى وَلم اكْتسب علما فَمَا ذَلِك من عمري الْوَجْه الثَّامِن عشر بعدالمائة قَالَ بعض السّلف الايمان عُرْيَان ولباسه التَّقْوَى وزينته الْحيَاء وثمرته الْعلم وَقد رفع هَذَا ايضا وَرَفعه بَاطِل الْوَجْه التَّاسِع عشر بعدالمائة إِنَّه فِي بعض الاثار بَين الْعَالم وَالْعَابِد مائَة دَرَجَة بَين كل دَرَجَتَيْنِ حضر الْجواد الْمُضمر سبعين سنة وَقد رفع هَذَا ايضا وَفِي رَفعه نظر الْوَجْه الْعشْرُونَ بعدالمائة مَا رَوَاهُ حَرْب فِي مسَائِله مَرْفُوعا الى النَّبِي يجمع الله تَعَالَى الْعلمَاء يَوْم الْقِيَامَة ثمَّ يَقُول يَا معشر الْعلمَاء إِنِّي لم اضع علمي فِيكُم إِلَّا لعلمي بكم وَلم اضع علمى فِيكُم لاعذبكم اذْهَبُوا فقد غفرت لكم وَهَذَا وَإِن كَانَ غَرِيبا فَلهُ شَوَاهِد حسان الْوَجْه الْحَادِي وَالْعشْرُونَ بعدالمائة قَول ابْن الْمُبَارك وَقد سُئِلَ من النَّاس قَالَ الْعلمَاء قيل فَمن الْمُلُوك قَالَ الزهاد قيل فَمن السفلة قَالَ الَّذِي يَأْكُل بِدِينِهِ الْوَجْه الثَّانِي الْعشْرُونَ بعدالمائة ان من اِدَّرَكَ الْعلم لم يضرّهُ مَا فَاتَهُ بعد ادراكه اذ هُوَ افضل الحظوظ والعطايا وَمن فَاتَهُ الْعلم لم يَنْفَعهُ مَا حصل لَهُ من الحظوظ بل يكون وبالاعليه وسببا لهلاكه وَفِي هَذَا قَالَ بعض السّلف أَي شَيْء اِدَّرَكَ من فَاتَهُ الْعلم واي شَيْء فَاتَهُ من اِدَّرَكَ الْعلم الْوَجْه الثَّالِث وَالْعشْرُونَ بعدالمائة قَالَ بعض العارفين الْيَسْ الْمَرِيض إِذا منع الطَّعَام وَالشرَاب والدواء يَمُوت قَالُوا بلَى قَالُوا فَكَذَلِك الْقلب إِذا منع عَنهُ الْعلم وَالْحكمَة ثَلَاثَة ايام يَمُوت وَصدق فان الْعلم طَعَام الْقلب وَشَرَابه ودواؤه وحياته مَوْقُوفَة على ذَلِك فَإِذا فقد الْقلب الْعلم فَهُوَ موت لَو كَانَ لَا يشْعر بِمَوْتِهِ كَمَا ان السَّكْرَان الَّذِي قد زَالَ عقله والخائف الَّذِي قد انْتهى خَوفه الى غَايَته والمحب والمفكر قد يبطل احساسهم بألم الْجِرَاحَات فِي تِلْكَ الْحَال فَإِذا صحوا وعادوا الى حَال الِاعْتِدَال ادركوا آلامها هَكَذَا العَبْد إِذا حط عَنهُ الْمَوْت احمال الدُّنْيَا وشواغلها اخْتصَّ بهلاكه وخسرانه

فحتام لَا تصحوا وَقد قرب المدى

وحتام لَا ينجاب عَن قَلْبك السكر بل سَوف تصحو حِين ينْكَشف الغطا

وتذكر قولي حِين لَا ينفع الذّكر فَإِذا كشف الغطاء وبرح الخفاء وبليت السرائر وبدت الضمائر وبعثر مَا فِي الْقُبُور وَحصل مَا فِي الصُّدُور فَحِينَئِذٍ يكون الْجَهْل ظلمَة على الْجَاهِلين وَالْعلم حسرة على الباطلين الْوَجْه الرَّابِع وَالْعشْرُونَ بعدالمائة قَالَ ابو الدَّرْدَاء من رأى ان الغدو الى الْعلم لَيْسَ بجهاد فقد نقص فِي رَأْيه وعقله وَشَاهد هَذَا قَول معَاذ وَقد تقدم الْوَجْه الْخَامِس وَالْعشْرُونَ بعدالمائة قَول ابي الدَّرْدَاء ايضا لَان اتعلم مسئلة احب الي من قيام لَيْلَة الْوَجْه السَّادِس وَالْعشْرُونَ

ص: 122

بعدالمائة قَوْله ايضا الْعَالم والمتعلم شريكان فِي الاجر وَسَائِر النَّاس همج لَا خير فيهم الْوَجْه السَّابِع وَالْعشْرُونَ بعدالمائة مَا رَوَاهُ ابو حَاتِم بن حبَان فِي صَحِيحه من حَدِيث ابي هُرَيْرَة انه سمع رَسُول الله يَقُول من دخل مَسْجِدنَا هَذَا ليتعلم خيرا اَوْ ليعلمه كَانَ كالمجاهد فِي سَبِيل الله وَمن دخله لغير ذَلِك كَانَ كالناظر الى مَا لَيْسَ لَهُ الْوَجْه الثَّامِن وَالْعشْرُونَ بعدالمائة مَا رَوَاهُ ايضا فِي صَحِيحه من حَدِيث الثَّلَاثَة الَّذين انْتَهوا الى رَسُول الله وَهُوَ جَالس فِي حلقه فَأَعْرض احدهم واستحى الاخر فَجَلَسَ خَلفهم وَجلسَ الثَّالِث فِي فُرْجَة فِي الْحلقَة فَقَالَ النَّبِي اما احدهم فأوى الى الله فآواه الله وَأما الاخر فاستيحا فاستحيا الله مِنْهُ وَأما الاخر فاعرض فاعرض الله عَنهُ فلولم يكن لطَالب الْعلم الا ان الله يؤويه اليه وَلَا يعرض عَنهُ لكفى بِهِ فضلا الْوَجْه التَّاسِع وَالْعشْرُونَ بعد الْمِائَة مَا رَوَاهُ كميل بن زِيَاد النَّخعِيّ قَالَ اخذ عَليّ بن ابي طَالب رضى الله عَنهُ بيَدي فاخرجني نَاحيَة الْجَبانَة فَلَمَّا اصحر جعل يتنفس ثمَّ قَالَ يَا كميل بن زِيَاد الْقُلُوب اوعية فَخَيرهَا اوعاها احفظ عني مَا اقول لَك النَّاس ثَلَاثَة فعالم رباني ومتعلم على سَبِيل نجاة وهمج رعاع اتِّبَاع كل ناعق يميلون مَعَ كل ريح لم يستضيئؤوا بِنور الْعلم وَلم يلجئوا الى ركن وثيق الْعلم خير من المَال الْعلم يحرسك وانت تحرس المَال الْعلم يكزكوا على الانفاق وَفِي رِوَايَة على الْعَمَل وَالْمَال تنقصه النَّفَقَة الْعلم حَاكم وَالْمَال مَحْكُوم عَلَيْهِ ومحبة الْعلم دين يدان بهَا الْعلم يكْسب الْعَالم الطَّاعَة فِي حَيَاته وَجَمِيل الاحدوثة بعد وَفَاته وصنيعة المَال تَزُول بزواله مَاتَ خزان الاموال وهم احياء وَالْعُلَمَاء باقون مَا بَقِي الدَّهْر اعيانهم مفقودة وأمثالهم فِي الْقُلُوب مَوْجُودَة هاه هاه إِن هَهُنَا علما واشار بِيَدِهِ الى صَدره لَو اصبت لَهُ حَملَة بل اصبته لقنا غير مَأْمُون عَلَيْهِ يسْتَعْمل آلَة الدّين للدنيا يستظهر حجج الله على كِتَابه وبنعمه على عباده اَوْ منقادا لاهل الْحق لَا بَصِير لَهُ فِي احبائه ينقدح الشَّك فِي قلبه بِأول عَارض من شُبْهَة لاذاو لَا ذَاك اَوْ منهوما للذات سَلس القياد للشهوات اَوْ مغرى بِجمع الاموال والادخار ليسَا من دعاة الدّين اقْربْ شبها بهم الانعام السَّائِمَة لذَلِك يَمُوت الْعلم بِمَوْت حامليه اللَّهُمَّ بك لن تَخْلُو الارض من قَائِم لله بحجته لكيلا تبطل حجج الله وبنياته اولئك الاقلون عددا الاعظمون عِنْد الله قيلا بهم يدْفع الله عَن حججه حَتَّى يؤدوها الى نظرائهم ويزرعوها فِي قُلُوب اشابههم هجم بهم الْعلم على حَقِيقَة الامر فاستلانوا مَا استوعر مِنْهُ المترفون وانسوا بِمَا استوحش مِنْهُ الجاهلون صحبوا الدُّنْيَا بأبدان ارواحها معلقَة بالملأ الاعلى اولئك خلفاء الله فِي ارضه ودعاته الى دينه هاه هاه شوقا الى رُؤْيَتهمْ واستغفر الله لي وَلَك اذا شِئْت فَقُمْ ذكره ابو نعيم فِي الْحِلْية وَغَيره قَالَ ابو بكر الْخَطِيب هَذَا حَدِيث حسن من احسن الاحاديث معنى واشرفها لفظا وتقسيم امير

ص: 123

الْمُؤمنِينَ للنَّاس فِي اوله تَقْسِيم فِي غَايَة الصِّحَّة وَنِهَايَة السداد لَان الانسان لَا يَخْلُو من اُحْدُ الاقسام الَّتِي ذكرهَا مَعَ كَمَال الْعقل وإزاحة الْعِلَل اما ان يكون عَالما اَوْ متعلما اَوْ مغفلا للْعلم وَطَلَبه الْيَسْ بعالم وَلَا طَالب لَهُ فالعالم الرباني هُوَ الَّذِي لَا زِيَادَة على فَضله لفاضل وَلَا منزلَة فَوق مَنْزِلَته لمجتهد وَقد دخل فِي الْوَصْف لَهُ بانه رباني وَصفه بِالصِّفَاتِ الَّتِي يقتضيها الْعلم لاهله وَيمْنَع وَصفه بِمَا خالفها وَمعنى الرباني فِي اللُّغَة الرفيع الدرجَة فِي الْعلم العالي الْمنزلَة فِيهِ وعَلى ذَلِك حملُوا قَوْله تَعَالَى {لَوْلَا ينهاهم الربانيون} وَقَوله {كونُوا ربانيين} قَالَ ابْن عَبَّاس حكماء فُقَهَاء وَقَالَ ابو رزين فُقَهَاء عُلَمَاء وَقَالَ ابو عمر الزَّاهِد سَالَتْ ثعلبا عَن هَذَا الْحَرْف وَهُوَ الرباني فَقَالَ سَأَلت ابْن الاعرابي فَقَالَ إِذا كَانَ الرجل عَالما عَاملا معلما قيل لَهُ هَذَا رباني فَإِن خرم عَن خصْلَة مِنْهَا لم نقل لَهُ رباني

قَالَ ابْن الانباري عَن النَّحْوِيين ان الربانيين منسوبون الى الرب وان الالف وَالنُّون زيدتا للْمُبَالَغَة فِي النّسَب كَمَا تَقول لحياني وجبهاني إِذا كَانَ عَظِيم اللِّحْيَة والجبهة واما المتعلم على سَبِيل النجَاة فَهُوَ الطَّالِب بتعلمه والقاصد بِهِ نجاته من التَّفْرِيط فِي تَضْييع الْفُرُوض الْوَاجِبَة عَلَيْهِ وَالرَّغْبَة بِنَفسِهِ عَن احمالها واطراحها والانفة من مجانسة الْبَهَائِم ثمَّ قَالَ وَقد نفى بعض الْمُتَقَدِّمين عَن النَّاس من لم يكن من اهل الْعلم واما الْقسم الثَّالِث فهم المهملون لانفسهم الراضون بالمنزلة الدنية وَالْحَال الخسيسة الَّتِي هِيَ فِي الحضيض الاسقط والهبوط الاسفل الَّتِي لَا منزلَة بعْدهَا فِي الْجَهْل وَلَا دونهَا فِي السُّقُوط وَمَا احسن مَا شبههم بالهمج الرعاع وَبِه يشبه دناة النَّاس واراذلهم والرعاع المتبدد المتفرق وللناعق الصائح وَهُوَ فِي هَذَا الْموضع الرَّاعِي يُقَال نعق الرَّاعِي بالغنم ينعق اذا صَاح بهَا وَمِنْه قَوْله تَعَالَى وَمثل الَّذين كفرُوا كَمثل الَّذِي ينعق بمالا يسمع الا دعاءا ونداءا صم بكم عمي فهم لَا يعْقلُونَ وَنحن نشِير الى بعض مَا فِي هَذَا الحَدِيث من الْفَوَائِد فَقَوله رضى الله عَنهُ الْقُلُوب اوعية يشبه الْقلب بالوعاء والاناء والوادي لانه وعَاء للخير وَالشَّر وَفِي بعض الاثار ان لله فِي ارضه آنِية وَهِي الْقُلُوب فَخَيرهَا ارقها واصلبها واصفاها فَهِيَ اواني مَمْلُوءَة من الْخَيْر واواني مملوة من الشَّرّ كَمَا قَالَ بعض السّلف قُلُوب الابرار تغلى بِالْبرِّ وَقُلُوب الْفجار تغلى بِالْفُجُورِ وَفِي مثل هَذَا قيل فِي الْمثل وكل إِنَاء بِالَّذِي فِيهِ ينضح وَقَالَ تَعَالَى {أنزل من السَّمَاء مَاء فسالت أَوديَة بِقَدرِهَا} شبه الْعلم بِالْمَاءِ النَّازِل من السَّمَاء والقلوب فِي سعتها وضيقها بالاودية فَقلب كَبِير وَاسع يسع علما كثيرا كواد كَبِير وَاسع يسع ماءا كثيرا وقلب صَغِير ضيق يسع علما قَلِيلا كواد صَغِير ضيق يسع ماءا قَلِيلا وَلِهَذَا قَالَ النَّبِي لَا تسموا الْعِنَب الْكَرم فَإِن الْكَرم قلب الْمُؤمن فانهم كانوايسمون شجر الْعِنَب الْكَرم لِكَثْرَة مَنَافِعه وخيره وَالْكَرم كَثِيرَة الْخَيْر وَالْمَنَافِع فَأخْبرهُم ان قلب

ص: 124

الْمُؤمن اولى بِهَذِهِ التَّسْمِيَة لِكَثْرَة مَا فِيهِ من الْخَيْر وَالْمَنَافِع وَقَوله فَخَيرهَا اوعاها يُرَاد بِهِ اسرعها وعيا واثبتها وعيا وَيُرَاد بِهِ ايضا احسنها وعيا فَيكون حسن الوعي الَّذِي هُوَ إيعاء لما يُقَال لَهُ فِي قلبه هُوَ سرعته وكثرته وثباته والوعاء من مَادَّة الوعي فَإِنَّهُ آلَة مَا يوعى فِيهِ كالغطاء والفراش والبساط وَنَحْوهَا ويوصف بذلك الْقلب والاذن كَقَوْلِه تَعَالَى إِنَّا لما طَغى المَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَة لنجعلها لكم تذكرة وَتَعيهَا اذن وَاعِيَة قَالَ قَتَادَة اذن سَمِعت وعقلت عَن الله مَا سَمِعت وَقَالَ الْفراء لتحفظها كل اذن فَتكون عظة لمن يَأْتِي بعد فالوعي تُوصَف بِهِ الاذن كَمَا يُوصف بِهِ الْقلب يُقَال قلب واع وَأذن وَاعِيَة لما بَين الاذن وَالْقلب من الارتباط فالعلم يدْخل من الاذن الى الْقلب فَهِيَ بَابه وَالرَّسُول الْموصل اليه الْعلم كَمَا ان اللِّسَان رَسُوله الْمُؤَدى عَنهُ وَمن عرف ارتباط الْجَوَارِح بِالْقَلْبِ علم ان الاذن احقها ان تُوصَف بالوعي وانها إِذا وعت وعي الْقلب وَفِي حَدِيث جَابر فِي الْمثل الَّذِي ضَربته الْمَلَائِكَة للنَّبِي ولأمته وَقَول الْملك لَهُ اسْمَع سَمِعت اذنك وعقل قَلْبك فَلَمَّا كَانَ الْقلب وعاءا والاذن مدْخل ذَلِك الْوِعَاء وبابه كَانَ حُصُول الْعلم مَوْقُوفا على حسن الِاسْتِمَاع وعقل الْقلب وَالْعقل هُوَ ضبط مَا وصل الى الْقلب وإمساكه حَتَّى لايتفلت مِنْهُ وَمِنْه عقل الْبَعِير وَالدَّابَّة والعقال لما يعقل بِهِ وعقل الانسان يُسمى عقلا لانه يعقله عَن اتِّبَاع الغي والهلاك وَلِهَذَا يُسمى حجرا لانه يمْنَع صَاحبه كَمَا يمْنَع الْحجر مَا حواه فعقل الشَّيْء اخص من علمه ومعرفته لَان صَاحبه يعقل مَا علمه فَلَا يَدعه يذهب كَمَا تعقل الدَّابَّة الَّتِي يخَاف شرودها وللادراك مَرَاتِب بَعْضهَا اقوى من بعض فاولها الشُّعُور ثمَّ الْفَهم ثمَّ الْمعرفَة ثمَّ الْعلم ثمَّ الْعقل ومرادنا بِالْعقلِ الْمصدر لَا الْقُوَّة الغريزية الَّتِي ركبهَا الله فِي الانسان فَخير الْقُلُوب مَا كَانَ واعيا للخير ضابطا لَهُ وَلَيْسَ كالقلب القاسي الَّذِي لايقبله فَهَذَا قلب حجري وَلَا كالمائع الاخرق الَّذِي يقبل وَلَكِن لَا يحفظ وَلَا يضْبط فتفهيم الاول كالرسم فِي الْحجر وتفهيم الثَّانِي كالرسم على المَاء بل خير الْقُلُوب مَا كَانَ لينًا صلبا يقبل بلينه مَا ينطبع فِيهِ ويحفظ صورته بصلابته فَهَذَا تفهيمه كالرسم فِي الشمع وَشبهه وَقَوله النَّاس ثَلَاثَة فعالم رباني ومتعلم على سَبِيل النجَاة همج رعاع هَذَا تَقْسِيم خَاص للنَّاس وَهُوَ الْوَاقِع فَإِن العَبْد إِمَّا ان يكون قد حصل كَمَاله من الْعلم وَالْعَمَل اولا فالاول الْعَالم الرباني وَالثَّانِي اما ان تكون نَفسه متحركة فِي طلب ذَلِك الْكَمَال ساعية فِي إِدْرَاكه اولا وَالثَّانِي هُوَ المتعلم على سَبِيل النجَاة الثَّالِث وَهُوَ الهمج الرعاج فالاول هُوَ الْوَاصِل وَالثَّانِي هُوَ الطَّالِب وَالثَّالِث هُوَ المحروم والعالم الرباني قَالَ ابْن عَبَّاس رضى الله عَنْهُمَا هُوَ الْمعلم اخذه من التربية أَي يربى النَّاس بِالْعلمِ ويربيهم بِهِ كَمَا يربى الطِّفْل ابوه وَقَالَ سعيد بن جُبَير هُوَ الْفَقِيه الْعَلِيم الْحَكِيم قَالَ سِيبَوَيْهٍ زادوا الْفَا ونونا فِي الرباني إِذا ارادوا تَخْصِيصًا بِعلم الرب تبارك وتعالى كَمَا قَالُوا أشعر اني ولحياني ومعني قَول سِيبَوَيْهٍ رحمه الله ان هَذَا الْعَالم لما نسب الى علم الرب تَعَالَى الَّذِي بعث بِهِ رَسُوله

ص: 125

وتخصص بِهِ نسب اليه دون سَائِر من علم علما قَالَ الواحدي فالرباني على قَوْله مَنْسُوب الى الرب على معنى التَّخْصِيص بِعلم الرب أَي يعلم الشَّرِيعَة وصفات الرب تبارك وتعالى وَقَالَ الْمبرد الرباني الَّذِي يرب الْعلم ويرب النَّاس بِهِ أَي يعلمهُمْ ويصلحهم وعَلى قَوْله فالرباني من رب يرب رَبًّا أَي يربيه فَهُوَ مَنْسُوب الى التربية ويربى علمه ليكمل وَيتم بقيامه عَلَيْهِ وتعاهده إِيَّاه كَمَا يربى صَاحب المَال مَاله يُربي النَّاس بِهِ كَمَا يربى الاطفال اولياؤهم وَلَيْسَ هَذَا من قَوْله {وكأين من نَبِي قَاتل مَعَه ربيون كثير} فالربيون هُنَا الْجَمَاعَات باجماع الْمُفَسّرين قيل إِنَّه من الربة بِكَسْر الرَّاء وَهِي الْجَمَاعَة قَالَ الْجَوْهَرِي الربي وَاحِد الربيين وهم الالوف من النَّاس قَالَ تَعَالَى {وكأين من نَبِي قَاتل مَعَه ربيون كثير فَمَا وهنوا لما أَصَابَهُم} وَلَا يُوصف الْعَالم بِكَوْنِهِ ربانيا حَتَّى يكون عَاملا بِعَمَلِهِ معلما لَهُ فَهَذَا قسم وَالْقسم الثَّانِي متعلم على سَبِيل نجاة أَي قَاصِدا بِعِلْمِهِ النجَاة وَهُوَ المخلص فِي تعلمه المتعلم مَا يَنْفَعهُ الْعَامِل بِمَا علمه فَلَا يكون المتعلم على سَبِيل نجاة الا بِهَذِهِ الامور الثَّلَاثَة فَإِنَّهُ إِن تعلم مَا يضرّهُ ولاينفعه لم يكن على سَبِيل نجاة وَإِن تعلم مَا ينْتَفع بِهِ لَا للنجاة فَكَذَلِك وَإِن تعلمه وَلم يعْمل بِهِ لم يحصل لَهُ النجَاة وَلِهَذَا وَصفه بِكَوْنِهِ على السَّبِيل اي على الطَّرِيق الَّتِي تنجيه وَلَيْسَ حرف على وَمَا عمل فِيهِ مُتَعَلقا بمتعلم إِلَّا على وَجه التَّضْمِين أَي مفتش متطلع على سَبِيل نجاته فَهَذَا فِي الدرجَة الثَّانِيَة وَلَيْسَ مِمَّن تعلمه ليمارى بِهِ السُّفَهَاء اَوْ يجارى بِهِ الْعلمَاء اَوْ يصرف وُجُوه النَّاس اليه فَإِن هَذَا من اهل النَّار كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث وثبته ابو نعيم ايضا قَوْله من تعلم علما مِمَّا يبتغى بِهِ وَجه الله لَا يتعلمه الا ليصيب بِهِ عرضا من الدُّنْيَا لم يجد رَائِحَة الْجنَّة قَالَ وَثَبت ايضا قَوْله اشد النَّاس عذَابا يَوْم الْقِيَامَة عَالم لم يَنْفَعهُ الله بِعِلْمِهِ فَهَؤُلَاءِ لَيْسَ فيهم من هُوَ على سَبِيل نجاة بل على سَبِيل الهلكة نَعُوذ بِاللَّه من الخذلان الْقسم الثَّالِث المحروم المعرض فَلَا عَالم وَلَا متعلم بل همج رعاع والهمج من النَّاس حمقاؤهم وجهلتهم واصله من الهمج جمع همجة وَهُوَ ذُبَاب صَغِير كالبعوض يسْقط على وُجُوه الْغنم وَالدَّوَاب واعينها فَشبه همج النَّاس بِهِ والهمج ايضا مصدر قَالَ الراجز:

قد هَلَكت جارتنا من الهمج

وان تجع تَأْكُل عتودا اَوْ ثلج والهمج هُنَا مصدر وَمَعْنَاهُ سوء التَّدْبِير فِي أَمر الْمَعيشَة وَقَوْلهمْ همج هامج مثل ليل لايل والرعاع من النِّسَاء الحمقى الَّذين لايعتد بهم وَقَوله اتِّبَاع كل ناعق أَي من صَاح بهم ودعاهم تبعوه سَوَاء دعاهم الى هدى اَوْ الى ضلال فانهم لَا علم لَهُم بِالَّذِي يدعونَ اليه احق هُوَ ام بَاطِل فهم مستجيبون لدعوته وَهَؤُلَاء من اضر الْخلق على الاديان فَإِنَّهُم الاكثرون عددا الاقلون

ص: 126

عِنْد الله قدرا وهم حطب كل فتْنَة بهم توقد ويشب ضرامها فَإِنَّهَا يَهْتَز لَهَا اولو الدّين ويتولاها الهمج الرعاع وسمى داعيهم ناعقا تَشْبِيها لَهُم بالانعام الَّتِي ينعق بهَا الرَّاعِي فتذهب مَعَه ايْنَ ذهب قَالَ تَعَالَى وَمثل الَّذين كفرُوا كَمثل الَّذِي ينعق بِمَا لَا يسمع الا دعاءا ونداءا صم بكم عمي فهم لَا يعْقلُونَ وَهَذَا الَّذِي وَصفهم بِهِ امير الْمُؤمنِينَ هُوَ من عدم علمهمْ وظلمة قُلُوبهم فَلَيْسَ لَهُم نور وَلَا بصيره يفرقون بهَا بَين الْحق وَالْبَاطِل بل الْكل عِنْدهم سَوَاء وَقَوله رضى الله عَنهُ يميلون مَعَ كل ريح وَفِي رِوَايَة مَعَ كل صائح شبه عُقُولهمْ الضعيفة بالغصن الضَّعِيف وَشبه الاهوية والاراء بالرياح والغصن يمِيل مَعَ الرّيّ حَيْثُ مَالَتْ وعقول هَؤُلَاءِ تميل مَعَ كل هوى وكل دَاع وَلَو كَانَت عقولا كَامِلَة كَانَت كالشجرة الْكَبِيرَة الَّتِي لاتتلاعب بهَا الرِّيَاح وَهَذَا بِخِلَاف الْمثل الَّذِي ضربه النَّبِي للْمُؤْمِنين بالخامة من الزَّرْع تفيئه الرّيح مرّة وتقيمه اخرى وَالْمُنَافِق كشجرة الارز الَّتِي لَا تقطع حَتَّى تستحصد فَإِن هَذَا الْمثل ضرب لِلْمُؤمنِ وَمَا يلقاه من عواصف الْبلَاء والاوجاع والاوجال وَغَيرهَا فَلَا يزَال بَين عَافِيَة وبلاء ومحنة ومنحة وَصِحَّة وسقم وَأمن وَخَوف وَغير ذَلِك فَيَقَع مرّة وَيقوم اخرى ويميل تَارَة ويعتدل اخرى فيكفر عَنهُ بالبلاء ويمحص بِهِ ويخلص من كدره وَالْكَافِر كُله خبث وَلَا يصلح الا للوقود فَلَيْسَ فِي إِصَابَته فِي الدُّنْيَا بانواع الْبلَاء من الْحِكْمَة وَالرَّحْمَة مَا فِي اصابة الْمُؤمن فَهَذِهِ حَال الْمُؤمن فِي الِابْتِلَاء واما مَعَ الاهواء ودعاة الْفِتَن والضلال والبدع فَكَمَا قيل:

تَزُول الْجبَال الراسيات وَقَلبه

على الْعَهْد لَا يلوى وَلَا يتَغَيَّر وَقَوله رضى الله عَنهُ لم يستضيئوا بِنور الْعلم وَلم يلجئوا الى ركن وثيق بَين السَّبَب الَّذِي جعلهم بِتِلْكَ المثابة وَهُوَ انه لم يحصل لَهُم من الْعلم نور يفرقون بِهِ بَين الْحق وَالْبَاطِل كَمَا قَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله وآمنوا بِرَسُولِهِ يُؤْتكُم كِفْلَيْنِ من رَحمته وَيجْعَل لكم نورا تمشون بِهِ} وَقَالَ تَعَالَى {أَو من كَانَ مَيتا فأحييناه وَجَعَلنَا لَهُ نورا يمشي بِهِ فِي النَّاس كمن مثله فِي الظُّلُمَات لَيْسَ بِخَارِج مِنْهَا} وَقَوله تَعَالَى {يهدي بِهِ الله من اتبع رضوانه سبل السَّلَام ويخرجهم من الظُّلُمَات إِلَى النُّور} الاية وَقَوله {وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نورا نهدي بِهِ من نشَاء من عبادنَا} فَإِذا عدم الْقلب هَذَا النُّور صَار بِمَنْزِلَة الحيران الَّذِي لَا يدْرِي ايْنَ يذهب فَهُوَ لحيرته وجهله بطرِيق مَقْصُوده يؤم كل صَوت يسمعهُ وَلم يسكن قُلُوبهم من الْعلم مَا تمْتَنع بِهِ من دعاة الْبَاطِل فَإِن الْحق مَتى اسْتَقر فِي الْقلب قوى بِهِ وَامْتنع مِمَّا يضرّهُ ويهلكه وَلِهَذَا سمى الله الْحجَّة العلمية سُلْطَانا وَتقدم قدم ذَلِك فَالْعَبْد يُؤْتى من ظلمَة بصيرته وَمن ضعف قلبه فاذا

ص: 127

اسْتَقر فِيهِ الْعلم النافع استنارت بصيرته وقوى قلبه وَهَذَانِ الاصلان هما قطب السَّعَادَة اعني الْعلم وَالْقُوَّة وَقد وصف بهما سُبْحَانَهُ الْمعلم الاول جِبْرِيل صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ فَقَالَ {إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى علمه شَدِيد القوى} وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَة التكوير {إِنَّه لقَوْل رَسُول كريم ذِي قُوَّة عِنْد ذِي الْعَرْش مكين} فوصفه بِالْعلمِ وَالْقُوَّة وَفِيه معنى احسن من هَذَا وَهُوَ الاشبه بِمُرَاد على رضى الله عَنهُ وَهُوَ ان هَؤُلَاءِ لَيْسُوا من اهل البصائر الَّذين استضاؤا بِنور الْعلم وَلَا لجئوا الى عَالم مستبصر فقلدوه وَلَا متبعين لمستبصر فَإِن الرجل اما ان يكون بَصيرًا اَوْ اعمى متمسكا ببصير يَقُودهُ اَوْ اعمى يسير بِلَا قَائِد وَقَوله رضى الله عَنهُ الْعلم خير من المَال الْعلم يحرسك وانت تحرس المَال يَعْنِي ان الْعلم يحفظ صَاحبه ويحميه من مواردالهلكة ومواقع العطب فَإِن الانسان لَا يلقى نَفسه فِي هلكة إِذا كَانَ عقله مَعَه وَلَا يعرضهَا لمتلف إِلَّا إِذا كَانَ جَاهِلا بذلك لَا علم لَهُ بِهِ فَهُوَ كمن يَأْكُل طَعَاما مسموما فالعالم بالسم وضرره يَحْرُسهُ علمه وَيمْتَنع بِهِ من اكله وَالْجَاهِل بِهِ يقْتله جَهله فَهَذَا مثل حراسة الْعلم للْعَالم وَكَذَا الطَّبِيب الحاذق يمْتَنع بِعِلْمِهِ عَن كثير مَا يجلب لَهُ الامراض والاسقام وَكَذَا الْعَالم بمخاوف طَرِيق سلوكه ومعاطبها يَأْخُذ حذره مِنْهَا فيحرسه علمه من الْهَلَاك وَهَكَذَا الْعَالم بِاللَّه وبامره وبعدوه ومكائده ومداخله على العَبْد يَحْرُسهُ علمه من وساوس الشَّيْطَان وخطراته والقاء الشَّك والريب وَالْكفْر فِي قلبه فَهُوَ بِعِلْمِهِ يمْتَنع من قبُول ذَلِك فَعلمه يَحْرُسهُ من الشَّيْطَان فَكلما جَاءَ ليأخذه صَاح بِهِ حرس الْعلم والايمان فَيرجع خاسئا خائبا واعظم مَا يَحْرُسهُ من هَذَا الْعَدو الْمُبين الْعلم والايمان فَهَذَا السَّبَب الَّذِي من العَبْد وَالله من وَرَاء حفظه وحراسته وكلاءته فَمَتَى وَكله الى نَفسه طرفَة عين تخطفه عدوه قَالَ بعض العارفين اجْمَعْ العارفون على ان التَّوْفِيق ان لَا يكلك الله الى نَفسك واجمعوا على ان الخذلان ان يخلى بَيْنك وَبَين نَفسك وَقَوله الْعلم يزكوا على الانفاق وَالْمَال تنقصه النَّفَقَة الْعَالم كلما بذل علمه للنَّاس وانفق مِنْهُ تَفَجَّرَتْ بنابيعه فازداد كَثْرَة وَقُوَّة وظهورا فيكتسب بتعليمه حفظ مَا علمه وَيحصل لَهُ بِهِ علم مَا لم يكن عِنْده وَرُبمَا تكون المسئلة فِي نَفسه غير مكشوفة وَلَا خَارِجَة من حيّز الاشكال فَإِذا تكلم بهَا وَعلمهَا اتضحت لَهُ واضاءت وَانْفَتح لَهُ مِنْهَا عُلُوم اخر وايضا فَإِن الْجَزَاء من جنس الْعَمَل فَكَمَا علم الْخلق من جهالتهم جزاه الله بَان كلمة من جهالته كَمَا فِي صَحِيح مُسلم من حَدِيث عِيَاض بن حمَار عَن النَّبِي انه قَالَ فِي حَدِيث طَوِيل وان الله قَالَ لي انفق انفق عَلَيْك وَهَذَا يتَنَاوَل نَفَقَة الْعلم اما بِلَفْظِهِ وَإِمَّا بتنبيهه وإشارته وفحواه ولزكاء الْعلم وَنَحْوه طَرِيقَانِ احدهما تَعْلِيمه وَالثَّانِي الْعَمَل بِهِ فَإِن الْعَمَل بِهِ ايضا ينميه ويكثره وَيفتح لصَاحبه ابوابه وخباياه وَقَوله وَالْمَال تنقصه النَّفَقَة لَا يُنَافِي قَول النَّبِي مَا نقصت صَدَقَة من مَال فَإِن المَال إِذا تَصَدَّقت مِنْهُ وانفقت ذهب ذَلِك الْقدر

ص: 128

وَخَلفه غَيره وَأما الْعلم فكالقبس من النَّار لَو اقتبس مِنْهَا الْعَالم لم يذهب مِنْهَا شَيْء بل يزِيد الْعلم بالاقتباس مِنْهُ فَهُوَ كَالْعَيْنِ الَّتِي كلما اخذ مِنْهَا قوى ينبوعها وجاش معينها وَفضل الْعلم على المَال يعلم من وُجُوه احدها ان الْعلم مِيرَاث الانبياء وَالْمَال مِيرَاث الْمُلُوك والاغنياء وَالثَّانِي ان الْعلم يحرس صَاحبه وَصَاحب المَال يحرس مَاله وَالثَّالِث ان المَال تذهبه النَّفَقَات وَالْعلم يزكوا على النَّفَقَة الرَّابِع ان صَاحب المَال إِذا مَاتَ فَارقه مَاله وَالْعلم يدْخل مَعَه قَبره الْخَامِس ان الْعلم حَاكم على المَال وَالْمَال لَا يحكم على الْعلم السَّادِس ان المَال يحصل لِلْمُؤمنِ وَالْكَافِر وَالْبر والفاجر وَالْعلم النافع لَا يحصل الا لِلْمُؤمنِ ز السَّابِع ان الْعَالم يحْتَاج اليه الْمُلُوك فَمن دونهم وَصَاحب المَال إِنَّمَا يحْتَاج اليه اهل الْعَدَم والفاقة الثَّامِن ان النَّفس تشرف وتزكو بِجمع الْعلم وتحصيله وَذَلِكَ من كمالها وشرفها وَالْمَال يزكيها وَلَا يكمله وَلَا يزيدها صفة كَمَال بل النَّفس تنقص وتشح وتبخل بجمعه والحرص عَلَيْهِ فحرصها على الْعلم عين كمالها وحرصها على المَال عين نَقصهَا التَّاسِع ان المَال يدعوها الى الطغيان وَالْفَخْر وَالْخُيَلَاء وَالْعلم يدعوها إِلَى التوضع وَالْقِيَام بالعبودية فَالْمَال يدعوها الى صِفَات الْمُلُوك وَالْعلم يدعوها الى صِفَات العبيد الْعَاشِر ان الْعلم جاذب موصل لَهَا الى سعادتها الَّتِي خلقت لَهَا وَالْمَال حجاب بَينهَا وَبَينهَا الْحَادِي عشر ان غَنِي الْعلم اجل من غَنِي المَال فَإِن غَنِي المَال غنى بامر خارجي عَن حَقِيقَة الانسان لَو ذهب فِي لَيْلَة اصبح فَقِيرا معدما وغني الْعلم لَا يخْشَى عَلَيْهِ الْفقر بل هُوَ فِي زايدة ابدا فَهُوَ الْغَنِيّ العالي حَقِيقَة كَمَا قيل

غنيت بِلَا مَال عَن النَّاس كلهم

وان الْغَنِيّ العالي عَن الشَّيْء لَا بِهِ الثَّانِي عشر ان المَال يستعبد محبه وَصَاحبه فَيَجْعَلهُ عبدا لَهُ كَمَا قَالَ النَّبِي تعس عبد الدِّينَار وَالدِّرْهَم الحَدِيث وَالْعلم يستعبده لرَبه وخالقه فَهُوَ لَا يَدعُوهُ إِلَّا الى عبودية الله وَحده الثَّالِث عشر ان احب الْعلم وَطَلَبه اصل كل طَاعَة وَحب الدُّنْيَا وَالْمَال وَطَلَبه اصل كل سَيِّئَة الرَّابِع عشر ان قيمَة الْغَنِيّ مَاله وَقِيمَة الْعَالم علمه فَهَذَا مُتَقَوّم بِمَالِه فَإِذا عدم مَاله عدمت قِيمَته وَبَقِي بِلَا قيمَة والعالم لاتزول قِيمَته بل هِيَ فيضاعف وَزِيَادَة دَائِما الْخَامِس عشر ان جَوْهَر المَال من جنس جَوْهَر الْبدن وجوهر الْعلم من جنس جَوْهَر الرّوح كَمَا قَالَ يُونُس بن حبيب علمك من روحك وَمَالك من بدنك وَالْفرق بَين الامرين كالفرق بَين الرّوح وَالْبدن السَّادِس عشر ان الْعَالم لَو عرض عَلَيْهِ بحظه من الْعلم الدُّنْيَا بِمَا فِيهَا لم يرضها عوضا من علمه والغني الْعَاقِل إِذا رأى شرف الْعلم وفضله وابتهاجه بِالْعلمِ وكماله بِهِ يود لَو ان لَهُ علمه بغناه اجْمَعْ السَّابِع عشر انه مَا اطاع الله اُحْدُ قطّ الا بِالْعلمِ وَعَامة من يعصيه إِنَّمَا يعصيه بِالْمَالِ الثَّامِن عشر ان الْعَالم يَدْعُو النَّاس الى الله بِعِلْمِهِ وحاله وجامع المَال يَدعُوهُم الى الدُّنْيَا بِحَالهِ وَمَاله التَّاسِع عشر ان غنى المَال قد يكون سَبَب هَلَاك صَاحبه كثيرا فَإِنَّهُ معشوق النُّفُوس فَإِذا رَأَتْ من يستأثر بمعشوقها عَلَيْهَا سعت فِي هَلَاكه كَمَا هُوَ الْوَاقِع وَأما غنى

ص: 129

الْعلم فسبب حَيَاة الرجل وحياة غَيره بِهِ وَالنَّاس إِذا راوا من يستأثر عَلَيْهِم بِهِ ويطلبه احبوه وخدموه واكرموه الْعشْرُونَ إِن اللَّذَّة الْحَاصِلَة من غنى إِمَّا لَذَّة وهمية وَإِمَّا لَذَّة بهيمية فَإِن صَاحبه التذ بِنَفس جمعه وتحصيله فَتلك لَذَّة وهمية خيالية وان التذ بانفاقه فِي شهواته فَهِيَ لَذَّة بهيمية واما لَذَّة الْعلم فلذة عقلية روحانية وَهِي تشبه لَذَّة الْمَلَائِكَة وبهجتها وَفرق مَا بَين اللذتين الْحَادِي وَالْعشْرُونَ ان عقلاء الامم مطبقون على ذمّ الشره فِي جمع المَال الْحَرِيص عَلَيْهِ وتنقصه والازراء بِهِ ومطبقون على تَعْظِيم الشره فِي جمع الْعلم وتحصيله ومدحه ومحبته ورؤيته بِعَين الْكَمَال الثَّانِي وَالْعشْرُونَ انهم مطبقون على تَعْظِيم الزَّاهِد فِي المَال المعرض عَن جمعه الَّذِي لَا يلْتَفت اليه وَلَا يَجْعَل قلبه عبدا لَهُ ومطبقون على ذمّ الزَّاهِد فِي الْعلم الَّذِي لَا يلْتَفت اليه وَلَا يحرص عَلَيْهِ الثَّالِث وَالْعشْرُونَ ان المَال يمدح صَاحبه بتخليه مِنْهُ وإخراجه وَالْعلم إِنَّمَا يمدح يتخليه بِهِ واتصافه بِهِ الرَّابِع وَالْعشْرُونَ ان غنى المَال مقرون بالخوف والحزن فَهُوَ حَزِين قبل حُصُوله خَائِف بعد حُصُوله وَكلما كَانَ اكثر كَانَ الْخَوْف اقوى وغني الْعلم مقرون بالامن والفرح وَالسُّرُور الْخَامِس وَالْعشْرُونَ ان الْغنى بِمَالِه لَا بُد ان يُفَارِقهُ غناهُ ويتعذب ويتألم بمفارقته والغنى بِالْعلمِ لَا يَزُول وَلَا يتعذب صَاحبه لَا يتألم فلذة الْغنى بالماللذة زائلة مُنْقَطِعَة يعقبها الالم وَلَذَّة الْغنى بِالْعلمِ لَذَّة بَاقِيَة مستمرة لَا يلْحقهَا الم السَّادِس وَالْعشْرُونَ ان استلذاذ النَّفس وكمالها بالغني استكمال بعارية مُؤَدَّاة فتجملها بِالْمَالِ تجمل بِثَوْب مستعار لَا بُد ان يرجع الى مَالِكه يَوْمًا مَا واما تجملها بِالْعلمِ وكمالها بِهِ فتجمل بِصفة ثَابِتَة لَهَا راسخة فِيهَا لَا تفارقها السَّابِع وَالْعشْرُونَ ان الْغَنِيّ بِالْمَالِ هُوَ عين فقر النَّفس والغنى بِالْعلمِ هُوَ عين فقر النَّفس والغنى بِالْعلمِ هُوَ غناها بالحقيقي فغناها بعلمها هُوَ الْغَنِيّ غناها بمالها هُوَ الْفقر الثَّامِن وَالْعشْرُونَ ان من قدم وَأكْرم لمَاله إِذا زَالَ مَاله زَالَ تَقْدِيمه وإكرامه وَمن قدم وَأكْرم لعلمه لَا يزْدَاد الا تَقْدِيمًا وإكراما التَّاسِع وَالْعشْرُونَ ان تَقْدِيم الرجل لمَاله هُوَ عين ذمه فانه نِدَاء عَلَيْهِ بنقصه وانه لَوْلَا مَاله لَكَانَ مُسْتَحقّا للتأخر والاهانة واما تَقْدِيمه وإكرامه لعلمه فَإِنَّهُ عين كَمَاله إِذْ هُوَ تَقْدِيم لَهُ بِنَفسِهِ وبصفته الْقَائِمَة بِهِ لَا بِأَمْر خَارج عَن ذَاته الْوَجْه الثَّلَاثُونَ ان طَالب الْكَمَال بغنى المَال كالجامع بَين الضدين فَهُوَ طَالب مَالا سَبِيل لَهُ اليه وَبَيَان ذَلِك ان الْقُدْرَة صفة كَمَال وَصفَة الْكَمَال محبوبة بِالذَّاتِ والاستغناء عَن الْغَيْر ايضا صفة كَمَال محبوبة بِالذَّاتِ فَإِذا مَال الرجل بطبعه الى السخاوة والجود وَفعل المكرمات فَهَذَا كَمَال مَطْلُوب للعقلاء مَحْبُوب للنفوس وَإِذا الْتفت الى ان ذَلِك يقتضى خُرُوج المَال من يَده وَذَلِكَ يُوجب نَقصه واحتياجه الى الْغَيْر وَزَوَال قدرته نفرت نَفسه عَن السخاء وَالْكَرم والجود واصطناع الْمَعْرُوف وَظن ان كَمَاله فِي إمْسَاك المَال وَهَذِه البلية امْر ثَابت لعامة الْخلق لَا ينكفون عَنْهَا فلأجل ميل الطَّبْع الى حُصُول الْمَدْح وَالثنَاء والتعظيم بحب الْجُود والسخاء

ص: 130

والمكارم وَلأَجل فَوت الْقُدْرَة الْحَاصِلَة بِسَبَب اخراجه وَالْحَاجة المنافية لكَمَال الْغنى يحب ابقاء مَاله وَيكرهُ السخاء وَالْكَرم والجود فَيبقى قلبه وَاقِفًا بَين هذَيْن الداعيين يتجاذبانه ويعتور ان عَلَيْهِ فَيبقى الْقلب فِي مقَام الْمُعَارضَة بَينهمَا فَمن النَّاس من يتَرَجَّح عِنْده جَانب الْبَذْل والجود وَالْكَرم فَيُؤْثِرُهُ على الْجَانِب الاخر وَمِنْهُم من يتَرَجَّح عِنْده جَانب الامساك وَبَقَاء الْقُدْرَة والغني فَيُؤْثِرُهُ فهذان نظران للعقلاء وَمِنْهُم من يبلغ بِهِ الْجَهْل والحماقة الى حَيْثُ يُرِيد الْجمع بَين الْوَجْهَيْنِ فيعد النَّاس بالجود والسخاء والمكارم طَمَعا مِنْهُ فِي فوزه بالمدح وَالثنَاء على ذَلِك وَعند حُضُور الْوَقْت لَا يَفِي بِمَا قَالَ فَيسْتَحق الذَّم ويبذل بِلِسَانِهِ ويمسك بِقَلْبِه وَيَده فَيَقَع فِي أَنْوَاع القبائح والفضائح وَإِذا تَأَمَّلت احوال اهل الدُّنْيَا من الاغنياء رَأَيْتهمْ تَحت اسر هَذِه البلية وهم غَالِبا يَبْكُونَ ويشكون وَأما غنى الْعلم فَلَا يعرض لَهُ شَيْء من ذَلِك بل كلما بذله ازْدَادَ ببذلة فَرحا سُرُورًا وابتهاجا وَإِن فَاتَتْهُ لَذَّة اهل الْغنى وتمتعهم باموالهم فهم ايضا قد فَاتَتْهُمْ لَذَّة اهل الْعلم وتمتعهم بعلومهم وابتهاجهم بهَا فَمَعَ صَاحب الْعلم من اسباب اللَّذَّة مَا هُوَ اعظم واقوى وادوم من لَذَّة الْغنى وتعبه فِي تَحْصِيله وَجمعه وَضَبطه اقل من تَعب جَامع المَال فَجَمعه والمه دون المه كَمَا قَالَ تَعَالَى للْمُؤْمِنين تَسْلِيَة لَهُم بِمَا ينالهم من الالم والتعب فِي طَاعَته ومرضاته وَلَا تهنوا فِي ابْتِغَاء الْقَوْم ان تَكُونُوا تألمون فانهم يألمون كَمَا تألمون وترجون من الله مَالا يرجون وَكَانَ الله عليما حكيما الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ ان اللَّذَّة الْحَاصِلَة من المَال والغنى إِنَّمَا هِيَ حَال تجدده فَقَط واما حَال دَوَامه فإمَّا ان تذْهب تِلْكَ اللَّذَّة وَإِمَّا ان تنقص وَيدل عَلَيْهِ ان الطَّبْع يبْقى طَالبا لغنى آخر حَرِيصًا عَلَيْهِ فَهُوَ يحاول تَحْصِيل الزِّيَادَة دَائِما فَهُوَ فِي فقر مُسْتَمر غير منقض وَلَو ملك خَزَائِن الارض ففقره وَطَلَبه وحرصه بَاقٍ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ اُحْدُ المنهومين اللَّذين لَا يشبعان فَهُوَ لَا يُفَارِقهُ الم الْحِرْص والطلب وَهَذَا بِخِلَاف غنى الْعلم وَالْإِيمَان فان لذته فِي حَال بَقَائِهِ مثلهَا فِي حَال تجدده بل ازيد وصاحبها وان كَانَ لَا يزَال طَالبا للمزيد حَرِيصًا عَلَيْهِ فَطَلَبه وحرصه مستصحب للذة الْحَاصِل وَلَذَّة المرجو الْمَطْلُوب وَلَذَّة الطّلب وابتهاجه فرجه بِهِ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ ان غَنِي المَال يَسْتَدْعِي الانعام على النَّاس والاحسان اليهم فصاحبه اما ان يسد على نَفسه هَذَا الْبَاب واما ان يَفْتَحهُ عَلَيْهِ فان سَده على نَفسه اشْتهر عِنْد النَّاس بالبعد من الْخَيْر والنفع فَأَبْغضُوهُ وذموه واحتقروه وكل من كَانَ بغيضا عِنْد النَّاس حَقِيرًا لديهم كَانَ وُصُول الافات والمضرات اليه اسرع من النَّار فِي الْحَطب الْيَابِس وَمن السَّيْل فِي منحدره وَإِذا عرف من الْخلق انهم يمقتونه ويبغضونه وَلَا يُقِيمُونَ لَهُ وزنا تألم قلبه غَايَة التألم واحضر الهموم والغموم والاحزان وان فتح بَاب الاحسان وَالعطَاء فَإِنَّهُ لايمكنه ايصال الْخَيْر والاحسان الى كل اُحْدُ فَلَا بُد من إيصاله الى الْبَعْض وإمساكه عَن الْبَعْض وَهَذَا

ص: 131

يفتح عَلَيْهِ بَاب الْعَدَاوَة والمذمة من المحروم والمرحوم اما المحروم فَيَقُول كَيفَ جاد على غَيْرِي وبخل عَليّ واما المرحوم فَإِنَّهُ يلتذ ويفرح بِمَا حصل لَهُ من الْخَيْر والنفع فَيبقى طامعا مستشرفا لنظيره على الدَّوَام وَهَذَا قد يتَعَذَّر غَالِبا فيفضى ذَلِك الى الْعَدَاوَة الشَّدِيدَة والمذمة وَلِهَذَا قيل اتَّقِ شَرّ من احسنت اليه وَهَذِه الافات لَا تعرض فِي غنى الْعلم فَإِن صَاحبه يُمكنهُ بذله للْعَالم كلهم واشتراكهم فِيهِ وَالْقدر المبذول مِنْهُ بَاقٍ لاخذه لَا يَزُول بل يتجربه فَهُوَ كالغني إِذا اعطى الْفَقِير رَأس مَال يتجربه حَتَّى يصير غَنِيا مثله الْوَجْه الثَّالِث وَالثَّلَاثُونَ ان جمع المَال مقرون بِثَلَاثَة انواع من الافات والمحن نوع قبله وَنَوع عِنْد حُصُوله وَنَوع بعدمفارقته فَأَما النَّوْع الاول فَهُوَ المشاق والانكاد والالام الَّتِي لَا يحصل الا بهَا واما النَّوْع الثَّانِي فمشقة حفظه وحرساته حراسته وَتعلق الْقلب بِهِ فَلَا يصبح الا مهموما وَلَا يُمْسِي الا مغموما فَهُوَ بِمَنْزِلَة عاشق مفرط الْمحبَّة قد ظفر بمعشوقته والعيون من كل جَانب ترمقه والالسن والقلوب ترشقه فَأَي عَيْش وَلَذَّة لمن هَذِه حَاله وَقد علم ان اعداءه وحساده لَا يفترون عَن سَعْيهمْ فِي التَّفْرِيق بَينه وَبَين معشوقه وَإِن لم يظفروا هم بِهِ دونه وَلَكِن مقصودهم ان يزيلوا اخْتِصَاصه بِهِ دونهم فَإِن فازوا بِهِ والا اسْتَووا فِي الحرمان فَزَالَ الِاخْتِصَاص المؤلم للنفوس وَلَو قدرُوا على مثل ذَلِك مَعَ الْعَالم لفعلوه وَلَكنهُمْ لما علمُوا انه لَا سَبِيل الى سلب علمه عَمدُوا الى جَحده وانكاره ليزيلوا من الْقُلُوب محبته وتقديمه وَالثنَاء عَلَيْهِ فَإِن بهر علمه وَامْتنع عَن مُكَابَرَة الْجُحُود والانكار رَمَوْهُ بالعظائم ونسبوه الى كل قَبِيح ليزيلوا من الْقُلُوب محبته ويسكنوا موضعهَا النفرة عَنهُ وبغضه وَهَذَا شغل السَّحَرَة بِعَيْنِه فَهَؤُلَاءِ سحرة بالسنتهم فَإِن عجزوا لَهُ عَن شَيْء من القبائح الظَّاهِرَة رَمَوْهُ بالتلبيس والتدليس والدوكرة والرياء وَحب الترفع وَطلب الجاه وَهَذَا الْقدر من معاداة اهل الْجَهْل وَالظُّلم للْعُلَمَاء مثل الْحر وَالْبرد لَا بُد مِنْهُ فَلَا يَنْبَغِي لمن لَهُ مسكة عقل ان يتَأَذَّى بِهِ إِذْ لَا سَبِيل لَهُ الى دَفعه بِحَال فليوطن نَفسه عَلَيْهِ كَمَا يوطنها على برد الشتَاء وحر الصَّيف وَالنَّوْع الثَّالِث من آفَات الْغنى مَا يحصل للْعَبد بعد مُفَارقَته من تعلق قلبه بِهِ وَكَونه قد حيل بَينه وَبَينه والمطالبة بحقوقه والمحاسبة على مقبوضه ومصروفه من ايْنَ اكْتَسبهُ وَفِيمَا ذَا انفقه وغنى الْعلم والايمان مَعَ سَلَامَته من هَذِه الافات فَهُوَ كَفِيل بِكُل لَذَّة وفرحة وسرور وَلَكِن لَا ينَال الا على جسر من التَّعَب وَالصَّبْر وَالْمَشَقَّة الرَّابِع وَالثَّلَاثُونَ ان لَذَّة الْغَنِيّ بِالْمَالِ مقرونة بخلطة النَّاس وَلَو لم يكن الا خدمه وازواجه وسراريه واتابعه إِذْ لَو انْفَرد الْغَنِيّ بِمَالِه وَحده من غير ان يتَعَلَّق بخادم اَوْ زوجه اَوْ اُحْدُ من النَّاس لم يكمل انتفاعه بِمَالِه وَلَا التذاذه بِهِ وَإِذا كَانَ كَمَال لذته بغناه مَوْقُوفا على اتِّصَاله بِالْغَيْر فَذَلِك منشأ الافات والالام وَلَو لم يكن الا اخْتِلَاف النَّاس وطبائعهم وارادتهم فقبيح هَذَا حسن ذَاك ومصلحة ذَاك مفْسدَة

ص: 132

هَذَا وَمَنْفَعَة هَذَا مضرَّة ذَاك وَبِالْعَكْسِ فَهُوَ مبتلى بهم فَلَا بُد من وُقُوع النفرة والتباغض والتعادي بَينهم وَبَينه فان ارضاءهم كلهم محَال وَهُوَ جمع بَين الضدين وارضاء بَعضهم واسخاط غَيره سَبَب الشَّرّ والمعاداة وَكلما طَالَتْ المخالطة ازدادت اسباب الشَّرّ والعداوة وقويت وَبِهَذَا السَّبَب كَانَ الشَّرّ الْحَاصِل من الاقارب والعشراء اضعاف الشَّرّ الْحَاصِل من الاجانب والبعداء وَهَذِه المخالطة انما حصلت من جَانب الْغَنِيّ بِالْمَالِ اما إِذا لم يكن فِيهِ فَضِيلَة لَهُم فانهم يتجنبون مخالطته ومعاشرته فيستريح من اذى الْخلطَة وَالْعشرَة وَهَذِه الافات مَعْدُودَة فِي الْغنى بِالْعلمِ الْخَامِس وَالثَّلَاثُونَ ان المَال لَا يُرَاد لذاته وعينه فَإِنَّهُ لَا يحصل بِذَاتِهِ شَيْء من الْمَنَافِع اصلا فَإِنَّهُ لَا يشْبع وَلَا يرْوى وَلَا يدفء وَلَا يمتع وَإِنَّمَا يُرَاد لهَذِهِ الاشياء فَإِنَّهُ لما كَانَ طَرِيقا اليها اريد ارادة الْوَسَائِل وَمَعْلُوم ان الغايات اشرف من الْوَسَائِل فَهَذِهِ الغايات اذا اشرف مِنْهُ وَهِي مَعَ شرفها بِالنِّسْبَةِ اليه نَاقِصَة دنيئة وَقد ذهب كثير من الْعُقَلَاء الى انها لَا حَقِيقَة لَهَا وانما هِيَ دمع الالم فَقَط فَإِن لبس الثِّيَاب مثلا إِنَّمَا فَائِدَته دفع التألم بِالْحرِّ وَالْبرد وَالرِّيح وَلَيْسَ فِيهَا لَذَّة زَائِدَة على ذَلِك وَكَذَلِكَ الاكل إِنَّمَا فَائِدَته دفع الم الْجُوع وَلِهَذَا لَو لم يجد الم الْجُوع لم يستطب الاكل وَكَذَلِكَ الشّرْب مَعَ الْعَطش والراحة مَعَ التَّعَب وَمَعْلُوم ان فِي مزاولة ذَلِك وتحصيله الما وضررا وَلَكِن ضَرَره وألمه اقل من ضَرَر مَا يدْفع بِهِ وألمه فَيحْتَمل الانسان اخف الضررين دفعا لاعظمهما وَحكى عَن بعض الْعُقَلَاء انه قيل لَهُ وَقد تنَاول قدحا كريها من الدَّوَاء كَيفَ حالك مَعَه قَالَ اصبحت فِي دَار بليات ادافع آفَات بآفات وَفِي الْحَقِيقَة فلذات الدُّنْيَا من المآكل والمشارب واللبس والمسكن والمنكح من هَذَا الْجِنْس واللذة الَّتِي يُبَاشِرهَا الْحس ويتحرك لَهَا الْجَسَد وَهِي الْغَايَة الْمَطْلُوبَة لَهُ من لَذَّة المنكح والمأكل شهوتي الْبَطن والفرج لَيْسَ لَهما ثَالِث الْبَتَّةَ الا مَا كَانَ وَسِيلَة اليهما وطريقا الى تحصيلهما وَهَذِه اللَّذَّة منغصة من وُجُوه عديدة مِنْهَا ان تصور زَوَالهَا وانقضائها وفنائها يُوجب تنغصها وَمِنْهَا انها ممزوجة بالافات ومعجونة بالالام محتاطة بالمخاوف وَفِي الْغَالِب لاتفي الامها بطيبها كَمَا قيل:

قايست بَين جمَالهَا وفعالها

فَإِذا الملاحة بالقباحة لاتفي

وَمِنْهَا ان الاراذل من النَّاس وَسَقَطهمْ يشاركون فِيهَا كبراءهم وعقلاءهم بل يزِيدُونَ عَلَيْهِم فِيهَا اعظم زِيَادَة وافحشها فنسبتهم فِيهَا الى الافاضل كنسبة الْحَيَوَانَات الْبَهِيمَة اليهم فمشاركة الاراذل وَأهل الخسة والدناءة فِيهَا زيادتهم على الْعُقَلَاء فِيهَا مِمَّا يُوجب النفرة والاعراض عَنْهَا وَكثير من النَّاس حصل لَهُ الزّهْد فِي المحبوب والمعشوق مِنْهَا بِهَذِهِ الطَّرِيق هَذَا كثير فِي أشعار النَّاس ونثرهم كَمَا قيل

ص: 133

سأترك حبها من غير بغض

وَلَكِن لِكَثْرَة الشُّرَكَاء فِيهِ إِذا وَقع الذُّبَاب على طَعَام

رفعت يَدي وَنَفْسِي تشتيه وتجتنب الاسود ورودماء

إِذا كَانَ الْكلاب يلغن فِيهِ

وَقيل لزاهد مَا الَّذِي زهدك فِي الدُّنْيَا فَقَالَ خسة شركائها وَقلة وفائها وَكَثْرَة جفائها وَقيل لاخر فِي ذَلِك فَقَالَ مَا مددت يَدي الى شَيْء مِنْهَا إِلَّا وجدت غَيْرِي قد سبقني اليه فَاتْرُكْهُ لَهُ وَمِنْهَا ان الالتذاذ بموقعها إِنَّمَا هُوَ بِقدر الْحَاجة اليها والتألم بمطالبة النَّفس لتناولها وَكلما كَانَت شَهْوَة الظفر بالشَّيْء اقوى كَانَت اللَّذَّة الْحَاصِلَة بِوُجُودِهِ اكمل فَلَمَّا لم تحصل تِلْكَ الشَّهْوَة لم تحصل تِلْكَ اللَّذَّة فمقدار اللَّذَّة الْحَاصِلَة فِي الْحَال مسَاوٍ لمقدار الْحَاجة والالم والمضرة فِي الْمَاضِي وَحِينَئِذٍ يتقابل اللَّذَّة الْحَاصِلَة والالم الْمُتَقَدّم فيتساقطان فَتَصِير اللَّذَّة كانها لم تُوجد وَيصير بِمَنْزِلَة من شقّ بطن رجل ثمَّ خاطه وداواه بالمراهم اَوْ بِمَنْزِلَة من ضربه عشرَة اسواط واعطاه عشرَة دَرَاهِم وَلَا تخرج لذات الدُّنْيَا غَالِبا عَن ذَلِك وَمثل هَذَا لَا يعد لَذَّة وَلَا سَعَادَة وَلَا كمالا بل هُوَ بِمَنْزِلَة قَضَاء الْحَاجة من الْبَوْل وَالْغَائِط فَإِن الانسان يتَضَرَّر بثقله فَإِذا قضى حَاجته استراح مِنْهُ فاما ان يعد ذَلِك سَعَادَة وبهجة وَلَذَّة مَطْلُوبَة فَلَا وَمِنْهَا ان هَاتين اللذتين اللَّتَيْنِ هما اثر اللَّذَّات عِنْد النَّاس وَلَا سَبِيل الى نيلهما الا بِمَا يقْتَرن بهما قبلهمَا وبعدهما من مُبَاشرَة القاذورات والتالم الْحَاصِل عقبيهما مثل لَذَّة الاكل فَإِن الْعَاقِل لَو نظر الى طَعَامه حَال مخالطته رِيقه وعجنه بِهِ لنفرت نَفسه مِنْهُ وَلَو سقت تِلْكَ اللُّقْمَة من فِيهِ لنفر طبعه من اعادتها اليه ثمَّ ان لذته بِهِ إِنَّمَا تحصل فِي مجْرى نَحْو الاربع الاصابع فَإِذا فصل عَن ذَلِك المجرى زَالَ تلذذه بِهِ فَإِذا اسْتَقر فِي معدته وخالطه الشَّرَاب وَمَا فِي الْمعدة من الاجزاء الفضلية فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يصير فِي غَايَة الخسة فَإِن زَاد على مِقْدَار الْحَاجة اورث الادواء الْمُخْتَلفَة على تنوعها وَلَوْلَا ان بَقَاءَهُ مَوْقُوف على تنَاوله لَكَانَ تَركه وَالْحَالة هَذِه اليق بِهِ كَمَا قَالَ بَعضهم:

لَوْلَا قَضَاءَهُ جرى نزهت انملتي

عَن ان تلم بمأكول ومشروب وَأما لَذَّة الوقاع قدرهَا ابين من ان نذْكر آفاته وَيدل عَلَيْهِ ان اعضاء هَذِه اللَّذَّة هِيَ عَورَة الانسان الَّتِي يستحيا من رؤيتها وَذكرهَا وسترها امْر فطر الله عَلَيْهِ عباده وَلَا تتمّ لَذَّة المواقعة الا بالاطلاع عَلَيْهَا وإبرازها والتلطخ بالرطوبات المستقذرة المتولدة مِنْهَا ثمَّ إِن تَمامهَا إِنَّمَا يحصل بانفصال النُّطْفَة وَهِي اللَّذَّة الْمَقْصُودَة من الوقاع وزمنها يشبه الان الَّذِي لَا يَنْقَسِم فصعوبة تِلْكَ المزاولة والمحاولة والمطاولة والمراوضة والتعب لاجل لَذَّة لَحْظَة كمد الطّرف فَأَيْنَ مقايسة بَين هَذِه اللَّذَّة وَبَين التَّعَب فِي طَرِيق تَحْصِيلهَا وَهَذَا يدل على ان هَذِه

ص: 134

اللَّذَّة لَيست من جنس الْخيرَات والسعادات والكمال الَّذِي خلق لَهُ العَبْد وَلَا كَمَال لَهُ بِدُونِهِ بل ثمَّ امروراء ذَلِك كُله قد هيء لَهُ العَبْد وَهُوَ لَا يفعلن لَهُ لِغَفْلَتِه عَنهُ وإعراضه عَن التفتيش على طَرِيقه حَتَّى يصل اليه يسوم نَفسه مَعَ الانعام السَّائِمَة:

قد هيؤك لأمر لَو فطنت لَهُ

فاربأ نَفسك ان ترعى مَعَ الهمل

وموقع هَذِه اللَّذَّات من النَّفس كموقع لَذَّة البرَاز من رجل احْتبسَ فِي مَوضِع لَا يُمكنهُ الْقيام الى الْخَلَاء وصارمضطرا اليه فَإِنَّهُ يجد مشقة شَدِيدَة وبلاء عَظِيما فَإِذا تمكن منالذهاب الى الْخَلَاء وَقدر على دفع ذَلِك الْخَبيث المؤذي وجد لَذَّة عَظِيمَة عِنْد دَفعه وإرساله وَلَا لَذَّة هُنَاكَ الا رَاحَته من حمل مَا يُؤْذِيه حمله فَعلم ان هَذِه اللَّذَّات إِمَّا ان تكون دفع آلام وَإِمَّا ان تكون لذات ضَعِيفَة خسيسة مقترنة بآفات ترى مضرتها عَلَيْهِ وَهَذَا كَمَا يعقب لَذَّة الوقاع من ضعف الْقلب وخفقان الْفُؤَاد وَضعف القوى الْبَدَنِيَّة والقلبية وَضعف الارواح واستيلاء العفونة على كل الْبدن واسرع الضعْف والخور اليه واستيلاء الاخلاط عَلَيْهِ لضعف الْقُوَّة عَن دَفعهَا وقهرها وَمِمَّا يدل على ان هَذِه اللَّذَّات لَيست خيرات وسعادات وكمالا ان الْعُقَلَاء من جَمِيع الامم مطبقون على ذمّ من كَانَت هِيَ نهمته وشغله ومصرف همته وإرادته والإزراء بِهِ وتحقير شَأْنه والحاقه بالبهائم ولايقيمون لَهُ وزنا وَلَو كَانَت خيرات وكمالا لَكَانَ من صرف اليها همته اكمل النَّاس وَمِمَّا يدل على ذَلِك ان الْقلب الَّذِي قد وَجه قَصده وإرادته الى هَذِه اللَّذَّات لَا يزَال مُسْتَغْرقا فِي الهموم والغموم والاحزان وَمَا يَنَالهُ من اللَّذَّات فِي جنب هَذِه الالام كقطرة فِي مجركما قيل سروره وزن حَبَّة وحزنه قِنْطَار فَإِن الْقلب يجرى مجْرى مرْآة مَنْصُوبَة على جِدَار وَذَلِكَ الْجِدَار ممر لانواع المشتهيات والملذوذات والمكروهات وَكلما مر بِهِ شَيْء من ذَلِك ظهر فِيهِ أَثَره فَإِن كَانَ محبوبا مشتهيا مَال طبعه اليه فَإِن لم يقدر على تَحْصِيله تألم وتعذب بفقده وَإِن قدر على تَحْصِيله تالم فِي طَرِيق الْحُصُول بالتعب وَالْمَشَقَّة ومنازعة الْغَيْر لَهُ ويتألم حَال حُصُوله خوفًا من فِرَاقه وَبعد فِرَاقه خوفًا على ذَهَابه وَإِن كَانَ مَكْرُوها لَهُ وَلم يقدر على دَفعه تألم بِوُجُودِهِ وَإِن قدر على دَفعه اشْتغل بِدَفْعِهِ ففاتته مصلحَة راجحة الْحُصُول فيتالم لفواتها فَعلم ان هَذَا الْقلب ابدا مُسْتَغْرق فِي بحار الهموم والغموم والاحزان وَإِن نَفسه تضحك عَلَيْهِ وترضيه بِوَزْن ذرة من لذته فيغيب بهَا عَن شُهُوده القناطير من المه وعذابه فَإِذا حيل بَينه وَبَين تِلْكَ اللَّذَّة وَلم يبْق لَهُ اليها سَبِيل تجرد ذَلِك الالم واحاط بِهِ وَاسْتولى عَلَيْهِ من كل جهاته فَقل مَا شِئْت فِي حَال عبد قد غيب عَنهُ سعده وحظوظه وافراحه واحضر شقوته وهمومه وغمومه واحزانه وَبَين العَبْد وَبَين هَذِه الْحَال ان ينْكَشف الغطاء وَيرْفَع السّتْر وينجلى الْغُبَار وَيحصل

ص: 135

مَا فِي الصُّدُور فَإِذا كَانَت هَذِه غَايَة اللَّذَّات الحيوانية الَّتِي هِيَ غَايَة جمع الاموال وطلبها فَمَا الظَّن بِقدر الْوَسِيلَة وَأما غنى الْعلم والايمان فدائم اللَّذَّة مُتَّصِل الفرحة مُقْتَض لانواع المسرة والبهجة لايزول فيحزن وَلَا يُفَارق فيؤلم بل اصحابه كَمَا قَالَ الله تَعَالَى فيهم {لَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ} السَّادِس وَالثَّلَاثُونَ ان غنى المَال يبغض الْمَوْت ولقاء الله فَإِنَّهُ لحبه لمَاله يكره مُفَارقَته وَيُحب بَقَاءَهُ ليتمتع بِهِ كَمَا شهد بِهِ الْوَاقِع وَأما الْعلم فَإِنَّهُ يحبب للْعَبد لِقَاء ربه ويزهده فِي هَذِه الْحَيَاة النكدة الفانية السَّابِع وَالثَّلَاثُونَ ان الاغنياء يَمُوت ذكرهم بموتهم وَالْعُلَمَاء يموتون وَيبقى ذكرهم كَمَا قَالَ امير الْمُؤمنِينَ فِي هَذَا الحَدِيث مَاتَ خزان الاموال وهم احياء وَالْعُلَمَاء باقون مَا بَقِي الدَّهْر فخزان الاموال احياء كاموات وَالْعُلَمَاء بعدموتهم اموات كأيحاء الثَّامِن وَالثَّلَاثُونَ ان نِسْبَة الْعلم الى الرّوح كنسبة الرّوح الى الْبدن فالروح ميتَة حَيَاتهَا بِالْعلمِ كَمَا ان الْجَسَد ميت حَيَاته بِالروحِ فالغني بِالْمَالِ غَايَته ان يزِيد فِي حَيَاة الْبدن واما الْعلم فَهُوَ حَيَاة الْقُلُوب والارواح كَمَا تقدم تَقْرِيره التَّاسِع وَالثَّلَاثُونَ ان الْقلب ملك الْبدن وَالْعلم زينته وعدته وَمَاله وَبِه قوام ملكه وَالْملك لَا بُد لَهُ من عدد وعدة وَمَال وزينة فالعلم هُوَ مركبه وعدته وجماله واما المَال فغايته ان يكون زِينَة وجمالا للبدن إِذا انفقه فِي ذَلِك فَإِذا خزنه وَلم يُنْفِقهُ لم يكن زِينَة وَلَا جمالا بل نقصا ووبالا وَمن الْمَعْلُوم ان زِينَة الْملك بِهِ وَمَا بِهِ قوام ملكه اجل وافضل من زِينَة رَعيته وجمالهم فقوام الْقلب بِالْعلمِ كَمَا ان قوام الْجِسْم بالغذاء الْوَجْه الاربعون ان الْقدر الْمَقْصُود من المَال هُوَ مَا يَكْفِي العَبْد ويقيمه وَيدْفَع ضَرُورَته حَتَّى يتَمَكَّن من قَضَاء جهازه وَمن التَّزَوُّج لسفره الى ربه عزوجل فَإِذا زادعلى ذَلِك شغله وقطعه عَن السّفر وَعَن قَضَاء جهازه وتعبية زَاده فَكَانَ ضَرَره عَلَيْهِ أَكثر من مصْلحَته وَكلما ازاداد غناهُ بِهِ ازْدَادَ تثبطا وتخلفا عَن التجهز لما امامه وَأما الْعلم النافع فَكلما ازْدَادَ مِنْهُ ازْدَادَ فِي تعبية الزَّاد وَقَضَاء الجهاز واعداد عدَّة الْمسير وَالله الْمُوفق وَبِه الِاسْتِعَانَة وَلَا حول وَلَا قُوَّة الا بِهِ فَعدَّة هَذَا السّفر هُوَ الْعلم وَالْعَمَل وعدة الاقامة جمع الاموال والادخار وَمن اراد شَيْئا هيأ لَهُ عدته قَالَ تَعَالَى {وَلَو أَرَادوا الْخُرُوج لأعدوا لَهُ عدَّة وَلَكِن كره الله انبعاثهم فَثَبَّطَهُمْ وَقيل اقعدوا مَعَ القاعدين} قَوْله محبَّة الْعلم اَوْ الْعَالم دين يدان بهَا لَان الْعلم مِيرَاث الانبياء وَالْعُلَمَاء ورثتهم فمحبة الْعلم واهله محبَّة لميراث الانبياء وورثتهم وبغض الْعلم وَأَهله بغض لميراث الانبياء وورثتهم فمحبة الْعلم من عَلَامَات السَّعَادَة وبغض الْعلم من عَلَامَات الشقاوة وَهَذَا كُله إِنَّمَا هُوَ فِي علم الرُّسُل الَّذِي جاؤا بِهِ وورثوه للامة لَا فِي كل مَا يُسمى علما وايضا فَإِن محبَّة الْعلم تحمل على تعلمه واتباعه وَذَلِكَ هُوَ الدّين وبغضه ينْهَى عَن تعلمه واتباعه

ص: 136

وَذَلِكَ هُوَ الشَّقَاء والضلال وايضا فَإِن الله سُبْحَانَهُ عليم يحب كل عليم وَإِنَّمَا يضع علمه عِنْد من يُحِبهُ فَمن احب الْعلم واهله فقد احب مَا احب الله وَذَلِكَ مِمَّا يدان بِهِ قَوْله الْعلم يكْسب الْعَالم الطَّاعَة فِي حَيَاته وَجَمِيل الاحدوثة بعد مماته يكسبه ذَاك أَي يَجعله كسبا لَهُ ويورثه إِيَّاه وَيُقَال كَسبه ذَلِك عزا وَطَاعَة واكسبه لُغَتَانِ وَمِنْه حَدِيث خَدِيجَة رضى الله عَنْهَا إِنَّك لتصل الرَّحِم وَتصدق الحَدِيث وَتحمل الْكل وتكسب الْمَعْدُوم روى بِفَتْح التَّاء وَضمّهَا وَمَعْنَاهُ تكسب المَال والغنى هَذَا هُوَ اصواب وَقَالَت ائفة من رَوَاهُ بضَمهَا فَذَلِك من اكسبه مَالا وَعزا وَمن رَوَاهُ بِفَتْحِهَا فَمَعْنَاه تكسب انت المَال الْمَعْدُوم بمعرفتك وحذقك بِالتِّجَارَة ومعاذ الله من هَذَا الْفَهم وَخَدِيجَة اجل قدرا من تكلمها بِهَذَا فِي هَذَا الْمقَام الْعَظِيم ان تَقول لرَسُول الله اُبْشُرْ فوَاللَّه لَا يخزيك الله إِنَّك تكسب الدِّرْهَم وَالدِّينَار وتحسن التِّجَارَة وَمثل هَذِه التحريفات انما تذكر لِئَلَّا يغتربها فِي تَفْسِير كَلَام الله وَرَسُوله وَالْمَقْصُود ان قَوْله الْعلم يكْسب الْعَالم الطَّاعَة فِي حَيَاته أَي يَجعله مُطَاعًا لَان الْحَاجة الى الْعلم عَامَّة لكل اُحْدُ للملوك فَمن دونهم فَكل اُحْدُ مُحْتَاج إِلَى طَاعَة الْعَالم فَإِنَّهُ يامر بِطَاعَة الله وَرَسُوله فَيجب على الْخلق طَاعَته قَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم} وَفسّر اولى الامر بالعلماء قَالَ ابْن عَبَّاس هم الْفُقَهَاء وَالْعُلَمَاء اهل الدّين الَّذين يعلمُونَ النَّاس دينهم اوجب الله تَعَالَى طاعتهم وَهَذَا قَول مُجَاهِد وَالْحسن وَالضَّحَّاك احدى الرِّوَايَتَيْنِ عَن الامام احْمَد وفسروا بالامراء وَهُوَ قَول ابْن زيد احدى الرِّوَايَتَيْنِ عَن ابْن عَبَّاس وَأحمد والاية تتناولها جَمِيعًا فطاعة وُلَاة الامر وَاجِبَة إِذا امروا بِطَاعَة الله وَرَسُوله وَطَاعَة الْعلمَاء كَذَلِك فالعالم بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول الْعَامِل بِهِ اطوع فِي اهل الارض من كل اُحْدُ فَإِذا مَاتَ احيا الله ذكره وَنشر لَهُ فِي الْعَالمين احسن الثَّنَاء فالعالم بعد وَفَاته ميت وَهُوَ حَيّ بَين النَّاس وَالْجَاهِل فِي حَيَاته حَيّ وَهُوَ ميت بَين النَّاس كَمَا قيل

وَفِي الْجَهْل قبل الْمَوْت موت لأَهله

واجسامهم قبل الْقُبُور قُبُور وارواحهم فيوحشة من جسومهم

وَلَيْسَ لَهُم حَتَّى النشور نشور وَقَالَ الاخر

قد مَاتَ قوم وَمَا مَاتَت مكارمهم

وعاش قوم وهم فِي النَّاس اموات وَقَالَ آخر

وَمَا دَامَ ذكر العَبْد بِالْفَضْلِ بَاقِيا

فَذَلِك حى وَهُوَ فِي الترب هَالك

ص: 137

وَمن تَأمل احوال ائمة الاسلام كأئمة الحَدِيث وَالْفِقْه كَيفَ هم تَحت التُّرَاب وهم فِي الْعَالمين كانهم احياء بَينهم لم يفقدوا مِنْهُم الا صورهم والا فَذكرهمْ وحديثهم وَالثنَاء عَلَيْهِم غير مُنْقَطع وَهَذِه هِيَ الْحَيَاة حَقًا حَتَّى عد ذَلِك حَيَاة ثَانِيَة كَمَا قَالَ المتنبي

ذكر الْفَتى عيشه الثَّانِي وَحَاجته

مَا فَاتَهُ وفضول الْعَيْش اشغال

قَوْله وصنيعة المَال تَزُول بزواله يَعْنِي ان كل صَنِيعَة صنعت للرجل من اجل مَاله من إكرام ومحبة وخدمة وَقَضَاء حوائج وَتَقْدِيم واحترام وتولية وَغير ذَلِك فَإِنَّهَا إِنَّمَا هِيَ مُرَاعَاة لما لَهُ فَإِذا زَالَ مَاله وفارقه زَالَت تِلْكَ الضائع كلهَا حَتَّى إِنَّه رُبمَا لَا يسلم عَلَيْهِ من كَانَ يدأب فِي خدمته وَيسْعَى فِي مَصَالِحه وَقد اكثر النَّاس من هَذَا الْمَعْنى فِي اشعارهم وَكَلَامهم وَفِي مثل قَوْلهم من ودك لأمر ملك عِنْد انقضائه قَالَ بعض الْعَرَب

وَمن هَذَا مَا قيل إِذا اكرمك النَّاس لمَال اَوْ سُلْطَان فَلَا يعجبنك ذَلِك فَإِن زَوَال الْكَرَامَة يزوالهما وَلَكِن ليعجبك ان اكرموك لعلم اَوْ دين وَهَذَا امْر لَا يُنكر فِي النَّاس حَتَّى انهم ليكرمون الرجل لثيابه فَإِذا نَزعهَا لم ير مِنْهُم تِلْكَ الْكَرَامَة وَهُوَ هُوَ قَالَ مَالك بَلغنِي ان أَبَا هُرَيْرَة دعى الى وَلِيمَة فَأتى فحجب فَرجع فَلبس غير تِلْكَ الثِّيَاب فَادْخُلْ فَلَمَّا وضع الطَّعَام ادخل كمه فِي الطَّعَام فعوتب فِي ذَلِك فَقَالَ إِن هَذِه الثباب هِيَ الَّتِي ادخلت فَهِيَ تَأْكُل حَكَاهُ ابْن مزين الطليطلي فِي كِتَابه وَهَذَا بِخِلَاف صَنِيعَة الْعلم فانها لَا تَزُول ابدا بل كل مآلها فِي زِيَادَة مالم يسلب ذَلِك الْعَالم علمه وضيعه الْعلم وَالدّين اعظم من صَنِيعَة المَال لانها تكون بِالْقَلْبِ وَاللِّسَان والجوارح فَهِيَ صادرة عَن حب وإكرام لاجل مَا أودعهُ الله تَعَالَى أَيَّاهُ من علمه وفضله بِهِ على غَيره وايضا فصنيعة الْعلم تَابِعَة لنَفس الْعَالم وذاته وصنيعة المَال تَابِعَة لمَاله الْمُنْفَصِل عَنهُ وايضا فصنيعة المَال صَنِيعَة مُعَاوضَة وصنيعه الْعلم وَالدّين صَنِيعَة حب وتقرب وديانة وايضا فصنيعه المَال تكون مَعَ الْبر والفاجر وَالْمُؤمن وَالْكَافِر واما صَنِيعَة الْعلم وَالدّين فَلَا تكون الا مَعَ اهل ذَلِك وَقد يُرَاد من هَذَا ايضا معنى آخر وَهُوَ ان من اصطنعت عِنْده صَنِيعَة بِمَالك إِذا زَالَ ذَلِك المَال وفارقه عدمت صنيعتك عِنْده واما من اصطنعت اليه صَنِيعَة علم وَهدى فَإِن تِلْكَ الصنيعة لَا تُفَارِقهُ ابدا بل ترى فِي كل وَقت كَأَنَّك اسديتها اليه حِينَئِذٍ قَوْله مَاتَ خزان الاموال وهم احياء تقدم بَيَانه وَكَذَا قَوْله وَالْعُلَمَاء باقون مَا بَقِي الدَّهْر وَقَوله اعيانهم مفقودة وامثالهم فِي الْقُلُوب مَوْجُودَة المُرَاد بامثالهم صورهم العلمية ووجودهم المثالي أَي وان فقدت ذواتهم فصورهم وامثالهم فِي الْقُلُوب لَا تفارقها وَهَذَا هُوَ الْوُجُود الذهْنِي العلمي لَان محبَّة النَّاس لَهُم واقتداءهم بهم وانتفاعهم بعلومهم

ص: 138

يُوجب ان لَا يزَالُوا نصب عيونهم وقبلة قُلُوبهم فهم موجودون مَعَهم وحاضرون عِنْدهم وان غَابَتْ عَنْهُم اعيانهم كَمَا قيل

وَمن عجب اني احن اليهم

واسال عَنْهُم من لقِيت وهم معي وتطلبهم عَيْني وهم فِي سوادها

ويشتاقهم قلبِي وهم بَين اضلعي وَقَالَ آخر

وَمن عجب ان يشكو الْبعد عاشق

وَهل غَابَ عَن قلب الْمُحب حبيب خيالك فِي عَيْني وذكرك فِي فمي

ومثواك فِي قلبِي فَأَيْنَ تغيب قَوْله آه إِن هَا هُنَا علما واشار الى صَدره يدل على جَوَاز اخبار الرجل بِمَا عِنْده من الْعلم وَالْخَيْر ليقتبس مِنْهُ ولينتفع بِهِ وَمِنْه قَول يُوسُف الصّديق عليه السلام اجْعَلنِي على خَزَائِن الارض إِنِّي حفيظ عليم فَمن اخبر عَن نَفسه بِمثل ذَلِك ليكْثر بِهِ مَا يُحِبهُ الله وَرَسُوله من الْخَيْر فَهُوَ مَحْمُود وَهَذَا غير من اخبر بذلك ليتكثر بِهِ عِنْد النَّاس ويتعظم وَهَذَا يجازيه الله بمقت النَّاس لَهُ وصغره فِي عيونهم والاول يكثره فِي قُلُوبهم وعيونهم وَإِنَّمَا الاعمال بِالنِّيَّاتِ وَكَذَلِكَ إِذا اثنى الرجل على نَفسه ليخلص بذلك من مظْلمَة وَشر اَوْ ليستوفى بذلك حَقًا لَهُ يحْتَاج فِيهِ الى التَّعْرِيف بِحَالهِ اَوْ ليقطع عَنهُ اطماع السفلة فِيهِ اوعند خطبَته الى من لَا يعرف حَاله والاحسن فِي هَذَا ان يُوكل من يعرف بِهِ وبحاله فَإِن لِسَان ثَنَاء الْمَرْء على نَفسه قصير وَهُوَ فِي الْغَالِب مَذْمُوم لما يقْتَرن بِهِ من الْفَخر والتعاظم ثمَّ ذكر اصناف حَملَة الْعلم الَّذين لايصلحون لحمله وهم اربعة احدهم من لَيْسَ هُوَ بمأمون عَلَيْهِ وَهُوَ الَّذِي اوتى ذكاء وحفظا وَلَكِن مَعَ ذَلِك لم يُؤْت زكاء فَهُوَ يتَّخذ الْعلم الَّذِي هُوَ آلَة الدّين آلَة الدُّنْيَا يستجلبها بِهِ ويتوسل بِالْعلمِ اليها وَيجْعَل البضاعة الَّتِي هِيَ متجر الاخرة متجر الدُّنْيَا وَهَذَا غير امين على مَا حمله من الْعلم وَلَا يَجعله الله إِمَامًا فِيهِ قطّ فَإِن الامين هُوَ الَّذِي لاغرض لَهُ وَلَا إِرَادَة لنَفسِهِ الا اتِّبَاع الْحق وموافقته فَلَا يَدْعُو الى إِقَامَة رياسته وَلَا دُنْيَاهُ وَهَذَا الَّذِي قد اتخذ بضَاعَة الاخرة ومتجرها متجرا للدنيا قد خَان الله وخان عباده وخان دينه فَلهَذَا قَالَ غير مَأْمُون عَلَيْهِ وَقَوله يستظهر بحجج الله على كِتَابه وبنعمه على عباده هَذِه صفة هَذَا الخائن إِذا انْعمْ الله عَلَيْهِ استظهر بِتِلْكَ النِّعْمَة على النَّاس وَإِذا تعلم علما استظهر بِهِ على كتاب الله وَمعنى استظهاره بِالْعلمِ على كتاب الله تحكيمه عَلَيْهِ وتقديمه وإقامته دونه وَهَذِه حَال كثير مِمَّن يحصل لَهُ علم فَإِنَّهُ يسْتَغْنى بِهِ ويستظهر بِهِ ويحكمه وَيجْعَل كتاب الله تبعا لَهُ يُقَال استظهر فلَان على كَذَا بِكَذَا أَي ظهر عَلَيْهِ بِهِ وَتقدم وَجعله وَرَاء ظَهره وَلَيْسَت هَذِه حَال الْعلمَاء فَإِن الْعَالم

ص: 139

حَقًا يستظهر بِكِتَاب الله على كل مَا سواهُ فَيقدمهُ ويحكمه ويجعله عيارا على غَيره مهيمنا عَلَيْهِ كَمَا جعله الله تَعَالَى كَذَلِك فالمستظهر بِهِ موفق سعيد والمستظهر عَلَيْهِ مخذول شقي فَمن استظهر على الشَّيْء فقد جعله خلف ظَهره مقدما عَلَيْهِ مَا استظهر بِهِ وَهَذَا حَال من اشْتغل بِغَيْر كتاب الله عَنهُ وَاكْتفى بِغَيْرِهِ مِنْهُ وَقدم غَيره واخره والصنف الثَّانِي من حَملَة الْعلم المنقاد الَّذِي لم يثلج لَهُ صَدره وَلم يطمئن بِهِ قلبه بل هُوَ ضَعِيف البصيرة فِيهِ لكنه منقاد لأَهله وَهَذِه حَال اتِّبَاع الْحق من مقلديهم وَهَؤُلَاء وَإِن كَانُوا على سَبِيل نجاة فليسوا من دعاة الدّين وَإِنَّمَا هم من مكثري وَسَوَاد الْجَيْش لَا من امرائه وفرسانه والمنقاد منفعل من قَادَهُ يَقُودهُ وَهُوَ مُطَاوع الثلاثي واصله منقيد كمكتسب ثمَّ اعلت الْيَاء الْفَا لحركتها بعد فَتْحة فصارمن قادت تَقول قدته فانقاد أَي لم يمْتَنع والاحناء جَمِيع حنو بِوَزْن علم وَهِي الجوانب والنواحي وَالْعرب تَقول ازجر احناء طيرك أَي امسك نواحي خفتك وطيشك يَمِينا وَشمَالًا واماما وخلفا قَالَ لبيد

فَقلت ازدجر احناء طيرك واعلمن

بانك ان قدمت رجلك عاثر وَالطير هُنَا الخفة والطيش وَقَوله ينقدح الشَّك فِي قلبه بِأول عَارض من شُبْهَة هَذَا لضعف علمه وَقلة بصيرته إِذا وَردت على قلبه ادنى شُبْهَة قدحت فِيهِ الشَّك والريب بِخِلَاف الراسخ فِي الْعلم لَو وَردت عَلَيْهِ من الشّبَه بِعَدَد امواج الْبَحْر مَا ازالت يقينه وَلَا قدحت فِيهِ شكا لانه قد رسخ فِي الْعلم فَلَا تستفزه الشُّبُهَات بل إِذا وَردت عَلَيْهِ ردهَا حرس الْعلم وجيشه مغلولة مغلوبة والشبهة وَارِد يرد على الْقلب يحول بَينه وَبَين انكشاف الْحق لَهُ فَمَتَى بَاشر الْقلب حَقِيقَة الْعلم لم تُؤثر تِلْكَ الشُّبْهَة فِيهِ بل يقوى علمه ويقينه بردهَا وَمَعْرِفَة بُطْلَانهَا وَمَتى لم يُبَاشر حَقِيقَة الْعلم بِالْحَقِّ قلبه قدحت فِيهِ الشَّك بِأول وهلة فان تداركها والا تَتَابَعَت على قلبه امثالها حَتَّى يصير شاكا مُرْتَابا وَالْقلب يتوارده جيشان من الْبَاطِل جَيش شهوات الغي وجيش شُبُهَات الْبَاطِل فأيما قلب صغا اليها وركن اليها تشربها وامتلأ بهَا فينضح لِسَانه وجوارحه بموجبها فَإِن اشرب شُبُهَات الْبَاطِل تَفَجَّرَتْ على لِسَانه الشكوك والشبهات والايرادات فيظن الْجَاهِل ان ذَلِك لسعة علمه وَإِنَّمَا ذَلِك من عدم علمه ويقينه وَقَالَ لي شيخ الاسلام رضى الله عَنهُ وَقد جعلت اورد عَلَيْهِ غيرادا بعد إِيرَاد لات جعل قَلْبك للايرادات والشبهات مثل السفنجة فيتشربها فَلَا ينضح الا بهَا وَلَكِن اجْعَلْهُ كالزجاجة المصمتة تمر الشُّبُهَات بظاهرها وَلَا تَسْتَقِر فِيهَا فيراها بصفائه ويدفعها بصلابته وَإِلَّا فاذا اشربت قَلْبك كل شُبْهَة تمر عَلَيْهَا صَار مقرا للشبهات اَوْ كَمَا قَالَ فَمَا اعْلَم اني انتفعت بِوَصِيَّة فِي دفع الشُّبُهَات كانتفاعي بذلك وَإِنَّا سميت الشُّبْهَة شُبْهَة لاشتباه الْحق بِالْبَاطِلِ فِيهَا فانها تلبس ثوب الْحق على جسم الْبَاطِل وَأكْثر النَّاس اصحاب حسن ظَاهر فَينْظر النَّاظر فِيمَا البسته من اللبَاس فيعتقد صِحَّتهَا واما صَاحب الْعلم وَالْيَقِين

ص: 140

فانه لَا يغتر بذلك بل يُجَاوز نظره الى بَاطِنهَا وماتحت لباسها فينكشف لَهُ حَقِيقَتهَا وَمِثَال هَذَا الدِّرْهَم الزائف فَإِنَّهُ يغتر بِهِ الْجَاهِل بِالنَّقْدِ نظرا الى مَا عَلَيْهِ من لِبَاس الْفضة والناقد الْبَصِير يُجَاوز نظره الى مَا وَرَاء ذَلِك فَيطلع على زيفه فاللفظ الْحسن الفصيح هُوَ للشُّبْهَة بِمَنْزِلَة اللبَاس من الْفضة على الدِّرْهَم الزائف وَالْمعْنَى كالنحاس الَّذِي تَحْتَهُ وَكم قد قتل هَذَا الِاعْتِذَار من خلق لَا يحصيهم الا الله وَإِذا تَأمل الْعَاقِل الفطن هَذَا الْقدر وتدبره رأى اكثر النَّاس يقبل الْمَذْهَب والمقالة بِلَفْظ ويردها بِعَينهَا بِلَفْظ آخر وَقد رايت انا من هَذَا فِي كتب النَّاس مَا شَاءَ الله وَكم رد من الْحق بتشنيعه بلباس من اللَّفْظ قَبِيح وَفِي مثل هَذَا قَالَ ائمة السّنة مِنْهُم الامام احْمَد وَغَيره لَا نزيل عَن الله صفة من صِفَاته لاجل شناعة شنعت فَهَؤُلَاءِ الْجَهْمِية يسمون إِثْبَات صِفَات الْكَمَال لله من حَيَاته وَعلمه وَكَلَامه وسَمعه وبصره وَسَائِر مَا وصف بِهِ نَفسه تَشْبِيها وتجسيما وَمن اثْبتْ ذَلِك مشبها فَلَا ينفر من هَذَا الْمَعْنى الْحق لاجل هَذِه التَّسْمِيَة الْبَاطِلَة الا الْعُقُول الصَّغِيرَة القاصرة خفافيش البصائر وكل اهل نحلة ومقالة يكسون نحلتهم ومقالتهم احسن مَا يقدرُونَ عَلَيْهِ من الالفاظ ومقالة مخالفيهم اقبح مَا يقدرُونَ عَلَيْهِ من الالفاظ وَمن رزقه الله بَصِيرَة فَهُوَ يكْشف بِهِ حَقِيقَة مَا تَحت تِلْكَ الالفاظ من الْحق وَالْبَاطِل وَلَا تغتر بِاللَّفْظِ كَمَا قيل فِي هَذَا الْمَعْنى

تَقول هَذَا جنى النَّحْل تمدحه

وان نَشأ قلت ذَا قيء الزنابير مدحا وذما وَمَا جَاوَزت وصفهما

وَالْحق قد يَعْتَرِيه سوء تَعْبِير

فَإِذا اردت الِاطِّلَاع على كنه الْمَعْنى هَل هُوَ حق اَوْ بَاطِل فجرده من لِبَاس الْعبارَة وجرد قَلْبك عَن النفرة والميل ثمَّ اعط النّظر حَقه نَاظرا بِعَين الانصاف وَلَا تكن مِمَّن ينظر فِي مقَالَة اصحابه وَمن يحسن ظَنّه نظرا تَاما بِكُل قلبه ثمَّ ينظر فِي مقَالَة خصومه وَمِمَّنْ يسيء ظَنّه بِهِ كنظر الشزر والملاحظة فالناظر بِعَين الْعَدَاوَة يرى المحاسن مساوئ والناظر بِعَين الْمحبَّة عَكسه وَمَا سلم من هَذَا الا من اراد الله كرامته وارتضاه لقبُول الْحق وَقد قيل:

وَعين الرِّضَا عَن كل عيب كليلة

كَمَا ان عين السخط تبدي المساويا وَقَالَ آخر

نظرُوا بِعَين عَدَاوَة لَو انها

عين الرِّضَا الاستحسنوا مَا استقبحوا فَإِذا كَانَ هَذَا فِي نظر الْعين الَّذِي يدْرك الحسوسات وَلَا يتَمَكَّن من المكابرة فِيهَا فَمَا الظَّن بِنَظَر الْقلب الَّذِي يدْرك الْمعَانِي الَّتِي هِيَ عرضة المكابرة وَالله الْمُسْتَعَان على معرفَة الْحق وقبوله ورد الْبَاطِل وَعدم الاغترار بِهِ وَقَوله بِأول عَارض من شُبْهَة هَذَا دَلِيل ضعف عقله ومعرفته اذ

ص: 141

تُؤثر فِيهِ البداآت ويستفز باوائل الامور بِخِلَاف الثَّابِت التَّام الْعَاقِل فَإِنَّهُ لَا تستفزه البداآت وَلَا تزعجه وتقلقله فان الْبَاطِل لَهُ دهشة وروعة فِي اوله فَإِذا ثَبت لَهُ الْقلب رد على عَقِبَيْهِ وَالله يحب من عِنْده الْعلم والاناة فَلَا يعجل بل يثبت حَتَّى يعلم ويستيقن مَا ورد عَلَيْهِ وَلَا يعجل بِأَمْر من قبل استحكامه فالعلجة والطيش من الشَّيْطَان فَمن ثَبت عِنْد صدمة البداآت اسْتقْبل امْرَهْ بِعلم وَجزم وَمن لم يثبت لَهَا استقبله بعجله وطيش وعاقبته الندامة وعاقبة الاول حمدامره وَلَكِن للْأولِ آفَة مَتى قرنت بالحزم والعزم نجا مِنْهَا وَهِي الْفَوْت فَإِنَّهُ لَا يخَاف من التثبيت الا الْفَوْت فَإِذا اقْترن بِهِ الْعَزْم والحزم تمّ امْرَهْ وَلِهَذَا فِي الدُّعَاء الَّذِي وَرَاه الامام احْمَد وَالنَّسَائِيّ عَن النَّبِي اللَّهُمَّ اني اسالك الثَّبَات فِي الامر والعزيمة على الرشد وَهَاتَانِ الكلمتان هما جماع الْفَلاح وَمَا اتى العَبْد الا من تضييعهما اَوْ تَضْييع احدهما فَمَا اتى اُحْدُ الا من بَاب العجلة والطيش واستفزاز البداآت لَهُ أَو من بَاب التهاون والتمات وتضييع الفرصة بعد مواتاتها فَإِذا حصل الثَّبَات اولا والعزيمة ثَانِيًا افلح كل الْفَلاح وَالله ولي التَّوْفِيق الصِّنْف الثَّالِث رجل نهمته فِي نيل لذته فَهُوَ منقاد لداعي الشَّهْوَة ايْنَ كَانَ وَلَا ينَال دَرَجَة وراثة النُّبُوَّة مَعَ ذَلِك وَلَا وَلَا ينَال الْعلم الا بهجر اللَّذَّات وتطليق الرَّاحَة قَالَ مُسلم فِي صَحِيحه قَالَ يحيى بن أبي كثير لَا ينَال الْعلم براحة الْجِسْم وَقَالَ إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ اجْمَعْ عقلاء كل امة ان النَّعيم لَا يدْرك بِالنعَم وَمن آثر الرَّاحَة فَاتَتْهُ الرَّاحَة فَمَا لصَاحب اللَّذَّات وَمَا لدرجة وراثة الانبياء

فدع عَنْك الْكِتَابَة لست مِنْهَا

وَلَو سودت وَجهك بالمداد فان الْعلم صناعَة الْقلب وشغله فَمَا لم تتفرغ لصناعته وشغله لم تنلها وَله وجهة وَاحِدَة فَإِذا وجهت وجهته الى اللَّذَّات والشهوات انصرفت عَن الْعلم وَمن لم يغلب لَذَّة إِدْرَاكه الْعلم وشهوته على لَذَّة جِسْمه وشهوة نَفسه لم ينل دَرَجَة الْعلم ابدا فَإِذا صَارَت شَهْوَته فِي الْعلم ولذته فِي كل إِدْرَاكه رجى لَهُ ان يكون من جملَة اعلة وَلَذَّة الْعلم لَذَّة عقلية روحانية من جنس لَذَّة الْمَلَائِكَة وَلَذَّة شهوات الاكل وَالشرَاب وَالنِّكَاح لَذَّة حيوانية يُشَارك الانسان فِيهَا الْحَيَوَان وَلَذَّة الشروالظلم وَالْفساد والعلوى فِي الارض شيطانية يُشَارك صَاحبهَا فِيهَا ابليس وَجُنُوده وَسَائِر اللَّذَّات تبطل بمقارفة الرّوح الْبدن الا لَذَّة الْعلم والايمان فَإِنَّهَا تكمل بعد الْمُفَارقَة لَان الْبدن وشواغله كَانَ ينقصها ويقللها ويحجبها فَإِذا انطوت الرّوح عَن الْبدن التذت لَذَّة كَامِلَة بِمَا حصلته من الْعلم النافع وَالْعَمَل الصَّالح فَمن طلب اللَّذَّة الْعُظْمَى وآثر النَّعيم والمقيم فَهُوَ فِي الْعلم والايمان اللَّذين بهما كَمَال سَعَادَة الانسان وايضا فَإِن تِلْكَ اللَّذَّات سريعة الزَّوَال وَإِذا انْقَضتْ اعقبت هما وغما وَألا يحْتَاج صَاحبهَا ان يداويه بِمِثْلِهَا دفعا للألمه وَرُبمَا كَانَ معاودته لَهَا مؤلما لَهُ كريها اليه لَكِن يحملهُ عَلَيْهِ مدواة ذَلِك الْغم والهم فَأَيْنَ هَذَا من لَذَّة الْعلم وَلَذَّة الايمان بِاللَّه ومحبته والاقبال عَلَيْهِ والتنعم بِذكرِهِ فَهَذِهِ هِيَ اللَّذَّة الْحَقِيقِيَّة

ص: 142

الصِّنْف الرَّابِع من حرصه وهمته فِي جمع الاموال وتثميرها وادخارها فقد صَارَت لذته فِي ذَلِك وفتى بهَا عَمَّا سواهُ فَلَا يرى شَيْئا اطيب لَهُ مِمَّا هُوَ فِيهِ فَمن ايْنَ هَذَا ودرجة الْعلم فَهَؤُلَاءِ الاصناف الاربعة لَيْسُوا من دعاة الدّين وَلَا من ائمة الْعلم وَلَا من طلبته الصَّادِقين فِي طلبه وَمن تعلق مِنْهُم بِشَيْء مِنْهُ فَهُوَ من المتسلقين عَلَيْهِ المتشبهين بحملته وَأَهله المدعين لوصاله المبتونين من حباله وفتنة هَؤُلَاءِ فتْنَة لكل مفتون فان النَّاس يتشبهون بهم لما يظنون عِنْدهم من الْعلم وَيَقُولُونَ لسنا خيرا مِنْهُم وَلَا نرغب بِأَنْفُسِنَا عَنْهُم فهم حجَّة لكل مفتون وَلِهَذَا قَالَ فيهم بعض الصَّحَابَة الْكِرَام احْذَرُوا فتْنَة الْعَالم الْفَاجِر وَالْعَابِد الْجَاهِل فَإِن فتنتهما فتْنَة لكل مفتون وَقَوله اقْربْ شبها بهم الانعام السَّائِمَة وَهَذَا التَّشْبِيه مَأْخُوذ من قَوْله تَعَالَى ان هم كالأنعام بل هم اضل سَبِيلا فَمَا اقصر سُبْحَانَهُ على تشبيههم بالانعام حَتَّى جعلهم اضل سَبِيلا مِنْهُم والسائمة الراعية وَشبه امير الْمُؤمنِينَ هَؤُلَاءِ بهَا لَان همتهم فِي سعي الدُّنْيَا وحطامها وَالله تَعَالَى يشبه اهل الْجَهْل والغي تَارَة بالانعام وَتارَة بالحمر وَهَذَا تَشْبِيه لمن تعلم علما وَلم يعقله وَلم يعْمل بِهِ فَهُوَ كالحمار الَّذِي يحمل اسفارا وَتارَة بالكلب وَهَذَا لمن انْسَلَخَ عَن الْعلم واخلد الى الشَّهَوَات والهوى وَقَوله كَذَلِك يَمُوت الْعلم بِمَوْت حامليه هَذَا من قَول النَّبِي فِي حَدِيث عبد الله بن عمر وَعَائِشَة رضى الله عَنْهُم وَغَيرهمَا ان الله لَا يقبض الْعلم انتزاعا ينتزعه من صُدُور الرِّجَال وَلَكِن يقبض الْعلم بِقَبض الْعلمَاء فَإِذا لم يبْق عَالم اتخذ النَّاس رُؤَسَاء جُهَّالًا فسئلوا فأفتوا بِغَيْر علم فضلوا واضلوا رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي صَحِيحه فذهاب الْعلم إِنَّمَا هُوَ بذهاب الْعلمَاء قَالَ ابْن مَسْعُود يَوْم مَاتَ عمر رضى الله عَنهُ اني لاحسب تِسْعَة اعشار الْعلم الْيَوْم قد ذهب وَقد تقدم قَول عمر رضى الله عَنهُ موت الف عَابِد اهون من موت عَالم بَصِير بحلال الله وَحَرَامه وَقَوله اللَّهُمَّ بلَى لن تَخْلُو الارض من مُجْتَهد قَائِم لله بحجج الله وَيدل عَلَيْهِ الحَدِيث الصَّحِيح عَن النَّبِي لَا تزَال طَائِفَة من امتي على الْحق لَا يضرهم من خذلهم وَلَا من خالفهم حَتَّى يَأْتِي امْر الله وهم على ذَلِك وَيدل عَلَيْهِ ايضا مارواه التِّرْمِذِيّ عَن قُتَيْبَة حَدثنَا حَمَّاد بن يحيى الابح عَن ثَابت عَن انس قَالَ قَالَ رَسُول الله مثل امتي مثل الْمَطَر لَا يدرى اوله خير ام آخِره قَالَ هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب ويروى عَن عبد الرحمن بن مهْدي انه كَانَ يثبت حَمَّاد بن يحيى الابح وَكَانَ يَقُول هُوَ من شُيُوخنَا وَفِي الْبَاب عَن عمار وَعبد الله بن عَمْرو فَلَو لم يكن فِي اواخر الامة قَائِم بحجج الله مُجْتَهد لم يَكُونُوا موصوفين بِهَذِهِ الْخَيْرِيَّة وايضا فَإِن هَذِه الامة اكمل الامم وَخير امة اخرجت للنَّاس ونبيها خَاتم النَّبِيين لَا نَبِي بعده فَجعل الله الْعلمَاء فِيهَا كلما هلك عَالم خلقه عَالم لِئَلَّا تطمس معالم الدّين وتخفى اعلامه وَكَانَ بَنو اسرائيل كلما هلك نَبِي خَلفه نَبِي فَكَانَت تسوسهم الانبياء وَالْعُلَمَاء لهَذِهِ الامة كالانبياء فِي بني اسرائيل وَأَيْضًا فَفِي الحيدث الاخر يحمل هَذَا الْعلم من كل خلف عَدو لَهُ ينفون عَنهُ تَحْرِيف الغالين

ص: 143

وانتحال المبطلين وتاويل الْجَاهِلين وَهَذَا يدل على انه لَا يزَال مَحْمُولا فِي الْقُرُون قرنا بعد قرن وَفِي صَحِيح ابي حَاتِم من حَدِيث الْخَولَانِيّ قَالَ قَالَ رَسُول الله لَا يزَال الله يغْرس فِي هَذَا الدّين غرسا يستعملهم فِي طَاعَته وغرس الله هم اهل الْعلم وَالْعَمَل فَلَو خلت الارض من عَالم خلت من غرس الله وَلِهَذَا القَوْل حجج كَثِيرَة لَهَا مَوضِع آخر وَزَاد الكذابون فِي حَدِيث على إِمَّا ظَاهرا مَشْهُورا وَإِمَّا خفِيا مَسْتُورا وظنوا ان ذَلِك دَلِيل لَهُم على القَوْل بالمنتظر وكلن هَذِه الزِّيَادَة من وضع بعض كَذَا بيهم والْحَدِيث مَشْهُور عَن عَليّ لم يقل اُحْدُ عَنهُ هَذِه الْمقَالة الا كَذَّاب وحجج اله لَا تقوم بخفي مَسْتُور لَا يَقع الْعَالم لَهُ على خبر وَلَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ فِي شَيْء اصلا فَلَا جَاهِل يتَعَلَّم مِنْهُ وَلَا ضال يَهْتَدِي بِهِ وَلَا خَائِف يَأْمَن بِهِ وَلَا ذليل يتعزز بِهِ فَأَي حجَّة لله قَامَت بِمن لَا يرى لَهُ شخص وَلَا يسمع مِنْهُ كلمة وَلَا يعلم لَهُ مَكَان وَلَا سِيمَا على أصُول الْقَائِلين بِهِ فَإِن الَّذِي دعاهم الى ذَلِك انهم قَالُوا لَا بُد مِنْهُ فِي اللطف بالمكلفين وَانْقِطَاع حجتهم عَن الله فيالله الْعجب أَي لطف حصل بِهَذَا الْمَعْدُوم لَا الْمَعْصُوم وَأي حجَّة اثبتم لِلْخلقِ على رَبهم باصلكم الْبَاطِل فَإِن هَذَا الْمَعْدُوم إِذا لم يكن لَهُم سَبِيل قطّ الى لِقَائِه والاهتداء بِهِ فَهَل فِي تَكْلِيف مَالا يُطَاق ابلغ من هَذَا وَهل فِي الْعذر وَالْحجّة ابلغ من هَذَا فَالَّذِي فررتم مِنْهُ وَقَعْتُمْ فِي شَرّ مِنْهُ وكنتم فِي ذَلِك كَمَا قيل:

المستجير بِعَمْرو عِنْد كربته

كالمستجير من الرمضاء بالنَّار

وَلَكِن ابي الله الا ان يفضح من تنقص بالصحابة الاخيار وبسادة هَذِه الامة وان يرى النَّاس عَوْرَته ويغريه بكشفها ونعوذ بِاللَّه من الخذلان وَلَقَد احسن الْقَائِل:

مَا آن للسرداب ان يلد الَّذِي

حملتموه بزعمكم مَا آنا فعلى عقولكم العفاء فانكم

ثلثتم العنقاء والغيلانا وَلَقَد بطلت حجج استودعها مثل هَذَا الْغَائِب وضاعت اعظم ضيَاع فانتم ابطلتم حجج الله من حَيْثُ زعمتم حفظهَا وَهَذَا تَصْرِيح من امير الْمُؤمنِينَ رضى الله عَنهُ بَان حَامِل حجج الله فِي الارض بِحَيْثُ يُؤَدِّيهَا عَن الله ويبلغها الى عباده مثله رضى الله عَنهُ وَمثل إخوانه من الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وَمن اتبعهم الى يَوْم الْقِيَامَة وَقَوله لكيلا تبطل حجج الله وبيناته أَي لكيلا تذْهب من بَين يَدي النَّاس وَتبطل من صُدُورهمْ والا فالبطلان محَال عَلَيْهَا لانها ملزوم مَا يَسْتَحِيل عَلَيْهِ الْبطلَان فَإِن قيل فَمَا الْفرق بَين الْحجَج والبينات قيل الْفرق بَينهمَا ان الْحجَج هِيَ الادلة العلمية الَّتِي يَعْقِلهَا الْقلب وَتسمع بالاذن قَالَ تَعَالَى فِي مناظرة إِبْرَاهِيم لِقَوْمِهِ وتبيين بطلَان مَا هم عَلَيْهِ بِالدَّلِيلِ العلمي وَتلك حجتنا آتَيْنَاهُم إِبْرَاهِيم على قومه نرفع دَرَجَات من نشَاء قَالَ ابْن زيد بِعلم الْحجَّة وَقَالَ تَعَالَى فان حاجوك فَقل اسلمت وَجْهي لله وَمن اتبعني وَقَالَ

ص: 144

تَعَالَى {وَالَّذين يحاجون فِي الله من بعد مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حجتهم داحضة عِنْد رَبهم} وَالْحجّة هِيَ اسْم لما يحْتَج بِهِ من حق وباطل قَالَ تَعَالَى لِئَلَّا يكون للنَّاس علكيم حجَّة الا الَّذين ظلمُوا مِنْهُم فانهم يحتجون عَلَيْكُم بِحجَّة بَاطِلَة {فَلَا تخشوهم واخشوني} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِذا تتلى عَلَيْهِم آيَاتنَا بَيِّنَات مَا كَانَ حجتهم إِلَّا أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنْتُم صَادِقين} وَالْحجّة المضافة الى الله هِيَ الْحق وَقد تكون الْحجَّة بِمَعْنى الْمُخَاصمَة وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {فَلذَلِك فَادع واستقم كَمَا أمرت وَلَا تتبع أهواءهم وَقل آمَنت بِمَا أنزل الله من كتاب وَأمرت لأعدل بَيْنكُم الله رَبنَا وربكم لنا أَعمالنَا وَلكم أَعمالكُم لَا حجَّة بَيْننَا وَبَيْنكُم} أَي قد وضح الْحق واستبان وَظهر فَلَا خُصُومَة بَيْننَا بعد ظُهُوره وَلَا مجادلة فان الْجِدَال شَرِيعَة مَوْضُوعَة للتعاون على إِظْهَار الْحق فَإِذا ظهر الْحق وَلم يبْق بِهِ خَفَاء فَلَا فَائِدَة فِي الْخُصُومَة والجدال على بَصِيرَة مخاصمة الْمُنكر ومجادلته عناء لَا غنى فِيهِ هَذَا معنى هَذِه الاية وَقد يَقع فِي وهم كثير من الْجُهَّال ان الشَّرِيعَة لَا احتجاج فِيهَا وان الْمُرْسل بهَا صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ لم يكن يحْتَج على خصومه وَلَا يجادلهم ويظن جهال المنطقيين وفروخ اليونان ان الشَّرِيعَة خطاب لِلْجُمْهُورِ وَلَا احتجاج يها فيوان الانبياء دعوا الْجُمْهُور بطرِيق الخطابة والحجج للخواص وهم اهل الْبُرْهَان يعنون نُفُوسهم وَمن سلك طريقتهم وكل هَذَا من جهلهم بالشريعة وَالْقُرْآن فَإِن الْقُرْآن مَمْلُوء من الْحجَج والادلة والبراهين فِي مسَائِل التَّوْحِيد واثبات الصَّانِع والمعاد وإرسال الرُّسُل وحدوث الْعَالم فَلَا يذكر المتكلمون وَغَيرهم دَلِيلا صَحِيحا على ذَلِك الا وَهُوَ فِي الْقُرْآن بافصح عبارَة واوضح بَيَان وَأتم معنى وابعده عَن الايرادات والاسئلة وَقد اعْترف بِهَذَا حذاق الْمُتَكَلِّمين من الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين قَالَ ابو حَامِد فِي اول الاحياء فَإِن قلت فَلم لم تورد فِي اقسام الْعلم الْكَلَام والفلسفة وَتبين انهما مذمومان اَوْ ممدوحان فَاعْلَم ان حَاصِل مَا يشْتَمل عَلَيْهِ الْكَلَام من الادلة الَّتِي ينْتَفع بهَا فالقرآن والاخبار مُشْتَمِلَة عَلَيْهِ وَمَا خرج عَنْهُمَا فَهُوَ إِمَّا مجادلة مذمومة وَهِي من الْبدع كَمَا سَيَأْتِي بَيَانه واما مشاغبة بالتعلق بمناقضات الْفرق وَتَطْوِيل بِنَقْل المقالات الَّتِي اكثرها ترهات وَهَذَا يانات تزدريها الطباع وتمجها الاسماع وَبَعضهَا خوض فِيمَا لَا يتَعَلَّق بِالدّينِ وَلم يكن شَيْء مِنْهُ مألوفا فِي الْعَصْر الاول وَلَكِن تغير الان حكمه إِذا حدثت الْبدع الصارفة عَن مُقْتَضى الْقُرْآن وَالسّنة لفقت لَهَا شبها ورتبت لَهَا كلَاما مؤلفا فَصَارَ ذَلِك الْمَحْظُور بِحكم الضَّرُورَة مَأْذُونا فِيهِ وَقَالَ الرَّازِيّ فِي كِتَابه اقسام اللَّذَّات لقد تَأَمَّلت الْكتب الكلامية والمناهج الفلسفية فَمَا رَأَيْتهَا تروي غليلا وَلَا تشفى عليلا ورايت اقْربْ الطّرق طَريقَة الْقُرْآن اقرا فِي الاثبات اليه يصعدالكلم الطّيب {الرَّحْمَن على الْعَرْش اسْتَوَى} واقرا فِي النَّفْي {لَيْسَ كمثله شَيْء} وَمن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي وَهَذَا الَّذِي اشار اليه بِحَسب مافتح لَهُ من

ص: 145

دلَالَة الْقُرْآن بطرِيق الْخَبَر وَإِلَّا فدلالته البرهانية الْعَقْلِيَّة الَّتِي يُشِير اليها ويرشد اليها فَتكون دَلِيلا سمعيا عقليا امْر تميز بِهِ الْقُرْآن وَصَارَ الْعَالم بِهِ من الراسخين فِي الْعلم وَهُوَ الْعلم الَّذِي يطمئن اليه الْقلب وتسكن عِنْده النَّفس ويزكو بِهِ الْعقل وتستنير بِهِ البصيرة وتقوى بِهِ الْحجَّة وَلَا سَبِيل لَاحَدَّ من الْعَالمين الى قطع من حَاج بِهِ بل من خَاصم بِهِ فلجت حجَّته وَكسر شُبْهَة خَصمه وَبِه فتحت الْقُلُوب واستجيب لله وَلِرَسُولِهِ وَلَكِن اهل هَذَا الْعلم لاتكاد الاعصار تسمح مِنْهُم الا بِالْوَاحِدِ بعد الْوَاحِد فدلالة الْقُرْآن سمعية عقلية قَطْعِيَّة يقينية لَا تعترضها الشُّبُهَات وَلَا تتداولها الِاحْتِمَالَات وَلَا ينْصَرف الْقلب عَنْهَا بعد فهمها ابدا وَقَالَ بعض الْمُتَكَلِّمين افنيت عمري فِي الْكَلَام اطلب الدَّلِيل وانا لاأزداد الا بعدا عَن الدَّلِيل فَرَجَعت الى الْقُرْآن اتدبره واتفكر فِيهِ واذا انا بِالدَّلِيلِ حَقًا معي وانا لَا أشعر بِهِ فَقلت وَالله مَا مثلي الا كَمَا قَالَ الْقَائِل:

وَمن الْعَجَائِب والعجائب جمة

قرب الحبيب وَمَا اليه وُصُول كالعيش فِي الْبَيْدَاء يَقْتُلهَا الظما

ولاماء فَوق ظُهُورهَا مَحْمُول

قَالَ فَلَمَّا رجعت الى الْقُرْآن إِذا هُوَ الحكم وَالدَّلِيل وَرَأَيْت فِيهِ من ادلة الله وحججه وبراهينه وبيناته مَا لَو جمع كل حق قَالَه المتكلمون فِي كتبهمْ لكَانَتْ سُورَة من سور الْقُرْآن وافية بمضمونه مَعَ حسن الْبَيَان وفصاحة اللَّفْظ وتطبيق الْمفصل وَحسن الِاحْتِرَاز والتنبيه على مواقع الشّبَه والارشاد الى جوابها وَإِذا هُوَ كَمَا قيل بل فَوق مَا قيل:

كفى وشفى مَا فِي الْفُؤَاد فَلم يدع

لذِي ارب فِي القَوْل جدا وَلَا هزلا وَجعلت جيوش الْكَلَام بعد ذَلِك تفد الى كَمَا كَانَت وتتزاحم فِي صَدْرِي وَلَا ياذن لَهَا الْقلب بِالدُّخُولِ فِيهِ وَلَا تلقى مِنْهُ إقبالا وَلَا قبولا فترجع على ادبارها وَالْمَقْصُود ان الْقُرْآن مَمْلُوء بالاحتجاج وَفِيه جَمِيع انواع الادلة والاقيسة الصَّحِيحَة وَأمر الله تَعَالَى رَسُوله فِيهِ بِإِقَامَة الْحجَّة والمجادلة فَقَالَ تَعَالَى {وجادلهم بِالَّتِي هِيَ أحسن} وَقَالَ {وَلَا تجادلوا أهل الْكتاب إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أحسن} وَهَذِه مناظرات الْقُرْآن مَعَ الْكفَّار مَوْجُودَة فِيهِ وَهَذِه مناظرات رَسُول الله واصحابه لخصومهم وَإِقَامَة الْحجَج عَلَيْهِم لَا يُنكر ذَلِك الا جَاهِل مفرط فِي الْجَهْل وَالْمَقْصُود الْفرق بَين الْحجَج والبينات فَنَقُول الْحجَج الادلة العلمية والبيانات جمع بَيِّنَة وَهِي صفة فِي الاصل يُقَال آيَة بَيِّنَة وَحجَّة بَيِّنَة وَالْبَيِّنَة اسْم لكل مَا يبين الْحق من عَلامَة مَنْصُوبَة اَوْ أَمارَة اَوْ دَلِيل علمي قَالَ تَعَالَى لقد ارسلنا رسلنَا بالبيانات وانزلنا مَعَهم الْكتاب وَالْمِيزَان فالبينات الايات الَّتِي اقامها الله دلَالَة على صدقهم من المعجزات وَالْكتاب هُوَ الدعْوَة وَقَالَ تَعَالَى {إِن أول بَيت وضع للنَّاس للَّذي ببكة مُبَارَكًا وَهدى للْعَالمين فِيهِ آيَات بَيِّنَات مقَام إِبْرَاهِيم} ومقام إِبْرَاهِيم آيَة جزئية مرئية بالابصار

ص: 146

وَهُوَ من آيَات الله الْمَوْجُودَة فِي الْعَالم وَمِنْه قَول مُوسَى لفرعون وَقَومه {قد جِئتُكُمْ بِبَيِّنَة من ربكُم فَأرْسل معي بني إِسْرَائِيل قَالَ إِن كنت جِئْت بِآيَة فأت بهَا إِن كنت من الصَّادِقين فَألْقى عَصَاهُ} وَكَانَ القاء الْعَصَا وانقلابها حَيَّة هُوَ الْبَيِّنَة وَقَالَ قوم هود يَا هود مَا جئتنا بِبَيِّنَة يُرِيدُونَ آيَة الاقتراح والا فَهُوَ قد جَاءَهُم بِمَا يعْرفُونَ بِهِ انه رَسُول الله اليهم فَطلب الاية بعد ذَلِك تعنت واقتراح لَا يكون لَهُم عذر فِي عدم الاجابة اليه وَهَذِه هِيَ الايات الَّتِي قَالَ الله تَعَالَى فِيهَا وَمَا منعنَا ان نرسل بالايات الا ان كذب بهَا الاولون فَعدم اجابته سُبْحَانَهُ اليها إِذْ طلبَهَا الْكفَّار رَحْمَة مِنْهُ واحسان فانه جرت سنته الَّتِي لَا تَبْدِيل لَهَا انهم اذا طلبُوا الاية واقترحوها واجيبوا وَلم يُؤمنُوا عولجوا بِعَذَاب الاستئصال فَلَمَّا علم سُبْحَانَهُ ان هَؤُلَاءِ لَا يُؤمنُونَ وَلَو جَاءَتْهُم كل آيَة لم يجبهم الى مَا طلبُوا فَلم يعمهم بِعَذَاب لما اخْرُج من بنيهم واصلابهم من عبَادَة الْمُؤمنِينَ وان اكثرهم آمن بعد ذَلِك بِغَيْر الايات الَّتِي اقترحوها فَكَانَ عدم إِنْزَال الايات الْمَطْلُوبَة من تَمام حِكْمَة الرب وَرَحمته واحسانه بِخِلَاف الْحجَج فانها لم تزل متتابعة يَتْلُو بَعْضهَا بَعْضًا وَهِي كل يَوْم فِي مزِيد وَتُوفِّي رَسُول الله وَهِي اكثر مَا كَانَت وَهِي بَاقِيَة الى يَوْم الْقِيَامَة وَقَوله اولئك الاقلون عددا الاعظمون عِنْد الله قدرا يَعْنِي هَذَا الصِّنْف من النَّاس اقل الْخلق عددا وَهَذَا سَبَب غربتهم فانهم قَلِيلُونَ فِي النَّاس وَالنَّاس على خلاف طريقهم فَلهم نبأ وَلِلنَّاسِ نبأ قَالَ النَّبِي بَدَأَ الاسلام غَرِيبا وَسَيَعُودُ غَرِيبا كَمَا بدا فطوبى للغرباء فالمؤمنون قَلِيل فِي النَّاس وَالْعُلَمَاء قَلِيل فِي الْمُؤمنِينَ وَهَؤُلَاء قَلِيل فِي الْعلمَاء وَإِيَّاك ان تغتر بِمَا يغتر بِهِ الجاهلون فانهم يَقُولُونَ لَو كَانَ هَؤُلَاءِ على حق لم يَكُونُوا اقل النَّاس عددا وَالنَّاس على خلافهم فَاعْلَم ان هَؤُلَاءِ هم النَّاس وَمن خالفهم فمشبهون بِالنَّاسِ وَلَيْسوا بناس فَمَا النَّاس الا اهل الْحق وَإِن كَانُوا اقلهم عددا قَالَ ابْن مَسْعُود لَا يكن احدكم إمعة يَقُول انا مَعَ النَّاس ليوطن احدكم نَفسه على ان يُؤمن وَلَو كفر النَّاس وَقد ذمّ سُبْحَانَهُ الاكثرين فِي غير مَوضِع كَقَوْلِه وان تُطِع اكثر من فِي الارض يضلوك عَن سَبِيل الله {وَقَالَ} وَمَا أَكثر النَّاس وَلَو حرصت بمؤمنين {وَقَالَ} وَقَلِيل من عبَادي الشكُور {وَقَالَ} وان كثيرا من الخلطاء ليبغى بَعضهم على بعض الا الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وَقَلِيل مَا هم وَقَالَ بعض العارفين انفرادك فِي طَرِيق طَلَبك دَلِيل على صدق الطّلب

مت بداء الْهوى والا فخاطر

واطرق الْحَيّ والعيون نواظر

لَا تخف وَحْشَة الطَّرِيق اذا سر

ت وَكن فِي خفارة الْحق سَائِر وَقَوله بهم يدْفع الله عَن حججه حَتَّى يؤدوها الى نظرائهم ويزرعوها فِي قُلُوب اشباههم وَهَذَا لَان الله سُبْحَانَهُ ضمن حفظ حجه وبيناته وَاخْبَرْ رَسُول الله انه

ص: 147

لَا تزَال طَائِفَة من امته على الْحق لَا يضرهم من خذلهم وَلَا من خالفهم الى قيام السَّاعَة فَلَا يزَال غرس الله الَّذين غرسهم فِي دينه يغرسون الْعلم فِي قُلُوب من اهلهم الله لذَلِك وارتضاهم فَيَكُونُوا وَرَثَة لَهُم كَمَا كَانُوا هم وَرَثَة لمن قبلهم فَلَا تَنْقَطِع حجج الله والقائم بهَا من الاض وَفِي الاثر الْمَشْهُور لَا يزَال الله يغْرس فِي هَذَا الدّين غرسا يستعملهم بِطَاعَتِهِ وَكَانَ من دُعَاء بعض من تقدم اللَّهُمَّ اجْعَلنِي من غرسك الَّذين تستعملهم بطاعتك وَلِهَذَا مَا اقام الله لهَذَا الدّين من يحفظه ثمَّ قَبضه اليه الا وَقد زرع مَا علمه من الْعلم وَالْحكمَة اما فِي قُلُوب امثاله واما فِي كتب ينْتَفع بهَا النَّاس بعده وَبِهَذَا وَبِغَيْرِهِ فضل الْعلمَاء الْعباد فَإِن الْعَالم إِذا زرع علمه عِنْد غَيره ثمَّ مَاتَ جرى عَلَيْهِ اجره وَبَقِي لَهُ ذكره وَهُوَ عمر ثَان وحياة اخرى وَذَلِكَ احق مَا تنافس فِيهِ الْمُتَنَافسُونَ وَرغب فِيهِ الراغبون وَقَوله هجم بهم الْعلم على حَقِيقَة الامر فاستلانوا مَا استوعره المترفون وانسوا مِمَّا استوحش مِنْهُ الجاهلون الهجوم على الرجل الدُّخُول عَلَيْهِ بِلَا اسْتِئْذَان وَلما كَانَت طَرِيق الاخرة وعرة على أَكثر الْخلق لمخالفتها لشهواتهم ومباينتها لارادتهم ومألوفاتهم قل سالكوها وزاهدهم فِيهَا قلَّة علمهمْ اوعدمه بِحَقِيقَة الامر وعاقبة الْعباد ومصيرهم وَمَا هيئوا لَهُ وهيء لَهُم فَقل علمهمْ بذلك واستلانوا مركب الشَّهْوَة والهوى على مركب الاخلاص وَالتَّقوى وتوعرت عَلَيْهِم الطَّرِيق وبعدت عَلَيْهِم الشقة وصعب عَلَيْهِم مرتقي عقابها وهبوط اوديتها وسلوك شعابها فاخلدوا الى الدعة والراحة وآثروا العاجل على الاجل وَقَالُوا عيشنا الْيَوْم نقد وموعودنا نَسِيئَة فنظروا الى عَاجل الدُّنْيَا واغمضوا الْعُيُون عَن آجلها ووقفوا مَعَ ظَاهرهَا وَلم يتأملوا بَاطِنهَا وذاقوا حلاوة مباديها وَغَابَ عَنْهُم مرَارَة عواقبها ودر لَهُم ثديها فطاب لَهُم الارتضاع وَاشْتَغلُوا بِهِ عَن التفكر فِي الْفِطَام ومرارة الِانْقِطَاع وَقَالَ مغترهم بِاللَّه وجاحدهم لعظمته وربوبيته متمثلا فِي ذَلِك

خُذ مَا ترَاهُ ودع شَيْئا سَمِعت بِهِ

وَأما القائمون لله بحجته خلفاء نبيه فِي امته فانهم لكَمَال علمهمْ وقوته نفد بهم الى حَقِيقَة الامر وهجم بهم عَلَيْهِ فعاينوا ببصائرهم مَا عشيت عَنهُ بصائر الْجَاهِلين فاطمأنت قُلُوبهم بِهِ وَعمِلُوا على الْوُصُول اليه لما بَاشَرَهَا من روح الْيَقِين رفع لَهُم علم السَّعَادَة فشمروا اليه واسمعهم مُنَادِي الايمان النداء فاستبقوا اليه واستيقنت انفسهم مَا وعدهم بِهِ رَبهم فزهدوا فِيمَا سواهُ وَرَغبُوا فِيمَا لَدَيْهِ علمُوا ان الدُّنْيَا دَار ممر لَا دَار مقرّ ومنزل عبور لَا مقْعد حبور وانها خيال طيف اَوْ سَحَابَة صيف وان من فِيهَا كراكب قَالَ تَحت ظلّ شَجَرَة ثمَّ رَاح عَنْهَا وَتركهَا وتيقنوا انها احلام نوم اَوْ كظل زائل:

ان اللبيب بِمِثْلِهَا لَا يخدع

ص: 148

وان وصفهَا صدق فِي وصفهَا اذ يَقُول

ارى اشقياء النَّاس لَا يسأمونها

على انهم فِيهَا عُرَاة وجوع اراها وان كَانَت تحب فَإِنَّهَا

سَحَابَة صيف عَن قَلِيل تقشع

فرحلت عَن قُلُوبهم مُدبرَة كَمَا ترحلت عَن اهلها موليه واقبلت الْآخِرَة الى قُلُوبهم مسرعة كَمَا اسرعت الى الْخلق مقبلة فامتطوا ظُهُور العزائم وهجروا لَذَّة الْمَنَام وَمَا ليل الْمُحب بنائم علمُوا طول الطَّرِيق وَقلة الْمقَام فِي منزل التزود فسارعوا فِي الجهاز وجد بهم السّير الى منَازِل الاحباب فَقطعُوا المراحل وطووا المفاوز وَهَذَا كُله من ثَمَرَات الْيَقِين فان الْقلب إِذا استيقن مَا امامه من كَرَامَة الله وَمَا اعد لاوليائه بِحَيْثُ كَأَنَّهُ ينظر اليه من وَرَاء حجاب الدُّنْيَا وَيعلم انه إِذا زَالَ الْحجاب رأى ذَلِك عيَانًا زَالَت عَنهُ الوحشة الَّتِي يجدهَا المتخلفون ولان لَهُ مَا استوعره المترفون وَهَذِه الْمرتبَة هِيَ اول مَرَاتِب الْيَقِين وَهِي علمه وتيقنه وَهِي الْكَشَّاف الْمَعْلُوم للقلب بِحَيْثُ يُشَاهِدهُ وَلَا يشك فِيهِ كانكشاف المرئي لِلْبَصَرِ ثمَّ يَليهَا الْمرتبَة الثَّانِيَة وَهِي مرتبَة عين الْيَقِين ونسبتها الى الْعين كنسبة الاول الى الْقلب ثمَّ تَلِيهَا الْمرتبَة الثَّالِثَة وَهِي حق الْيَقِين وَهِي مُبَاشرَة الْمَعْلُوم وإدراكه الادراك التَّام فالاولى كعلمك بَان فِي هَذَا الْوَادي مَاء وَالثَّانِي كرؤيته وَالثَّالِثَة كالشرب مِنْهُ وَمن هَذَا مَا يرْوى فِي حَدِيث حَارِثَة وَقَول النَّبِي كَيفَ اصبحت يَا حَارِثَة قَالَ اصبحت مُؤمنا حَقًا قَالَ إِن لكل قَول حَقِيقَة فَمَا حَقِيقَة إيمانك قَالَ عزفت نَفسِي عَن الدُّنْيَا وشهواتها فاسهرت ليلِي وَأَظْمَأت نهاري وكاني انْظُر الى عرش رَبِّي بارزا وكاني انْظُر الى اهل الْجنَّة بتزاورون فِيهَا والى اهل النَّار يتعاوون فِيهَا فَقَالَ عبد نور الله قلبه فَهَذَا هُوَ هجوم الْعلم بِصَاحِبِهِ على حَقِيقَة الامر وَمن وصل الى هَذَا استلان مَا يستوعره المترفون وَأنس مِمَّا يشتوحش مِنْهُ الجاهلون وَمن لم يثبت قدم إيمَانه على هَذِه الدرجَة فَهُوَ إِيمَان ضَعِيف وعلامة هَذَا انْشِرَاح الصَّدْر لمنازل الايمان وانفساحه وطمأنينة الْقلب لأمر الله والانابة الى ذكر الله ومحبته والفرح بلقائه والتجافي عَن دَار الْغرُور كَمَا فِي الاثر الْمَشْهُور إِذا دخل النُّور الْقلب اِنْفَسَحَ وانشرح قيل وَمَا عَلامَة ذَلِك قَالَ التَّجَافِي عَن دَار الْغرُور والانابة الى دَار الخلود والاستعداد للْمَوْت قبل نُزُوله وَهَذِه هِيَ الْحَال الَّتِي كَانَت تحصل للصحابة عِنْد النَّبِي إِذا ذكرهم الْجنَّة وَالنَّار كَمَا فِي التِّرْمِذِيّ وَغَيره من حَدِيث الْجريرِي عَن ابي عُثْمَان النَّهْدِيّ عَن حَنْظَلَة الاسدي وَكَانَ من كتاب النَّبِي انه مر بِأبي بكر رضى الله عَنهُ وَهُوَ يبكي فَقَالَ مَالك يَا حَنْظَلَة فَقَالَ نَافق حَنْظَلَة يَا ابا بكر نَكُون عِنْد رَسُول الله يذكرنَا بِالْجنَّةِ وَالنَّار كَانَا رأى عين فَإِذا رَجعْنَا إِلَى الازواج والضيعة نَسِينَا كثيرا قَالَ فوَاللَّه إِنَّا لكذلك انْطلق بِنَا الى رَسُول الله فَانْطَلَقْنَا فَلَمَّا رَآهُ رَسُول الله قَالَ مَالك يَا حَنْظَلَة قَالَ نَافق حَنْظَلَة يَا رَسُول الله نَكُون عنْدك تذكرنا بالنَّار وَالْجنَّة كَانَا

ص: 149

رأى عين فَإِذا رَجعْنَا عافسنا الازواج والضيعة ونسينا كثيرا قَالَ فَقَالَ رَسُول الله لَو تدومون على الْحَال الَّتِي تقومون بهَا من عِنْدِي لصافحتكم الْمَلَائِكَة فِي مجالسكم وَفِي طرقكم وعَلى فرشكم وَلَكِن يَا حَنْظَلَة سَاعَة وَسَاعَة سَاعَة وَسَاعَة قَالَ التِّرْمِذِيّ هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح وَفِي التِّرْمِذِيّ ايضا نَحوه من حَدِيث ابي هُرَيْرَة وَالْمَقْصُود ان الَّذِي يهجم بِالْقَلْبِ على حَقِيقَة الايمان ويلين لَهُ مَا يستوعره غَيره ويؤنسه بِمَا يستوحش مِنْهُ سَوَاء الْعلم التَّام وَالْحب الْخَالِص وَالْحب تبع للْعلم يقوى بقوته ويضعف بضعفه والمحب لَا يستوعر طَرِيقا توصله الى محبوبه وَلَا يستوحش فِيهَا وَقَوله صحبوا الدُّنْيَا بابدان ارواحها معلقَة بالملأ الاعلى وَفِي رِوَايَة بِالْمحل الاعلى الرّوح فِي هَذَا الْجَسَد بدار غربَة وَلها وَطن غَيره فَلَا تَسْتَقِر الا فِي وطنها وَهِي جَوْهَر علوي مَخْلُوق من مَادَّة علوِيَّة وَقد اضطرت الى مساكنة هَذَا الْبدن الكثيف فَهِيَ دَائِما تطلب وطنها فِي الْمحل الاعلى وتحن اليه حنين الطير الى اوكارها وكل روح فَفِيهَا ذَلِك وَلَكِن لفرط اشتغالها بِالْبدنِ وبالمحسوسات المالوفة اخلدت الى الارض ونسيت معلمها ووطنها الَّذِي لَا رَاحَة لَهَا فِي غَيره فَإِنَّهُ لَا رَاحَة لِلْمُؤمنِ دون لِقَاء ربه وَالدُّنْيَا سجنه حَقًا فَلهَذَا تجدالمؤمن بدنه فِي الدُّنْيَا وروحه فِي الْمحل الاعلى وَفِي الحَدِيث الْمَرْفُوع إِذا نَام العَبْد وَهُوَ ساجد باهي الله بِهِ الْمَلَائِكَة فَيَقُول انْظُرُوا الى عَبدِي بدنه فِي الارض وروحه عِنْدِي رَوَاهُ تَمام وَغَيره وَهَذَا معني قَول بعض السّلف الْقُلُوب جوالة فَقلب حول الْحَشْر وقلب يطوف مَعَ الْمَلَائِكَة حول الْعَرْش فأعظم عَذَاب الرّوح انغماسها وتدسيسها فِي أعماق الْبدن واشتغالها بملاذه وانقطاعها عَن مُلَاحظَة مَا خلقت لَهُ وهيئت لَهُ وَعَن وطنها ومحلها وَمحل انسها ومنزل كرامتها وَلَكِن سكر الشَّهَوَات يحجبها عَن مطالعة هَذَا الالم وَالْعَذَاب فَإِذا صحت من سكرها وافاقت من غمرتها اقبلت عَلَيْهَا جيوش الحسرات من كل جَانب فَحِينَئِذٍ تتقطع حسرات على مَا فاتها من كَرَامَة الله وقربه والانس بِهِ والوصول الى وطنها الَّذِي لَا رَاحَة لَهَا الا فِيهِ كَمَا قيل:

صحبتك اذ عَيْني عَلَيْهَا غشاوة

فَلَمَّا انجلت قطعت نَفسِي الومها وَلَو تنقلت الرّوح فِي المواطن كلهَا والمنازل لم تَسْتَقِر وَلم تطمئِن الا فِي وطنها ومحلها الَّذِي خلقت لَهُ كَمَا قيل:

نقل فُؤَادك حَيْثُ شِئْت من الْهوى

مَا الْحبّ الا للحبيب الاول كم منزل فِي الارض يألفه الْفَتى

وحنينه ابدا لاول منزل وَإِذا كَانَت الرّوح تحن ابدا الى وطنها من الارض مَعَ قيام غَيره مقَامه فِي السُّكْنَى وَكَثِيرًا مَا يكون غير وطنها احسن واطيب مِنْهُ وَهِي دَائِما تحن اليه مَعَ انه لَا ضَرَر عَلَيْهَا وَلَا عَذَاب فِي مُفَارقَته الى مثله فَكيف بحنينها الى الوطن الَّذِي فِي فراقها لَهُ عَذَابهَا وآلامها وحسرتها الَّتِي لاتنقضي فَالْعَبْد

ص: 150

الْمُؤمن فِي هَذِه الدَّار سبي من الْجنَّة الى دَار التَّعَب والعناء ثمَّ ضرب عَلَيْهِ الرّقّ فِيهَا فَكيف يلام على حنينه الى دَاره الَّتِي سبى مِنْهَا وَفرق بَينه وَبَين من يحب وَجمع بَينه وَبَين عدوه فروحه دَائِما معلقَة بذلك الوطن وبدنه فِي الدُّنْيَا ولى من ابيات فِي ذَلِك

وَحي على جنَّات عَن فانها

منازلك الاولى وفيهَا المخيم ولكننا سبي الْعَدو فَهَل ترى

نعود الى اوطاننا ونسلم وَكلما اراد مِنْهُ الْعَدو نِسْيَان وَطنه وَضرب الذّكر عَنهُ صفحا وايلافه وطنا غَيره ابت ذَلِك روحه وَقَلبه كَمَا قيل:

يُرَاد من الْقلب نسيانكم

وتأبى الطباع على النَّاقِل وَلِهَذَا كَانَ الْمُؤمن غَرِيبا فِي هَذِه الدَّار ايْنَ حل مِنْهَا فَهُوَ فِي دَار غربَة كَمَا قَالَ النَّبِي كن فِي الدُّنْيَا كانك غَرِيب اَوْ عَابِر سَبِيل وَلكنهَا غربَة تنقضى وَيصير الى وَطنه ومنزله وانما الغربة الَّتِي لَا يُرْجَى انقطاعها فَهِيَ غربَة فِي دَار الهوان ومفارقة وَطنه الَّذِي كَانَ قد هيء وَاعد لَهُ وامر بالتجهيز اليه والقدوم عَلَيْهِ فابى الا اغترابه عَنهُ ومفارقته لَهُ فَتلك غربَة لَا يُرْجَى ايابها وَلَا يجْبر مصابها وَلَا تبادر الى انكار كَون الْبدن فِي الدُّنْيَا وَالروح فِي الْمَلأ الاعلى فللروح شَأْن وَالْبدن شَأْن وَالنَّبِيّ كَانَ بَين اظهر اصحابه وَهُوَ عِنْد ربه يطعمهُ ويسقيه فبدنه بَينهم وروحه وَقَلبه عِنْد ربه وَقَالَ ابو الدَّرْدَاء اذا نَام العبدعرج بِرُوحِهِ الى تَحت الْعَرْش فان كَانَ طَاهِرا اذن لَهَا بِالسُّجُود وان لم يكن طَاهِرا لم يُؤذن لَهَا بِالسُّجُود فَهَذِهِ وَالله أعلم هِيَ الْعلَّة الَّتِي امْر الْجنب لاجلها ان يتَوَضَّأ إِذا أَرَادَ النّوم وَهَذَا الصعُود إِنَّمَا كَانَ لتجرد الرّوح عَن الْبدن بِالنَّوْمِ فَإِذا تجردت بِسَبَب آخر حصل لَهَا من الترقي والصعود بِحَسب ذَلِك التجرد وَقد يقوى الْحبّ بالمحب حَتَّى لَا يُشَاهد مِنْهُ بَين النَّاس الا جِسْمه وروحه فِي مَوضِع آخر عِنْد محبوبه وَفِي هَذَا من شاعار النَّاس وحكاياتهم مَا هُوَ مَعْرُوف وَقَوله اولئك خلفاء الله فِي ارضه ودعائه الى دينه هَذَا حجَّة اُحْدُ الْقَوْلَيْنِ فِي انه يجوز ان يُقَال فلَان خَليفَة الله فِي ارضه وَاحْتج اصحابه ايضا بقوله تَعَالَى للْمَلَائكَة إِنِّي جَاعل فِي الارض خَليفَة وَاحْتَجُّوا بقوله تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي جعلكُمْ خلائف فِي الارض وَهَذَا خطاب لنَوْع الانسان وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى امن يُجيب الْمُضْطَر اذا دَعَاهُ ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الارض وَبقول مُوسَى لِقَوْمِهِ عَسى ربكُم ان يهْلك عَدوكُمْ ويستخلفكم فِي الارض فَينْظر كَيفَ تَعْمَلُونَ وَيَقُول النَّبِي ان الله مُمكن لكم فِي الارض ومستخلفكم فِيهَا فناظر كَيفَ تَعْمَلُونَ فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقوا النِّسَاء وَاحْتَجُّوا بقول الرَّاعِي يُخَاطب ابا بكر رضي الله عنه:

خَليفَة الرَّحْمَن انام معشر

حنفَاء نسجد بكرَة واصيلا

ص: 151

عرب نرى لله فِي اموالنا

حق الزَّكَاة منزلا تَنْزِيلا

ومنعت طَائِفَة هَذَا الاطلاق وَقَالَت لَا يُقَال لَاحَدَّ انه خَليفَة الله فَإِن الْخَلِيفَة انما يكون عَمَّن يغيب ويخلفه غَيره وَالله تَعَالَى شَاهد غير غَائِب قريب غير بعيد رَاء وسامع فمحال ان يخلفه غَيره بل هُوَ سُبْحَانَهُ الَّذِي يخلف عَبده الْمُؤمن فَيكون خَلِيفَته كَمَا قَالَ النَّبِي فِي حَدِيث الدَّجَّال ان يخرج وانا فِيكُم فانا حجيجه دونكم وان يخرج وَلست فِيكُم فامرؤ حجيج نَفسه وَالله خليفتي على كل مُؤمن والْحَدِيث فِي الصَّحِيح وَفِي صَحِيح مُسلم ايضا من حَدِيث عبد الله بن عَمْرو ان رَسُول الله كَانَ يَقُول اذا سَافر اللَّهُمَّ انت الصاحب فِي السّفر والخليفة فِي الاهل والحضر الحَدِيث وَفِي الصَّحِيح ان النَّبِي قَالَ اللَّهُمَّ اغْفِر لابي سَلمَة وارفع دَرَجَته فِي المهديين واخلفه فِي اهله فَالله تَعَالَى هُوَ خَليفَة العَبْد لَان العَبْد يَمُوت فَيحْتَاج الى من يخلفه فِي اهله قَالُوا وَلِهَذَا انكر الصّديق رضى الله عَنهُ على من قَالَ لَهُ يَا خَليفَة الله قَالَ لست بخليفة الله وَلَكِنِّي خَليفَة رَسُول الله وحسبي ذَلِك قَالُوا وَأما قَوْله تَعَالَى اني جَاعل فِي الارض خَليفَة فَلَا خلاف ان المُرَاد بِهِ آدم وَذريته وَجُمْهُور اهل التَّفْسِير من السّلف وَالْخلف على انه جعله خَليفَة عَمَّن كَانَ قبله فِي الارض قيل عَن الْجِنّ الَّذين كَانُوا سكانها وَقيل عَن الْمَلَائِكَة الَّذين سكنوها بعدالجن وقصتهم مَذْكُورَة فِي التفاسير وَأما قَوْله تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي جعلكُمْ خلائف فِي الارض فَلَيْسَ المُرَاد بِهِ خلائف عَن الله وانما المُرَاد بِهِ انه جعلكُمْ يخلف بَعْضكُم بَعْضًا فَكلما هلك قرن خَلفه قرن إِلَى آخر الدَّهْر ثمَّ قيل ان هَذَا خطاب لَامة مُحَمَّد خَاصَّة أَي جعلكُمْ خلائف من الامم الْمَاضِيَة فهلكوا وورثتم انتم الارض من بعدهمْ وَلَا ريب ان هَذَا الْخطاب للامة وَالْمرَاد نوع الانسان الَّذِي جعل الله اباهم خَليفَة عَمَّن قبله وَجعل ذُريَّته يخلف بَعضهم بَعْضًا الى قيام السَّاعَة وَلِهَذَا جعل هَذَا آيَة من آيَاته كَقَوْلِه تَعَالَى امن يُجيب الْمُضْطَر أذا دَعَاهُ ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الارض واما قَول مُوسَى لِقَوْمِهِ ويستخلفكم فِي الارض فَلَيْسَ ذَلِك استخلافا عَنهُ وانما هُوَ اسْتِخْلَاف عَن فِرْعَوْن وَقَومه اهلكهم وَجعل قوم مُوسَى خلفاء من بعدهمْ وَكَذَا قَول النَّبِي ان الله مستخلفكم فِي الارض أَي من الامم الَّتِي تهْلك وتكونون انتم خلفاء من بعدهمْ قَالُوا واما قَول الرَّاعِي فَقَوْل شَاعِر قَالَ قصيدة فِي غيبَة الصّديق لَا يدْرِي ابلغت ابا بكر ام لَا وَلَو بلغته فَلَا يعلم انه اقره على هَذِه اللَّفْظَة ام لَا قلت ان اريد بالاضافة الى الله انه خَليفَة عَنهُ فَالصَّوَاب قَول الطَّائِفَة الْمَانِعَة مِنْهَا وان اريد بالاضافة ان الله اسْتَخْلَفَهُ عَن غَيره مِمَّن كَانَ قله قبلهفهذا لَا يمْتَنع فِيهِ الاضافة وحقيقتها خَليفَة الله الَّذِي جعله الله خلفا عَن غَيره وَبِهَذَا يخرج الْجَواب عَن قَول امير الْمُؤمنِينَ اولئك خلفاء الله فِي ارضه فان قيل هَذَا لامدح فِيهِ لَان هَذَا

ص: 152

الِاسْتِخْلَاف عَام فِي الامة وَخِلَافَة الله الَّتِي ذكرهَا امير الْمُؤمنِينَ خَاصَّة بخواص الْخلق فَالْجَوَاب ان الِاخْتِصَاص الْمَذْكُور افاد اخْتِصَاص الاضافة فالاضافة هُنَا للتشريف والتخصيص كَمَا يُضَاف اليه عباده كَقَوْلِه تَعَالَى إِن عبَادي لَيْسَ لَك عَلَيْهِم سُلْطَان وَعباد الرَّحْمَن الَّذين يَمْشُونَ على الارض هونا ونظائرهما وَمَعْلُوم ان كل الْخلق عباد لَهُ فخلفاء الارض كالعباد فِي قَوْله وَالله بَصِير بالعباد {وَمَا الله يُرِيد ظلما للعباد} وخلفاء الله فِي قَوْله {إِن عبَادي لَيْسَ لَك عَلَيْهِم سُلْطَان} ونظائره وَحَقِيقَة اللَّفْظَة ان الْخَلِيفَة هُوَ الَّذِي يخلف الذَّاهِب أَي يَجِيء بعده يُقَال خلف فلَان فلَانا واصلها خليف بِغَيْر هَاء لانها فعيل بِمَعْنى فَاعل كالعليم والقدير فَدخلت التَّاء للْمُبَالَغَة فِي الْوَصْف كراوية وعلامة وَلِهَذَا جمع جمع فعيل فَقيل خلفاء كشريف وشرفاء وكريم وكرماء وَمن راعي لَفظه بعد دُخُول التَّاء عَلَيْهِ جُمُعَة مَعَه على فعائل فَقَالَ خلائف كعقيلة وعقائل وظريفة وظرائف وَكِلَاهُمَا ورد بِهِ الْقُرْآن هَذَا قَول جمَاعَة من النُّحَاة وَالصَّوَاب ان التَّاء إِنَّمَا دخلت فِيهَا للعدل عَن الْوَصْف الى الِاسْم فَإِن الْكَلِمَة صفة فِي الاصل ثمَّ اجريت مجْرى الاسماء فالحقت التَّاء لذَلِك كَمَا قَالُوا نطيحة بِالتَّاءِ فَإِذا اجروها صفة قَالُوا شَاة نطيح كماي يَقُولُونَ كف خضيب والا فَلَا معنى للْمُبَالَغَة فِي خَليفَة حَتَّى تلحقها تَاء الْمُبَالغَة وَالله اعْلَم وَقَوله ودعته الى دينه الدعاة جمع دَاع كقاض قُضَاة ورام ورماة وإضافتهم الى اليه للاختصاص أَي الدعاة المخصوصون بِهِ الَّذين يدعونَ الى دينه وعبادته ومعرفته ومحبته وهؤلاءهم خَواص خلق الله وافضلهم عِنْد الله منزلَة وَأَعْلَاهُمْ قدرا يدل على ذَلِك الْوَجْه الثَّلَاثُونَ بعد الْمِائَة وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَمن أحسن قولا مِمَّن دَعَا إِلَى الله وَعمل صَالحا وَقَالَ إِنَّنِي من الْمُسلمين} قَالَ الْحسن هُوَ الْمُؤمن اجاب الله فِي دَعوته ودعا النَّاس الى مَا أجَاب الله فِيهِ من دَعوته وَعمل صَالحا فِي إجَابَته فَهَذَا حبيب الله هَذَا ولي الله فمقام الدعْوَة الى الله افضل مقامات العَبْد قَالَ تَعَالَى وانه لما قَامَ عبد الله يَدعُوهُ كَادُوا يكونُونَ عَلَيْهِ لبدا وَقَالَ تَعَالَى {ادْع إِلَى سَبِيل رَبك بالحكمة وَالْمَوْعِظَة الْحَسَنَة وجادلهم بِالَّتِي هِيَ أحسن} جعل سُبْحَانَهُ مَرَاتِب الدعْوَة بِحَسب مَرَاتِب الْخلق فالمتسجيب الْقَابِل الذكي الَّذِي لَا يعاندالحق وَلَا يأباه يدعى بطرِيق الْحِكْمَة والقابل الَّذِي عِنْده نوع غَفلَة وَتَأَخر يدعى بِالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَة وَهِي الامر وَالنَّهْي المقرون بالرغبة والرهبة والمعاند الجاحد يُجَادِل بِالَّتِي هِيَ احسن هَذَا هُوَ الصَّحِيح فِي معنى هَذِه الاية لَا مَا يزْعم اسير منطق اليونان ان الْحِكْمَة قِيَاس الْبُرْهَان وَهِي دَعْوَة الْخَواص وَالْمَوْعِظَة الْحَسَنَة قِيَاس الخطابة وَهِي دَعْوَة الْعَوام والمجادلة بِالَّتِي هِيَ احسن الْقيَاس الجدلي وَهُوَ رد شغب المشاغب بِقِيَاس جدلي مُسلم الْمُقدمَات وَهَذَا بَاطِل وَهُوَ مَبْنِيّ على اصول

ص: 153

الفلسفة وَهُوَ منَاف لاصول الْمُسلمين وقواعدالدين من وُجُوه كَثِيرَة لَيْسَ هَذَا مَوضِع ذكرهَا وَقَالَ تَعَالَى {قل هَذِه سبيلي أَدْعُو إِلَى الله على بَصِيرَة أَنا وَمن اتبعني} قَالَ الْفراء وَجَمَاعَة وَمن اتبعني مَعْطُوف على الضَّمِير فِي ادعو يَعْنِي وَمن اتبعني يَدْعُو الى الله كَمَا ادعو وَهَذَا قَول الْكَلْبِيّ قَالَ حق على كل من اتبعهُ ان يَدْعُو الى مَا دَعَا اليه وَيذكر بِالْقُرْآنِ وَالْمَوْعِظَة ويقوى هَذَا القَوْل من وُجُوه كَثِيرَة قَالَ ابْن الانباري وَيجوز ان يتم الْكَلَام عِنْد قَوْله الى الله ثمَّ يبتديء بقوله على بَصِيرَة انا وَمن اتبعني فَيكون الْكَلَام على قَوْله جملتين اخبر فِي اولاهما انه يَدْعُو الى الله وَفِي الثَّانِيَة بانه من اتِّبَاعه على بَصِيرَة وَالْقَوْلَان متلازمان فَلَا يكون الرجل من اتِّبَاعه حَقًا حَتَّى يَدْعُو الى مَا دَعَا اليه وَقَول الْفراء احسن واقرب الى الفصاحة والبلاغة واذا كَانَت الدعْوَة الى الله اشرف مقامات العَبْد واجلها وافضلها فَهِيَ لَا تحصل الا بِالْعلمِ الَّذِي يَدْعُو بِهِ واليه بل لَا بُد فِي كَمَال الدعْوَة من الْبلُوغ فِي الْعلم الى حد يصل اليه السَّعْي وَيَكْفِي هَذَا فِي شرف الْعلم ان صَاحبه يحوز بِهِ هَذَا الْمقَام وَالله يُؤْتِي فَضله من يَشَاء الْوَجْه الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ بعدالمائة انه لَو لم يكن من فَوَائِد الْعلم الا انه يُثمر الْيَقِين الَّذِي هُوَ اعظم حَيَاة الْقلب وَبِه طمأنينه وقوته ونشاطه وَسَائِر لَوَازِم الْحَيَاة وَلِهَذَا مدح الله سُبْحَانَهُ اهله فِي كِتَابه واثنى عَلَيْهِم بقوله {وبالآخرة هم يوقنون} وَقَوله تَعَالَى كَذَلِك نفصل الايات لقوم يوقنون وَقَوله فِي حق خَلِيله إِبْرَاهِيم وَكَذَلِكَ نرى إِبْرَاهِيم ملكوت السَّمَوَات والارض وليكون من الموقنين وذم من لَا يَقِين عِنْده فَقَالَ {أَن النَّاس كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يوقنون} وَفِي الحَدِيث الْمَرْفُوع من حَدِيث سُفْيَان الثَّوْريّ عَن سُلَيْمَان التَّيْمِيّ عَن خَيْثَمَة عَن عبد الله بن مسعوديرفعه لَا ترْضينَ احدا بسخط الله وَلَا تحمدن احدا على فَضله وَلَا تذمن احدا على مَا لم يؤتك الله فَإِن رزق الله لَا يَسُوقهُ حرص حَرِيص وَلَا يردة عَنْك كَرَاهِيَة كَارِه وان الله بعدله وقسطه جعل الرّوح والراحة والفرح فِي الرِّضَا وَالْيَقِين وَجعل الْهم والحزن فِي الشَّك والسخط فَإِذا بَاشر الْقلب الْيَقِين امْتَلَأَ نورا وانتفى عَنهُ كل ريب وَشك وعوفي من امراضه القاتلة وامتلأ شكرا لله وذكرا لَهُ ومحبة وخوفا فحبي عَن بَيِّنَة وَالْيَقِين والمحبة هما ركنا الايمان وَعَلَيْهِمَا يَنْبَنِي وَبِهِمَا قوامه وهما يمدان سَائِر الاعمال القلبية والبدنية وعنهما تصدر وبضعفهما يكون ضعف الاعمال وبقوتهما قوتها وَجَمِيع منَازِل السائرين ومقامات العارفين إِنَّمَا تفتح بهما وهما يثمران كل عمل صَالح وَعلم نَافِع وَهدى مُسْتَقِيم قَالَ شيخ العارفين الْجيد الْيَقِين هُوَ اسْتِقْرَار الْعلم الَّذِي لاينقلب وَلَا يتَحَوَّل وَلَا يتَغَيَّر فِي الْقلب وَقَالَ سهل حرَام على قلب ان يشم رَائِحَة الْيَقِين وَفِيه سُكُون الى غير الله وَقيل من علاماته الِالْتِفَات الى الله فِي كل زلَّة وَالرُّجُوع اليه فِي كل امْر والاستعانة بِهِ فِي كل حَال وارادة وَجهه بِكُل حَرَكَة وَيكون

ص: 154

وَقَالَ السرى الْيَقِين السّكُون عِنْد جولان الْمَوَارِد فِي صدرك ليتقنك ان حركتك فِيهَا لاتنفعك وَلَا ترد عَنْك مقضيا قلت هَذَا إِذا لم تكن الْحَرَكَة مَأْمُورا بهَا فَإِذا كَانَت مَأْمُورا بهَا فاليقين فِي بذل الْجهد فِيهَا واستفراغ الوسع وَقيل إِذا اسْتكْمل العَبْد حَقِيقَة الْيَقِين صَار الْبلَاء عِنْده نعْمَة والمحنة منحة فالعلم اول دَرَجَات الْيَقِين وَلِهَذَا قيل الْعلم يستعملك وَالْيَقِين يحملك فاليقين افضل مواهب الرب لعَبْدِهِ وَلَا تثبت قدم الرضاء الا على دَرَجَة الْيَقِين قَالَ تَعَالَى اما اصاب من مُصِيبَة الا باذن الله وَمن يُؤمن بِاللَّه يهد قلبه قَالَ ابْن مَسْعُود هُوَ وَالْعَبْد تصيبه الْمُصِيبَة فَيعلم انها من الله فيرضى وَيسلم فَلهَذَا لم يحصل لَهُ هِدَايَة الْقلب وَالرِّضَا وَالتَّسْلِيم الا بيقينه قَالَ فِي الصِّحَاح الْيَقِين الْعلم وَزَوَال الشَّك يُقَال مِنْهُ يقنت الامر يقنا واستيقنت وايقنت وتيقنت كُله بِمَعْنى وَاحِد وَأَنا على يَقِين مِنْهُ وَإِنَّمَا صَارَت الْيَاء واوا فيموقن للضمة قبلهَا وَإِذا صغرتها رَددته لى الاصل فَقلت مييقن وَرُبمَا عبروا عَن الظَّن بالقين وبالظن عَن الْيَقِين قَالَ:

تحسب هواس وأيقن اني

بهَا مفتد من وَاحِد لَا أغامره

يَقُول تشمم الاسد نَاقَتي يظنّ انني افتدى بهَا مِنْهُ وأستحيي نَفسِي فأتركها لَهُ وَلَا اقتحم المهالك لمقاتلته قلت هذاموضع اخْتلف فِيهِ اهل اللُّغَة وَالتَّفْسِير هَل يسْتَعْمل الْيَقِين فِي مَوضِع الظَّن وَالظَّن فِي مَوضِع الْيَقِين فَرَأى ذَلِك طَائِفَة مِنْهُم الْجَوْهَرِي وَغَيره وَاحْتَجُّوا بسوى مَا ذكر بقوله تَعَالَى {الَّذين يظنون أَنهم ملاقو رَبهم وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُون} وَلَو شكوا فِي ذَلِك لم يَكُونُوا موقنين فضلا عَن ان يمدحوا بِهَذَا الْمَدْح وَبِقَوْلِهِ {قَالَ الَّذين يظنون أَنهم ملاقوا الله كم من فِئَة قَليلَة غلبت فِئَة كَثِيرَة بِإِذن الله} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَرَأى المجرمون النَّار فظنوا أَنهم مواقعوها} وَبقول الشَّاعِر

فَقلت لَهُم ظنُّوا بالفي مقَاتل

سراتهم فِي الْفَارِسِي المسرد أَي استيقنوا بِهَذَا الْعدَد وَأبي ذَلِك طَائِفَة وَقَالُوا لَا يكون الْيَقِين الا للْعلم واما الظَّن فَمنهمْ من وَافق على انه يكون الظَّن فِي مَوضِع الْيَقِين واجابوا عَمَّا احْتج بِهِ من جوز ذَلِك بَان قَالُوا هَذِه الْمَوَاضِع الَّتِي زعمتم ان الظَّن وَقع فِيهَا موقع الْيَقِين كلهَا على بَابهَا فَإنَّا لم نجد ذَلِك الا فِي علم بمغيب وَلم تجدهم يَقُولُونَ لمن راى الشَّيْء اظنه وَلمن ذاقه اظنه وَإِنَّمَا يُقَال لغَائِب قدعرف بِالسَّمْعِ وَالْعلم فَإِذا صَار الى الْمُشَاهدَة امْتنع الى اطلاق الظَّن عَلَيْهِ قَالُوا وَبَين العيان وَالْخَبَر مرتبَة متوسطة باعتبارها اوقع على الْعلم بالغائب الظَّن لفقد الْحَال الَّتِي تحصل المدركة بِالْمُشَاهَدَةِ وعَلى هذاخرجت سَائِر الادلة الَّتِي ذكرتموها وَلَا يرد على هَذَا قَوْله {وَرَأى المجرمون النَّار فظنوا أَنهم مواقعوها} لَان الظَّن انما وَقع على مواقعتها وَهِي غيب حَال الرُّؤْيَة فَإِذا واقعوها لم يكن ذَلِك ظنا بل حق يَقِين قَالُوا وَأما قَول الشَّاعِر وايقن انني بهَا مفتد فعلى بَابه لانه ظن ان الاسد لتيقنه شجاعته

ص: 155

وجراءته موقن بَان الرجل يدع لَهُ نَاقَته يفتدى بهَا من نَفسه قَالُوا وعَلى هَذَا يخرج معنى الحَدِيث نَحن احق بِالشَّكِّ من إِبْرَاهِيم وَفِيه اجوبة لَكِن بَين العيان وَالْخَيْر رُتْبَة طلب إِبْرَاهِيم زَوَالهَا بقوله وَلَكِن لِيَطمَئِن قلبِي فعبرعن تِلْكَ الرُّتْبَة بِالشَّكِّ وَالله اعْلَم الْوَجْه الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ بعد الْمِائَة مَا رَوَاهُ ابو يعلى الْموصِلِي فِي مُسْنده من حَدِيث انس بن مَالك يرفعهُ الى النَّبِي قَالَ طلب الْعلم فَرِيضَة على كل مُسلم وَهَذَا وان كَانَ فِي سَنَده حَفْص بن سُلَيْمَان وَقد ضعف فَمَعْنَاه صَحِيح فَأن الايمان فرض على كل وَاحِد وَهُوَ مَاهِيَّة مركبة من علم وَعمل فَلَا يتَصَوَّر وجود الايمان الا بِالْعلمِ وَالْعَمَل ثمَّ شرائع الاسلام وَاجِبَة على كل مُسلم وَلَا يُمكن اداؤها الا بعدمعرفتها وَالْعلم بهَا وَالله تَعَالَى اخْرُج عباده من بطُون امهاتهم لَا يعلمُونَ شَيْئا فَطلب الْعلم فَرِيضَة على كل مُسلم وَهل تمكن عبَادَة الله الَّتِي هِيَ حَقه على الْعباد كلهم الا بِالْعلمِ وَهل ينَال الْعلم الا بِطَلَبِهِ ثمَّ إِن الْعلم بالمفروض تعلمه ضَرْبَان ضرب مِنْهُ فرض عين لَا يسع مُسلما جَهله وَهُوَ انواع النَّوْع الاول علم اصول الايمان الْخَمْسَة الايمان بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله وَالْيَوْم الاخر فَإِن من لم يُؤمن بِهَذِهِ الْخَمْسَة لم يدْخل فِي بَاب الايمان ولايستحق اسْم الْمُؤمن قَالَ الله تَعَالَى وَلَكِن الْبر من آمن بِاللَّه وَالْيَوْم الاخر وَالْمَلَائِكَة وَالْكتاب والنبيين {وَقَالَ} وَمن يكفر بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله وَالْيَوْم الاخر فقد ضل ضلالا بَعيدا وَلما سَأَلَ جِبْرِيل رَسُول الله عَن الايمان فَقَالَ ان تؤمن بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله وَالْيَوْم الاخر قَالَ صدقت فالايمان بِهَذِهِ الاصول فرع مَعْرفَتهَا وَالْعلم بهَا النَّوْع الثَّانِي علم شرائع الاسلام وَاللَّازِم مِنْهَا علم مَا يخص العَبْد من فعلهَا كعلم الْوضُوء وَالصَّلَاة وَالصِّيَام وَالْحج وَالزَّكَاة وتوابعها وشروطها ومبطلاتها النَّوْع الثَّالِث علم الْمُحرمَات الْخَمْسَة الَّتِي اتّفقت عَلَيْهَا الرُّسُل والشرائع والكتب الالهية وَهِي الْمَذْكُورَة فِي قَوْله تَعَالَى قل إِنَّمَا حرم رَبِّي الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن والاثم وَالْبَغي بِغَيْر الْحق وان تُشْرِكُوا بِاللَّه مَا لم ينزل بِهِ سُلْطَانا وان تَقولُوا على الله مَالا تعلمُونَ فَهَذِهِ مُحرمَات على كل وَاحِد فِي كل حَال على لِسَان كل رَسُول لَا تُبَاح قطّ وَلِهَذَا اتى فِيهَا بانما المفيدة للحصر مُطلقًا وَغَيرهَا محرم فِي وَقت مُبَاح فِي غَيره كالميتة وَالدَّم وَلحم الْخِنْزِير وَنَحْوه فَهَذِهِ لَيست مُحرمَة على الاطلاق والدوام فَلم تدخل تَحت التَّحْرِيم المحصور الْمُطلق النَّوْع الرَّابِع علم احكام المعاشرة والمعاملة الَّتِي تحصل بَينه وَبَين النَّاس خُصُوصا وعموما وَالْوَاجِب فِي هَذَا النَّوْع يخْتَلف باخْتلَاف احوال النَّاس ومنازلهم فَلَيْسَ الْوَاجِب على الامام مَعَ رَعيته كالواجب على الرجل مَعَ اهله وجيرته وَلَيْسَ الْوَاجِب على من نصب نَفسه لانواع التِّجَارَات من تعلم احكام الْبياعَات كالواجب على من لَا يَبِيع وَلَا يَشْتَرِي الا مَا تَدْعُو الْحَاجة اليه وتفصيل هَذِه الْجُمْلَة لَا يَنْضَبِط بِحَدّ لاخْتِلَاف النَّاس فِي اسباب الْعلم الْوَاجِب وَذَلِكَ يرجع

ص: 156

الى ثَلَاثَة اصول اعْتِقَاد وَفعل وَترك فَالْوَاجِب فِي الِاعْتِقَاد مطابقته للحق فِي نَفسه وَالْوَاجِب فِي الْعَمَل مَعْرفَته وموافقة حركات العَبْد الظَّاهِرَة والباطنة الاختيارية للشَّرْع امرا وَإِبَاحَة وَالْوَاجِب فِي التّرْك معرفَة مُوَافقَة الْكَفّ والسكون لمرضات الله وان الْمَطْلُوب مِنْهُ إبْقَاء هَذَا الْفِعْل على عَدمه المستصحب فَلَا يَتَحَرَّك فِي طلبه اَوْ كف النَّفس عَن فعله على الطريقتين وَقد دخل فِي هَذِه الْجُمْلَة علم حركات الْقُلُوب والابدان وَأما فرض الْكِفَايَة فَلَا اعْلَم فِيهِ ضابطا صَحِيحا فان كل اُحْدُ يدْخل فِي ذَلِك مَا يَظُنّهُ فرضا فَيدْخل بعض النَّاس فِي ذَلِك علم الطِّبّ وَعلم الْحساب وَعلم الهندسة والمساحة وَبَعْضهمْ يزِيد على ذَلِك علم اصول الصِّنَاعَة كالفلاحة والحياكة والحدادة والخياطة وَنَحْوهَا وَبَعْضهمْ يزيدعلى ذَلِك علم الْمنطق وَرُبمَا جعله فرض عين وبناه على عدم صِحَة إِيمَان الْمُقَلّد وكل هَذَا هوس وخبط فَلَا فرض إِلَّا مَا فَرْضه الله وَرَسُوله فيا سُبْحَانَ الله هَل فرض الله على كل مُسلم ان يكون طَبِيبا حجاما حاسبا مهندسا اَوْ حائكا اَوْ فلاحا اَوْ نجارا اَوْ خياطا فَإِن فرض الْكِفَايَة كفرض الْعين فِي تعلقه بِعُمُوم الْمُكَلّفين وَإِنَّمَا يُخَالِفهُ فِي سُقُوطه بِفعل الْبَعْض ثمَّ على قَول هَذَا الْقَائِل يكون الله قد فرض على كل اُحْدُ جملَة هَذِه الصَّنَائِع والعلوم فَإِنَّهُ لَيْسَ وَاحِد مِنْهَا فرضا على معِين وَالْآخر على معِين آخر بل عُمُوم فرضيتها مُشْتَركَة بَين الْعُمُوم فَيجب على كل اُحْدُ ان يكون حاسبا حائكا خياطا نجارا فلاحا طَبِيبا مهندسا فان قَالَ الْمَجْمُوع فرض على الْمَجْمُوع لم يكن قَوْلك إِن كل وَاحِد مِنْهَا فرض كِفَايَة صَحِيحا لَان فرض الْكِفَايَة يجب على الْعُمُوم واما الْمنطق فَلَو كَانَ علما صَحِيحا كَانَ غَايَته ان يكون كالمساحة والهندسة وَنَحْوهَا فَكيف وباطله اضعاف حَقه وفساده وتناقض اصوله وَاخْتِلَاف مبانيه توجب مراعاتها الذِّهْن ان يزِيغ فِي فكره وَلَا يُؤمن بِهَذَا الا من قد عرفه وَعرف فَسَاده وتناقضه ومناقضة كثير مِنْهُ لعقل الصَّرِيح وَاخْبَرْ بعض من كَانَ قد قَرَأَهُ وعني بِهِ انه لم يزل مُتَعَجِّبا من فَسَاد اصوله وقواعده ومبانيها لصريح الْمَعْقُول وتضمنها لدعاوي مَحْضَة غير مَدْلُول عَلَيْهَا وتفريقه بَين متساوين وَجمعه بَين مُخْتَلفين فَيحكم على الشَّيْء بِحكم وعَلى نَظِيره بضد ذَلِك الحكم اَوْ يحكم على الشَّيْء بِحكم ثمَّ يحكم على مضاده اَوْ مناقضه بِهِ قَالَ الى ان سَالَتْ بعض رؤسائه وشيوخ اهله عَن شَيْء من ذَلِك فانكر فِيهِ ثمَّ قَالَ هَذَا علم قد صقلته الاذهان وَمَرَّتْ عَلَيْهِ من عهد الْقُرُون الاوائل اَوْ كَمَا قَالَ فَيَنْبَغِي ان نتسلمه من اهله وَكَانَ هَذَا من افضل مَا رَأَيْت فِي الْمنطق قَالَ الى ان وقفت على رد متكلمي الاسلام عَلَيْهِ وتبيين فَسَاده وتناقضه فوقفت على مُصَنف لابي سعيد السيرافي النَّحْوِيّ فِي ذَلِك وعَلى رد كثير من اهل الْكَلَام والعربية عَلَيْهِم كَالْقَاضِي ابي بكر بَين الطّيب وَالْقَاضِي عبد الجبار والجبائي وَابْنه وابي الْمَعَالِي وابي الْقَاسِم الانصاري

ص: 157

وَخلق لَا يُحصونَ كَثْرَة ورايت استشكالات فضلائهم وَرُؤَسَائِهِمْ لمواضع الاشكال ومخالفتها مَا كَانَ ينقدح لي كثير مِنْهُ ورايت آخر من تجرد للرَّدّ عَلَيْهِم شيخ الاسلام قدس الله روحه فَإِنَّهُ اتى فِي كِتَابيه الْكَبِير وَالصَّغِير بالعجب العجاب وكشف اسرارهم وهتك استارهم فَقلت فِي ذَلِك:

وَاعجَبا لمنطق اليونان

كم فِيهِ من إفْك وَمن بهتان مخبط لجيد الاذهان

ومفسد لفطرة الانسان مُضْطَرب الاصول والمباني

على شفا هار بناه الْبَانِي احوج مَا كَانَ اليه العاني

يخونه فِي السِّرّ والاعلان يمشي بِهِ اللِّسَان فِي الميدان

مشي مُقَيّد على صَفْوَان مُتَّصِل العثار والتواني

كَأَنَّهُ السراب بالقيعان بدا لعين الظميء الحيراني

فأمه بِالظَّنِّ والحسبان يَرْجُو شِفَاء غلَّة الظمآن

فَلم يجد ثمَّ سوى الحرمان فَعَاد بالخيبة والخسران

يقرع سنّ نادم حيران

قد ضَاعَ مِنْهُ الْعُمر فِي الاماني

وعاين الخفة فِي الْمِيزَان وَمَا كَانَ من هوس النُّفُوس بِهَذِهِ الْمنزلَة فَهُوَ بَان يكون جهلا اولى مِنْهُ بَان يكون علما تعلمه فرض كِفَايَة اَوْ فرض عين وَهَذَا الشَّافِعِي وَاحْمَدْ وَسَائِر ائمة الاسلام وتصانيفهم وَسَائِر ائمة الْعَرَبيَّة وتصانيفهم وائمة التَّفْسِير وتصانيفهم لمن نظر فِيهَا هَل راعوا فِيهَا حُدُود الْمنطق واوضاعه وَهل صَحَّ لَهُم علمهمْ بِدُونِهِ ام لَا بل هم كَانُوا اجل قدرا واعظم عقولا من ان يشغلو افكارهم بهذيان المنطقيين وَمَا دخل الْمنطق على علم الا افسده وَغير اوضاعه روشوش قَوَاعِده وَمن النَّاس من يَقُول ان عُلُوم الْعَرَبيَّة من التصريف والنحو واللغة والمعاني وَالْبَيَان وَنَحْوهَا تعلمهَا فرض كِفَايَة لتوقف فهم كَلَام الله وَرَسُوله عَلَيْهَا وَمن النَّاس من يَقُول تعلم اصول الْفِقْه فرض كِفَايَة لانه الْعلم الَّذِي يعرف بِهِ الدَّلِيل ومرتبته وكفية الِاسْتِدْلَال وَهَذِه الاقوال وان كَانَت اقْربْ الى الصَّوَاب من القَوْل الاول فَلَيْسَ وُجُوبهَا عَاما على كل اُحْدُ وَلَا فِي كل وَقت وَإِنَّمَا يُجيب وجوب الْوَسَائِل فِي بعض الازمان وعَلى بعض الاشخاص بِخِلَاف الْفَرْض الَّذِي يعم وُجُوبه كل اُحْدُ وَهُوَ علم الايمان وَشَرَائِع الاسلام فَهَذَا هُوَ الْوَاجِب واما مَا عداهُ فَإِن توقفت مَعْرفَته عَلَيْهِ فَهُوَ من بَاب مَالا يتم الْوَاجِب الا بِهِ وَيكون الْوَاجِب مِنْهُ الْقدر الْموصل اليه دون الْمسَائِل الَّتِي هِيَ فضلَة لَا يفْتَقر معرفَة الْخطاب وفهمه اليها فَلَا

ص: 158

يُطلق القَوْل بَان علم الْعَرَبيَّة وَاجِب على الاطلاق اذ الْكثير مِنْهُ وَمن مسَائِله وبحوثه لَا يتَوَقَّف فهم كَلَام الله وَرَسُوله عَلَيْهَا وَكَذَلِكَ اصول الْفِقْه الْقدر الَّذِي يتَوَقَّف فهم الْخطاب عَلَيْهِ مِنْهُ يجب مَعْرفَته دون الْمسَائِل المقررة والابحاث الَّتِي هِيَ فضلَة فَكيف يُقَال ان تعلمهَا وَاجِب وَبِالْجُمْلَةِ فالمطلوب الْوَاجِب من العَبْد من الْعُلُوم والاعمال إِذا توقف على شَيْء مِنْهَا كَانَ ذَلِك الشَّيْء وَاجِبا وجوب الْوَسَائِل وَمَعْلُوم ان ذَلِك التَّوَقُّف يخْتَلف باخْتلَاف الاشخاص والازمان والالسنة والاذهان فَلَيْسَ لذَلِك حد مُقَدّر وَالله اعْلَم الْوَجْه الثَّالِث وَالثَّلَاثُونَ بعدالمائة مَا رَوَاهُ ابْن حبَان فِي صَحِيحه من حَدِيث ابي هُرَيْرَة يرفعهُ الى النَّبِي قَالَ سَأَلَ مُوسَى ربه عَن سِتّ خِصَال كَانَ يظنّ انها لَهُ خَالِصَة وَالسَّابِعَة لم يكن مُوسَى يُحِبهَا قَالَ يَا رب أَي عِبَادك اتَّقى قَالَ الَّذِي يذكر وَلَا ينسى قَالَ فَأَي عِبَادك اهدى قَالَ الَّذِي تتبع الْهدى قَالَ فَأَي عِبَادك احكم قَالَ الَّذِي يحكم للنَّاس مَا يحكم لنَفسِهِ قَالَ أَي عِبَادك اعْلَم قَالَ عَالم لَا يشْبع من الْعلم يجمع علم النَّاس الى علمه قَالَ فَأَي عِبَادك اعز قَالَ الَّذِي اذا قدر عَفا قَالَ فَأَي عِبَادك اغني قَالَ الَّذِي يرضى بِمَا اوتى قَالَ فاي عِبَادك افقر قَالَ صَاحب مَنْقُوص فَأخْبر فِي هَذَا الحَدِيث ان اعْلَم عباده الَّذِي لَا يشْبع من الْعلم فَهُوَ يجمع علم النَّاس الى علمه لنهمته فِي الْعلم وحرصه عَلَيْهِ وَلَا ريب ان كَون العَبْد اعظم عباد الله من اعظم اوصاف كَمَاله وَهَذَا هُوَ الَّذِي حمل مُوسَى على الرحلة الى عَالم الارض ليعلمه مِمَّا علمه الله هَذَا وَهُوَ كليم الرَّحْمَن وَأكْرم الْخلق على الله فِي زَمَانه وَأعلم الْخلق فَحَمله حرصه ونهمته فِي الْعلم على الرحلة الى الْعَالم الَّذِي وصف لَهُ فلولا ان الْعلم اشرف مَا بذلت فِيهِ المهج وانفقت فِيهِ الانفاس لاشتغل مُوسَى عَن الرحلة الى الْخضر بِمَا هُوَ بصدده من امْر الامة وَعَن مقاساة النصب والتعب فِي رحلته وتلطفه للخضر فِي قَوْله هَل اتبعك على ان تعلمن مِمَّا علمت رشدا فَلم ير اتِّبَاعه حَتَّى استاذنه فِي ذَلِك واخبره انه جَاءَ متعلما مستفيدا فَهَذَا النَّبِي الْكَرِيم كَانَ عَالما بِقدر الْعلم واهله صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ الْوَجْه الرَّابِع وَالثَّلَاثُونَ بعد الْمِائَة ان الله سبحانه وتعالى خلق الْخلق لعبادته الجامعة لمحبته وإيثار مرضاته المستلزمة لمعرفته وَنصب للعباد علما لَا كَمَال لَهُم الا بِهِ وَهُوَ ان تكون حركاتهم كلهَا مُوَافقَة على وفْق مرضاته ومحبته وَلذَلِك ارسل رسله وَانْزِلْ كتبه وَشرع شرائعه فكمال العَبْد الَّذِي لَا كَمَال لَهُ الا بِهِ ان تكون حركاته موافقه لما يُحِبهُ الله مِنْهُ ويرضاه لَهُ وَلِهَذَا جعل اتِّبَاع رَسُوله دَلِيلا على محبته قَالَ تَعَالَى قل ان كُنْتُم تحبون الله فَاتبعُوني يحببكم الله وَيغْفر لكم ذنوبكم وَالله غَفُور رَحِيم فالمحب الصَّادِق يرى خِيَانَة مِنْهُ لمحبوبه ان يَتَحَرَّك بحركة اختيارية فِي غير مرضاته وَإِذا فعل فعلا مِمَّا ابيح لَهُ بِمُوجب طَبِيعَته وشهوته تَابَ مِنْهُ كَمَا يَتُوب من الذَّنب وَلَا يزَال هَذَا الْأَمر يقوى عِنْده حَتَّى تنْقَلب

ص: 159

مباحاته كلهَا طاعات فيحتسب نَومه وفطره وراحته كَمَا يحْتَسب قومته وصومه واجتهاده وَهُوَ دَائِما بَين سراء يشْكر الله عَلَيْهَا وضراء يصبر عَلَيْهَا فَهُوَ سَائِر إِلَى الله دَائِما فِي نَومه ويقظنه قَالَ بعض الْعلمَاء الاكياس عاداتهم عبادات الحمقي والحمقى عباداتهم عادات وَقَالَ بعض السّلف حبذا نوم الأكياس وفطرهم يغبنون بِهِ سهر الحمقى وصومهم فالمحب الصادقان نطق نطق لله وَبِاللَّهِ وان سكت سكت لله وان تحرّك فبأمر الله وان سكن فسكونه استعانة على مرضات الله فَهُوَ لله وَبِاللَّهِ وَمَعَ الله وَمَعْلُوم ان صَاحب هَذَا الْمقَام احوج خلق الله الى الْعلم فَإِنَّهُ لَا تتَمَيَّز لَهُ الْحَرَكَة المحبوبة لله من غَيرهَا وَلَا السّكُون المحبوب لَهُ من غَيره الا بِالْعلمِ فَلَيْسَتْ حَاجته الى الْعلم كحاجة من طلب الْعلم لذاته ولانه فِي نَفسه صفة كَمَال بل حَاجته اليه كحاجته الى مَا بِهِ قوام نَفسه وذاته وَلِهَذَا اشتدت وصاة شُيُوخ العارفين لمريديهم بِالْعلمِ وَطَلَبه وانه من لم يطْلب الْعلم لم يفلح حَتَّى كَانُوا يعدون من لَا علم لَهُ من السفلة قَالَ ذُو النُّون وَقد سُئِلَ من السفلة فَقَالَ من لَا يعرف الطَّرِيق الى الله تَعَالَى وَلَا يتعرفه وَقَالَ ابو يزِيد لَو نظرتم الى الرجل وَقد اعطى من الكرامات حَتَّى يتربع فِي الْهَوَاء فلات تغتروا بِهِ حَتَّى تنظروا كَيفَ تجدونه عِنْد الامر وَالنَّهْي وَحفظ الْحُدُود وَمَعْرِفَة الشَّرِيعَة وَقَالَ ابو حَمْزَة الْبَزَّاز من علم طَرِيق الْحق سهل عَلَيْهِ سلوكه وَلَا دَلِيل على الطَّرِيق الا مُتَابعَة الرَّسُول فِي أَقْوَاله وأفعاله واحواله وَقَالَ مُحَمَّد بن الْفضل الصُّوفِي الزَّاهِد ذهَاب الاسلام على يَدي اربعة اصناف من النَّاس صنف لَا يعْملُونَ بِمَا يعلمُونَ وصنف يعْملُونَ بِمَا لَا يعلمُونَ وصنف لَا يعْملُونَ وَلَا يعلمُونَ وصنف يمْنَعُونَ النَّاس من التَّعَلُّم قلت الصِّنْف الاول من لَهُ علم بِلَا عمل فَهُوَ اضر شَيْء على الْعَامَّة فَإِنَّهُ حجَّة لَهُم فِي كل نقيصة ومنحسة والصنف الثَّانِي العابد الْجَاهِل فَإِن النَّاس يحسنون الظَّن بِهِ لعبادته وصلاحه فيقتدون بِهِ على جَهله وَهَذَانِ الصنفان هما اللَّذَان ذكرهمَا بعض السّلف فِي قَوْله احْذَرُوا فتْنَة الْعَالم الْفَاجِر وَالْعَابِد الْجَاهِل فَإِن فتنتهما فتْنَة لكل مفتون فان النَّاس إِنَّمَا يقتدون بعلمائهم وعبادهم فَإِذا كَانَ الْعلمَاء فجرة والعباد جهلة عَمت الْمُصِيبَة بهما وعظمت الْفِتْنَة على الْخَاصَّة والعامة والصنف الثَّالِث الَّذين لَا علم لَهُم وَلَا عملوإنما هم كالانعام السَّائِمَة والصنف الرَّابِع نواب ابليس فِي الارض وهم الَّذِي يثبطون النَّاس عَن طلب الْعلم والتفقه فِي الدّين فَهَؤُلَاءِ اضر عَلَيْهِم من شياطين الْجِنّ فانهم يحولون بَين الْقُلُوب وَبَين هدى الله وَطَرِيقه فَهَؤُلَاءِ الاربعة اصناف هم الَّذين ذكرهم هَذَا الْعَارِف رَحْمَة الله عَلَيْهِ وَهَؤُلَاء كلهم على شفا جرف هار وعَلى سَبِيل الهلكة وَمَا يلقى الْعَالم الدَّاعِي الى الله وَرَسُوله مَا يلقاه من الاذى والمحاربة الا على ايديهم وَالله يسْتَعْمل من يَشَاء فِي سخطه كَمَا يسْتَعْمل من يحب فِي مرضاته إِنَّه بعباده خَبِير بَصِير وَلَا ينْكَشف سر هَذِه الطوائف وطريقتهم إِلَّا بِالْعلمِ فَعَاد الْخَيْر بحذافيره الى الْعلم وموجبه وَالشَّر

ص: 160

بحذافيره الى الْجَهْل وموجبه الْوَجْه الْخَامِس وَالثَّلَاثُونَ بعد الْمِائَة ان الله سُبْحَانَهُ جعل الْعلمَاء وكلاء وامناء على دينه ووحيه وارتضاهم لحفظه وَالْقِيَام بِهِ والذب عَنهُ وناهيك بهَا منزلَة شريفة ومنقبة عَظِيمَة قَالَ تَعَالَى ذَلِك هدى الله يهدى بِهِ من يَشَاء من عباده وَلَو اشركوا لحبط عَنْهُم مَا كَانُوا يعْملُونَ اولئك الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب وَالْحكم والنبوة فَإِن يكفر بهَا هَؤُلَاءِ فقد وكلنَا بهَا قوما لَيْسُوا بهَا بكافرين وَقد قيل ان هَؤُلَاءِ الْقَوْم هم الانبياء وَقيل اصحاب رَسُول الله وَقيل كل مُؤمن هَذِه امهات الاقوال بعد اقوال متفرعة عَن هَذِه كَقَوْل من قَالَ هم الانصار اَوْ الْمُهَاجِرُونَ والانصار اَوْ قوم من ابناء فَارس وَقَالَ آخَرُونَ هم الْمَلَائِكَة قَالَ ابْن جرير واولى هَذِه الاقوال بِالصَّوَابِ انهم الانبياء الثَّمَانِية عشر الَّذين سماهم فِي الايات قبل هَذِه الاية قَالَ وَذَلِكَ ان الْخَبَر فِي الايات قبلهَا عَنْهُم مضى وَفِي الَّتِي بعْدهَا عَنْهُم ذكر فَمَا يَليهَا بَان يكون خَبرا عَنْهُم اولى واحق بَان يكون خَبرا عَن غَيرهم فالتأويل فَإِن يكفر قَوْمك من قُرَيْش يَا مُحَمَّد بِآيَاتِنَا وكذبوا بهَا وجحدوا حَقِيقَتهَا فقد استحفظناها واسترعينا الْقيام بهَا رسلنَا وانبياءنا من قبلك الَّذين لَا يجحدون حَقِيقَتهَا وَلَا يكذبُون بهَا وَلَكنهُمْ يصدقون بهَا ويؤمنون بِصِحَّتِهَا قلت السُّورَة مَكِّيَّة والاشارة بقوله هَؤُلَاءِ الى من كفر بِهِ من قومه اصلا وَمن عداهم تبعا فَيدْخل فِيهَا كل من كفر بِمَا جَاءَ بِهِ من هَذِه الامة وَالْقَوْم الموكلون بهَا هم الانبياء اصلا والمؤمنون بهم تبعا فَيدْخل كل من قَامَ بحفظها والذنب عَنْهَا والدعوة اليها وَلَا ريب ان هَذَا للأنبياء اصلا وَلِلْمُؤْمنِينَ بهم تبعا واحق من دخل فِيهَا من اتِّبَاع الرَّسُول خلفاؤه فِي امته وورثته فهم الموكلون بهَا وَهَذَا ينظم فِي الاقوال الَّتِي قيلت فِي الاية واما قَول من قَالَ انهم الْمَلَائِكَة فضعيف جدا لَا يدل عَلَيْهِ السِّيَاق وتاباه لَفظه قوما إِذْ الْغَالِب فِي الْقُرْآن بل المطرد تَخْصِيص الْقَوْم ببني آدم دون الْمَلَائِكَة وَأما قَول إِبْرَاهِيم لَهُم قوم منكرون فَإِنَّمَا قَالَه لما ظنهم من الانس وايضا فلايقتضيه فخامة الْمَعْنى ومقصوده وَلِهَذَا لَو اظهر ذَلِك وَقيل فَإِن يكفر بهَا كفار قَوْمك فقد وكلنَا بهَا الْمَلَائِكَة فَإِنَّهُم لَا يكفرون بهَا لم نجد مِنْهُ من التسلية وتحقير شَأْن الْكَفَرَة بهَا وَبَيَان عدم تأهلهم لَهَا والانعام عَلَيْهِم وإيثار غَيرهم من اهل الايمان الَّذين سبقت لَهُم الْحسنى عَلَيْهِم لكَوْنهم احق بهَا وَأَهْلهَا وَالله أعلم حَيْثُ يضع هداه وَيخْتَص بِهِ من يَشَاء وايضا فَإِن تَحت هَذِه الاية إِشَارَة وَبشَارَة يحفظها وَأَنه لَا ضَيْعَة عَلَيْهَا وان هَؤُلَاءِ وَإِن ضيعوها وَلم يقبلوها فَإِن لَهَا قوما غَيرهم يقبلونها ويحفظونها ويرعونها ويذبون عَنْهَا فَكفر هَؤُلَاءِ بهَا لَا يضيعها وَلَا يذهبها وَلَا يَضرهَا شَيْئا فَإِن لَهَا اهلا ومستحقا سواهُم فَتَأمل شرف هَذَا الْمَعْنى وجلالته وَمَا تضمنه من تحريض عباده الْمُؤمنِينَ على الْمُبَادرَة اليها والمسارعة الى

ص: 161

قبُولهَا وَمَا تَحْتَهُ من تنبيههم على محبته لَهُم وإيثاره إيَّاهُم بِهَذِهِ النِّعْمَة على اعدائه الْكَافرين وَمَا تَحْتَهُ من احتقارهم وازدرائهم وَعدم المبالاة والاحتفال بهم وَإِنَّكُمْ وان تؤمنوا بهَا فعبادي الْمُؤْمِنُونَ بهَا الموكلون بهَا سواكم كثير كَمَا قَالَ تَعَالَى قل آمنُوا بِهِ اولا تؤمنوا إِن الَّذين اوتوا الْعلم من قبله إِذا يُتْلَى عَلَيْهِم يخرون للأذقان سجدا يوقولن سُبْحَانَ رَبنَا إِن كَانَ وعد رَبنَا لمفعولا وَإِذا كَانَ للْملك عبيد قدعصوره وخالفوا امْرَهْ وَلم يلتفتوا الى عَهده وَله عبيد آخَرُونَ سامعون لَهُ مطيعون قابلون مستجيبون لامره فَنظر اليهم وَقَالَ ان يكفر هَؤُلَاءِ نعمى ويعصوا امري ويضيعو عهدي فَإِن لي عبيدا سواهُم وهم انتم تطيعون امري وتحفظون عهدي وتودون حَقي فَإِن عبيده المطيعين يَجدونَ فِي انفسهم من الْفَرح وَالسُّرُور والنشاط وَقُوَّة الْعَزِيمَة مَا يكون مُوجبا لَهُم الْمَزِيد من الْقيام بِحَق الْعُبُودِيَّة والمزيد من كَرَامَة سيدهم ومالكهم وَهَذَا امْر يشْهد بِهِ الْحس والعيان واما توكيلهم بهَا فَهُوَ يتَضَمَّن توفيقهم للايمان بهَا وَالْقِيَام بحقوقها ومراعاتها والذب عَنْهَا والنصيحة لَهَا كَمَا يُوكل الرجل غَيره بالشَّيْء ليقوم بِهِ ويتعهده ويحافظ عَلَيْهِ وَبهَا الاولى مُتَعَلقَة بوكلنا وَبهَا الثَّانِيَة مُتَعَلقَة بكافرين وَالْبَاء فِي بكافرين لتأكيد النَّفْي فَإِن قلت فَهَل يَصح ان يُقَال لَاحَدَّ هَؤُلَاءِ المؤكلين انه وَكيل الله بِهَذَا الْمَعْنى كَمَا يُقَال ولي الله قلت لَا يلْزم من إِطْلَاق فعل التَّوَكُّل الْمُقَيد بِأَمْر مَا إِن يصاغ مِنْهُ اسْم فَاعل مُطلق كَمَا انه لَا يلْزم من اطلاق فعل الِاسْتِخْلَاف الْمُقَيد ان قَالَ خَليفَة الله لقَوْله ويستخلفكم فِي الارض وَقَوله وعد الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم وَعمِلُوا الصَّالِحَات ليَستَخْلِفنهم فِي الارض كَمَا اسْتخْلف الَّذين من قبلهم فَلَا يُوجب هَذَا الِاسْتِخْلَاف ان يُقَال لكل مِنْهُم انه خَليفَة الله لانه اسْتِخْلَاف مُقَيّد وَلما قيل للصديق يَا خَليفَة الله قَالَ لست بخليفة الله وَلَكِنِّي خَليفَة رَسُول الله وحسبي ذَلِك وَلَكِن يسوغ ان يُقَال هُوَ وَكيل بذلك كَمَا قَالَ تَعَالَى فقد وكلنَا بهَا قوما وَالْمَقْصُود ان هَذَا التَّوْكِيل خَاص بِمن قَامَ بهَا علما وَعَملا وجهادا لاعدائها وذبا عَنْهَا ونفيا لتحريف الغالين وانتحال المبطلين وَتَأْويل الْجَاهِلين وايضا فَهُوَ تَوْكِيل رَحْمَة وإحسان وتوفيق واختصاص لَا تَوْكِيل حَاجَة كَمَا يُوكل الرجل من يتَصَرَّف عَنهُ فِي غيبته لحَاجَة اليه وَلِهَذَا قَالَ بعض السّلف فقد وكلنَا بهَا قوما يَقُول رزقناها قوما فَلهَذَا لَا يُقَال لمن رزقها ورحم بهَا انه وَكيل لله وَهَذَا بِخِلَاف اشتقاق ولي الله من الْمُوَالَاة فانها الْمحبَّة والقرب فَكَمَا يُقَال عبد الله وحبيبه يُقَال وليه وَالله تَعَالَى يوالي عَبده إحسانا اليه وجبرا لَهُ ورحمه بِخِلَاف الْمَخْلُوق فَإِنَّهُ يوالي الْمَخْلُوق لتعززه بِهِ وتكثره بموالاته لذل العَبْد وَحَاجته واما الْعَزِيز الْغَنِيّ فَلَا يوالي احدا من ذل وَلَا حَاجَة قَالَ تَعَالَى وَقل الْحَمد لله الَّذِي

ص: 162