الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والعلوم من الْبناء والهندسة والطب بل ولاحياكة والخياطة والنجارة إِذا رام الِاعْتِرَاض بعقله الْفَاسِد على اربابها فِي شَيْء من الاتهم وصنائعهم وترتيب صناعتهم فخفيت عَلَيْهِ فَجعل كل مَا خَفِي عَلَيْهِ مِنْهَا شَيْء قَالَ هَذَا لَا فَائِدَة فِيهِ وَأي حِكْمَة تَقْتَضِيه هَذَا مَعَ ان ارباب الصَّنَائِع بشر مثله يُمكنهُ ان يشاركهم فِي صنائعهم ويفوقهم فِيهَا فَمَا الظَّن بِمن بهرت حكمته الْعُقُول الَّذِي لَا يُشَارِكهُ مشارك فِي حكمته كَمَا لايشاركه فِي خلقه فَلَا شريك لَهُ بِوَجْه فَمن ظن ان يكتال حكمته بِمِكْيَال عقله اَوْ يَجْعَل عقله عيارا عَلَيْهَا فَمَا ادركه اقربه وَمَا لم يُدْرِكهُ نَفَاهُ فَهُوَ من اجهل الْجَاهِلين وَللَّه فِي كل مَا خَفِي على النَّاس وَجه الْحِكْمَة فِيهِ حكم عديدة لاتدفع وَلَا تنكر فَاعْلَم الان ان تَحت منابت هَذِه الشُّعُور من الْحَرَارَة والرطوبة مَا اقْتَضَت الطبيعة إِخْرَاج هَذِه الشُّعُور عَلَيْهَا الا ترى ان العشب ينبتفي مستنقع الْمِيَاه بعد نضوب المَاء عَنْهَا لما خصت بِهِ من الرُّطُوبَة وَلِهَذَا كَانَت هَذِه الْمَوَاضِع من ارطب مَوَاضِع الْبدن وَهِي اقبل لنبات الشّعْر وأهيأ فَدفعت الطبيعة تِلْكَ الفضلات والرطوبات الى خَارج فَصَارَت شعرًا وَلَو حبست فِي دَاخل الْبدن لاضرته وآذت بَاطِنه فخروجها عين مصلحَة الْحَيَوَان واحتباسها إِنَّمَا يكون لنَقص وَآفَة فِيهِ وَهَذَا كخروج دم الْحيض من الْمَرْأَة فَإِنَّهُ عين مصلحتها وكمالها وَلِهَذَا يكون احتباسه لفساد فِي الطبيعة وَنقص فِيهَا الا ترى ان من احْتبسَ عَنهُ شعر الرَّأْس واللحية بعد إبانه كَيفَ ترَاهُ نَاقص الطبيعة نَاقص الْخلقَة ضَعِيف التَّرْكِيب فَإِذا شاهدت ذَلِك فِي الشّعْر الَّذِي عرفت بعض حكمته فمالك لاتعتبره فِي الشّعْر الَّذِي خفيت عَلَيْك حكمته وَمن جعل الرِّيق يجْرِي دَائِما الى الْفَم لَا يَنْقَطِع عَنهُ ليبل الْحلق واللهوات ويسهل الْكَلَام ويسيغ الطَّعَام قَالَ بقراط الرُّطُوبَة فِي الْفَم مَطِيَّة الْغذَاء فَتَأمل حالك عِنْد مَا يجِف ريقك بعض الْجَفَاف ويقل ينبوع هَذِه الْعين الَّتِي لَا يسْتَغْنى عَنهُ
فصل ثمَّ تَأمل حِكْمَة الله تَعَالَى فِي كَثْرَة بكاء الاطفال وَمَا لَهُم فِيهِ
من الْمَنْفَعَة فَإِن الاطباء والطبائعيين شهدُوا مَنْفَعَة ذَلِك وحكمته وَقَالُوا فِي أدمغة الاطفال رُطُوبَة لَو بقيت فِي أدمغتهم لاحدثت احداثا عَظِيمَة فالبكاء يسيل ذَلِك ويحدره من ادمغتهم فتقوى ادمغتهم وَتَصِح وايضا فَإِن الْبكاء والعياط يُوسع عَلَيْهِ مجاري النَّفس وَيفتح الْعُرُوق ويصابها ويقوى الاعصاب وَكم للطفل من مَنْفَعَة ومصلحة فِيمَا تسمعه من بكائه وصراخه فَإِذا كَانَت هَذِه الْحِكْمَة فِي الْبكاء الَّذِي سَببه وُرُود الالم المؤذي وَأَنت لَا تعرفها وَلَا تكَاد تخطر ببالك فَهَكَذَا ايلام الاطفال فِيهِ وَفِي اسبابه وعواقبه الحميدة من الحكم مَا قد خَفِي على اكثر النَّاس واضطرب عَلَيْهِم الْكَلَام فِي حكمه اضْطِرَاب الارشية وسلكوا فِي هَذَا الْبَاب مسالك فَقَالَت
طَائِفَة لَيْسَ الا مَحْض الْمَشِيئَة الْعَارِية عَن الْحِكْمَة والغاية الْمَطْلُوبَة وسدوا على انفسهم هَذَا الْبَاب جملَة وَكلما سئلوا عَن شَيْء اجابوا بِلَا يسال عَمَّا يفعل وَهَذَا من اصدق الْكَلَام وَلَيْسَ المُرَاد بِهِ نفي حكمته تَعَالَى وعواقب افعاله الحميدة وغاياتها الْمَطْلُوبَة مِنْهَا وَإِنَّمَا المُرَاد بالاية إِفْرَاده بالالهية والربوبية وَإنَّهُ لكَمَال حكمته لَا معقب لحكمه وَلَا يعْتَرض عَلَيْهِ بالسؤال لانه لَا يفعل شَيْئا سدى وَلَا خلق شَيْئا عَبَثا وَإِنَّمَا يسْأَل عَن فعله من خرج عَن الصَّوَاب وَلم يكن فِيهِ مَنْفَعَة وَلَا فَائِدَة الا ترى الى قَوْله ام اتَّخذُوا آلِهَة من الارض هم ينشرون لَو كَانَ فيهمَا آلِهَة الا الله لفسدتا فسبحان الله رب الْعَرْش عَمَّا يصفونَ لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم يسئلون كَيفَ سَاق الاية فِي الانكار على من اتخذ من دونه آلِهَة لَا تساويه فسواها بِهِ مَعَ اعظم الْفرق فَقَوله لَا يسْأَل عَمَّا يفعل اثبات لحقيقة الالهية وإفراده لَهُ بالربوبية والالهية وَقَوله وهم يسْأَلُون فِي صَلَاح تِلْكَ الالهة المتخذة للالهية فإنهامسئولة مربوبة مُدبرَة فَكيف يسوى بَينهَا وَبَينه مَعَ اعظم الْفرْقَان فَهَذَا الَّذِي سيق لَهُ الْكَلَام فَجَعلهَا الجبرية ملْجأ ومعقلا فِي إِنْكَار حكمته وتعليل أَفعاله بغاياتها المحمودة وعواقبها السديدة وَالله الْمُوفق للصَّوَاب وَقَالَت طَائِفَة الْحِكْمَة فِي ابتلائهم تعويضهم فِي الاخرة بالثواب التَّام فَقيل لَهُم قد كَانَ يُمكن ايصال الثَّوَاب اليهم بِدُونِ هَذَا الايلام فَأَجَابُوا بِأَن توَسط الايلام فِي حَقهم كتوسط التكاليف فِي حق الْمُكَلّفين فَقيل لَهُم فَهَذَا ينْتَقض عَلَيْكُم بإيلام اطفال الْكفَّار فَأَجَابُوا بِأَنا لَا نقُول انهم فِي النَّار كَمَا قَالَه من قَالَه من النَّاس وَالنَّار لَا يدخلهَا اُحْدُ الا بذنب وَهَؤُلَاء لَا ذَنْب لَهُم وَكَذَا الْكَلَام مَعَهم فِي مسئلة الاطفال وَالْحجاج فِيهَا من الْجَانِبَيْنِ بِمَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه فأورد عَلَيْهِم مَالا جَوَاب لَهُم عَنهُ وَهُوَ إيلام اطفالهم الَّذين قدر بلوغهم وموتهم على الْكفْر فَإِن هَذَا لَا تعويض فِيهِ قطعا وَلَا هُوَ عُقُوبَة على الْكفْر فَإِن الْعقُوبَة لَا تكون سلفا وتعجيلا فحاروا فِي هَذَا الْموضع واضطربت اصولهم وَلم يَأْتُوا بِمَا يقبله الْعقل وَقَالَت طَائِفَة ثَالِثَة هَذَا السُّؤَال لَو تَأمله مورده لعلم انه سَاقِط وَأَن تكلّف الْجَواب عَنهُ الزام مَالا يلْزم فَإِن هَذِه الالام وتوابعها وأسبابها من لَوَازِم النشأة الانسانية الَّتِي لم يخلق منفكا عَنْهَا فَهِيَ كَالْحرِّ وَالْبرد والجوع والعطش والتعب وَالنّصب والهم وَالْغَم والضعيف وَالْعجز فالسؤال عَن حكم الْحَاجة الى الاكل عِنْد الْجُوع وَالْحَاجة الى الشّرْب عِنْد الظمأ والى النّوم والراحة عِنْد التَّعَب فَإِن هَذِه الالام هِيَ من لَوَازِم النشأة الانسانية الَّتِي لَا يَنْفَكّ عَنْهَا الانسان وَلَا الْحَيَوَان فَلَو تجرد عَنْهَا لم يكن انسانا بل كَانَ ملكا اَوْ خلقا آخر وَلَيْسَت آلام الاطفال باصعب من آلام الْبَالِغين لَكِن لما صَارَت لَهُم عَادَة سهل موقعها عِنْدهم وَكم بَين مَا يقاسيه الطِّفْل ويعانيه الْبَالِغ الْعَاقِل وكل ذَلِك من مُقْتَضى الانسانية وَمُوجب الْخلقَة فَلَو لم يخلق كَذَلِك لَكَانَ خلقا آخر فَيرى
ان الطِّفْل اذا جَاع اَوْ عَطش اَوْ برد اَوْ تَعب قد خص من ذَلِك بِمَا لم يمْتَحن بِهِ الْكَبِير فإيلامه بِغَيْر ذَلِك من الاوجاع والاسقام كإيلامه بِالْجُوعِ والعطش وَالْبرد والحردون ذَلِك اَوْ فَوْقه وَمَا خلق الانسان بل الْحَيَوَان الا على هَذِه النشأة قَالُوا فَإِن سَأَلَ سَائل وَقَالَ فَلم خلق كَذَلِك وهلا خلق خلقَة غير قَابِلَة للألم فَهَذَا سُؤال فَاسد فَإِن الله تَعَالَى خلقه فِي عَالم الِابْتِلَاء والامتحان من مَادَّة ضَعِيفَة فَهِيَ عرضة للآفات وركبة تركيبا معرضًا للأنواع من الالام وَجعل فِيهِ الاخلاط الاربعة الَّتِي لَا قوام لَهُ إِلَّا بهَا وَلَا يكون الا عَلَيْهَا وَهِي لَا محَالة توجب امتزاجا واختلاطا وتفاعلا يبغى بَعْضهَا على بعض بكيفيته تَارَة وبكميته تَارَة وَبِهِمَا تَارَة وَذَلِكَ مُوجب للالام قطعا وَوُجُود الْمَلْزُوم بِدُونِ لَازمه محَال ثمَّ انه سُبْحَانَهُ ركب فِيهِ من القوى والشهوة والارادة مَا يُوجب حركته الدائبة وسعيه فِي طلب مَا يصلحه دفع مَا يضرّهُ بِنَفسِهِ تَارَة وبمن يُعينهُ تَارَة فاحوج النَّوْع بعضه الى بعض فَحدث من ذَلِك الِاخْتِلَاط بَينهم وبغى بَعضهم على بعض فَحدث من ذَلِك الالام والشرور بِنَحْوِ مَا يحدث من امتزاج اخلاطه واختلاطها وبغى بَعْضهَا على بعض والالام لَا تتخلف عَن هَذَا الامتزاج ابدا الا فِي دَار الْبَقَاء وَالنَّعِيم الْمُقِيم لَا فِي دَار الِابْتِلَاء والامتحان فَمن ظن ان الْحِكْمَة فِي ان تجْعَل خَصَائِص تِلْكَ الدَّار فِي هَذِه فقد ظن بَاطِلا بل الْحِكْمَة التَّامَّة الْبَالِغَة اقْتَضَت ان تكون هَذِه الدَّار ممزوجة عَافِيَتهَا ببلائها وراحتها بعنائها ولذتها بآلامها وصحتها بسقمها وفرحها بغمها فَهِيَ دَار ابتلاء تدفع بعض آفاتها بِبَعْض كَمَا قَالَ الْقَائِل:
اصبحت فِي دَار بليات
…
ادْفَعْ آفَات بآفات وَلَقَد صدق فَإنَّك إِذا فَكرت فِي الاكل وَالشرب واللباس وَالْجِمَاع والراحة وَسَائِر مَا يستلذ بِهِ رَأَيْته يدْفع بهَا مَا قابله من الالام والبليات افلا تراك تدفع بالاكل الم الْجُوع وبالشرب الم الْعَطش وباللباس الم الْحر وَالْبرد وَكَذَا سائرها وَمن هُنَا قَالَ بعض الْعُقَلَاء ان لذاتها لنا هِيَ دفع الالام لَا غير فاما اللَّذَّات الْحَقِيقِيَّة فلهَا دَار اخرى وَمحل آخر غير هَذِه فوجود هَذِه الالام وَاللَّذَّات الممتزجة المختلطة من الادلة على الْمعَاد وَأَن الْحِكْمَة الَّتِي اقْتَضَت ذَلِك هِيَ اولى باقتضاء دارين دَار خَالِصَة للذات لَا يشوبها الم مَا وَدَار خَالِصَة للالام لَا يشوبها لَذَّة مَا وَالدَّار الاولى الْجنَّة وَالدَّار الثَّانِيَة النَّار أَفلا ترى كَيفَ دلك ذَلِك مَعَ مَا انت مجبول عَلَيْهِ فِي هَذِه النشأة من اللَّذَّة والالم على الْجنَّة وَالنَّار ورايت شواهدهما وأدلة وجودهما من نَفسك حَتَّى كَأَنَّك تعاينهما عيَانًا وَانْظُر كَيفَ دلّ العيان والحس والوجود على حِكْمَة الرب تَعَالَى وعَلى صدق رسله فِيمَا اخبروا بِهِ من الْجنَّة وَالنَّار فَتَأمل كَيفَ قاد النّظر فِي حِكْمَة الله الى شَهَادَة الْعُقُول وَالْفطر بِصدق رسله وَمَا اخبروا
بِهِ تَفْصِيلًا يدل عَلَيْهِ الْعقل مُجملا فَأَيْنَ هَذَا من مقَام من اداء علمه الى الْمُعَارضَة بَين مَا جَاءَت بِهِ الرُّسُل وَبَين شَوَاهِد الْعقل وأدلته وَلَكِن تِلْكَ الْعُقُول كادها باريها ووكلها الى انفسها فَحلت بهَا عَسَاكِر الخذلان من كل جَانب وحسبك بِهَذَا الْفَصْل وعظيم منفعَته من هَذَا الْكتاب وَالله الْمَحْمُود المسؤل تَمام نعْمَته فَهَذِهِ كَلِمَات مختصرة نافعة فِي مَسْأَلَة إيلام الاطفال لَعَلَّك لَا تظفر بهَا فِي أَكثر الْكتب فَارْجِع الان الى نَفسك وفكر فِي هَذِه الافعال الطبيعية الَّتِي جعلت فِي الانسان وَمَا فِيهَا من الْحِكْمَة وَالْمَنْفَعَة وَمَا جعل لكل وَاحِد مِنْهَا فِي الطَّبْع الْمُجَرّد والداعي الَّذِي يَقْتَضِيهِ ويستحثه فالجوع يستحث الاكل ويطلبه لما فِيهِ من قوام الْبدن وحياته ومماته والكرى يقتضى النّوم ويستحثه لما فِيهِ من رَاحَة الْبدن والاعضاء واجمام القوى وعودها الى قوتها جَدِيدَة غير كالة والشبق يَقْتَضِي الْجِمَاع الَّذِي بِهِ دوَام النَّسْل وقضاءالوطر وَتَمام اللَّذَّة فتجد هَذِه الدَّوَاعِي تستحث الانسان لهَذِهِ الامور وتتقاضاها مِنْهُ بِغَيْر اخْتِيَاره وَذَلِكَ عين الْحِكْمَة فَإِنَّهُ لَو كَانَ الانسان إِنَّمَا يَسْتَدْعِي هَذِه المستحثات إِذا اراد لَأَوْشَكَ ان يشْتَغل عَنْهَا بماي يعروه من الْعَوَارِض مُدَّة فينحل بدنه وَيهْلك ويترامى الى الْفساد وَهُوَ لَا يشْعر كَمَا إِذا احْتَاجَ بدنه الى شَيْء من الدَّوَاء وَالصَّلَاح فدافعه وَأعْرض عَنهُ حَتَّى إِذا استحكم بِهِ الدَّاء اهلكه فاقتضت حِكْمَة اللَّطِيف الْخَبِير ان جعلت فِيهِ بواعث ومستحثات تؤزه ازا الى مَا فِيهِ قوامه وبقاؤه ومصلحته وَترد عَلَيْهِ بِغَيْر اخْتِيَاره وَلَا استدعائه فَجعل لكل وَاحِد من هَذِه الافعال محرك من نفس الطبيعة يحركه ويحدوه عَلَيْهِ ثمَّ انْظُر الى مَا يُعْطِيهِ من القوى الْمُخْتَلفَة الَّتِي بهَا قوامه فَأعْطى الْقُوَّة الجاذبة الطالبة المستحثة الَّتِي تَقْتَضِي معلومها من الْغذَاء فتأخذه ويورده على الاعضاء بِحَسب قبُولهَا ثمَّ اعطى الْقُوَّة الممسكة الَّتِي تمسك الطَّعَام وتحبسه ريثما تنضجه الطبيعة وتحكم طبخه وتهيؤه لمصارفه وتبعثه لمستحقه ثمَّ اعطى الْقُوَّة الهاضمة الَّتِي تصرفه فِي الْبدن وتهضمه عَن الْمعدة ثمَّ اعطى الْقُوَّة الدافعة وَهِي الَّتِي تدفع ثقله ومالا مَنْفَعَة فِيهِ فتدفعه وتخرجه عَن الْبدن لِئَلَّا يُؤْذِيه وينهكه فَمن اعطاك هَذِه الْقُوَّة عِنْد شدَّة حَاجَتك اليها وَمن جعلهَا خَادِمًا لَك وَمن اعطاها افعالها وَاسْتعْمل كل وَاحِد مِنْهَا على غير عمل الاخر وَمن الف بَينهَا على تباينها حَتَّى اجْتمعت فِي شخص وَاحِد وَمحل وَاحِد وَلَو عادى بَينهَا كَانَ بَعْضهَا يذهب بَعْضًا فَمن كَانَ يحول بَينه وَبَين ذَلِك فلولا الْقُوَّة الجاذبة كَيفَ كنت متحركا لطلب الْغذَاء الَّذِي بِهِ قوام الْبدن وَلَوْلَا الممسكة كَيفَ كَانَ الطَّعَام يذهب فِي الْجوف حَتَّى تهضمه الْمعدة وَلَوْلَا الهاضمة كَيفَ كَانَ يطْبخ حَتَّى يخلص مِنْهُ الصفو الى سَائِر اجزاء الْبدن وأعماقه وَلَوْلَا الدافعة كَيفَ كَانَ الثّقل المؤذي الْقَاتِل لَو انحبس يخرج اولا فأولا فيستريح الْبدن فيخف
وينشط فَتَأمل كَيفَ وكلت هَذِه الْقُوَّة بك وَالْقِيَام بمصالحك فالبدن كدار اللملك فِيهَا حشمه وخدمه قد وكل بِتِلْكَ الدَّار اقواما يقومُونَ بمصالحها فبعضهم لاقْتِضَاء حوائجها وإيرادها عَلَيْهَا وَبَعْضهمْ لقبض الْوَارِد وحظفه وخزنه الى ان يهيأ وَيصْلح وَبَعْضهمْ يقبضهُ فيهيؤه ويصلحه ويدفعه الى اهل الدَّار ويفرقه عَلَيْهِم بِحَسب حاجاتهم وَبَعْضهمْ لمسح الدَّار وتنظيفها وكنسها من الْمَزَابِل والاقذار فالملك هُوَ الْملك الْحق الْمُبين جل جلاله وَالدَّار انت والحشم والخدم الاعضاء والجوارح والقوام عَلَيْهَا هَذِه القوى الَّتِي ذَكرنَاهَا تَنْبِيه فرق بَين نظر الطَّبِيب والطبائعي فِي هَذِه الامور فنظرهما فيهامقصور على النّظر فِي حفظ الصِّحَّة وَدفع السقم فَهُوَ ينظر فيهامن هَذِه الْجِهَة فَقَط وَبَين نظر الْمُؤمن الْعَارِف فِيهَا فَهُوَ ينظر فِيهَا من جِهَة دلالتها على خَالِقهَا وباريها وَمَاله فِيهَا من الحكم الْبَالِغَة وَالنعَم السابغة والالاء الَّتِي دَعَا الْعباد الى شكرها وَذكرهَا
تَنْبِيه ثمَّ تَأمل حِكْمَة الله عز وجل فِي الْحِفْظ وَالنِّسْيَان الَّذِي خص بِهِ نوع الانسان وَمَاله فيهمَا من الحكم وَمَا للْعَبد فيهمَا من الْمصَالح فَإِنَّهُ لَوْلَا الْقُوَّة الحافظة الَّتِي خص بهَا لدخل عَلَيْهِ الْخلَل فِي أُمُوره كلهَا وَلم يعرف مَاله وَمَا عَلَيْهِ وَلَا مَا اخذ وَلَا مَا اعطى وَلَا مَا سمع وَرَأى وَلَا مَا قَالَ وَلَا مَا قيل لَهُ وَلَا ذكر من احسن اليه وَلَا من اساء اليه وَلَا من عَامله وَلَا من نَفعه فَيقرب مِنْهُ وَلَا من ضره فينأى عَنهُ ثمَّ كَانَ لايهتدي الى الطَّرِيق الَّذِي سلكه اول مرّة وَلَو سلكه مرَارًا وَلَا يعرف علما وَلَو درسه عمره وَلَا ينْتَفع بتجربة وَلَا يَسْتَطِيع ان يعْتَبر شَيْئا على مَا مضى بل كَانَ خليقا ان يَنْسَلِخ من الانسانية اصلا فَتَأمل عَظِيم الْمَنْفَعَة عَلَيْك فِي هَذِه الْخلال وموقع الْوَاحِدَة مِنْهَا فضلا عَن جَمِيعهنَّ وَمن اعْجَبْ النعم عَلَيْهِ نعْمَة النسْيَان فَإِنَّهُ لَوْلَا النسْيَان لما سلا شَيْئا وَلَا انْقَضتْ لَهُ حسرة وَلَا تعزى عَن مُصِيبَة وَلَا مَاتَ لَهُ حزن وَلَا بَطل لَهُ حقد وَلَا تمتّع بِشَيْء من مَتَاع الدُّنْيَا مَعَ تذكر الافات وَلَا رجا غَفلَة عَدو وَلَا نقمة من حَاسِد فَتَأمل نعْمَة الله فِي الْحِفْظ وَالنِّسْيَان مَعَ اخْتِلَافهمَا وتضادهما وَجعله فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا ضربا من الْمصلحَة تَنْبِيه ثمَّ تَأمل هَذَا الْخلق الَّذِي خص بِهِ الانسان دون جَمِيع الْحَيَوَان وَهُوَ خلق الْحيَاء الَّذِي هُوَ من افضل الاخلاق واجلها واعظمها قدرا واكثرها نفعا بل هُوَ خَاصَّة الانسانية فَمن لَا حَيَاء فِيهِ لَيْسَ مَعَه من الانسانية الا اللَّحْم وَالدَّم وصورتهم الظَّاهِرَة كَمَا انه لَيْسَ مَعَه من الْخَيْر شَيْء وَلَوْلَا هذاالخلق لم يقر الضَّيْف وَلم يوف بالوعد وَلم يؤد امانة وَلم يقْض لَاحَدَّ حَاجَة وَلَا تحرى الرجل الْجَمِيل فآثره والقبيح فتجنبه وَلَا ستر لَهُ عَورَة وَلَا امْتنع من فَاحِشَة وَكثير من النَّاس لَوْلَا الْحيَاء الَّذِي فِيهِ لم يؤد شَيْئا من الامور المفترضة عَلَيْهِ وَلم يرع لمخلوق
حَقًا وَلم يصل لَهُ رحما وَلَا بر لَهُ والدا فَإِن الْبَاعِث على هَذِه الافعال إِمَّا ديني وَهُوَ رَجَاء عَاقبَتهَا الحميدة وَإِمَّا دُنْيَوِيّ علوي وَهُوَ حَيَاء فاعلها من الْخلق قد تبين انه لَوْلَا الْحيَاء إِمَّا من الْخَالِق اَوْ من الْخَلَائق لم يَفْعَلهَا صَاحبهَا وَفِي التِّرْمِذِيّ وَغَيره مَرْفُوعا اسْتَحْيوا من الله حق الْحيَاء قَالُوا وَمَا حق الْحيَاء قَالَ ان تحفظ الراس وَمَا حوى والبطن وَمَا وعى وتذكر الْمَقَابِر والبلى وَقَالَ إِذا لم تستح فَاصْنَعْ مَا شِئْت وَأَصَح الْقَوْلَيْنِ فِيهِ قَول ابي عبيد والاكثرين انه تهديد كَقَوْلِه تَعَالَى {اعْمَلُوا مَا شِئْتُم} وَقَوله {كلوا وتمتعوا قَلِيلا} وَقَالَت طَائِفَة هُوَ إِذن وَإِبَاحَة وَالْمعْنَى إِنَّك اذا اردت ان تفعل فعلا فَانْظُر قبل فعله فَإِن كَانَ مِمَّا يستحيا فِيهِ من الله وَمن النَّاس فَلَا تَفْعَلهُ وَإِن كَانَ مِمَّا لَا يستحيا مِنْهُ فافعله فَإِنَّهُ لَيْسَ بقبيح وَعِنْدِي ان هَذَا الْكَلَام صُورَة صرة الطّلب وَمَعْنَاهُ معنى الْخَبَر وَهُوَ فِي قُوَّة قَوْلهم من لَا يستحى صنع مَا يشتهى فَلَيْسَ بِإِذن وَلَا هُوَ مُجَرّد تهديد وَإِنَّمَا هُوَ فِي معنى الْخَبَر وَالْمعْنَى ان الرادع عَن الْقَبِيح إِنَّمَا هُوَ الْحيَاء فَمن لم يستح فَإِنَّهُ يصنع ماشاء وَإِخْرَاج هَذَا الْمَعْنى فِي صِيغَة الطّلب لنكته بديعة جدا وَهِي ان للانسان آمرين وزاجرين آمروزاجر من جِهَة الْحيَاء فَإِذا اطاعه امْتنع من فعل كل مَا يَشْتَهِي وَله آمُر وزاجر من جِهَة الْهوى والطبيعة فَمن لم يطع آمُر الْحيَاء وزاجره اطاع آمُر الْهوى والشهوة وَلَا بُد فإخراج الْكَلَام فِي قالب الطّلب يتَضَمَّن هَذَا الْمَعْنى دون ان يُقَال من لَا يستحي صنع مَا يَشْتَهِي
تَنْبِيه ثمَّ تَأمل نعْمَة الله على الانسان بالبيانين الْبَيَان النطقي وَالْبَيَان الخطي وَقد اعْتد بهما سُبْحَانَهُ فِي جملَة من اعْتد بِهِ من نعمه على العَبْد فَقَالَ فِي أول سُورَة انزلت على رَسُول الله {اقْرَأ باسم رَبك الَّذِي خلق خلق الْإِنْسَان من علق اقْرَأ وَرَبك الأكرم الَّذِي علم بالقلم علم الْإِنْسَان مَا لم يعلم} فَتَأمل كَيفَ جمع فِي هَذِه الْكَلِمَات مَرَاتِب الْخلق كلهَا وَكَيف تَضَمَّنت مَرَاتِب الوجودات الاربعة بأوجز لفظ واوضحه واحسنه فَذكر أَولا عُمُوم الْخلق وَهُوَ إعطاءالوجود الْخَارِجِي ثمَّ ذكر ثَانِيًا خُصُوص خلق الانسان لانه مَوضِع الْعبْرَة والاية فِيهِ عَظِيمَة وَمن شُهُوده عَمَّا فِيهِ مَحْض تعدد النعم وَذكر مَادَّة خلقه هَا هُنَا من الْعلقَة وَفِي سَائِر الْمَوَاضِع يذكر مَا هُوَ سَابق عَلَيْهَا إِمَّا مَادَّة الاصل وَهُوَ التُّرَاب والطين اَوْ الصلصال الَّذِي كالفخار اَوْ مَادَّة الْفَرْع وَهُوَ المَاء المهين وَذكر فِي هَذَا الْموضع اول مبادئ تعلق التخليق وَهُوَ الْعلقَة فَإِنَّهُ كَانَ قبلهَا نُطْفَة فَأول انتقالها إِنَّمَا هُوَ الى الْعلقَة ثمَّ ذكر ثَالِثا التَّعْلِيم بالقلم الَّذِي هُوَ من اعظم نعمه على عباده إِذْ بِهِ تخلد الْعُلُوم وَتثبت الْحُقُوق وَتعلم الْوَصَايَا وَتحفظ الشَّهَادَات ويضبط حِسَاب الْمُعَامَلَات الْوَاقِعَة بَين النَّاس وَبِه تقيد اخبار الماضين للباقين اللاحقين وَلَوْلَا الْكِتَابَة لانقطعت اخبار بعض الازمنة عَن بعض ودرست السّنَن وتخبطت الاحكام وَلم يعرف
الْخلف مَذَاهِب السّلف وَكَانَ مُعظم الْخلَل الدَّاخِل على النَّاس فِي دينهم ودنياهم إنمايعتريهم من النسْيَان الَّذِي يمحو صور الْعلم من قُلُوبهم فَجعل لَهُم الْكتاب وعَاء حَافِظًا للْعلم من الضّيَاع كالأوعية الَّتِي تحفظ الامتعة من الذّهاب والبطلان فنعمة الله عَن وَجل بتعليم الْقَلَم بعد الْقُرْآن من اجل النعم والتعليم بِهِ وَإِن كَانَ مِمَّا يخلص اليه الانسان بالفطنة وَالْحِيلَة فَإِنَّهُ الَّذِي بلغ بِهِ ذَلِك وأوصله اليه عَطِيَّة وَهبهَا الله مِنْهُ وَفضل اعطاه الله إِيَّاه وَزِيَادَة فِي خلقه وفضله فَهُوَ الَّذِي علمه الْكِتَابَة وَإِن كَانَ هُوَ المتعلم فَفعله فعل مُطَاوع لتعليم الَّذِي علم بالقلم فَإِن علمه فتعلم كَمَا انه علمه الْكَلَام فَتكلم هَذَا وَمن اعطاه الذِّهْن الَّذِي يعي بِهِ وَاللِّسَان الَّذِي يترجم بِهِ والبنان الَّذِي يحط بِهِ وَمن هيأ ذهنه لقبُول هَذَا التَّعْلِيم دون سَائِر الْحَيَوَانَات وَمن الَّذِي انطق لِسَانه وحرك بنانه وَمن الَّذِي دعم البنان بالكف ودعم الْكَفّ بالساعد فكم لله من آيَة نَحن غافلون عَنْهَا فِي التَّعَلُّم بالقلم فقف وَقْفَة فِي حَال الْكِتَابَة وَتَأمل حالك وَقد امسكت الْقَلَم وَهُوَ جماد وَضعته على القرطاس وَهُوَ جماد فتولد من بَينهمَا انواع الحكم واصناف الْعُلُوم وفنون المراسلات والخطب وَالنّظم والنثر وجوابات الْمسَائِل فَمن الَّذِي اجرى فلك الْمعَانِي على قَلْبك ورسمها فِي ذهنك ثمَّ اجرى الْعبارَات الدَّالَّة عَلَيْهَا على لسَانك ثمَّ حرك بهَا بنانك حَتَّى صَارَت نقشا عجيبا مَعْنَاهُ اعْجَبْ من صورته فتقضى بِهِ مآربك وتبلغ بِهِ حَاجَة فِي صدرك وترسله الى الاقطار النائية والجهات المتباعدة فَيقوم مقامك ويترجم عَنْك وَيتَكَلَّم على لسَانك وَيقوم مقَام رَسُولك ويجدي عَلَيْك مَالا يجدي من ترسله سوى من علم بالقلم علم الانسان مَا لم يعلم والتعليم بالقلم يتسلزم الْمَرَاتِب الثَّلَاثَة مرتبَة الْوُجُود الذهْنِي والوجود اللَّفْظِيّ والوجود الرسمي فقد دلّ التَّعْلِيم بالقلم على انه سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُعْطِي لهَذِهِ الْمَرَاتِب وَدلّ قَوْله خلق على انه يعْطى الْوُجُود الْعَيْنِيّ فدلت هَذِه الايات مَعَ اختصارها ووجازتها وفصاحتها على ان مَرَاتِب الْوُجُود بأسرها مُسندَة اليه تَعَالَى خلقا وتعليما وَذكر خلقين وتلعيمين خلقا عَاما وخلقا خَاصّا وتعليما خَاصّا وتعليما عَاما وَذكر من صِفَاته هَا هُنَا اسْم الاكرم الَّذِي فِيهِ كل خير وكل كَمَال فَلهُ كل كَمَال وَصفا وَمِنْه كل خير فعلا فَهُوَ الاكرم فِي ذَاته وأوصافه وأفعاله وَهَذَا الْخلق والتعليم إِنَّمَا نَشأ من كرمه وبره وإحسانه لَا من حَاجَة دَعَتْهُ الى ذَلِك وَهُوَ الْغَنِيّ الحميد وَقَوله تَعَالَى {الرَّحْمَن علم الْقُرْآن خلق الْإِنْسَان علمه الْبَيَان} دلّت هَذِه الْكَلِمَات على إِعْطَائِهِ سُبْحَانَهُ مَرَاتِب الْوُجُود بأسرها فَقَوله خلق الانسان إِخْبَار عَن الايجاد الْخَارِجِي الْعَيْنِيّ وَخص الانسان بالخلق لما تقدم وَقَوله علم الْقُرْآن إِخْبَار عَن إِعْطَاء الْوُجُود العلمي الذهْنِي فَإِنَّمَا تعلم الانسان الْقُرْآن بتعليمه كَمَا انه إِنَّمَا صَار إنْسَانا بخلقه فَهُوَ الَّذِي خلقه وَعلمه ثمَّ قَالَ علمه الْبَيَان وَالْبَيَان يتَنَاوَل مَرَاتِب راتب ثَلَاثَة كل مِنْهَا يُسمى بَيَانا احدها الْبَيَان الذهْنِي الَّذِي يُمَيّز فِيهِ بَين المعلومات الثَّانِي الْبَيَان
اللَّفْظِيّ الَّذِي يعبر بِهِ عَن تِلْكَ المعلومات ويترجم عَنْهَا فِيهِ لغيره الثَّالِث الْبَيَان الرسمي الخطي الَّذِي يرسم بِهِ تِلْكَ الالفاظ فيتبين النَّاظر مَعَانِيهَا كَمَا يتَبَيَّن للسامع مَعَاني الالفاظ فَهَذَا بَيَان للعين وَذَاكَ بَيَان للسمع والاول بَيَان للقلب وَكَثِيرًا مَا يجمع سُبْحَانَهُ بَين هَذِه الثَّلَاثَة كَقَوْلِه {إِن السّمع وَالْبَصَر والفؤاد كل أُولَئِكَ كَانَ عَنهُ مسؤولا} وَقَوله {وَالله أخرجكم من بطُون أُمَّهَاتكُم لَا تعلمُونَ شَيْئا وَجعل لكم السّمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تشكرون} ويذم من عدم الِانْتِفَاع بهَا فِي اكْتِسَاب الْهدى وَالْعلم النافع كَقَوْلِه {صم بكم عمي} وَقَوله {ختم الله على قُلُوبهم وعَلى سمعهم وعَلى أَبْصَارهم غشاوة} وَقد تقدم بسط هَذَا الْكَلَام تَنْبِيه ثمَّ تَأمل حِكْمَة اللَّطِيف الْخَبِير فِيمَا اعطى الانسان علمه بِمَا فِيهِ صَلَاح معاشه ومعاده وَمنع عَنهُ علم مَالا حَاجَة لَهُ بِهِ فجهله بِهِ لَا يضر وَعلمه بِهِ لَا ينْتَفع بِهِ انتفاعا طائلا ثمَّ يسر عَلَيْهِ طرق مَا هُوَ مُحْتَاج اليه من الْعلم اتم تيسير وَكلما كَانَت حَاجته اليه من الْعلم اعظم كَانَ تيسيره اياه عَلَيْهِ اتم فاعطاه معرفَة خالقه وبارئه ومبدعه سُبْحَانَهُ والاقرار بِهِ وَيسر عَلَيْهِ طرق هَذِه الْمعرفَة فَلَيْسَ فِي الْعُلُوم مَا هُوَ اجل مِنْهَا وَلَا اظهر عِنْد الْعقل والفطرة وَلَيْسَ فِي طرق الْعُلُوم الَّتِي تنَال بهَا أَكثر من طرقها وَلَا أدل وَلَا ابين وَلَا اوضح فَكلما ترَاهُ بِعَيْنِك اَوْ تسمعه بأذنك اوتعقله بقلبك وَكلما يخْطر ببالك وَكلما نالته حاسة من حواسك فَهُوَ دَلِيل على الرب تبارك وتعالى فطرق الْعلم بالصانع فطرية ضَرُورِيَّة لَيْسَ فِي الْعُلُوم اجلي مِنْهَا وكل مَا اسْتدلَّ بِهِ على الصَّانِع فالعلم بِوُجُودِهِ اظهر من دلَالَته وَلِهَذَا قَالَت الرُّسُل لاممهم افي الله شكّ فخاطبوهم مُخَاطبَة من لَا يَنْبَغِي ان يخْطر لَهُ شكّ مَا فِي وجود الله سُبْحَانَهُ وَنصب من الادلة على وجوده وحدانيته وصفات كَمَاله الادلة على اخْتِلَاف انواعها وَلَا يُطيق حصرها إِلَّا الله ثمَّ ركز ذَلِك فِي الْفطْرَة وَوَضعه فِي الْعقل جملَة ثمَّ بعث الرُّسُل مذكرين بِهِ وَلِهَذَا يَقُول تَعَالَى فَذكر فَإِن الذكرى تَنْفَع الْمُؤمنِينَ وَقَوله {فَذكر إِن نَفَعت الذكرى} وَقَوله {إِنَّمَا أَنْت مُذَكّر} وَقَوله {فَمَا لَهُم عَن التَّذْكِرَة معرضين} وَهُوَ كثير فِي الْقُرْآن ومفصلين لما فِي الْفطْرَة وَالْعقل الْعلم بِهِ جملَة فَانْظُر كَيفَ وجد الاقرار بِهِ وبتوحيده وصفات كَمَاله ونعوت جَلَاله وحكمته فِي خلقه وَأمره الْمُقْتَضِيَة إِثْبَات رِسَالَة رسله ومجازات المحسن بإحسانه والمسيء بإسائته مودعا فِي الْفطْرَة مركوزا فِيهَا فَلَو خليت على مَا خلقت عَلَيْهِ لم يعرض لَهَا مَا يُفْسِدهَا ويحولها ويغيرها عَمَّا فطرت عَلَيْهِ ولأقرت بوحدنيه وَوُجُوب شكره وطاعته وبصفاته وحكمته فِي أَفعاله وبالثواب وَالْعِقَاب وَلكنهَا لما فَسدتْ وانحرفت عَن الْمنْهَج الَّذِي خلقت
عَلَيْهِ انكرت مَا انكرت وجحدت مَا جحدت فَبعث الله رسله مذكرين لاصحاب الْفطر الصَّحِيحَة السليمة فانقادوا طَوْعًا واختيارا ومحبة وإذعانا بِمَا جعل من شَوَاهِد ذَلِك فِي قُلُوبهم حَتَّى ان مِنْهُم من لم يسْأَل عَن المعجزة والخارق بل علم صِحَة الدعْوَة من ذَاتهَا وَعلم انها دَعْوَة حق برهانها فِيهَا ومعذرين ومقيمين الْبَيِّنَة على اصحاب الْفطر الْفَاسِدَة لِئَلَّا نحتج على الله بِأَنَّهُ مَا ارشدها وَلَا هداها فيحق القَوْل عَلَيْهَا بِإِقَامَة الْحجَّة فَلَا يكون سُبْحَانَهُ ظَالِما لَهَا بتعذيبها واشقائها وَقد بَين ذَلِك سُبْحَانَهُ فِي قَوْله {إِن هُوَ إِلَّا ذكر وَقُرْآن مُبين لينذر من كَانَ حَيا ويحق القَوْل على الْكَافرين} فَتَأمل كَيفَ ظَهرت معرفَة الله وَالشَّهَادَة لَهُ بِالتَّوْحِيدِ واثبات اسمائه وَصِفَاته ورسالة رسله والبعث للجزاء مسطورة مثبتة فِي الْفطر وَلم يكن ليعرف بهَا انها ثَابِتَة فِي فطرته فَلَمَّا ذكرته الرُّسُل ونبهته رأى مَا أَخْبرُوهُ بِهِ مُسْتَقرًّا فِي فطرته شَاهدا بِهِ عقله بل وجوارحه ولسان حَاله وَهَذَا اعظم مَا يكون من الايمان وَهُوَ الَّذِي كتبه سُبْحَانَهُ فِي قُلُوب اوليائه وخاصته فَقَالَ {أُولَئِكَ كتب فِي قُلُوبهم الْإِيمَان} فَتدبر هَذَا الْفَصْل فَإِنَّهُ من الْكُنُوز فِي هَذَا الْكتاب وَهُوَ حقيق بِأَن تثنى عَلَيْهِ الخناصر وَللَّه الْحَمد والمنه وَالْمَقْصُود ان الله سُبْحَانَهُ اعطى العَبْد من هَذِه المعارف وطرقها ويسرها عَلَيْهِ مَا لم يُعْطه من غَيرهَا لعظم حَاجته فِي معاشه ومعاده اليها ثمَّ وضع فِي الْعقل من الاقرار بِحسن شَرعه وَدينه الَّذِي هُوَ ظله فِي ارضه وعدله بَين عباده ونوره فِي الْعَالم مالوا اجْتمعت عقول الْعَالمين كلهم فَكَانُوا على عقل اعقل رجل وَاحِد مِنْهُم لما امكنهم ان يقترحوا شَيْئا احسن مِنْهُ وَلَا اعْدِلْ وَلَا اصلح وَلَا انفع للخليقة فِي معاشها ومعادها فَهُوَ اعظم آيَاته واوضح بيناته وَأظْهر حججه على انه الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَإنَّهُ المتصف بِكُل كَمَال المنزه عَن كل عيب وَمِثَال فضلا عَن ان يحْتَاج الى إِقَامَة شَاهد من خَارج عَلَيْهِ بالادلة والشواهد لتكثير طرق الْهدى وَقطع المعذرة وإزاحة الْعلَّة والشبهة ليهلك من هلك عَن بَيِّنَة ويحيا من حييّ عَن بَينه وان الله لسميع عليم فَأثْبت فِي الْفطْرَة حسن الْعدْل والانصاف والصدق وَالْبر والاحسان وَالْوَفَاء بالعهد والنصيحة لِلْخلقِ وَرَحْمَة الْمِسْكِين وَنصر الْمَظْلُوم ومواساة اهل الْحَاجة والفاقة وَأَدَاء الامانات ومقابلة الاحسان بالاحسان والاساءة بِالْعَفو والصفح وَالصَّبْر فِي مَوَاطِن الصَّبْر والبذل فِي مَوَاطِن الْبَذْل والانتقام فِي مَوضِع الانتقام والحلم فِي مَوضِع الْحلم والسكينة وَالْوَقار والرأفة والرفق والتؤدة وَحسن الاخلاق وَجَمِيل المعاشرة مَعَ الاقارب والاباعد وَستر العورات وإقالة العثرات والايثار عِنْد الْحَاجَات واغاثة اللهفات وتفريج الكربات والتعاون على انواع