الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَلَا تِجَارَة وَلَا حراثة وَلَا مصلحَة وَكَيف كَانُوا يتهنون بالعيش والارض ترتج من تَحْتَهُ وَاعْتبر ذَلِك بِمَا يصيبهم من الزلازل على قلَّة مكثها كَيفَ تصيرهم الى ترك مَنَازِلهمْ والهرب عَنْهَا وَقد نبه الله تَعَالَى على ذَلِك بقوله {وَألقى فِي الأَرْض رواسي أَن تميد بكم} وَقَوله تَعَالَى {الله الَّذِي جعل لكم الأَرْض قرارا} وَقَوله الله الَّذِي جعل لكم الارض مهدا وَفِي الْقِرَاءَة الاخرى مهادا وَفِي جَامع التِّرْمِذِيّ وَغَيره من حَدِيث انس بن مَالك عَن النَّبِي قَالَ لما خلق الله الارض جعلت تميد فخلق الْجبَال عَلَيْهَا فاستقرت فعجبت الْمَلَائِكَة من شدَّة الْجبَال فَقَالُوا يَا رب هَل من خلقك شَيْء اشد من الْجبَال قَالَ نعم الْحَدِيد قَالُوا يَا رب هَل من خلقك شَيْء أَشد من الْحَدِيد قَالَ نعم النَّار قَالُوا يَا رب فَهَل من خلقك شَيْء اشد من النَّار قَالَ نعم الرّيح قَالُوا يَا رب فَهَل من خلقك شَيْء اشد من الرّيح قَالَ نعم ابْن آدم يتَصَدَّق صَدَقَة بِيَمِينِهِ يخفيها عَن شِمَاله ثمَّ تَأمل الْحِكْمَة الْبَالِغَة فِي ليونة الارض مَعَ يبسها فانها لَو افرطت فِي اللين كالطين لم يسْتَقرّ عَلَيْهَا بِنَاء وَلَا حَيَوَان وَلَا تمَكنا من الِانْتِفَاع بهَا وَلَو افرطت فِي اليبس كالحجر لم يُمكن حرثها وَلَا زَرعهَا وَلَا شقها وفلحها وَلَا حفر عيونها وَلَا الْبناء عَلَيْهَا فنقصت عَن يبس الْحِجَارَة وزادت على ليونة الطين فَجَاءَت بِتَقْدِير فاطرها على احسن مَا جَاءَ عَلَيْهِ مهاد للحيوان من الِاعْتِدَال بَين اللين واليبوسة فتهيأ عَلَيْهَا جَمِيع الْمصَالح
فصل ثمَّ تَأمل تَأمل الْحِكْمَة الْبَالِغَة فِي ان جعل مهب الشمَال عَلَيْهَا ارْفَعْ
من مهب الْجنُوب وَحِكْمَة ذَلِك ان تتحدر الْمِيَاه على وَجه الارض فتسقيها وترويها ثمَّ تفيض فتصب فِي الْبَحْر فَكَمَا ان الْبَانِي إِذا رفع سطحا رفع اُحْدُ جانبيه وخفض الاخر ليَكُون مصبا للْمَاء وَلَو جعله مستويا لقام عَلَيْهِ المَاء فافسده كَذَلِك جعل مهب الشمَال فِي كل بلد ارْفَعْ من مهب الْجنُوب وَلَوْلَا ذَلِك لبقي المَاء وَاقِفًا على وَجه الارض فَمنع النَّاس من الْعَمَل وَالِانْتِفَاع وَقطع الطّرق والمسالك واضر بالخلق افيحسن عِنْد من لَهُ مسكة من عقل ان يَقُول هَذَا كُله اتِّفَاق من غير تَدْبِير الْعَزِيز الْحَكِيم الَّذِي اتقن كل شَيْء
فصل ثمَّ تَأمل الْحِكْمَة العجيبة فِي الْجبَال الَّذِي يحسبها الْجَاهِل الغافل
فضلَة فِي الارض لَا حَاجَة اليها وفيهَا من الْمَنَافِع مَالا يُحْصِيه الا خَالِقهَا وناصبها وَفِي حَدِيث إِسْلَام ضمام بن ثَعْلَبَة قَوْله للنَّبِي بِالَّذِي نصب الْجبَال واودع فِيهَا الْمَنَافِع آللَّهُ امرك بِكَذَا وَكَذَا قَالَ اللَّهُمَّ نعم فَمن مَنَافِعهَا ان الثَّلج يسْقط عَلَيْهَا فَيبقى فِي قللها حَاصِلا لشراب النَّاس الى حِين نقاذه وَجعل
فِيهَا ليذوب اولا فأولا فتجيء مِنْهُ السُّيُول الغزيرة وتسيل مِنْهُ الانهار والاودية فينبت فِي المروج والوهاد والربا ضروب النَّبَات والفواكه والادوية الَّتِي لَا يكون مثلهَا فِي السهل والرمل فلولا الْجبَال لسقط الثَّلج على وَجه الارض فانحل جملَة وساح دفْعَة فَعدم وَقت الْحَاجة اليه وَكَانَ فِي انحلاله جملَة السُّيُول الَّتِي تهْلك مَا مرت عَلَيْهِ فَيضر بِالنَّاسِ ضَرَرا لَا يُمكن تلافيه وَلَا دَفعه لاذيته من مَنَافِعهَا مَا يكون فِي حصونها وقللها من المغارات والكهوف والمعاقل الَّتِي منزلَة الْحُصُون والقلاع وَهِي ايضا اكنان للنَّاس وَالْحَيَوَان وَمن مَنَافِعهَا مَا ينحت من احجارها للأبينة على اخْتِلَاف اصنافها والارحية وَغَيرهَا وَمن مَنَافِعهَا مَا يُوجد فِيهَا من الْمَعَادِن على اخْتِلَاف اصنافها من الذَّهَب وَالْفِضَّة والنحاس وَالْحَدِيد والرصاص والزبرجد والزمرد واضعاف ذَلِك من انواع الْمَعَادِن الَّذِي يعجز الْبشر عَن مَعْرفَتهَا على التَّفْصِيل حَتَّى ان فِيهَا مَا يكون الشَّيْء الْيَسِير مِنْهُ تزيد قِيمَته ومنفعته على قيمَة الذَّهَب باضعاف مضاعفة وفيهَا من الْمَنَافِع مَالا يُعلمهُ الا فاطرها ومبدعها سُبْحَانَهُ وَمن مَنَافِعهَا ايضا انها ترد الرِّيَاح الْعَاصِفَة وتكسر حدتها فَلَا تدعها تصدم مَا تحتهَا وَلِهَذَا فالساكنون تحتهَا فِي امان من الرِّيَاح الْعِظَام المؤذية وَمن مَنَافِعهَا ايضا انها ترد عَنْهُم السُّيُول إِذا كَانَت فِي مجاريها فتصرفها عَنْهُم ذَات الْيَمين وَذَات الشمَال ولولاها خربَتْ السُّيُول فِي مجاريها مَا مرت بِهِ فَتكون لَهُم بِمَنْزِلَة السد والسكن وَمن مَنَافِعهَا انها أَعْلَام يسْتَدلّ بهَا فِي الطرقات فَهِيَ منزلَة الادلة المنصوبة المرشدة الى الطّرق وَلِهَذَا سَمَّاهَا الله أعلاما فَقَالَ وَمن آيَاته الْجَوَارِي فِي الْبَحْر كالاعلام فالجواري هِيَ السفن والاعلام الْجبَال وَاحِدهَا علم قَالَت الخنساء
وَأَن صخرا لتأتم الهداة بِهِ
…
كانه علم فِي راسه نَار فَسمى الْجَبَل علما من الْعَلامَة والظهور وَمن مَنَافِعهَا ايضا مَا ينْبت فِيهَا من العقاقير والادوية الَّتِي لَا تكون فِي السهول والرمال كَمَا ان مَا ينْبت فِي السهول والرمال لَا ينْبت مثله فِي الْجبَال وَفِي كل من هَذَا وَهَذَا مَنَافِع وَحكم لَا يُحِيط بِهِ الا الخلاق الْعَلِيم وَمن مَنَافِعهَا انها تكون حصونا من الاعداء يتحرز فِيهَا عباد الله من اعدائهم كَمَا يتحصنون بالقلاع بل تكون أبلغ وَأحْصن من كثير من القلاع والمدن وَمن مَنَافِعهَا مَا ذكره الله تَعَالَى فِي كِتَابه ان جعلهَا للْأَرْض اوتادا تثبتها ورواسي بِمَنْزِلَة مراسي السفن واعظم بهَا من مَنْفَعَة وَحِكْمَة هَذَا وَإِذا تَأَمَّلت خلقتها العجيبة البديعة على هَذَا الْوَضع وَجدتهَا فِي غَايَة الْمُطَابقَة للحكمة فانها لَو طَالَتْ واستدفت كالحائط لتعذر الصعُود عَلَيْهَا وَالِانْتِفَاع بهَا وسترت عَن النَّاس الشَّمْس والهواء فَلم يتمكنوا من الِانْتِفَاع بهَا وَلَو بسطت على وَجه الارض لضيقت عَلَيْهِم الْمزَارِع والمساكن ولملأت السهل وَلما حصل لَهُم بهَا الِانْتِفَاع من التحصن والمغارات والاكنان وَلما سترت عَنْهُم الرِّيَاح وَلما حجبت السُّيُول
وَلَو جعلت مستديرة شكل الكرة لم يتمكنوا من صعودها وَلما حصل لَهُم بهَا الِانْتِفَاع التَّام فَكَانَ اولى الاشكال والاوضاع بهَا واليقها واوقعها على وفْق الْمصلحَة هَذَا الشكل الَّذِي نصبت عَلَيْهِ وَلَقَد دَعَانَا الله سُبْحَانَهُ فِي كِتَابه الى النّظر فِيهَا وَفِي كَيْفيَّة خلقهَا فَقَالَ {أَفلا ينظرُونَ إِلَى الْإِبِل كَيفَ خلقت وَإِلَى السَّمَاء كَيفَ رفعت وَإِلَى الْجبَال كَيفَ نصبت} فخلقها ومنافعها من اكبر الشواهد على قدره باريها وفاطرها وَعلمه وحكمته ووحدانيته هَذَا مَعَ انها تسبح بِحَمْدِهِ وتخشع لَهُ وتسجد وتشقق وتهبط من خَشيته وَهِي الَّتِي خَافت من رَبهَا وفاطرها وخالقها على شدتها وَعظم خلقهَا من الامانة إِذْ عرضهَا عَلَيْهَا واشفقت من حملهَا وَمِنْهَا الْجَبَل الَّذِي كلم الله عَلَيْهِ مُوسَى كليمه ونجيه وَمِنْهَا الْجَبَل الَّذِي تجلى لَهُ ربه فساخ وتدكدك وَمِنْهَا الْجَبَل الَّذِي حبب الله رَسُوله واصحابه اليه واحبه رَسُول الله وَأَصْحَابه وَمِنْهَا الجبلان اللَّذَان جَعلهمَا الله سورا على نبيه وَجعل الصَّفَا فِي ذيل احدهما والمروة فِي ذيل الاخر وَشرع لِعِبَادِهِ السَّعْي بَينهمَا وَجعله من مناسكهم وتعبداتهم وَمِنْهَا جبل الرَّحْمَة الْمَنْصُوب عَلَيْهِ ميدان عَرَفَات فَللَّه كم بِهِ من ذَنْب مغْفُور وعثرة مقَالَة وزلة مَعْفُو عَنْهَا وحاجة مقضية وكربة مفروجة وبلية مَرْفُوعَة ونعمة متجددة وسعادة مكتسبة وشقاوة ممحوة كَيفَ وَهُوَ الْجَبَل الْمَخْصُوص بذلك الْجمع الاعظم والوفد الاكرم الَّذين جاؤا من كل فج عميق وقوفا لرَبهم مستكينين لعظمته خاشعين لعزته شعثا غبرا حاسرين عَن رُؤْسهمْ يستقبلوله عثراتهم ويسألونه حاجاتهم فيدنو مِنْهُم ثمَّ يباهي بهم الْمَلَائِكَة فَللَّه ذَاك الْجَبَل وَمَا ينزل عَلَيْهِ من الرَّحْمَة والتجاوز عَن الذُّنُوب الْعِظَام وَمِنْهَا جبل حراء الَّذِي كَانَ رَسُول الله يَخْلُو فِيهِ بربه حَتَّى اكرمه الله برسالته وَهُوَ فِي غَارة فَهُوَ الْجَبَل الَّذِي فاض مِنْهُ النُّور على اقطار الْعَالم فَإِنَّهُ ليفخر على الْجبَال وَحقّ لَهُ ذَلِك فسبحان من اخْتصَّ برحمته وتكريمه من شَاءَ من الْجبَال وَالرِّجَال فَجعل مِنْهَا جبالا هِيَ مغناطيس الْقُلُوب كَأَنَّهَا مركبة مِنْهُ فَهِيَ تهوى اليها كلما ذكرتها وتهفو نَحْوهَا كَمَا اخْتصَّ من الرِّجَال من خصّه بكرامته وَأتم عَلَيْهِ نعْمَته وَوضع عَلَيْهِ محبته مِنْهُ فَأَحبهُ وحببه الى مَلَائكَته وعباده الْمُؤمنِينَ وَوضع لَهُ الْقبُول فِي الارض بَينهم
وَإِذا تَأَمَّلت الْبِقَاع وَجدتهَا
…
تشقى كَمَا تشقى الرِّجَال وتسعد فدع عَنْك الْجَبَل الْفُلَانِيّ وجبل بني فلَان وجبل كَذَا
خُذ مَا ترَاهُ ودع شَيْئا سَمِعت بِهِ
…
فِي طلعة الشَّمْس مَا يُغْنِيك عَن زحل
هَذَا وانها لتعلم ان لَهَا موعدا ويما تنسف فِيهَا نسفا وَتصير كالعهن من هوله وعظمه فَهِيَ مشفقة من هول ذَلِك الْموعد منتظرة لَهُ وَكَانَت ام الدَّرْدَاء رضى الله عَنْهَا إِذا سَافَرت فَصَعدت على جبل تَقول لمن مَعهَا اسمعت الْجبَال مَا وعدها رَبهَا فَيُقَال مَا اسمعها فَتَقول {ويسألونك}