الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العَبْد عَن كَمَاله وفلاحه وسعادته العاجلة والاجلة قَاطع اعظم من الْوَهم الْغَالِب على النَّفس والخيال الَّذِي هُوَ مركبها بل بحرها الَّذِي لَا تنفك سابحة فِيهِ وَإِنَّمَا يقطع هَذَا الْعَارِض بفكرة صَحِيحَة وعزم صَادِق يُمَيّز بِهِ بَين الْوَهم والحقيقة وَكَذَلِكَ إِذا فكر فِي عواقب الامور وَتجَاوز فكره مباديها وَضعهَا موَاضعهَا وَعلم مراتبها فَإِذا ورد عَلَيْهِ وَارِد الذَّنب والشهوة فَتَجَاوز فكره لذته وَفَرح النَّفس بِهِ الى سوء عاقبته وَمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ من الالم والحزن الَّذِي لَا يُقَاوم تِلْكَ اللَّذَّة والفرحة وَمن فكر فِي ذَلِك فَإِنَّهُ لَا يكَاد يقدم عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ إِذا ورد على قلبه وَارِد الرَّاحَة والدعة والكسل والتقاعد عَن مشقة الطَّاعَات وتعبها حَتَّى عبر بفكره الى مَا يترب عَلَيْهَا من اللَّذَّات والخيرات والافراح الَّتِي تغمر تِلْكَ الالام الَّتِي فِي مباديها بِالنِّسْبَةِ الى كَمَال عواقبها وَكلما غاص فكره فِي ذَلِك اشْتَدَّ طلبه لَهَا وَسَهل عَلَيْهِ معاناتها اسْتَقْبلهَا بنشاط وَقُوَّة وعزيمة وَكَذَلِكَ إِذا فكر فِي مُنْتَهى مَا يستعبده من المَال والجاه والصور وَنظر الى غَايَة ذَلِك بِعَين فكره اسْتَحى من عقله وَنَفسه ان يكون عبدا لذَلِك كَمَا قيل:
لَو فكر العاشق فِي مُنْتَهى
…
حسن الَّذِي يسبيه لم يسبه
وَكَذَلِكَ إِذا فكر فِي آخر الاطعمة المفتخرة الَّتِي تفانت عَلَيْهَا نفوس اشباه الانعام وَمَا يصير امرها اليه عِنْد خُرُوجهَا ارْتَفَعت همته عَن صرفهَا الى الاعتناء بهَا وَجعلهَا معبود قلبه الَّذِي اليه يتَوَجَّه وَله يرضى ويغضب وَيسْعَى ويكدح ويوالي ويعادي كَمَا جَاءَ فِي الْمسند عَن النَّبِي انه قَالَ إِن الله جعل طَعَام ابْن آدم مثل الدُّنْيَا وَإِن قزحه ملحه فَإِنَّهُ يعلم الى مَا يصير اَوْ كَمَا قَالَ فَإِذا وَقع فكره على عَاقِبَة ذَلِك وَآخر امْرَهْ وَكَانَت نَفسه حرَّة ابيه ربأبها ان يَجْعَلهَا عبدا لما آخِره انتن شَيْء واخبثه وافحشه
فصل إِذا عرف هَذَا فالفكر هُوَ احضار معرفتين فِي الْقلب ليستثمر مِنْهُمَا
معرفَة ثَالِثَة وَمِثَال ذَلِك إِذا احضر فِي قلبه العاجلة وعيشها وتعيمها وَمَا يقْتَرن بِهِ من الافات وانقطاعه وزواله ثمَّ احضر فِي قلبه الاخرة وَنَعِيمهَا ولذته ودوامه وفضله على نعيم الدُّنْيَا وَجزم بِهَذَيْنِ العلمين اثمر لَهُ ذَلِك علما ثَالِثا وَهُوَ ان الاخرة وَنَعِيمهَا الْفَاضِل الدَّائِم أولى عِنْد كل عَاقل بايثاره من العاجلة المنقطعة المنغصة ثمَّ لَهُ فِي معرفَة الاخرة حالتان احداهما ان يكون قد سمع ذَلِك من غَيره من غير ان يُبَاشر قلبه برد الْيَقِين بِهِ وَلم يفض قلبه الى مكافحة حَقِيقَة الاخرة وَهَذَا حَال أَكثر النَّاس فيتجاذبه داعيان احدهما دَاعِي العاجلة وايثارها وَهُوَ أقوى الداعيين عِنْده لانه مشَاهد لَهُ محسوس وداعي الاخرة وَهُوَ اضعف الداعيين عِنْده لانه دَاع عَن سَماع
لم يُبَاشر قلبه الْيَقِين بِهِ وَلَا كافحه حَقِيقَته العلمية فَإِذا ترك العاجلة للاخرة تريه نَفسه بانه قد ترك مَعْلُوما لمظنون اومتحققا لموهوم فلسان الْحَال يُنَادي عَلَيْهِ لَا ادْع ذرة منقودة لدرة موعودة وَهَذِه الافة هِيَ الَّتِي منعت النُّفُوس من الاستعداد للاخرة وان يسْعَى لَهَا سعيها وَهِي من ضعف الْعلم بهَا وتيقنها وَإِلَّا فَمَعَ الْجَزْم التَّام الَّذِي لَا يخالج الْقلب فِيهِ شكّ لَا يَقع التهاون بهَا وَعدم الرَّغْبَة فِيهَا وَلِهَذَا لَو قدم لرجل طَعَام فِي غَايَة الطّيب واللذة وَهُوَ شَدِيد الْحَاجة اليه ثمَّ قيل لَهُ إِنَّه مَسْمُوم فَإِنَّهُ لَا يقدم عَلَيْهِ لعلمه بِأَن سوء مَا تجنى عَاقِبَة تنَاوله تربو فِي الْمضرَّة على لَذَّة اكله فَمَا بَال الايمان بالاخرة لَا يكون فِي قلبه بِهَذِهِ الْمنزلَة ماذاك الا لضعف شَجَرَة الْعلم والايمان بهَا فِي الْقلب وَعدم استقرارها فِيهِ وَكَذَلِكَ اذا كَانَ سائرا فِي طَرِيق فَقيل لَهُ إِن بهَا قطاعا ولصوصا يقتلُون من وجدوه وَيَأْخُذُونَ مَتَاعه فانه لَا يسلكها الا على اُحْدُ وَجْهَيْن اما ان لَا يصدق الْمخبر وَإِمَّا ان يَثِق من نَفسه بغلبتهم وقهرهم والانتصار عَلَيْهِم والاف فَمَعَ تَصْدِيقه للْخَبَر تَصْدِيقًا لَا يتمارى فِيهِ وَعلمه من نَفسه بضعفه وعجزه عَن مقاومتهم فَإِنَّهُ لَا يسلكها وَلَو حصل لَهُ هَذَانِ العلمان فِيمَا يرتكبه من ايثار الدُّنْيَا وشهواتها لم يقدم على ذَلِك فَعلم ان إيثاره للعاجلة وَترك استعداده للاخرة لَا يكون قطّ مَعَ كَمَال تَصْدِيقه وإيمانهابدا الْحَالة الثَّانِيَة ان يتَيَقَّن ويجزم جزما لَا شكّ فِيهِ بِأَن لَهُ دَارا غير هَذِه الدَّار ومعادا لَهُ خلق وان هَذِه الدَّار طَرِيق الى ذَلِك الْمعَاد ومنزل من منَازِل السائرين اليه وَيعلم مَعَ ذَلِك انها بَاقِيَة وَنَعِيمهَا وعذابها لَا يَزُول وَلَا نِسْبَة لهَذَا النَّعيم وَالْعَذَاب العاجل اليه إِلَّا كَمَا يدْخل الرجل اصبعه فِي اليم ثمَّ يَنْزِعهَا فَالَّذِي تعلق بهَا مِنْهُ هُوَ كالدنيا بِالنِّسْبَةِ الى الاخرة فيثمر لَهُ هَذَا الْعلم ايثار الاخرة وطلبها والاستعداد التَّام لَهَا وان يسْعَى لَهَا سعيها وَهَذَا يسْعَى تفكرا وتذكرا ونظرا وتأملا واعتبارا وتدبرا واستبصارا وَهَذِه معَان مُتَقَارِبَة تَجْتَمِع فِي شَيْء وتتفرق فِي آخر وَيُسمى تفكرا لانه اسْتِعْمَال الفكرة فِي ذَلِك واحضاره عِنْده وَيُسمى تذكرا لانه احضار للْعلم الَّذِي يجب مراعاته بعد ذُهُوله وغيبته عَنهُ وَمِنْه قَوْله تَعَالَى ان الَّذين اتَّقوا اذا مسهم طائف من الشَّيْطَان تَذكرُوا فَإِذا هم مبصرون وَيُسمى نظرا لانه الْتِفَات بِالْقَلْبِ الى المنظور فِيهِ وَيُسمى تأملا لانه مُرَاجعَة للنَّظَر كرة بعدكرة حَتَّى يتجلى لَهُ وينكشف لِقَلْبِهِ وَيُسمى اعْتِبَارا وَهُوَ افتعال من العبور لانه يعبر مِنْهُ الى غَيره فيعبر من ذَلِك الَّذِي قد فكر فِيهِ الى معرفَة ثَالِثَة وَهِي الْمَقْصُود من الِاعْتِبَار وَلِهَذَا يُسمى عِبْرَة وَهِي على بِنَاء الْحَالَات كالجلسة وَالركبَة والقتلة ايذانا بِأَن هَذَا الْعلم والمعرفة قد صَار حَالا لصَاحبه يعبر مِنْهُ الى الْمَقْصُود بِهِ وَقَالَ الله تَعَالَى ان فِي ذَلِك لعبرة لمن يخْشَى {وَقَالَ} إِن فِي ذَلِك لعبرة لاولي الابصار وَيُسمى تدبرا لانه نظر فِي ادبار الامور وَهِي اواخرها وعواقبها وَمِنْه تدبر القَوْل وَقَالَ
تَعَالَى افلم يدبروا القَوْل افلا يتدبرون الْقُرْآن وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا وتدبر الْكَلَام ان ينظر فِي اوله وَآخره ثمَّ يُعِيد نظره مره بعد مرّة وَلِهَذَا جَاءَ على بِنَاء التفعل كالتجرع والتفهم والتبين وسمى استبصارا وَهُوَ استفعال من التبصر وَهُوَ تبين الامر وانكشافه وتجليه للبصيرة وكل من التَّذَكُّر والتفكر لَهُ فَائِدَة غير فَائِدَة الاخر فالتذكر يُفِيد تكْرَار الْقلب على مَا علمه وعرفه ليرسخ فِيهِ وَيثبت وَلَا ينمحي فَيذْهب اثره من الْقلب جملَة والتفكر يُفِيد تَكْثِير الْعلم واستجلاب مَا لَيْسَ حَاصِلا عِنْد الْقلب فالتفكر يحصله والتذكر يحفظه وَلِهَذَا قَالَ الْحسن مَا زَالَ اهل الْعلم يعودون بالتذكر على التفكر وبالتفكر على التَّذَكُّر ويناطقون الْقُلُوب حَتَّى نطقت بالحكمة فالتفكر والتذكر بذار الْعلم وسقيه مطارحته ومذاكرته تلقيحه كَمَا قَالَ بعض السّلف ملاقاة الرِّجَال تلقيح لالبابها فالمذاكرة بهَا لقاح الْعقل فالخير والسعادة فِي خزانَة مفتاحها التفكر فَإِنَّهُ لَا بُد من تفكر وَعلم يكون نتيجته الْفِكر وَحَال يحدث للقلب من ذَلِك الْعلم فَإِن كل من عمل شَيْئا من المحبوب اَوْ الْمَكْرُوه لَا بُد ان يبْقى لِقَلْبِهِ حَالَة وينصبغ بصبغة من علمه وَتلك الْحَال توجب لَهُ إِرَادَة وَتلك الارادة توجب وُقُوع الْعَمَل فها هُنَا خَمْسَة امور الْفِكر وثمرته الْعلم وثمرتهما الْحَالة الَّتِي تحدث للقلب وَثَمَرَة ذَلِك الارادة وثمرتها الْعلم فالفكر إِذا هُوَ المبدأ والمفتاح لِلْخَيْرَاتِ كلهَا وَهَذَا يكْشف لَك عَن فضل التفكر وشرفه وانه من افضل اعمال الْقلب وانفعها لَهُ حَتَّى قيل تفكر سَاعَة خير من عبَادَة سنة فالفكر هُوَ الَّذِي ينْقل من موت الفطنة الى حَيَاة الْيَقَظَة وَمن المكاره الى المحاب وَمن الرَّغْبَة والحرص الى الزّهْد والقناعة وَمن سجن الدُّنْيَا الى فضاء الاخرة وَمن ضيق الْجَهْل الى سَعَة الْعلم ورحبه وَمن مرض الشَّهْوَة والاخلاد الى هَذِه الدَّار الى شِفَاء الانابة الى الله والتجافي عَن دَار الْغرُور وَمن مُصِيبَة الْعَمى والصمم والبكم الى نعْمَة الْبَصَر والسمع والفهم عَن الله وَالْعقل عَنهُ وَمن امراض الشُّبُهَات الى برد الْيَقِين وثلج الصُّدُور وَبِالْجُمْلَةِ فَأصل كل طَاعَة إِنَّمَا هِيَ الْفِكر وَكَذَلِكَ اصل كل مَعْصِيّة إِنَّمَا يحدث من جَانب الفكرة فَإِن الشَّيْطَان يُصَادف ارْض الْقلب خَالِيَة فارغة فيبذر فِيهَا حب الافكار الردية فيتولد مِنْهُ الارادات والعزوم فيتولد مِنْهَا الْعَمَل فَإِذا صَادف ارْض الْقلب مَشْغُولَة ببذر الافكار النافعة فِيمَا خلق لَهُ وَفِيمَا امْر بِهِ وفيم هيء لَهُ وَاعد لَهُ من النَّعيم الْمُقِيم اَوْ الْعَذَاب الاليم لم يجد لبذره موضعا وَهَذَا كَمَا قيل:
اتاني هَواهَا قبل ان اعرف الْهوى
…
فصادف قلبا فَارغًا فتمكنا فان قيل فقد ذكرْتُمْ الْفِكر ومنفعته وَعظم تَأْثِيره فِي الْخَيْر وَالشَّر فَمَا مُتَعَلّقه الَّذِي
يَنْبَغِي ان يُوقع عَلَيْهِ ويجرى فِيهِ فانه لَا يتم الْمَقْصُود مِنْهُ الا بِذكر مُتَعَلّقه الَّذِي يَقع الْفِكر فِيهِ والا ففكر بِغَيْر متفكر فِيهِ محَال قيل مجْرى الْفِكر ومتعلقه اربعة امور احدها غَايَة محبوبة مُرَادة الْحُصُول الثَّانِي طَرِيق موصلة الى تِلْكَ الْغَايَة الثَّالِث مضرَّة مَطْلُوبَة الاعدام مَكْرُوهَة الْحُصُول الرَّابِع الطَّرِيق المفضي اليها الْموقع عَلَيْهَا فَلَا تتجاوز افكار الْعُقَلَاء هَذِه الامور الاربعة وَأي فكر تخطاها فَهُوَ من الافكار الردية والخيالات والاماني الْبَاطِلَة كَمَا يتخيل الْفَقِير المعدم نَفسه من اغنى الْبشر وَهُوَ يَأْخُذ وَيُعْطِي وينعم وَيحرم وكما يتخيل الْعَاجِز نَفسه من اقوى الْمُلُوك وَهُوَ يتَصَرَّف فِي الْبِلَاد والرعية وَنَظِير ذَلِك من افكار الْقُلُوب الباطولية الَّتِي من جنس افكار السَّكْرَان والمحشوش والضعيف الْعقل فالافكار الردية هِيَ قوت الانفس الخسيسة الَّتِي هِيَ فِي غَايَة الدناءة فَإِنَّهَا قد قنعت بالخيال ورضيت بالمحال ثمَّ لَا تزَال هَذِه الافكار تقوى بهَا وتتزايد حَتَّى توجب لَهَا آثارا ردية ووساوس وأمراضا بطيئة الزَّوَال وَإِذا كَانَ الْفِكر النافع لَا يخرج عَن الاقسام الاربعة الَّتِي ذَكرنَاهَا فَلهُ ايضا محلان ومنزلان احدهما هَذِه الدَّار والاخر دَار الْقَرار فأبناء الدُّنْيَا الَّذين لَيْسَ لَهُم فِي الاخرة من خلاق عمروا بيُوت افكارهم بِتِلْكَ الاقسام الاربعة فِي هَذِه الدَّار فأثمرت لَهُم افكارهم فِيهَا مَا اثمرت وَلَكِن إِذا حقت الْحَقَائِق وَبَطلَت الدُّنْيَا وَقَامَت الاخرة تبين الرابح من المغبون وخسر هُنَالك المبطلون وَأَبْنَاء الاخرة الَّذين خلقُوا لَهَا عمروا بيُوت افكارهم على تِلْكَ الاقسام الاربعة فِيهَا وَنحن نفصل ذَلِك بعون الله وفضله فَنَقُول كل طَالب لشَيْء فَهُوَ محب لَهُ مُؤثر لقُرْبه ساع فِي طَرِيق تَحْصِيله متوصل اليه بِجهْدِهِ وَهَذَا يُوجب لَهُ تعلق افكاره بِجَمَال محبوبه وكماله وَصِفَاته الَّتِي يحب لاجلها وتعلقها بِمَا يَنَالهُ بِهِ من الْخَيْر والفرح وَالسُّرُور ففكره فِي حَال محبوبه دائر بَين الْجمال والاجمال وَالْحسن والاحسان فَكلما قويت محبته ازْدَادَ هَذَا الْفِكر وقوى وتضاعف حَتَّى يسْتَغْرق اجزاء الْقلب فَلَا يبْقى فِيهِ فضل لغيره بل يصير بَين النَّاس بقالبه وَقَلبه كُله فِي حَضْرَة محبوبه فَإِن كَانَ هَذَا المحبوب هُوَ المحبوب الْحق الَّذِي لَا تنبغي الْمحبَّة إِلَّا لَهُ وَلَا يحب غَيره إِلَّا تبعا لمحبته فَهُوَ اِسْعَدْ المحبين بِهِ وَقد وضع الْحبّ مَوْضِعه وتهيأت نَفسه لكمالها الَّذِي خلقت لَهُ وَالَّذِي لَا كَمَال لَهَا بِدُونِهِ بِوَجْه وان كَانَت تِلْكَ الْمحبَّة لغيره من المحبوبات الْبَاطِلَة المتلاشية الَّتِي تفنى وَتبقى حزازات الْقُلُوب بهَا على حَالهَا فقد وضع الْمحبَّة فِي غير موضعهَا وظلم نَفسه اعظم ظلم واقبحه وتهيأت بذلك نَفسه لغاية شقائها والمها وَإِذا عرف هَذَا عرف ان تعلق الْمحبَّة بِغَيْر الاله الْحق هُوَ عين شقاء العَبْد وخسرانه فافكفاره الْمُتَعَلّقَة بهَا كلهَا بَاطِلَة وَهِي مضرَّة عَلَيْهِ فِي حَيَاته وبعدموته والمحب الَّذِي قد ملك المحبوب افكار قلبه لَا يخرج فكره عَن تعلقه بمحبوبه اَوْ بِنَفسِهِ ثمَّ فكره فِي محبوبه لَا يخرج عَن حالتين
احداهما فكرته فِي جماله واوصافه وَالثَّانيَِة فكرته فِي افعاله واحسانه وبره ولطفه الدَّالَّة على كَمَال صِفَاته وان تعلق فكره بِنَفسِهِ لم يخرج ايضا عَن حالتين اما ان نفكر فِي اوصافه المسخوطة الَّتِي يبغضها محبوبه ويمقته عَلَيْهَا ويسقطه من عينه فَهُوَ دَائِما يتَوَقَّع بفكره عَلَيْهَا ليتجنبها وَيبعد مِنْهَا وَالثَّانيَِة ان يفكر فِي الصِّفَات والاخلاق والافعال الَّتِي تقربه مِنْهُ وتحببه اليه حَتَّى يَتَّصِف بهَا فالفكرتان الاولتان توجب لَهُ زِيَادَة محبته وقوتها وتضاعفها والفكرتان الاخرتان توجب محبَّة محبوبه لَهُ واقباله عَلَيْهِ وقربه مِنْهُ وَعطفه عَلَيْهِ وايثاره على غَيره فالمحبة التَّامَّة مستلزمة لهَذِهِ الافكار الاربعة فالفكرة الاولى وَالثَّانيَِة تتَعَلَّق بِعلم التَّوْحِيد وصفات الاله المعبود سُبْحَانَهُ وأفعاله وَالثَّالِثَة وَالرَّابِعَة تتَعَلَّق بِالطَّرِيقِ الموصلة اليها وقواطعها وآفاتها وَمَا يمْنَع من السّير فِيهَا اليه فتفكره فِي صِفَات نَفسه يُمَيّز لَهُ المحبوب لرَبه مِنْهَا من الْمَكْرُوه لَهُ وَهَذِه الفكرة توجب ثَلَاثَة امور احدها ان هَذَا الْوَصْف هَل هُوَ مَكْرُوه مبغوض لله ام لَا الثَّانِي هَل العَبْد متصف بِهِ ام لَا وَالثَّالِث إِذا كَانَ متصفا بِهِ فَمَا طَرِيق دَفعه والعافية مِنْهُ وان لم يكن متصفا بِهِ فَمَا طَرِيق حفظ الصِّحَّة بوقائه على الْعَافِيَة والاحتراز مِنْهُ وَكَذَلِكَ الفكرة فِي الصّفة المحبوبة تستدعي ثَلَاثَة امور احدها ان هَذِه الصّفة هَل هِيَ محبوبة لله مرضية لَهُ ام لَا الثَّانِي هَل العَبْد متصف بهَا ام لَا الثَّالِث انه إِذا كَانَ متصفا بهَا فَمَا طَرِيق حفظهَا ودوامها وان لم يكن متصفا بهَا فَمَا طَرِيق اجتلائها والتخلق بهَا ثمَّ فكرته فِي الافعال على هذَيْن الْوَجْهَيْنِ ايضا سَوَاء ومجاري هَذِه الافكار ومواقعها كَثِيرَة جدا لاتكاد تنضبط وانا يحصرها سِتَّة اجناس الطَّاعَات الظَّاهِرَة والباطنة والمعاصي الظَّاهِرَة والباطنة وَالصِّفَات والاخلاق الحميدة والاخلاق وَالصِّفَات الذميمة فَهَذِهِ مجاري الفكرة فِي صِفَات نَفسه وافعالها واما الفكرة فِي صِفَات المعبود وأفعاله واحكامه فتوجب لَهُ التَّمْيِيز بَين الايمان وَالْكفْر والتوحيد والشرك والاقرار والتعطيل وتنزيه الرب عَمَّا لَا يَلِيق بِهِ وَوَصفه بِمَا هُوَ اهله من الْجلَال والاكرام ومجاري هَذِه الفكرة تدبر كَلَامه وَمَا تعرف بِهِ سُبْحَانَهُ الى عباده على السّنة رسله من اسمائه وَصِفَاته وأفعاله وَمَا نزه نَفسه عَنهُ مِمَّا لَا يَنْبَغِي لَهُ وَلَا يَلِيق بِهِ سُبْحَانَهُ وتدبر ايامه وافعاله فِي اوليائه واعدائه الَّتِي قصها على عباده واشهدهم اياها ليستدلوا بهَا على انه الههم الْحق الْمُبين الَّذِي لَا تنبغي الْعِبَادَة الا لَهُ ويستدلوا بهَا على انه على كل شَيْء قدير وانه بِكُل شَيْء عليم وانه شَدِيد الْعقَاب وانه غَفُور رَحِيم وانه الْعَزِيز الْحَكِيم وانه الفعال لما يُرِيد وانه الَّذِي وسع كل شَيْء رَحْمَة وعلما وان أَفعاله كلهَا دَائِرَة بَين الْحِكْمَة وَالرَّحْمَة وَالْعدْل والمصلحة لَا يخرج شَيْء مِنْهَا عَن ذَلِك وَهَذِه الثَّمَرَة لَا سَبِيل الى تَحْصِيلهَا إِلَّا بتدبر كَلَامه وَالنَّظَر فِي آثَار أَفعاله وَإِلَى هذَيْن الاصلين ندب عباده فِي الْقُرْآن فَقَالَ فِي
الاصل الاول {أَفلا يتدبرون الْقُرْآن} افلم يدبروا القَوْل {كتاب أَنزَلْنَاهُ إِلَيْك مبارك ليدبروا آيَاته} إِنَّا انزلناه قُرْآنًا عَرَبيا لَعَلَّكُمْ تعقلون كتاب فصلت اياته قُرْآنًا عَرَبيا لقوم يعلمُونَ وَقَالَ فِي الاصل الثَّانِي قل انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَات والارض ان فِي خلق السَّمَوَات والارض وَاخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار لايات لاولي الالباب الَّذين يذكرُونَ الله قيَاما وقعودا وعَلى جنُوبهم ويتفكرون فِي خلق السَّمَوَات والارض ان فِي السَّمَوَات والارض لايات للْمُؤْمِنين وَفِي خَلقكُم وَمَا يبث من دَابَّة آيَات لقوم يوقنون وَاخْتِلَاف اللَّيْل وَالنَّهَار وَمَا أنزل الله من السَّمَاء من مَاء فاحيا بِهِ الارض بعد مَوتهَا وَبث فِيهَا من كل دَابَّة وتصريف الرِّيَاح آيَات لقوم يعْقلُونَ اَوْ لم يَسِيرُوا فِي الارض فينظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الَّذين كَانُوا من قبلهم قل سِيرُوا فِي الارض فانظروا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة الَّذين من قبل {وَمن آيَاته أَن خَلقكُم من تُرَاب ثمَّ إِذا أَنْتُم بشر تنتشرون وَمن آيَاته أَن خلق لكم من أَنفسكُم أَزْوَاجًا لتسكنوا إِلَيْهَا وَجعل بَيْنكُم مَوَدَّة وَرَحْمَة إِن فِي ذَلِك لآيَات لقوم يتفكرون} الى قَوْله {وَمن آيَاته أَن تقوم السَّمَاء وَالْأَرْض بأَمْره} وَنَوع سُبْحَانَهُ الايات فِي هَذِه السُّور فَجعل خلق السَّمَوَات والارض وَاخْتِلَاف لُغَات الامم والوانهم آيَات للْعَالمين كلهم لاشتراكهم فِي الْعلم بذلك وظهوره ووضوح دلَالَته وَجعل خلق الازواج الَّتِي تسكن اليها الرِّجَال والقاء الْمَوَدَّة وَالرَّحْمَة بَينهم آيَات لقوم يتفكرون فَإِن سُكُون الرجل الى امْرَأَته وَمَا يكون بَينهمَا من الْمَوَدَّة والتعاطف والتراحم امْر بَاطِن مشهود بِعَين الفكرة والبصيرة فَمَتَى نظر بِهَذِهِ الْعين الى الْحِكْمَة وَالرَّحْمَة وَالْقُدْرَة الَّتِي صدر عَنْهَا ذَلِك دلة فكره على انه الاله الْحق الْمُبين الَّذِي أقرَّت الْفطر بربوبيته والاهيته وحكمته وَرَحمته وَجعل الْمَنَام بِاللَّيْلِ وَالنَّهَار للتَّصَرُّف فِي المعاش وابتغاء فَضله آيَات لقوم يسمعُونَ وَهُوَ سمع الْفَهم وتدبر هَذِه الايات وارتباطها بِمَا جعلت آيَة لَهُ مِمَّا اخبرت بِهِ الرُّسُل من حَيَاة الْعباد بعد مَوْتهمْ وقيامهم من قُبُورهم كَمَا احياهم سُبْحَانَهُ بعد مَوْتهمْ وأقامهم للتَّصَرُّف فِي معاشهم فَهَذِهِ الاية إِنَّمَا ينْتَفع بهَا من سمع مَا جَاءَت بِهِ الرُّسُل واصغى اليه وَاسْتدلَّ بِهَذِهِ الاية عَلَيْهِ وَجعل إراءتهم الْبَرْق وَأنزل المَاء من السَّمَاء وإحياء الارض بِهِ آيَات لقوم يعْقلُونَ فَإِن هَذِه امور مرتبَة بالابصار مُشَاهدَة بالحس فَإِذا نظر فِيهَا ببصر قلبه وَهُوَ عقله اسْتدلَّ بهَا على وجود الرب تَعَالَى وَقدرته وَعلمه وَرَحمته وحكمته إِمْكَان مَا اخبر بِهِ من حَيَاة الْخَلَائق بعد مَوْتهمْ كَمَا احيا هَذِه الارض بعدموتها وَهَذِه امور لاتدرك إِلَّا ببصر الْقلب وَهُوَ الْعقل فَإِن الْحس دلّ على الاية وَالْعقل دلّ على مَا جعلت لَهُ آيَة فَذكر سُبْحَانَهُ الاية المشهودة بالبصر والمدلول عَلَيْهِ الْمَشْهُود بِالْعقلِ فَقَالَ وَمن آيَاته يريكم الْبَرْق خوفًا وَطَمَعًا وَينزل من السَّمَاء مَاء فيحي بِهِ الارض بعدموتها أَن فِي ذَلِك لايات لقوم يعْقلُونَ فَتَبَارَكَ