الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثمَّ تَأمل كَيفَ اقْتَضَت الْحِكْمَة الالهية موافات اصناف الْفَوَاكِه وَالثِّمَار للنَّاس بِحَسب الْوَقْت المشاكل لَهَا الْمُقْتَضى لَهَا فتوافيهم كموافاة المَاء للظمآن فتتلقاها الطبيعة بانشراح واشتياق منتظرة لقدومها كانتظار الْغَائِب للْغَائِب فَلَو كَانَ نَبَات الصَّيف انما يوافي فِي الشتَاء لصادف من النَّاس كَرَاهِيَة واستثقالا بوروده مَعَ مَا كَانَ فِيهِ من الْمضرَّة للابدان والاذى لَهَا وَكَذَلِكَ لَو وافى مَا فِي ربيعها فِي الخريف اَوْ مَا فِي خريفها فِي الرّبيع لم يَقع من النُّفُوس ذَلِك الْموقع وَلَا استطابته واستلذته ذَلِك الالتذاذ وَلِهَذَا تَجِد الْمُتَأَخر مِنْهَا عَن وقته مملولا محلول الطّعْم وَلَا يظنّ ان هَذَا لجَرَيَان الْعَادة الْمُجَرَّدَة بذلك فَإِن الْعَادة إِنَّمَا جرت بِهِ لانه وفْق الْحِكْمَة والمصلحة الَّتِي لَا يخل بهَا الْحَكِيم الْخَبِير
فصل ثمَّ تَأمل هَذِه النَّخْلَة الَّتِي هِيَ احدى آيَات الله تَجِد فِيهَا من
الايات والعجائب مَا يبهرك فَإِنَّهُ لما قدر ان يكون فِيهِ اناث تحْتَاج الى اللقَاح جعلت فِيهَا ذُكُور تلقحها بِمَنْزِلَة الْحَيَوَان واناثه وَلذَلِك اشْتَدَّ شبهها من بَين سَائِر الاشجار بالانسان خُصُوصا بِالْمُؤمنِ كَمَا مثله النَّبِي وَذَلِكَ من وُجُوه كَثِيرَة احدها ثبات اصلها فِي الارض واستقراره فِيهَا وَلَيْسَت بِمَنْزِلَة الشَّجَرَة الَّتِي اجتثت من فَوق الارض مَالهَا من قَرَار الثَّانِي طيب ثَمَرَتهَا وحلاوتها وَعُمُوم الْمَنْفَعَة بهَا كَذَلِك الْمُؤمن طيب الْكَلَام طيب الْعَمَل فِيهِ الْمَنْفَعَة لنَفسِهِ وَلغيره الثَّالِث دوَام لباسها وَزينتهَا فَلَا يسْقط عَنْهَا صيفا وَلَا شتاء كَذَلِك الْمُؤمن لَا يَزُول عَنهُ لِبَاس التَّقْوَى وَزينتهَا حَتَّى يوافي ربه تَعَالَى الرَّابِع سهولة تنَاول ثَمَرَتهَا وتيسره اما قصيرها فَلَا يحوج المتناول ان يرقاها واما باسقها فصعوده سهل بِالنِّسْبَةِ الى صعودالشجر الطوَال وَغَيرهَا فتراها كَأَنَّهَا قد هيئت مِنْهَا المراقي والدرج الى اعلاها وَكَذَلِكَ الْمُؤمن خَيره سهل قريب لمن رام تنَاوله لَا بالغر وَلَا باللئيم الْخَامِس ان ثَمَرَتهَا من انفع ثمار الْعَالم فَإِنَّهُ يُؤْكَل رطبه فَاكِهَة وحلاوة ويابسه يكون قوتا وادما وَفَاكِهَة ويتخذ مِنْهُ الْخلّ والناطف والحلوى وَيدخل فِي الادوية والاشربة وَعُمُوم الْمَنْفَعَة بِهِ وبالعنب فَوق كل الثِّمَار وَقد اخْتلف النَّاس فِي ايهما انفع وافضل وصنف الجاحظ فِي المحاكمة بَينهمَا مجلدا فَأطَال فِيهَا الْحجَّاج والتفضيل من الْجَانِبَيْنِ وَفصل النزاع فِي ذَلِك ان النّخل فِي معدنه وَمحل سُلْطَانه افضل من الْعِنَب وأعم نفعا واجدى على اهله كالمدينة والحجاز وَالْعراق وَالْعِنَب فِي معدنه وَمحل سُلْطَانه افضل وأعم نفعا واجدى على أَهله كالشام وَالْجِبَال والمواضع الْبَارِدَة الَّتِي لَا تقبل النخيل وَحَضَرت مرّة فِي مجْلِس بِمَكَّة فِيهِ من أكَابِر الْبَلَد فجرت هَذِه المسئلة وَأخذ بعض الْجَمَاعَة الْحَاضِرين يطنب فِي تَفْضِيل النّخل
وفوائده وَقَالَ فِي أثْنَاء كَلَامه وَيَكْفِي فِي تفضيله انا نشتري بنواه الْعِنَب فَكيف يفضل عَلَيْهِ ثَمَر يكون نَوَاه ثمنا لَهُ وَقَالَ آخر من الْجَمَاعَة قد فصل النَّبِي النزاع فِي هَذِه المسئلة وشفى فِيهَا بنهيه عَن تَسْمِيَة شجر الْعِنَب كرما وَقَالَ الْكَرم قلب الْمُؤمن فاي دَلِيل ابين من هَذَا واخذوا يبالغون فِي تَقْرِير ذَلِك فَقلت للْأولِ مَا ذكرته من كَون نوى التَّمْر ثمنا للعنب فَلَيْسَ بِدَلِيل فَإِن هَذَا لَهُ اسباب احدها حَاجَتكُمْ الى النَّوَى للعلف فيرغب صَاحب الْعِنَب فِيهِ لعلف نَاضِحَهُ وحمولته الثَّانِي ان نوى الْعِنَب لَا فَائِدَة فِيهِ وَلَا يجْتَمع الثَّالِث ان الاعناب عنْدكُمْ قَليلَة جدا وَالتَّمْر اكثر شَيْء عنْدكُمْ فيكثر نَوَاه فيشترى بِهِ الشَّيْء الْيَسِير من الْعِنَب وَأما فِي بِلَاد فِيهَا سُلْطَان الْعِنَب فَلَا يشترى بالنوى مِنْهُ شَيْء وَلَا قيمَة لنوى التَّمْر فِيهَا وَقلت لمن احْتج بِالْحَدِيثِ هَذَا الحَدِيث من حجج فضل الْعِنَب لانهم كَانُوا يسمونه شَجَرَة الْكَرم لِكَثْرَة مَنَافِعه وخيره فَإِنَّهُ يُؤْكَل رطبا ويابسا وحلوا وحامضا وتجنى مِنْهُ أَنْوَاع الاشربة والحلوى والدبس وَغير ذَلِك فَسَموهُ كرما لِكَثْرَة خَيره فَأخْبرهُم النَّبِي ان قلب الْمُؤمن احق مِنْهُ بِهَذِهِ التَّسْمِيَة لِكَثْرَة مَا اودع الله فِيهِ من الْخَيْر وَالْبركَة وَالرَّحْمَة واللين وَالْعدْل والاحسان والنصح وَسَائِر انواع الْبر وَالْخَيْر الَّتِي وَضعهَا الله فِي قلب الْمُؤمن فَهُوَ احق بِأَن يُسمى كرما من شجر الْعِنَب وَلم يرد النَّبِي ابطال مَا فِي شجر الْعِنَب من الْمَنَافِع والفوائد وان تمسيته كرما كذب وانها لَفْظَة لَا معنى تحتهَا كتسمية الْجَاهِل عَالما والفاجر برا والبخيل سخيا الا ترى انه لم ينف فَوَائِد شجر الْعِنَب وَإِنَّمَا اخبر عَنهُ ان قلب الْمُؤمن اغزر فَوَائِد واعظم مَنَافِع مِنْهَا هَذَا الْكَلَام اَوْ قريب مِنْهُ جرى فِي ذَلِك الْمجْلس وَأَنت إِذا تدبرت قَول النَّبِي الْكَرم قلب الْمُؤمن وجدته مطابقا لقَوْله فِي النَّخْلَة مثلهَا مثل الْمُسلم فَشبه النَّخْلَة بِالْمُسلمِ فِي حَدِيث ابْن عمر وَشبه الْمُسلم بِالْكَرمِ فِي الحَدِيث الاخر ونهاهم ان يخصوا شجر الْعِنَب باسم الْكَرم دون قلب الْمُؤمن وَقد قَالَ بعض النَّاس فِي هَذَا معنى آخر وَهُوَ انه نَهَاهُم عَن تَسْمِيَة شجر الْعِنَب كرما لانه يقتنى مِنْهُ ام الْخَبَائِث فَيكْرَه ان يُسمى باسم يرغب النُّفُوس فِيهَا ويحضهم عَلَيْهَا من بَاب سد الذرائع فِي الالفاظ وَهَذَا لَا بَأْس بِهِ لَوْلَا ان قَوْله فَإِن الْكَرم قلب الْمُؤمن كالتعليل لهَذَا النَّهْي والاشارة الى انه اولى بِهَذِهِ التَّسْمِيَة من شجر الْعِنَب وَرَسُول الله اعْلَم بِمَا اراد من كَلَامه فَالَّذِي قَصده هُوَ الْحق وَبِالْجُمْلَةِ فَالله سُبْحَانَهُ عدد على عباده من نعمه عَلَيْهِم ثَمَرَات النخيل والاعناب فساقها فِيمَا عدده عَلَيْهِم من نعمه وَالْمعْنَى الاول اظهر من الْمَعْنى الاخر إِن شَاءَ الله فَإِن أم الْخَبَائِث تتَّخذ من كل ثَمَر كالنخيل كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَمن ثَمَرَات النخيل وَالْأَعْنَاب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سكرا وَرِزْقًا حسنا} وَقَالَ انس نزل تَحْرِيم الْخمر وَمَا بِالْمَدِينَةِ من شراب الاعناب شَيْء وَإِنَّمَا كَانَ شراب الْقَوْم الفضيخ الْمُتَّخذ من التَّمْر فَلَو كَانَ نَهْيه عَن تَسْمِيَة شجر الْعِنَب
كرما لاجل الْمُسكر لم يشبه النَّخْلَة بِالْمُؤمنِ لَان الْمُسكر يتَّخذ مِنْهَا وَالله اعْلَم الْوَجْه السَّادِس من وُجُوه التَّشْبِيه ان النَّخْلَة اصبر الشّجر على الرِّيَاح والجهد وَغَيرهَا من الدوح الْعِظَام تميلها الرّيح تَارَة وتقلعها تَارَة وتقصف افنانها وَلَا صَبر لكثير مِنْهَا على الْعَطش كصبر النَّخْلَة فَكَذَلِك الْمُؤمن صبور على الْبلَاء لَا تزعزعه الرِّيَاح السَّابِع ان النَّخْلَة كلهَا مَنْفَعَة لَا يسْقط مِنْهَا شَيْء بِغَيْر مَنْفَعَة فثمرها مَنْفَعَة وجذعها فِيهِ من الْمَنَافِع مَالا يجهل للأبنية والسقوف وَغير ذَلِك وسعفها تسقف بِهِ الْبيُوت مَكَان الْقصب وَيسْتر بِهِ الْفرج والخلل وخوصها يتَّخذ مِنْهُ المكاتل والزنابيل وأنواع الانية والحصر وَغَيرهَا وليفها وكربها فِيهِ من الْمَنَافِع مَا هومعلوم عِنْد النَّاس وَقد طابق بعض النَّاس هَذِه الْمَنَافِع وصفات الْمُسلم وَجعل لكل مَنْفَعَة مِنْهَا صفة فِي الْمُسلم تقَابلهَا فَلَمَّا جَاءَ الى الشوك الَّذِي فِي النَّخْلَة جعل بإزائه من الْمُسلم صفة الحدة على أَعدَاء الله واهل الْفُجُور فَيكون عَلَيْهِم فِي الشدَّة والغلظة بِمَنْزِلَة الشوك وَلِلْمُؤْمنِينَ والمتقين بِمَنْزِلَة الرطب حلاوة ولينا {أشداء على الْكفَّار رحماء بَينهم} الثَّامِن انها كلما اطال عمرها ازْدَادَ خَيرهَا وجاد ثَمَرهَا وَكَذَلِكَ الْمُؤمن إِذا طَال عمره ازْدَادَ خَيره وَحسن عمله التَّاسِع ان قَلبهَا من اطيب الْقُلُوب واحلاه وَهَذَا امْر خصت بِهِ دون سَائِر الشّجر وَكَذَلِكَ قلب الْمُؤمن من ايطب الْقُلُوب الْعَاشِر انها لايتعطل نَفعهَا بِالْكُلِّيَّةِ ابدا بل إِن تعطلت مِنْهَا منفعه فَفِيهَا مَنَافِع اخر حَتَّى لَو تعطلت ثمارها سنة لَكَانَ للنسا فِي سعفها وخوصها وليفها وكربها مَنَافِع وَهَكَذَا الْمُؤمن لَا يَخْلُو عَن شَيْء من خِصَال الْخَيْر قطّ ان اجدب مِنْهُ جَانب من الْخَيْر اخصب مِنْهُ جَانب فَلَا يزَال خَيره مأمولا وشره مَأْمُونا فِي التِّرْمِذِيّ مَرْفُوعا الى النَّبِي خَيركُمْ من يُرْجَى خَيره ويؤمن شَره وشركم من لَا يُرْجَى خَيره وَلَا يُؤمن شَره فَهَذَا فصل معترض ذَكرْنَاهُ اسْتِطْرَادًا للحكمة فِي خلق النَّخْلَة وهيئتها فلنرجع اليه فَتَأمل خلقَة الْجذع الَّذِي لَهَا كَيفَ هُوَ تَجدهُ كالمنسوج من خيوط ممدودة كالسدا وَأُخْرَى مُعْتَرضَة كاللحمة كنحو المنسوج بِالْيَدِ وَذَلِكَ لتشتد وتصلب فَلَا تتقصف من حمل الْحَيَوَان الثقيل وتصبر على هز الرِّيَاح الْعَاصِفَة ولبثها فِي السقوف والجسور والاواني وَغير ذَلِك مِمَّا يتَّخذ مِنْهَا وَهَكَذَا سَائِر الْخشب وَغَيرهَا إِذا تأملته شبه النسج وَلَا ترَاهُ مصمتا كالحجر الصلد بل ترى بعضه كَأَنَّهُ دَاخل بَعْضًا طولا وعرضا كتداخل اجزاء اللَّحْم بَعْضهَا فِي بعض فَإِن ذَلِك امتن لَهُ وأهيأ لما يُرَاد مِنْهُ فَإِنَّهُ لَو كَانَ مصمتا كالحجارة لم يُمكن ان يسْتَعْمل فِي الالات والابواب والاواني والامتعة والاسرة والتوابيت وَمَا اشبهها وَمن بديع الْحِكْمَة فِي الْخشب ان جعل يطفو على المَاء وَذَلِكَ للحكمة الْبَالِغَة إِذْ لَوْلَا ذَلِك لما كَانَت هَذِه السفن تحمل امثال الْجبَال من الحمولات والامتعة وتمخر الْبَحْر مقبلة ومدبرة وَلَوْلَا ذَلِك لما تهَيَّأ للنَّاس هَذِه الْمرَافِق لحمل هَذِه التِّجَارَات الْعَظِيمَة والامتعة الْكَثِيرَة