الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أنا
نشرت سنة 1937
-1 -
قال لي أهلي: لقد جئتَ إلى هذه الدنيا عارياً بلا أسنان، لا تحسن النطق ولا تعرف شيئاً. فضحكت ولم أصدق، فأعادوا ذلك عليّ، وألقوه كأنه قضية مسلَّمة وأمر واضح لا يحتمل الشك، وعجبوا مني حين أكذّبه وأرده. ولكني بقيت على رأيي الأول، لم أستطع مطلقاً أن أصدّق ما يقولون لأني أعرَفُ بنفسي منهم، ولأني أذكر ماضيّ كله: أذكر أني فتحت عينيّ ذات يوم فجأة ونظرت
…
فوجدت نفسي، ورأيت أن لي أسناناً وعليّ ثياباً، وأن بي قدرة على المشي والنطق، ورأيتني شخصاً مستقلاً عن أبي أمي وسائر أهلي، أحب أشياء لا يحبها أحد منهم وأكره أشياء لا يكرهونها، ولا يميزني منهم إلا أني كالطبعة المختصَرة من الكتاب، فيها الأبواب كلها والفصول بيد أنها موجزة و
…
بالقطع الصغير!
أفيُعقل أن أكون موجوداً قبل ذلك، وأنا لا أعرف نفسي؟
مستحيل!
واستقرّ في ذهني -من يومئذ- أني وُلدت وأنا في الرابعة من عمري!
-2 -
وصرت أرى هذا الطفل دائماً؛ أبصر صورته في المرآة وأسمع صوته بأذني، وأصغي إلى حديث أمي عنه بشغف وسرور، فكنت أشعر بميل غريب إليه، حتى إني لأعترف الآن بأنه كان أحب إليّ من أمي، التي لم أكن أعدل بها أحداً ولا أقبل كنوز الأرض بدلاً من امتصاص ثديها والنوم على صدرها.
ذلك الطفل الباسم، ذو العينين السوداوين والشعر
…
يا للأسف! إني لا أستطيع أن أتخيل شعره. لقد مُحيت صورته من ذاكرتي، لقد اختفى من الدنيا منذ ربع قرن، لقد ذهب إلى حيث لا أدري. فهل كنت أنا ذلك الطفل؟ هل تجيء يده الصغيرة الغضة في يدي الخشنة التي أخط بها هذا المقال؟ فأين ذهب إذن؟ ومن أين جئت أنا؟
…
إنني لست ذلك الطفل ولست غيره
…
فكيف يعقل هذا؟
هذا يحيرني دائماً ولا أعرف له حلاً، بل إن مجرد التفكير فيه يدفعني إلى الجنون.
-3 -
ونظرت يوماً من الأيام، فإذا في مكان ذلك الطفل اللاهي اللاعب، العابث بكل شيء، الذي يحطم كل ما يصل إليه،
ويقبض على الجمرة المشتعلة بيده كما يقبض على البرتقالة الحمراء، ويعبث بلحية القاضي إذا هو بلغها كما يعبث بشعر الهرة
…
إذا في مكانه تلميذ يقرأ مُكرَهاً، ويكتب مضطراً، ويحمل همّ المدرسة التي يذهب إليها كل يوم كالذي يُساق إلى الموت، لا يعرف لوجوده فيها معنى، ولا يدري فيمَ يدَعُ عطفَ أمه والأنسَ بإخوته، ولِمَ يترك بيته وما فيه من الدفء في الشتاء والظل في الصيف، ليذهب إلى هذه الدار التي يُحشَد فيها الأطفال الأبرياء المساكين لتحشى أدمغتهم بمسائل لا يدركون معناها، وشروح لا يعرفون مغزاها، وتنال من أبشارهم وظهورهم عصا المعلم الغليظة، وتقذى عيونهم برؤية طلعته البغيضة، لا المعلم يبسم لهم ويدعوهم إلى حبه، ولا أهلوهم يستمعون شكواهم وينصفونهم
…
لقد كان في هذه المدرسة كالمحكوم عليه بالسجن ظلماً!
يا لهذا التلميذ البائس الذي لم يكد يفتح عينيه على الدنيا حتى أبصر الشقاء والألم. لقد مات كمداً ومضى مسرعاً في طريق الفناء
…
مسكين!
إنه لم يكن إلاّ أنا، أنا الذي وُلدت ومتُّ مئة مرة، حتى صرت الآن
…
«أنا» .
-4 -
وكان يوم آخر، فإذا (الفِلم) ينكشف هذه المرة عن منظر جديد: اختفى التلميذ الجميل، ذو السراويل القصيرة والقميص الأحمر والحقيبة الزرقاء الصغيرة، وذهب بجسمه ونفسه وميوله وأفكاره، وظهر الشاب الحليق الوجه، ذو (الربطة) الطويلة
والحقيبة السوداء الواسعة
…
ظهر في الثانوية طالباً متحمساً كأنما رُكِّبت أعصابه من الديناميت وصُنع فمه على مثال فوهات الرشّاشات، فلا يكاد يقع في المدرسة حادث أو تقوم في البلدة ضجة إلا انفجر الديناميت وانطلق الرشاش، وقام في الطلاب خطيباً ثائراً مثيراً، فحطموا الباب وخرجوا
…
كان ينتقم بهياجه وثورته لذلك التلميذ الهادئ الحييّ المظلوم، ولكن الامتحان لم يلبث أن كشّر له عن أنيابه وجاء ينتقم منه!
هذه هي البكالوريا، فتهيأ لها؛ إن مستقبلك معلق عليها.
ولم يكن قد فكر في المستقبل أو حسب له حساباً، فلما سمع به وقف وتردد وكبح من جماح نفسه. يجب أن يضمن المستقبل ليصل إلى آماله، آماله الكبار التي كانت تملأ نفسه ولا يشك في بلوغها. وكان قد بدأ ينشر في جرائد البلد فهو يجب أن يكون كاتباً كبيراً منتجاً يخدم بقلمه وطنَه، ويدافع به عن الحق والفضيلة، ويقاتل به خصومها وأعداءها، ويساهم في تحرير وطنه، ويكون له في «الإصلاح الشعبي» أثر يذكر. فليسعَ -إذن- لنيل الشهادة، فإنها تبلغه كل أمل وتوصله إلى أبعد غاية.
إن الدنيا كلها ترقب نجاحه في «البكالوريا» (1)، فإذا نجح
(1) شهادة الثانوية العامة كما هو اسمها في الشام، لا يزال كذلك إلى اليوم (مجاهد).
فتحت له الأرض كنوزَها وحمله الناس على أعناقهم إلى سدة المجد، وقاموا بين يديه قيام الخدم بين أيدي الملوك.
تلك كانت أحلام الصبا
…
فيا رحمة الله على عهد الصبا!
-5 -
حرّم الشاب على نفسه كل متعة من متع الدنيا؛ فلا نزهة ولا راحة، ولا حظّ له في النوم العميق ولا الطعام الهنيء، ولا شغل إلاّ شغل المدرسة. حبس نفسه بين كتبه ودفاتره يقرأ آناء الليل وأطراف النهار، ينتقل من هذيان الأدباء إلى طلسمات الرياضيين والعلماء، وحساب الجيب والمماس إلى شعوذات الطبيعيين وأصحاب الكيمياء، ودرس الملح والحامض والضياء والكهرباء إلى خرافات الفلكيين وجغرافية السماء
…
يدس هذا الهراء كله في دماغه ليصبه يوم الامتحان في ورقة الفحص، ثم يلقيه في مكانه ويخرج من المدرسة فارغ الرأس كما دخلها أول مرة!
كان يخشى أن يثأر منه المدرّسون الذين جرّعهم الصّابَ وسقاهم الحنظل باعتراضاته ومناقشاته وثوراته فيسقطوه في الامتحان، فجدّ كل الجد، ولم يدع في كتب المدرسة حاشية إلاّ حشاها في رأسه، ولا تعليقة إلاّ علقها في ذاكرته، ثم دخل الامتحان بعقل من سطوح وأجسام، وخطوط وأرقام، وخرافات وأوهام، فنجح أعظم نجاح!
وهل ينجح في الامتحان إلاّ من حفظ ولم يفهم؟ وهل تدل
هذه الامتحانات إلا على قوة الذاكرة، وشدة الحفظ، وإتقان المنهج المقرر؟
* * *
نجح، فوثب فرحاً، وتهيأ لخوض معركة الحياة، فقالوا له: مهلاً! قال: ماذا؟ قالوا: لا بدّ من شهادة عالية؛ إن المستقبل لا يُضمن إلاّ بشهادة عالية.
قال: ويحكم! وهل يُبنى المستقبل على «الورق» ؟
وانطلق يلعن هذا المستقبل الذي حرَمه عبث الطفولة ومتعة الشباب، ونغّص عليه حياته ولم يتركه يستريح إلى حاضره يوماً واحداً. كان -أبداً- يدفعه إلى الأمام، فيعدو كالفرس المحموم، فيتعب من العدو ولا يصل إلى منزل!
-6 -
راح الشاب يدرس الحقوق لينال الشهادة ويضمن المستقبل، ويشتغل بالأدب ليستجيب للرغبة ويحظى بالمتعة، ويعمل في الجريدة ليضمن العيش ويعول الأسرة
…
واستمر على ذلك حتى نال «الليسانس» .
فربح بقربه من الأدب البعدَ عن الناس والجهلَ بالحياة، وكسب بميله الأدبي وطبعه المستوحش وجهله بالحياة خصومةَ الحكام ومضادّةَ الكبراء وعداوة المال!
-7 -
نزل الشاب إلى ميدان الحياة برأس مترع بالعلوم والمبادئ السامية، ويد مثقلة بالشهادة الابتدائية والثانوية والعالية، وجيب خاوٍ خالٍ.
فلم تكن إلا جولةٌ واحدةٌ حتى ولّى منهزماً!
* * *
ذلك لأن سلاحه من «طراز قديم» لم يعد يصلح اليوم في معركة الحياة!
ولقد خدعته المدرسة وكذبت عليه، وصورت له الحياة على غير حقيقتها.
قالت له المدرسة: «العلم خير من المال؛ العلم يحرسك وأنت تحرس المال» . فرأى أن المال في الحياة خير من العلم، العلم لا يُنال إلاّ بالمال، فلو أن شاباً كان أذكى الناس وأنبهَ الناس، وكان مفلساً لا يملك أجور المدرسة وأثمان الكتب والثياب، لما قُبل في جامعة ولا حصّل علماً. والعلم لا يثمر إلاّ بالمال، فلو أن أعلم أهل الأرض كان مفلساً، يفكر في خبزه من أين يأتي به وبيته كيف يستأجره، لما بقي له عقل يفكر وذكاء ينتج. ورأى أن أصحاب الأموال الجاهلين تُبيحهم الحياةُ أجملَ ما تملك من متع ولذائذ ومجد وجاه، والعلماء الفقراء محرومون من كل شيء.
نعم؛ إن المدرسة كانت تكذب عليه!
وقالت له المدرسة: «الأخلاق أساس النجاح» ، وضرب له المعلم مثلاً سيئاً طلاباً لا أخلاق لهم ولا عفاف، وضرب له مثلاً عالياً طلاباً كانوا نموذج الطهر والاستقامة والشرف. فرأى أن الأولين قد بلغوا أعلى المراتب وأسمى المناصب والآخرين تحت تحت
…
على العتبة!
فعلم أن المدرسة كانت تكذب عليه!
وقالت له المدرسة: «إن الحق فوق القوة. القوة للحق وليس الحق للقوة» . فآمن بذلك وصدّقه وتسلح بسلاح الحق، فما راعه إلاّ اللص يضع مسدسه في صدغه يطلب ماله وثيابه، فألقى عليه محاضرة في الحق جمع فيها كل ما تعلمه من أساتيذه وأضاف إليه ما انشقّ عنه ذهنُه، فردّ عليها اللص بقهقهة مروّعة، وذهب بأمواله وثيابه ورجع هو عارياً؛ لم يبقَ له إلاّ فكرة سخيفة لا تسمن ولا تغني من جوع ولا تنجي من برد!
ورفع شكواه إلى القاضي، فلم يرَ عند القاضي حقاً يقهر القوة، ولكن وجد عنده قوة تصنع الحق؛ وجد قوة الجنود. فأين يبقى الحق إذا ثار اللصوص على الجند أو فتكوا بهم؟
هذه هي سنة الحياة. وليس على الحياة ذنب، فهي سافرة لم تستتر ولم تخدع أحداً عن نفسها، ولكن الذنب على الأدباء والمدرّسين الذين وضعوا عيونهم في أوراقهم وحبسوا أنفسهم في مكاتبهم، وأرادوا أن يدرسوا الحياة فلم يفهموا منها شيئاً.
-8 -
وجلس الشاب (الليسانسيه في الحقوق) يدوّن آراءه تلك في كتاب، فلما انتهى منه حمله إلى الناشر وكله زهو وإعجاب بنفسه، فقلّبه الناشر العامي وصفحه (1)، فلما رأى اسم صاحبنا عليه لوى شفتيه وقوّس حاجبيه، وقال له: إن الناس لا يقرؤون الآن ما تكتب، ومتى صرت (في المستقبل) كاتباً مشهوراً ننشر لك آثارك.
فخرج متعثراً بأذيال الخيبة، يلعن المستقبل لعناً.
* * *
ما هو هذا المستقبل؟ وهل اقتربتُ منه شبراً واحداً وأنا أركض وراءه منذ سبعة وعشرين عاماً؟ فمتى أصل إليه؟ وأين هو؟ أهو في العام الآتي؟ أهو فيما بعد خمس سنين؟ وهل يبقى مستقبلاً إذا أنا بلغته أم يصبح حاضراً ويكون عليّ أن أبلغ مستقبلاً آخر؟
…
أيكون مستقبلي القبر؟ لقد طوّفت في الآفاق وشرّقت وغربت وأنجدت وأعرقت
…
فما رجعت إلاّ بالخيبة والتعب والإفلاس. فأين أجد الهدوء والراحة من هموم العيش حتى أنصرف إلى ما خُلقت له من الدرس والمطالعة والكتابة والتأليف؟
* * *
(1) علّق الشيخ على هذه الكلمة في غير هذا الموضع من كتبه فقال إن الصواب صَفَحَ لا تصفّح. وفي المعجم: صَفَحَ ورقَ الكتاب: عرضه ورقة ورقة (مجاهد).
وذهب الشاب (الليسانسيه في الحقوق) يفتّش عن الخبز فلم يجده عند ناشر الكتاب، ولا في إدارة الجريدة، ولا في مكتب المحامي، ولم يجده إلاّ في مدرسة القرية، فصار «معلم صبيان» فيها يُقرئهم ألف باء، ثم ارتقت به الحال قليلاً فصار يدرّس سير الأدباء وأشعار الشعراء
…
يكدّ ويتعب في الليل والنهار، يحمل آلام الغربة وعناء العمل، ثم لا ينتج أثراً أدبياً ولا يفيد علماً ولا يحفظ في جيبه درهماً واحداً.
إنه يشتغل من أجل المستقبل!
-9 -
أين ذلك الطفل الذي كان يكره المدرسة ويُبغض المعلم القاسي مِن هذا المعلم الفظّ، الذي يرهق الأطفال ويهز عصاه في وجوههم ويقرع بها جنوبهم؟ من يستطيع أن يتصور أن هذا هو ذاك؟ وأيُّ شبَه بينهما؟ إنهما مختلفان في الجسم والشكل والطبائع والميول، فلن يكونا شخصاً واحداً!
أين ذلك الطالب المتحمس الذي كان يقود الطلاب إلى المظاهرات ويخطب في المساجد والمجامع والأسواق مِن هذا المدرس الخامل الذي يلقي دروس الأدب على هؤلاء الطلاب، ويبدو فيهم كشيخ هِمّ (1) في الثمانين؟ هل هما شخص واحد؟
(1) الهِمّ (بكسر الهاء) هو الشيخ الكبير الفاني، والجمع أهمام (مجاهد).
إن ذلك الطالب لو رأى هذا المدرس لأبغضه وكرهه ولما تردد في البطش به!
وأين ذلك الشاب الذي تفيض نفسه بالآمال الكبار من هذا اليائس القانط الذي لم يعد يأمل في شيء، لأنه جرّب فلم يصل إلى شيء؟
-10 -
وبعد، فلِمَ أفكرُ في هذا؟
إنني لا أدري من أنا ولا أعرف كيف وجدت، ولا أعلم ما هي صلتي بذلك الطفل الذي نسيت حتى صورة وجهه، وذلك التلميذ الذي لم أعد أعرفه إلاّ بالتخيل، وذلك الطالب الذي أحبه وأتشوق إليه، وذلك المعلم الذي أرثي له وأشفق عليه؟
هل أنا كل هؤلاء؟ وماذا بعد؟
يا لله! إني أحسُّ كأني جُننت حقاً!
* * *