المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أول مقالة نشرتها وأول درس ألقيته - من حديث النفس

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌أول مقالة نشرتها وأول درس ألقيته

‌أول مقالة نشرتها وأوّل درسٍ ألقيته

نشرت سنة 1941

إني لأخط عنوان هذا الفصل وأنا أسخر من نفسي، إذ أحدث الناس حديث مقالاتي، والناس في شغل عني وعن مقالاتي بهذا الهول الهائل، والبلاء النازل، والغلاء الشامل (1)، وبالله العوذ مما هو أشد وأعظم.

ولعمر القراء ما أُكثر الحديث عن نفسي لزهوّ ولا لكبر ولا غرور، ولكنها صناعة الأدب يسوغ معها ما لا يسوغ مع غيرها. وإني -إذا أردتَ الجدّ- لمن أشد الأدباء زهادة في الأدب، وإخال أن الناس في أدبي لأزهد. ولولا كليمات أسمعهن أحياناً فيهن تعليق على ما أكتب أو ثناء عليه، أو رسائل في مثل ذلك قد تأتيني، أو فقرات قد أقرؤها في صحيفة فيها تنويه بي

لولا ذلك (وما ذلك؟!) ما ظننت أن أحداً يقرأ مقالاتي!

وما قصدت هذا الموضوع قصداً، ولكني نبشت أوراقي أفتّش عن ورقة أريدها، فخرج في يدي عدد من «المقتبَس» قديم، تاريخه سنة أربع وعشرين وتسعمئة وألف، ففتحته أنظر فيه ففُتحت لي دنيا من الذكريات اللذة، وقرأته فقرأت فيه تاريخ

(1) وذلك في أيام الحرب العالمية الثانية (مجاهد).

ص: 201

نفسي: رأيتني في الصفوف الأوائل من الثانوية وحولي رفقة ما رأيت بعدهم مثلهم في إقبالهم على الدرس وجلدهم عليه، وفي رسوخ ملكاتهم الأدبية وقوة طبعهم في الأدب وسليقتهم في اللغة، وتسابقهم إلى مطالعة نفائس المصنفات ومعرفة المصادر والأمهات (1). ولم يكونوا كشباب اليوم الذين يحاولون الكتابة قبل القراءة، ويغترون بالنشر فيحسبون أنهم أنداد وأقران لكل من يكتب في الصحيفة التي تنشر لهم، ويعلن أحدهم عن كتابه الذي سيصدره قبل أن يكتب منه عشر صفحات، وينتقد الكاتب الكبير وهو لا يحسن أن يقيم لسانه في قراءة مقالة من مقالاته، ويخدع المجلة عن أدبه فتظنه شيئاً فتخدع به القراء، وما لم أذكر من صفاتهم آلم وأنكى.

وكنت قد قرأت طائفة من الكتب أذكر أن منها «حياة الحيوان» للدميري، وهو أول ما طالعت من الكتب، وهو دائرة معارف (كما يسمونها اليوم) أو هو مُعْلَم (2) جامع فيه فقه ولغة وأدب وقصص وتاريخ وخرافات وعلم وحقائق، أفدت منه كثيراً. و «الصاحبي» لأحمد بن فارس، وقد ألقى في نفسي إجلال العربية والإيمان بسعتها وجلالها، وحبب إليّ جزالة الأسلوب وفحولة اللفظ، ولا أزال إلى اليوم أعجب برسالة ابن فارس هذا إلى من أنكر فضل الجديد لأنه جديد ومال إلى تقديس كل قديم لأنه قديم،

(1) والأجود في مثل هذا الموضع «الأمَّات» وفي الوالدات الحقيقيات «الأمهات» .

(2)

«مُعْلَم» على وزن مُعْجَم خيرٌ عندي من مَعْلَمة التي سمّوا بها الإنسكلوبديا.

ص: 202

وأعدّها من نفائس الآثار، وهي في مقدمة الكتاب. و «بلوغ الأرب» للألوسي، وقد أورثني التعصّب للعرب والمبالغة في ذلك، ثم علمت أنْ قد كان فيه زيف كثير كما كان فيه صحاح كثير، وما زلت أحفظ جملة صالحة من أخباره صحيحها وباطلها. و «الأغاني» ، قرأته كله، أعني أخباره وقصصه دون ما فيه من أسانيد وأصوات وأشعار وأنساب، وهو رأس مالي في الأدب، وقرأت «الكشكول» و «المِخلاة» ، و «مراقي الفلاح» في الفقه الحنفي، ألزمني والدي قراءته، أسبغ الله عليه رحمته. و «شرح رسالة ابن زيدون» المطبوع على هامش «الغيث المنسجم»

وكانت طريقتي في المطالعة أني إذا فرغت من دروس المدرسة دخلت مكتبتنا فتخيرت كتاباً فأخذته فنظرت فيه، فإن أعجبني مضيت فيه لا أدعه حتى أتمه، وإلا أخذت غيره. لا أستعين على ذلك بمرشد ولا أستهدي بهاد، إلا ما كان شيخنا الأستاذ اللغوي الشيخ عبد القادر المبارك يسمّيه لنا من الكتب ويرشدنا إليه. وكنا نأخذ الأدب عن الأديب الضليع المتفنّن الأستاذ سليم الجندي، وكان يحذّرنا -جزاه الله خيراً- أن نقرأ الجرائد والمجلات وكتابات أهل العصر (على اعترافه أن فيهم من أطفأت شمسُه بدورَ البلغاء من الأوائل) خشية أن نسيء الاختيار فتصيبنا عدوى الركاكة، وهي شر من عدوى الكوليرا والجذام! فدخلت الجامعة وأنا لا أعرف من العصريين إلاّ المنفلوطي رحمه الله، وكنت أظنه أبلغ كتّاب العصر ولا أعدل بأسلوب «نظراته» شيئاً حتى وقع في يدي «رفائيل» للزيات، فوجدته كنزاً من أغلى كنوز النثر وصَغُرت معه «عبرات» المنفلوطي حتى صارت كلا

ص: 203

شيء. ثم عرفت الرافعي وقد أصدر كتابه «تحت راية القرآن» (رفع الله به درجاته في الجنة)، فعلمت أن الله قد خلق مَن هو أبلغ من المنفلوطي، إي والله، ومِن عبد الحميد وابن المقفع وابن العميد، ومَن كنا نراهم يومئذ أئمة البلاغة واللَّسَن. على أني لم أنسَ المنفلوطي وترجمت عن شكري له ولأستاذيّ الجندي والمبارك بإهداء الثلاثة كتابي «الهيثميات» ، وهو أول كتاب ألفته سنة 1930، (وعلى أن رأيي في الرافعي قد بدّلته الأيام فلم أعد أستحسن من الأساليب إلا ما قارب الطبع وبَعُدَ عن الصنعة)(1).

أقول: إني أحسست بعد قراءة ما ذكرت من الكتب بشيء تجيش به نفسي فنفست عنها بمحاولة الكتابة، فاستوى لي مقال نسيت اليوم موضوعه، قرأته على رفيقي أنور العطار (وكان يومئذ يجرب قول الشعر)، فأشار عليّ أن أنشره، فاستكبرت ذلك. فما فتئ يزيّنه لي حتى لنت له، وغدوت على إدارة المقتبس، وكانت في شارع السنجقدار العظيم الذي صار خرائب وأطلالاً. فسلمت على أبي بسام الأستاذ أحمد كرد علي رحمه الله ورحم جريدته

ودفعت إليه المقال.

ولم يكن من إخواننا من يعرف طريق صحيفة أو يجرؤ على النشر فيها. وكنا يومئذ متلبسين بجريمة الحياء التي أقلع عنها شباب اليوم والحمد لله الذي لا يحمد على المكروه سواه! فنظر في المقال فرأى كلاماً مكتهلاً ناضجاً، ونظر في وجهي فرأى فتى فطيراً، فعجب أن يكون ذاك من هذا، وكأنه لم يصدقه فاحتال عليّ

(1) ما بين القوسين إضافة بخط الشيخ على المقالة لم تظهر في الطبعات السابقة من الكتاب (مجاهد).

ص: 204

حتى امتحنني بشيء أكتبه له زعم أن المطبعة تحتاج إليه فليس يصح تأخيره، فأنشأته له إنشاء من يسابق قلمه فكره، فازداد عجبه مني ووعدني بنشر المقال غداة الغد، فخرجت من حضرته وأنا أتلمس جانبَيّ أنظر هل نبتت لي أجنحة أطير بها لفرط ما استخفني السرور. ولو أني بويعت بإمارة المؤمنين ما فرحت أكثر من فرحي بهذا الوعد. وسرت بين الناس وكأني أمشي فوق رؤوسهم تعالياً وزهواً. وما أحسبني نمت تلك الليلة ساعة، بل لبثت أتقلب على الفراش أتصور أيَّ جنة من جنات عدن سوف أدخل في غداة الغد

أيَّ كنز سأجد. وجعلت أترقب الصباح ولا ترقب عاشق متيم ينتظر وصلاً بعد طول الهجران، حتى إذا انبثق الصبح وأضحى النهار أخذت الجريدة، فإذا فيها المقال وبين يديه كلمة ثناء لو قيلت للجاحظ لرآها كبيرة عليه!

* * *

وعدت أنظر إلى الجريدة القديمة الصفراء وهي ماثلة بين أوراقي، وأفكر في هذا الأدب ماذا جني عليّ وماذا جنيت منه. لقد سرت بعد تلك المقالة أعدو في طريق النشر، فكتبت في جرائد الشام ووفدت على خالي الأستاذ محب الدين الخطيب في مصر، فأخذ بيدي وسدد خطواتي وكان لي أفضل مرشد ومعين، وأفدت من خلقه ومن علمه ومن ماله. ثم عدت إلى دمشق، ثم اتصلت بالرسالة، صديقة روحي وسميرة وحدتي، وكانت لي خير مدرسة، فيها الأستاذ الزيات خير مدرس.

وكنت إذا نظرت في كتاب، أو أصغيت إلى حديث، أو ضمني مجلس، أو شملتني عزلة، أو اضطجعت لأنام، أو نهضت

ص: 205

من منام، أو ذكرت ماضياً، أو فكرت في آت، أو أغمضت عيني متأملاً، أو فتحتهما على مشهد من مشاهد السماء والأرض

أجد في كل ذلك موضوعاً لمقالة أكتبها أو فصل أُنشئه، وأجد الهمة حاضرة والذهن نشيطاً. ثم كرّت أيام وغبر دهر، وأصبحت لا أستطيع أن أخط سطراً على قرطاس، وإذا كتبت لم أدر كيف أكتب ولا لماذا. وأبعث بالذي أكتبه إلى «الرسالة» مضطرب الأعصاب مزلزلها، فإن أخّرَتْه غضبت، وإن ألفَيتُ به تطبيعاً وخطئات لم ينتبه لها المصحح تألمت، وإن وجدته نسب إليّ ما لم أقل وجعل في المقالة أخطاء تدل على جهل الكاتب وما هي مني ولا أنا صاحبها عزمت على ترك الكتابة بالمرة وكَبُر عليّ الأمر. ثم إن جاءت المقالة منشورة قرأتها مرة لأطمئن عليها ومرة لأنقدها مجرّداً من نفسي ناقداً لها، ثم أرميها فلا أطيق النظر فيها، ولا أجد من يحدثني عنها كأني أكتب لصخور الجبل لا لبني آدم!

فماذا أفدت من الأدب؟ أما إني لم أجد الأدب إلاّ عبثاً ولم أجد الأدباء إلاّ مجانين! يسعى الناس وراء المال ويسعون وراء سراب خادع يسمونه «المجد الأدبي» ؛ كلما أقبلوا عليه نأى عنهم فما هم ببالغيه حتى يموتوا

وما ينفع ميتاً ذكر في الناس ولا يغني عنه مجد، ما ينفعه إلاّ ما قدّم من عمل صالح. ولقد كان رفيقي سعيد الأفغاني أعقل مني، إذ كان يمد شفته ساخراً كلما حدثته عن آمالي في الحياة ورغبتي في أن أكون كاتباً يشار إليه بالأصابع، وكنا يومئذ في المدرسة الثانوية نتسابق إلى مطالعة الكتب ونتبارى في تلخيصها والملاحظة عليها. فما صنع الزمان بآمالي؟ لقد أراني أني كنت أسعى أطلب السراب فلا أصل إلى شيء، وما ثمة شيء حتى أبلغه!

ص: 206

هذه هي قصة ابتلائي بهذا الأدب الذي أنا تاركه اليوم، أو ظانٌّ أني تاركه، ومقبل على الفقه أجدّد العهد بما قرأت من كتبه وواهب له قوّتي ووقتي (1)، فليهنأ الذين يجدون فيّ سداً في وجوههم أن يبلغوا من الأدب ما يريدون، والذين يرون أني مزاحمهم على هذا المورد الآسن.

ولقد كنت أهزل يوم كتبت أفضل الأدب على العلم، وأين من أين؟ وهل تستوي الحقائق والأوهام؟ وهل من علمٍ يوازي علمَ الفقه ويضارعه شرفاً، وبه يُعرف الحلال من الحرام، وبه تضمن الحقوق ويدرأ الخصام ويعم السلام

؟ ولئن فزع الشباب من زيِّ أهل الفقه وخافوا أن يوصَموا بالجمود والرجعية، فما يُفزع ذلك مَن سمِّي بالشيخ وارتضاه له اسماً، ولا تثقل عليه عمامته إن كوّرها ولا لحيته إن أطلقها

وللثياب، لا جرم، عمل في تكوين طبائع المرء وتوجيه سيرته، فأنت حين تتخفف من الثياب أو تتخذ ثياب أهل الرياضة (السبور)، فتلبس السراويلات المناكير القصار أو التبّان، تشعر بالخفة وتميل إلى القفز والتوثب وتكره القرار على الأرض، فإن أطلت لبسه أوشك أن يكون ذلك لك عادة. وإن لبست الجبة ولبثت على هامتك العمامة ملت إلى التوقر والرزانة، ولم تستطع أن تأتي ما هو مناف لها، وتنزهت حتى عن قعود في

(1) أراد الله بعلي الطنطاوي الخير ففتح له باب القضاء في السنة التي نُشرت فيها هذه المقالة، فانقلبت نيّته التي صرّح بها هنا واقعاً عاشه إلى آخر أيامه، وانصرف إلى الفقه والقضاء والفتوى. أسأل الله أن يجعل ذلك له في ميزان حسناته وأن يكون ما ترك منه من العمل الصالح الذي لا ينقطع أجر صاحبه بعد مماته (مجاهد).

ص: 207

قهوة أو ولوج سينمة، أو إسراع في مشية في طريق، أو مزحة نابية أو قهقهة مقرقعة في مجلس

وتتطبع على ذلك حتى يعود لك طبعاً. وإن اتخذت (البرنيطة) جنحت بالضرورة إلى مصاحبة أهلها ومجالستهم، وملت عن المساجد ومجالس العبادة ولو كنت مصلياً متعبداً، ومن هنا جاء النهي عن التشبه بغير المسلمين، والأمثلة على ذلك كثيرة

على أني إن تركت الأدب فما أنا بتارك الكتابة. وإنّ من الكتابة لعلماً، وإن منها لإصلاحاً، وإن منها لما ينفع الناس ويدلهم على طريق الخير

كما أن من الكتابة ما هو ثرثرة جميلة وتسلية سخيفة ولغو من القول يذهب جفاء

فلينظر ذوو الأقلام ما يأخذون منها وما يدَعون، ولينظر القراء ما يقرؤون منها وما يهملون!

* * *

أعتذر إلى القراء مرة ثانية من الحديث عن نفسي، فإنه أثقل الأحاديث على أذن السامع، ولكنها صناعة الأدب، قاتلها الله!

ولقد أردت -حين شرعت في هذه المقالة- أن أقول أشياء كثيرة زورتها في نفسي وأعددتها، فلما بلغت الكلام عن أول درس ألقيته، وذكرت هذه المرحلة من حياتي التي قضيتها معلماً وتنقلت في الآفاق، ورأيت فيها من المتع والآلام ومن بيض الليالي وسود الأيام ما لا يعلم حقيقته إلا الله

وما لم أصف في مقالاتي في «الرسالة» إلاّ الأقل الأقل منه

لما بلغت ذلك اعتلج في نفسي من العواطف وثار فيها من الذّكَر ما عقل قلمي وحبسه عن المسير.

ص: 208

وكيف أجمع في مقالة واحدة ما تفرق من قلبي في جنّات دمشق وقد علّمت في كل مدرسة فيها، وفي «الحرش» الفتّان من بيروت حيث الكلية الشرعية، وعلى الشاطئ الوادع من دجلة حيث الثانوية المركزية، وفي طريق الأُبلّة إحدى متنزهات الدنيا الأربعة حيث الثانوية البصرية، وعلى سِيف الفضاء الأرحب من كركوك بلد الذهب الأسود الذي يشتعل أبداً، وعلى ضفة الفرات الجميل في دير الزور، البلد الكريم أهله

وحيث أذكر ولا أذكر؟

إنها لتخطر على قلبي -الساعةَ- آلافٌ من الصور التي مرت من قبل على عينيّ، بل إني لأبصر الآن الآلاف من وجوه زملائي في التعليم وتلاميذي الذين أحببتهم، تنبعث من ظلام الذكريات ثم تطيف بي محيّية باسمة تتلو عليّ قصة نفسي، وتعيد إليّ ما مضى من عمري، فكيف إلى الاجتماع بهؤلاء الأصدقاء لأودعهم قبل أن يتجدد الفراق، ولأحدث بهم عهداً؟ كيف وقد تفرقوا تحت كل نجم؟! كيف وقد علا منهم مَن علا وهبط مَن هبط، وشغلتهم شواغل الحياة فلم يعودوا يذكرون معلّماً ولو لم ينسَهم ذلك المعلم! كيف ومنهم الوفي ومنهم الجاحد والناس معادن

يا رحمة الله للمعلمين، لمن كان له منهم قلب! وسلام على أيامي التي صرّمتها معلماً

وعلى كل من يقرأ هذا الفصل من زملائي وتلاميذي، ولهم مني أوفى حبي، وتحيات قلبي.

* * *

ص: 209