الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في الكُتّاب
أذيعت سنة 1959
نويت أن أجعل هذا الحديث ليوم الطفل، فصحّت النية ولكن لم يتم المراد.
أردت أن أتكلم فيه عن مشكلات الطفولة اليوم، فكان عن ذكريات طفولتي أنا أمس، وأردته موعظة وعبرة، فجاء قصة وذكرى. والقلم قد يجمح بيد الكاتب أحياناً كما يجمح الفرس بالفارس، فيمشي حيث يريد هو لا حيث يريد صاحبه.
وذلك أنني قعدت لأكتب هذا الحديث وأنا لم أعدَّ عدّته، لأن الوقت ضاق بي وأعجلني الموعد، فشرعت وما ركزت أسس الفكرة ولا بيّنت مسالك القول، وأخذت القلم أنتظر ما يُفتح به عليّ. فما فُتح عليّ باب القول ولكن فُتح باب الغرفة، ودخل مؤمن الصغير (1)، ابن بنتي، وهو محمرّ العينين، سائل الدمع على
(1) وهو اليوم طبيب في مستشفى الملك فهد في جدة.
قلت: هذه الحاشية أضافها الشيخ بخطّه إلى الكتاب، وذلك حين نشر المقالة في صحيفة «الشرق الأوسط» في سلسلة «صور وخواطر» التي بدأ بنشرها في آخر عام 1987. وشاء الله أن يبقى مؤمن طبيباً في مستشفى الملك فهد بجدة حتى توفي جدي رحمه الله فيه وهو قائم على رأسه، ثم =
الخدّين، ينشج نشيجاً مؤلماً. فظننت أن قد أصابه شيء ووثبت أسأله: ما لك؟ هل وقعت؟ فهزّ رأسه. قلت: هل ضربوك؟ فهزّ رأسه. قلت: ما لك؟
فأجاب بصوت مختنق بالبكاء، تقطعه الزفرات، قال: إدّوا (أي: جدّو)!
قلت: نعم؟
قال: لوح
…
قلت: لوح؟ لوح شوكلاطة؟
قال: لأ، لوح دَسِهْ، أمان.
فلم أفهم، فجاءت خالته الصغيرة (يمان)(1) تترجم عنه، قالت بلسانها الناقص: بدُّو لوح أدَّسة، مع أمان.
= انتقل من هذا المستشفى فعمل في غير واحد من المستشفيات التخصصية في مكة والطائف. وقد استهواه ابتكار العصر، الكمبيوتر، فبرع في شؤونه، حتى صنع للشيخ موقعاً على الشبكة العالمية نشره على الناس فيما كنت أعد هذا الكتاب للنشر [www.alitantawi.com](مجاهد).
(1)
تخرجت في جامعة الملك عبد العزيز وهي أم لأربعة أولاد، وأختها أمان درَست في جامعة دمشق وهي أم لستة.
قلت: وهذه الحاشية أضافها جدي إلى الكتاب عام 1987 كسابقتها. وأضيف أنا إليها الآن أن يمان قد حصلت على درجة الماجستير بامتياز في الفقه من جامعة أم القرى وأنا أُعِدّ هذا الكتاب للنشر. وكنا ثلاثتنا، خالتي يمان ومؤمن وأنا، رفاقَ طفولة؛ يصغرها مؤمن بشهور وأنا بسنتين (مجاهد).
قلت: للمدرسة مع أمان؟
فأشرق وجهه وسكت، وقال: لوح دسه أمان.
قلت: وتبكي من أجل المدرسة؟! اقعد هنا أحسن، بلا مدرسة.
فلما سمع ذلك صرخ من كلمتي صرخةَ مَن قرصته نحلة، وعاد يبكي ويعول. فهدأته ووعدته حتى سكت، وجعلت أعجب منه إذ يبكي شوقاً إلى المدرسة، وأذكر كيف كنا نبكي نحن خوفاً منها وكرهاً لها.
* * *
وكرّت بي الذكرى إلى سنة 1914، إلى أول خَطب من خطوب الدهر نزل بي. لا أعني الحرب العامة فلم تكن الحرب قد أعلنت، وما كنت يومئذ لأفقه معنى الحرب أو أبالي بها، ولكن أعني ما هو أشدّ وأفظع، أشدّ عليّ أنا؛ ذلك هو أول دخولي المدرسة. لقد كان يوماً أسود لا تُمحى من نفسي ذكراه، ولا أزال إلى اليوم -كلما ذكرته- أتصوّر روعه وشدّته. لقد كرّهَ إليّ المدرسة وترك في نفسي من بغضها ذخيرة لا تنفد، ولقد صرت من بعد معلّماً في الابتدائية ومدرّساً في الثانوية وأستاذاً في الجامعة، وعلّمت الكبار والصغار، والبنين والبنات، وما ذهب من نفسي الضيق بالمدرسة والفرح بالخلاص منها، والأنس بيوم الخميس واستثقال يوم السبت، وما ذهبتُ إلى المدرسة مرّةً إلاّ تمنيت أن أجدها مغلقة أو أجد فيها إضراباً يعطل الدروس!
لقد أخذني جدّي معه ذلك اليوم إلى جامع التوبة (1) فصلّى الصبح ولبث حيناً، ثم أدخلني باباً يقابل الجامع. وكنت في ضياء الصباح وسنا الشمس، فلبثت في ذلك المكان دقائقَ وأنا لا أبصر ما فيه، ولكنّ أنفي لمس رائحته العفنة المنتنة ونشق هواءه الآسن. ثم أبصرت المكان، فإذا هو غرفة فسيحة فيها عشرات من الأولاد قاعدون على الأرض، يهتزون ويتمايلون، يحملون في أيديهم كتباً ينظرون فيها، ويصوّتون أصواتاً متنافرة كأنها دويّ النحل منقولاً من مكبر للصوت، وتحتهم دكة واطية من الخشب تنتهي قريباً من الباب، وأمامها أرض مكشوفة موحِلة قد صُفّت إلى جوانبها القباقيب، والى اليسار عجوز (2) مخيف على كرسيّ عال، بيده عصا طويلة يضرب بها الأولاد ينال بها من كان في آخر المكان.
هنالك تركني جدي؛ فما أغلق البابَ وراءه وذهب حتى أحسست كأن قلبي قد ذهب معه، وكأنْ قد أُغلق عليّ قبر، وعراني من الوحشة والفزع ما لا أزال أرتجف إلى الآن كلما ذكرته! هذه هي المدرسة التي كانت في أيامنا.
(1) لهذا المسجد قصة؛ هي أنه كان خاناً يُدعى «خان الزنجاري» تُرتكَب فيه أنواع الموبقات والمعاصي، فبلغ ذلك الملك الأشرف فاشتراه وهدمه وأقام مكانه هذا المسجد الذي يسمى «جامع التوبة» ، وهو من المساجد الكبيرة في دمشق.
(2)
في أكثر من موضع من كتبه المنشورة أشار جدي رحمه الله إلى أن كلمة «عجوز» تُطلق -في الأصل- على المرأة، لكنها عمّت في الاستعمال فلا بأس فيها. قلت: والأصل أن المرأة إذا تقدمت بها السن عجوز والرجل شيخ (مجاهد).
كان على التلاميذ أن يكونوا فيها بُعَيْد مطلع الشمس وأن يبقوا فيها إلى قُبيل الغروب، لا يتحركون ولا يتكلمون ولا يكفّون عن القراءة والتمايل، يحملون أكلهم معهم فيأكلون وهم قاعدون، وإذا عطشوا قاموا إلى البركة فوضعوا أفواههم في مائها الملوَّث وعبّوا مثل الجمال، وإذا كانت لهم حاجة ذهبوا إلى مراحيض المسجد. والمكان مغلق دائماً، لا يُفتح له باب ولا نافذة ولا يُجدَّدُ له هواء، ولا يمضي على الولد فيه يوم لا تصيبه فيه من الشيخ بليَّة: خفقة بالعصا على رأسه من بعيد، أو ضربات على رجليه بالفلق (1) من قريب، أو (مونولوج) كامل من أبدع الهجاء يقرع أذنيه
…
ولقد كان من المناظر المألوفة كل صباح منظر الولد «العَصْيان» (2)، وأهله يجرُّونه والمارة وأولاد الطريق يعاونونهم عليه، وهو يتمسك بكل شيء يجده ويلتبط بالأرض ويتمرغ بالوحل، وبكاؤه يقرّح عينيه وصياحه يجرّح حنجرته، والضربات تنزل على رأسه، يُساق كأنه مجرم عات، يرى نفسه مظلوماً ويرى الناسَ كلهم عليه حتى أبويه
…
فتصوروا أثر ذلك في نفسه، وعمله في مستقبل حياته!
* * *
وما عجب أن تبكوا -يا أولادي- رغبة في المدرسة وقد
(1) الكلمة عربية فصيحة.
(2)
بوزن فَعْلان (مثل كسلان ونعسان): تعبير من عامية أهل الشام، يصفون به الولد الذي يستعصي على تنفيذ الأمر ويتشبث بالرفض فيثبّت نفسه ويأبى التحرك من مكانه (مجاهد).
صارت لكم جنات، وما عجب أن نبكي منها وقد كانت علينا جحيماً. هي لكم مائدة، عليها الطعام اللَّذّ الخفيف في أجمل الأواني، وحولها الزهر والورد ومن ورائها الموسيقى، وقد كانت لنا طعاماً دسماً ثقيلاً، في أوسخ آنية وأقبح منظر.
ولكن من استطاع منا أن يأكل أكثر، وأن يهضم ما أكل، وأن ينتفع به؟ أنتم على كل هذه المشهّيات، أم نحن على كل تلك المنفّرات؟!
أنتم تلبسون للمدرسة أبهى الثياب، ونحن كنا نذهب والله بثوب النوم (السركس) الذي لا يصل لأكثر من نصف الساق، وفوقه رداء (جاكيت) الأب الذي رثّ فحوّلته الأم وصيّرته لنا، وفي الأرجل القبقاب أو الكندرة المصنوعة في المناخلية. ولقد صرت في الثانوية وما عرفت دكان الخياط، إنما ألبس ما تخيط أمي رحمها الله. وما كان فينا من اتخذ عقدة (كرافتة) حتى بلغنا البكالوريا، فأين هذه العناية التي تلقونها مما كنا فيه؟
ويراجع التلميذ اليوم درسه في داره على الكهرباء، وقد يكون لأولاد الأغنياء مكتب خاص يكتبون عليه، ونحن كنا نقرأ على ضوء الكاز (نمرة 3)، وربما هبّت عليه نسمة هواء فتحرك فرسم على الجدار تهاويل كأنها صور الجن، وربما «شحَّرَ» وربما انقلب وسال زيته فأفسد الأوراق والكتب
…
لم تكن هذه الكهرباء إلاّ في الطرق وفي قليل من البيوت، ولقد كانت أسرتنا من أسبق الناس إلى الاستضاءة بها، إذ مُدَّ إلى دارنا شريط من دار الجيران سنة 1916، وعرفت ضوء الكهرباء واستمتعت بها، ولكنها سبّبت
لي (فلقة) حامية؛ ذلك أني ذهبت إلى المدرسة أحدّث التلاميذَ أن في دارنا ضوءاً يشعل بلا كبريت وينطفئ بلا نفخ، ووصفته لهم، فعارضني أحدهم وكذّبني، فشتمته فشتمني، فضربته، فحكم عليّ الأستاذ بفلقة لا أزال أذكر طعمها!
ويمرض الأولاد اليوم فيجدون الطبيب الحاضر والدواء الموجود، المسهل قطعة شُكلاطة أو كأس (ليموناضة) والعلاج حبة صغيرة أو جرعة لذيذة، ونحن كنا نمرض فلا يكون الدواء إلاّ الحقنة والسنامكّي وزيت الخَرْوَع، ولا يأتي الطبيب إلاّ إذا أتى الخطر، وما كان للطبيب كبير أثر، لأن نصف الطب الذي نستمتع به اليوم وثلاثة أرباع الأدوية التي نشفى بها إنما عُرفت بعد التاريخ الذي كنا فيه أطفالاً، فكانت طفولتنا محرومة من الوقاية ومن العلاج.
وأنتم تعيشون في دمشق الجديدة ذات الشوارع الفِساح والحدائق الكثيرة، وعندكم في المدرسة السينمات والمسليات وعندكم في الصيف المصايف والجبال، ونحن كنا نعيش في تلك الأزقّة الضيقة، نخوض الشتاء في الوحل، ما كان في دمشق شارع واحد، وأول شارع شُقَّ فيها (شارع جمال باشا) شُقّ أمامنا، وما كنا نعرف من المصايف إلا أياماً نقضيها في بيوت الفلاحين في الجُدَيدة وبَسّيمة، وقلَّ مَن يذهب إليهما. أما السينمات فأنا أحلف أني حملت البكالوريا وذهبت إلى مصر للدراسة العالية سنة 1928 وما عرفت ما هي السينما.
* * *
فإذا بكى هذا الصغير وبكى أترابه شوقاً إلى المدرسة، وإذا تزاحم الآباء عليها، فلا عجب. ولا عجب إذا كنا نبكي نحن خوفاً من المدرسة، وإذا كنت -وأنا معلم في القرى- أنفّذ قانون التعليم الإجباري لإجبار الآباء على إرسال أبنائهم إليها.
ولكن عندي كلمة لكم يا أولاد، أرجو أن تسمعوها وتفهموها، وإذا لم تستطيعوا فهمها فلتتلطف الأم أو فليتكرم الأب بترجمتها لكم:
إنكم تنعمون بخيرات كنا نحن محرومين منها، وتستمتعون بمُتَع ما كنا نسمع بها، وما هذا الذي عددت لكم إلاّ الأقل الأقل منها، ولكنا -على ذلك كله- كنا خيراً منكم.
كان آباؤنا يضربوننا، على حين نجد الآباء اليوم يدللون أولادهم ويلينون لهم. وكنا نرى طاعة والدينا واحترامَ معلمينا فرضاً علينا، فما كان منا من يجرؤ على مخالفة أمر أبيه، ولا كان في الآباء من يرضى لنفسه أن يخالف ابنُه أمرَه، وكان للأب سطوة وسلطان، لا حكم في الدار إلاّ حكمه، ولا كلام في الأسرة مع كلامه، وكنا نقبّل يده في الذهاب والإياب والقَوْمَة والقَعْدَة، ونجلس في مجلسه خاشعين ساكتين لا نتكلم حتى يأذن لنا، وكان الواحد منا يبلغ مبلغ الرجال ثم لا يتأخر في العودة إلى الدار عن المغرب، ولا ينكر على أبيه أن يشتمه علانية أو يضربه في الملأ، وكنا نبرّ أمهاتنا ونعلم أن حقهن من حق الله وأن برّهن من برّه. أما الأستاذ فما كان منا من يفكر في إزعاجه أو التهاون بأمره.
فهل يعرف أبناء اليوم لآبائهم وأمهاتهم، وهل يعرف تلاميذ اليوم لمعلميهم وأساتذتهم مثل هذا الحق؟
وكانت دروسنا أصعب وبرامجُنا أحفلَ وأملأ، وكنا مع ذلك أكثر منكم إقبالاً عليها، واشتغالاً بها، ونجاحاً فيها، وكنا نقرأ فوقها كثيراً من كتب العلم. ولقد قرأت عشرات من كتب الأدب واللغة والدين وأنا لا أزال في الثانوية. وكنا نؤم مجالس العلماء في المساجد وفي البيوت، فنجمع إلى علم المدرسة علوم الدين وعلوم اللسان، ونحفظ من بليغ القول ونروي من طريف الأخبار الشيء الكثير؛ كنا إذا أردنا التسلية قرأنا قصة عنتر والملك سيف وحمزة البهلوان، وهي كتب أدب وفروسية وبطولة، لا نعرف هذه المجلات ولا هذه القصص ولا هذه الأفلام، ولم يكن في أيامنا بحمد الله شيء من ذلك، ما كان إلا المجلات الدسمة النافعة كالمقتطف والهلال (القديمة)، وما كان في دمشق إلا داران للسينما تُعرض فيهما الأفلام الصامتة السخيفة، ولم يكن في الدنيا سينما ناطقة ولم يكن يدخلها أحد من أهل المروءات.
لقد كان في دمشق ثانوية واحدة، هي مكتب عنبر، ولكن هذه الثانوية الواحدة أخرجت أكثر رجالات الأمة، ولم تكن تمضي سنة لا تقدم فيها كاتباً أو شاعراً أو نابغاً في الطبيعة أو في الرياضيات أو موسيقياً أو مصوّراً أو رياضياً قوي الجسم
…
وعندنا اليوم في دمشق أكثر من عشر ثانويات رسمية للطلاب، فأين الأدباء والعلماء ورجال الفن الذين خرجوا منها؟
* * *
وبعد، فهل تروني كتبت شيئاً يصلح ليوم الطفل؟ لست أدري، ولكنّ الذي أدريه أني قلت حقاً، وأنه إذا كان يوم الإثنين القادم يوم الطفل العالمي، وكانت الحكومة قد احتشدت له واستعدت وعملت، فإن كل يوم للأب هو «يوم الطفل» ، عليه أن يوليه فيه من نفسه ومن ماله ما يجعل من طفل اليوم اللاعب اللاهي رجلَ الغد الذي ينفع نفسَه والناس، ينفع بعلمه وبخلقه، وأن يمهد له بحسن التربية طريق السعادة في الدارين والنجاة في الحياتين. والسلام.
* * *