الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قصة معلم
نشرت سنة 1935
قلت لصديق لي أديب: إني لأقرأ لك منذ عشر سنوات، فما رأيتك أسففتَ إسفافك في هذه الأيام، وإني لأشك: أأنت تكتب ما تكتبه أم يجري به قلمك وأنت نائم، فتأخذه فتضع عليه اسمك؟ فماذا عراك أيها الصديق فأضاع بلاغتك ومحا آيتك؟
قال: دعني يا فلان، دعني؛ فإن سراج حياتي يخبو وشمعتي تذوب، وما إخالني إلاّ ميتاً عما قريب أو دائراً في الأسواق مجنوناً. إنني انتهيت، بعت رأسي وقلبي برغيف من الخبز.
قلت: أربع عليك أيها الرجل وأخبرني ما بك، فلقد والله أرعبتني.
قال: وماذا بي إلاّ أني معلم. إني معلم في مدرسة ابتدائية، نهاري نهار المجانين وليلي ليل القتلى، فمتى أفكر ومتى أكتب؟ وأنا أروح العشية إلى بيتي مهدود الجسم، مصدوع الرأس، جاف الحلق، فلا أستطيع أن أنام حتى أقرأ مئة حماقة، وأصحح مئة كراسة، فأعمي عيني بقراءتها والإشارة إلى خطئها، وبيان صوابها وتقدير درجاتها، فإذا انتهيت من هذا كله (ولا يقرأ تلميذ من كل
هذا شيئاً ولا ينظر فيه) عمدت إلى دفتر تحضير الدروس (وهو الموت الأحمر والبلاء الأزرق الذي صُبَّ علينا هذا العام صباً) فكتبت فيه ماذا أنا فاعل غداً في الفصل، دقيقة دقيقة ولحظة لحظة
…
وماذا أنا قائل من كلمة، أو مقرر من قاعدة، أو ضارب من مَثَل. حتى إذا بلغت آخر كلمة فيه استنفدت آخر قطرة من ماء حياتي، فسقطت في مكاني قتيلاً فحُملت إلى السرير حملاً
…
فنمت نوماً مضطرباً ملؤه الأحلام المزعجة والصور المرعبة، فأحسُّ كأن أمامي ركام الدفاتر التي سأصححها غداً، فلا أنجو منها حتى أبصر المفتش يتكلم من فوق المآذن، فلا يدع قاعدة من قواعد التربية ولا نظرية من نظريات التعليم ظهرت في فرنسا أو إنكلترا إلاّ أرادني على تطبيقها، في فصل فيه سبعون تلميذاً قد حُشيت بهم المقاعد حشواً وصُفّوا على الشبابيك ووُضعوا على الرفوف، مما لا يرضى عنه منهج من مناهج التربية ولا قانون من قوانين الصحة. فإذا انمحت هذه الصورة رأيتُ كأني أُفهم تلميذاً وهو يصغي إليّ ولا يفهم، فأكرر وأعيد فلا يفهم، فأقوم إليه أنظر ما يصنع، فإذا هو منصرف إلى دُبَيرة (1) يربط رجلها بخيط. فإذا شتمته أو أخرجته من الفصل ذهب يستنجد القانون، فينجده القانون الذي حرّمَ العقوبات كلها، وكفّ يد المعلم وشدّ لسانه بنسعة
…
ولا أزال في هذه الأحلام، تنوء بي فأتقلب من جنب إلى جنب، أحس كأن رأسي من الصداع بثقل أُحُد، حتى يصبح الله بالصباح، فأفيق مذعوراً أخشى أن يسبقني الوقت، فلا أدري كم ركعت وكم سجدت، ولا كيف أكلت ولبست، وأهرول
(1) زُلقطة.
إلى المدرسة، لا أستطيع التأخر عنها ولو طحنتني الأوجاع أو أحرقتني الحمّى، لأن المعلم لا يسمح له القانون أن يمرض في أيام المدرسة وعنده أربعة أشهر «عطلة الصيف» يستطيع أن يمرض فيها، فإذا خالف ومرض حُرم الراتب ومُنع العطاء (1)!
أغدو إلى المدرسة فأدخل على تلاميذ السنة الثالثة الأولية، وهؤلاء هم تلاميذي لم يجدوني أهلاً لأكبر منهم
…
فلا أنفكّ أقطع من عقلي لأكمل عقولهم، وأمزّق نفسي لأرقّع نفوسهم، ثم لا أُفلح في تعليمهم ولا أنجح في تفهيمهم ولا أدري من أين السبيل إلى مداركهم، فأنفق ساعة كاملة أقلّب أوجهَ القول وأستقري عبارات اللغة، لأفهمهم كيف يكون «الاسم هو الكلمة التي تدل على معنى مستقل في الفهم وليس الزمن جزءاً منه» ، فلا يفهمون من ذلك شيئاً، ولا أقدر أن أطرح هذا التعريف السخيف أو أستبدل به، فأهذي ساعة ثم أقول: مَن فهم؟
فيرفع ولد أصبعه، فأحمد الله على أن واحداً قد فهم، وأقول: قم يا بني بارك الله فيك، فأخبرني عن معنى هذا التعريف.
فيقول: يا أستاذ! هذا داس قدمي.
فأصيح به: ويحك أيها الخبيث! إني أسألك عن تعريف الاسم، فلماذا تضع فيه قدمك؟ ألم أقل لكم إن هذه الشكاوى ممنوعة أثناء الدرس؟
فيقول: ولماذا يدوس هو على رجلي؟!
(1) كان هذا قانون تلك الأيام.
فأصيح بالآخر: لِمَ دست على رجله يا شيطان؟
فيقول: والله لقد كذب، ما دست على رجله ولكن هو الذي عضّني في أذني.
فأغضب وأصرخ في وجهه: وكيف يعضّك وأنا قاعد هنا؟
فيقول: ليس الآن، ولكنه عَضّني أمس.
ويتطوع العفاريت الصغار للشهادة للمدّعي وللمدّعَى عليه، ويزلزل الفصل، فأضرب المنصة بالعصا وأسكتهم جميعاً مهدّداً مَن يتكلم بأقسى العقوبات (ولا أدري أنا ما أقسى العقوبات هذه؟)، فيخنسون ويُبْلسون، فأعود إلى الدرس فإذا هو قد طار من رؤوسهم، على أنه ما استقر فيها قط!
ويُنفَخ في الصور، فتقوم القيامة ويخرج الأولاد إلى الفرصة، ثم نرجع إلى درس القرآن. فأقول: من يحفظ سورة الفاتحة؟
فيتصايحون: أنا
…
أنا
…
أنا.
- سكوت! واحد فقط
…
اقرأ أنت.
- الحمد لله رب العالمين. إياك نعبِد
…
فأقول: إياك نعبُد.
فيقول: نعبِد.
- ويحك؛ نَعْ بُ د.
فيقول: نَعْ بِ د.
- انتبه يا بني: نَعْ بود.
فيقولها.
- حسن، قل: نعبُد.
فيقول: نعْبِد.
فلا نزال في «نعبُد» و «نعبِد» حتى ينتهي الدرس، ولا يلفظونها إلاّ بالكسر لأنهم حفظوها من السنة الأولى خطأ.
* * *
ولا أزال في هذا البلاء بياضَ نهاري، ولا يأتي المساء وفيّ بقية من عقل أو أثر من قوة. ثم لا أنا أرضيت الوزارة، ولا أنا نفعت أبناء المسلمين، ولا أنا انصرفت إلى مطالعاتي وكتابتي.
وهذه مكتبتي لم أدخلها منذ أول العام المدرسيّ، وهذه مشروعات المقالات والبحوث التي أكتبها، وهذه مسوَّدات الكتاب الجديد الذي أؤلفه مبثوثة في جوانب الغرفة، ضائعة مهملة. أفتلومني -بعد- على أني لا أجوِّد في هذه الأيام؟
قلت: هذه والله حالي فلست ألومك، فرَّجَ الله عني وعنك (1)!
* * *
(1) في هذا الحوار الخيالي وصَفَ علي الطنطاوي نفسه؛ فهو السائل وهو المسؤول، وذلك في زفرة من زفرات تلك الأيام التي حُكم عليه فيها بأن يكون معلم صبيان! انظر أخبارها في الجزء الثاني والجزء الثالث من «ذكريات علي الطنطاوي» (مجاهد).