المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌بيوتنا هدمناها بأيدينا

‌بيوتنا هدمناها بأيدينا

نشرت سنة 1959

لقيت أمس -وكنت رائحاً إلى الدار- إخواناً لي، فقالوا: هَلُمّ معنا إلى زيارة فلان. قلت: إني في شغل. قالوا: هو على طريقك، في العفيف. قلت: إذن أذهب، فلي في العفيف ذكريات أحب أن أجدد العهد بها.

وانطلقت أسايرهم وأحدثهم حديث ذكرياتي في العفيف.

ذلك أني كنت أيام الحرب الأولى تلميذاً في المدرسة الابتدائية، وكان سكننا في طرف «السمّانة» ، في تلك الأزقة الملتوية الضيقة التي يستطيع الماشي فيها أن يمدّ يديه فيدرك طرفيها. وكانت مدرستنا في سوق صاروجا (1) فكنا نصرّم الأيام الطوال نعيش وراء الجدران لا نستطيع أن نطلق البصر في رحب الفضاء، ولا أن نمتع العين بخضرة الحقول وزرقة الأنهار، ولا أن نستمع إلى خرير السواقي وهدير النواعير

لذلك كان من أحب الأيام إلى نفسي يوم تذهب الأسرة إلى

(1) صاروجا من أمراء المماليك في القرن الثامن الهجري.

ص: 251

زيارة بيت عمي في العفيف. وكان الذهاب إليه سفرة، فكنا نمشي إلى «بوّابة الصالحية»

وهي اليوم لب دمشق وهي أعظم ميدان فيها وحولها أضخم عماراتها، ولكنها كانت يومئذ مجازاً خطراً لا يستطيع أن يسلكه في الليل إلاّ الجَسور، وكان في نهاية سوق صاروجا «بوابة» من الخشب تُغلق في الليل، فإذا خرجت منها وجدت طريقاً ضيقاً يسلكه الترام وعلى جانبيه بساتين تتخللها بيوت متفرقة، وكان في موضع الشارع العظيم «شارع 29 أيار» بستان الكركه، وفي موضع البرلمان (سينما) أخذونا إليها ونحن تلاميذ فأرونا (فِلماً) عن موقعة «شناق قلعة» . ثم احترقت السينما وبقيت أنقاضها سنين طويلة حتى أقيم البرلمان.

وكان بيت عمي من تلك البيوت الشامية الأصيلة. قصر رحيب له براني وجواني (1) وشتائي وصيفي، له صحن واسع في وسطه بركة مثمّنة تخرج منها (نافورة) قطرها شبر يمدها نهر يزيد، يتدفق منها عمود من الفضة المذابة يرتجّ ويتمايل كراقصة تتثنى وتتخلع، يحسبه الناظر متدفقاً بالزئبق، وعلى أركانها الثمانية ثماني شماشير (2) مدوّرات كأنما أُدرن بـ «بركار» ، ومن ورائهن صفوف من نفائس الأشجار من الخوخ والدراق والمشمش والرمان، تحفّ بها من عند سوقها غرائب الأوراد والأزهار تظللها الدوالي صاعدات إلى السطوح، والأرض والجدران من الرخام الأبيض والمجزّع والحجر الملون المنقش تتسلقها فروع

(1) من العامي الفصيح، وورد: من أصلح جوانيَّه أصلح الله برانيّه.

(2)

نبات يخرج مستديراً كالقبة يكثر في دور دمشق.

ص: 252

الملّيسا والياسمين، وفي صدر الدار إيوان له قوس عال (1) تزيّن جدرانه وسقفه صنعةٌ شامية عجيبة من الحجر المتداخل والخشب المتشابك والقاشاني وبين يديه «فسقية» عجب من العجب، قطعة واحدة من الرخام الوردي على مثال الكأس لها عنق طويل، وتطل نوافذ الإيوان من جهة البلد على بساتين الجسر الأبيض التي تنحدر خلالها السواقي متعاقبة متتابعة، تحمل الماء من يزيد إلى تورا (2) تهدر به وتتكسر، لا تسرقه كلص متخفّ يخافت الخطو بل كأطفال مدللين يولون بما يخطفون وهم يزأطون ويضحكون

وتبدو هام الأشجار دُوَين النوافذ فيحس الناظر منها كأنه على أرض من الغصون، وتلوح البلد من بعيد بمآذنها وسقوفها تبدو من خلال الأشجار كمشهد في حلم، وينظر الإيوان من أمام إلى قاسيون الحبيب

منظر عجب وفتنة لا تنقضي. وإلى جنب الإيوان من هنا القاعة الكبرى بدكتَيها ونقوشها وبركتها، ومن ورائها البستان. ومن هناك القسم الشتوي من الدار: غرف دافئات يسبحن في الضياء ويغتسلن بأشعة الشمس في الشتاء. والبراني قريب منه في بنيانه وبستانه، وهو للضيوف من الرجال لئلا يدخلوا الدار فينتقصوا من حرية النساء (3).

(1) القوس مؤنَّثة وقد تذكَّر.

(2)

من فروع بردى السبعة، ونهر يزيد أعلاها وهو منسوب إلى يزيد بن أبي سفيان أو يزيد بن معاوية.

(3)

إن أحببتم أن تعرفوا كيف كانت هذه البيوت وكيف عاش فيها أهل الشام في القرن الماضي فاقرؤوا رائعة علي الطنطاوي، «العجوزان» ، في كتاب «قصص من الحياة» (مجاهد).

ص: 253

فكنا إذا بلغنا الدار وثبنا ننعم بالحرية والانطلاق بعد السجن والضيق، فلعبنا وتسلقنا الأشجار وصعدنا السطح وأكلنا العنب (وكانت دوالي الدار تحمل كل سنة أربعة قناطير (1) من العنب البلدي النادر) وأشرفنا على دار عثمان باشا، ولم يكن ثمة غيرها، وقد صارت هذه الدار -من بعد- قصر الملك فيصل لما كان في دمشق، ثم صارت المفوضية الفرنسية، وهي اليوم خالية خاوية قائمة تسخر ممن يثق بالزمان ويطمئن إلى السلطان!

فإذا مللنا دخلنا الجُنينة فبقينا فيها وأفسدنا ما فيها من نوادر الغراس، وكان في آخرها باب صغير هو في أنظارنا -يومئذ- نهاية العمران وآخر المسكون في الأرض، وكنا نتهيب أن ندنو منه، ثم تجرأنا مرة فولجناه فإذا نحن في مثل غابات إفريقية بهولها وعجائبها: بساتين متصلة وأشواك معترضة وسَواقٍ هدّارة مرعبة (2)، تعترضها شلالات عميقة وكلاب شرسة ونواطير أشرس من الكلاب

وكنا مجموعة من الأولاد؛ أنا وأبناء عمي وأولاد الجيران

وأظلم علينا الليل ونحن في هذه المجاهل وكانت ليلة ليلاء.

* * *

كذلك كانت دورنا الشامية، كانت سكناً ونزهة، وكانت مَصِيفاً ومشتىً، وكانت كالمرأة المحجبة لا تبدي زينتها لغير أهلها، تراها من الخارج كأنها مخازن التبن ما تكشف عنها نافذة

(1) هذه حقيقة، والقنطار مئتان وخمسون كيلو غراماً، وفي أكثر دور دمشق العربية من هذه الدوالي الكبار.

(2)

صارت اليوم أحياء جديدة واسعة الشوارع فخمة العمارات.

ص: 254

ولا شرفة، فإذا دخلت رأيت الصحون الكبار والبِرَك والأنهار وغرائب الأشجار، وفي كل دار أسرة كاملة يجمعها الحب والإخلاص، وقد يختلف مَن فيها ويتنازعون، ولكنه اختلاف لا يمحو المحبة وتنازع لا يولد البغضاء، وإنما هو كاصطدام الغصن بالغصن في الروض الممرع من نسيم الأصيل.

يأكلون جميعاً من قدر واحدة على مائدة واحدة، فإذا كان العصر غُسلت أرض الصحن حتى صار رخامها وبلاطها كالمرايا، ورُشَّت الأشجار حتى قَطَرَ منها الماء، وزقزقت عليها العصافير التي تأوي إليها كل عشية، واصطفت الأسرة على الإيوان: الجد وأولاده وبناته وكناته وأحفاده، ونُصب (سماور) الشاي وأُديرت الكؤوس، وقفز الأولاد ولعبوا وتحدث الكبار وضحكوا، لا تصل إلى الجيران أصواتهم ولو صاحوا وغنوا ولا تصل إليهم أصوات الجيران، ولا يراهم أحد ولو تعروا ولا يرون أحداً، فهي مملكة مستقلة يحس ساكنها أنها له وحده، لا يؤذي جاراً ولا يؤذيه جار، وهي كثيرة الغرف متعددة الأجزاء، وهي لرجل الفكر نعمة يستطيع أن يجد فيها غرفة يقرأ فيها هادئاً ويكتب والضجة في الدار على أشدها فلا يسمعها، وهي عالم كثير المشاهد مختلف المناظر، إن مللت منه مكاناً قصدت غيره، فمن قعود في القاعة أو صعود إلى القصر (1) أو جلوس على بساط تحت الشجرة، أو عزلة في المشرقة (2).

(1) القصر في عامية الشام: البهو الشتوي.

(2)

أي سطح الدار.

ص: 255

هذه هي بيوتنا التي خُلقت لنا والتي هندسَتْها طبيعةُ جوّنا وآداب ديننا وعاداتنا وأوضاعنا، وهي البيوت الشامية الأصلية التي رسخت أصولها فينا، ثم امتدت فروعها فقطعت البحر من ضفة إلى ضفة، من الشام إلى الأندلس، فملأت الأندلس ثم انتقلت إلى المغرب فلا تزال فيه إلى اليوم، ما ملّوها كما مللناها ولا انصرفوا عنها تقليداً للغرب الذي اتخذنا تقليده ديناً ورأينا كل ما يأتي من عنده حسناً، ولو كان الفجور والعهر، والرقص والخمر، والفسق والكفر!

* * *

وكنا قد بلغنا منزل الرجل حين بلغتُ هذا المحطّ من الحديث، فنظرت فإذا الأرض قد بُدِّلت غير الأرض، وإذا تلك الدار التي كانت مدارج صباي ومرابع هواي قد ذهبت مع أمس الدابر، وإذا في مكانها عمارتان جديدتان في إحداها دار صديقنا الذي جئنا نزوره، فأحسست -مما فقدت وما وجدت- كأني قد ودّعت عزيزاً وفارقت حبيباً، وتردد بي الزمان بين الماضي والحاضر حتى شعرت كأن قد أصابني دوار، ودخلت متحاملاً على نفسي غائباً عن حسي، فإذا الدار سجن من هذه السجون التي تُسمّى الطوابق: صناديق من (الإسمنت) تتلظى في الصيف حراً وتشتعل لهباً، فكدنا نختنق وقلنا: افتح النافذة نجد مسَّ النسيم.

قال: لا نستطيع، إن نافذة الجيران أمامنا، فإن فتحنا أبصروا كل ما في الدار.

فصبرنا على مضض، فما هي إلاّ هنيهة حتى ارتجّ البيت

ص: 256

رجة ظننت أن قنبلة قد تفجرت فيه! قلت: ما هذا؟

قال: شيء قد سقط عند الجيران.

وهنيهة أخرى، وإذا بصوت يملأ الدار ويصم الآذان. قلت: وهذا؟

قال: رادّ (1) الجيران.

قلت: أعوذ بالله، فكيف تعيشون في هذه الدور؟

قال: في عذاب. لقد تعجلنا الجحيم في الدنيا حين زهدنا في بيوتنا العربية واتخذنا هذه الطوابق؛ هي جحيم على الكبار وعلى الصغار. ألا ترى الأولاد يلعبون في كل طريق، يتعلمون في مدرسة الشوارع كل سيء من العادات وبذيء من القول، ويعودون إلى أهلهم بوساخة الثياب ووساخة الخلق ووساخة اللسان

هذا إن لم يعودوا بشجة في الرأس من الحجارة أو كسر في الرجل من السيارات.

إن السبب فيها هو هذه البيوت، لو كان في الدور مثل تلك الصحون وتلك الحدائق لما خرج الأولاد إلى الطرق والشوارع.

* * *

وخرجنا من الزيارة، فودعت صحبي ووقفت وحدي أبكي

(1) الراد: الراديو.

ص: 257

الماضي الذي افتقدته. أفتّش عن بقية منه فلا أجدها، وأستنطقُ الديار فلا أسمع جوابها

ثم رأيت وراء العمارتين خربة صغيرة مهجورة فيها بحرة عتيقة لا يزال ينساب منها الماء، وقد اخضرّت حجارتها ونبتت الطحالب عليها، فأحسست بقلبي يدق في صدري لمرآها، وتسارعت أنفاسي كأنني رأيت في زحمة الناس وجه حبيب طال منه الهجر وعز اللقاء

إنها بركة القاعة الكبرى في بيت عمي؛ البركة التي كانت تلمع حجارتها كالمرايا ويبرق ماؤها كالألماس (1)، إنها تبدو اليوم كسائلة عجوز بأسمالها الباليات، ولكني أراها كما كنت أعرفها في أيام عزها، أراها الصبية الحسناء المدللة اللعوب. ووقفت أصغي إلى خريرها الخافت فأغفي عليه كما يغفي الطفل على الأغنية الناعمة تهمس بها أمه في أذنيه، ورحت أحلم:

رأيت البركة قد انجلت وصُقلت والماء قد عاد متدفقاً قوياً، وقامت من حولها الجدران المزخرفة وظللها السقف المنقوش، وعاد الإيوان والصحن، ورجعت الدار، وعاش الماضي. وسمعت طرق القباقيب وصياح النسوة وزئيط الأولاد.

واستغرقت في الماضي حتى ذهبت أنادي وأهتف بأسماء أهل الدار وقد نسيت أني أنادي من وراء أربعين سنة، أهتف بأسماء مِن أصحابها مَن واراه التراب، ومنهم من رمت به الأيام أبعد المرامي.

ولم يجب أحد.

(1) أصله «ألماس» وهمزته أصلية.

ص: 258

ما في الدّيار مُخَبِّرٌ

إلاّ صَدىً لِمُصَوّتِ

ناديتُ: أين أحبّتي؟

فأُجِبتُ: أين أحبتي؟

وفُتحت النوافذ وأطل مَن فيها ينظرون. قالوا: من هذا الغريب الذي يصيح في الخربة كالمجانين؟ زعموا أني أنا الغريب.

أنا الغريب؟ ويحكم! إنها دارنا؛ إن فيها قطعاً من قلبي وبقايا من حياتي، أفأغدو غريباً في داري؟

وعدت إلى الحاضر، وتصرّمَ الحلم كأنه سطور خُطّت على الماء. وانصرفت وأنا أسائل نفسي أن لماذا نلوم الذين هدموا تلك المنازل الغالية التي كانت في الميدان والشاغور وسيدي عامود (1)؟ لماذا نلومهم إذا رحنا نحن نهدم بأيدينا ما ترك الفرنسيون من منازلنا؟! لقد كان الفرنسيون أعداءنا فهل نحن أعداء أنفسنا؟ ألا يا أسفي على تلك المنازل! يا أسفي علينا!

* * *

(1) اسم محلة كانت في دمشق.

ص: 259