المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌مما حدث لي

‌مما حدث لي

أذيعت سنة 1945

أنا رجل يتصورني القراء من بعيد «شيئاً» أكبر من حقيقتي، فلماذا أفضح نفسي عندهم؟ وعمَّ أتحدث إليهم، والأحاديث كثيرة، وما حدث لي يملأ كتباً؟

ثم قلت: لماذا لا أتحدث عن هذا

عن حقيقتي في نفسي وصورتي عند القراء؟ ولي في هذا الباب طرائف عجيبة. وأنا أكتب من أكثر من عشرين سنة في جرائد الشام ومجلات مصر ولبنان كتابة شيخ مكتهل، فكان القراء يحسبونني شيخاً أشيَب الشعر محنيّ الظهر يدبُّ دبيباً، وعلى وجهه من كتابة الأيام والتجارب سطور من «الأخاديد» فوق سطور. وما كنت أحب أن أذيع هذه الطرائف لأنها لا تنفع السامعين وإن كانت قد تلذّ لهم، ولكن المحطة أرادت أن أحدّث المستمعين عن بعض ما حدث لي، مضحِكاً كان أم غير مضحك. ولا بأس فالضحك ينفع الجسم ويدفع الدم ويزيد الشهية، أما المصيبة فأن تجيء النكتة باردة لا تضحك، أو أن أكون ثقيلاً يتخفف. والثقيل إذا تخفّف صار طاعوناً

والعياذ بالله.

ص: 161

سيداتي وسادتي

مما وقع لي:

أن جاءني مرة (وكنت في عنفوان الشباب أكتب في أوائل كتابتي في الرسالة عام 1933) ثلاثة من الغرباء عن البلد، لم يعجبني شكلهم ولم يطربني قولهم، فوقفت على الباب أنظر إليهم فأرى الشكل يدل على أنهم غِلاظ (1)، وينظرون إليّ فيرون فيّ «ولداً». فقالوا: هذه دار فضيلة الشيخ الطنطاوي؟ قلت كارهاً: نعم. فقالوا: الوالد هنا؟ قلت: لا. قالوا: فأين نلقاه؟ قلت: في مقبرة الدحداح، على الطريق المحاذي للنهر من جهة الجنوب. قالوا: يزور أمواته؟ قلت: لا. قالوا: إذن؟ قلت: هو الذي يُزار

فصرخ أحدهم في وجهي صرخة أرعبتني وقال: مات؟ كيف مات؟ قلت: جاء أجله فمات. قالوا: عظّم الله أجركم، إنّا لله وإنا إليه راجعون، يا خسارة الأدب! قلت: إن والدي كان من أجلّ أهل العلم ولكن لم يكن أديباً. قالوا: مسكين، أنت لا تعرف أباك!

وانصرفوا وأغلقت الباب، وطفقت أضحك وحدي مثل المجانين. وحسبت المسألة قد انتهت، فما راعني العشية إلاّ الناس يتوافدون عليّ فأستقبلهم، فيجلسون صامتين إن كانوا لا يعرفون شخصي، ومَن عرفني ضحك وقال: ما هذه النكتة السخيفة؟ قلت: أيُّ نكتة؟ فأخرج أحدهم الجريدة وقال: هذه، هل تتجاهل؟ فأخذتها وإذا فيها: «نعي الكاتب الـ

كذا وكذا، علي الطنطاوي»!

هذه واحدة.

(1) في الشام يستعملون كلمة «غليظ» وصفاً للثقيل السّمِج (مجاهد).

ص: 162

ومما حدث لي أنني:

لما كنت في العراق سنة 1936 نُقلت مرة من بغداد إلى البصرة إثر خصومة بيني وبين مفتش دخل على الصف فسمع الدرس، فلما خرجنا «نافق» لي فقال إنه معجب بكتابتي وفضلي، «ونافقت» له فقلت إني مكبِر فضلَه وأدبه (وأنا لم أسمع اسمه من قبل). ثم شرع ينتقد درسي فقلت: ومَن أنت يا هذا؟

وقال لي وقلت له

وكان مشهداً طريفاً أمام التلاميذ رأوا فيه مثلاً أعلى من «تفاهم» أخوين، وصورة من التهذيب والأخلاق. ثم كتبت عنه مقالة كسرتُ بها ظهره، فاستقال و «طار» إلى بلده ونُقلت أنا -عقوبةً- إلى البصرة.

وصلت البصرة فدخلت المدرسة، فسألت عن صف «البكالوريا» بعد أن نظرت في لوحة البرنامج ورأيت أن الساعة لدرس الأدب، وتوجهت إلى الصف من غير أن أكلّم أحداً أو أعرفه بنفسي.

فلما دنوت من باب الصف وجدت المدرس، وهو كهل بغدادي على أبواب التقاعد، يخطب التلاميذ يودّعهم، وسمعته يوصيهم (كرماً منه) بخَلَفه الأستاذ الطنطاوي ويقول هذا وهذا ويمدحني

فقلت: إنها مناسبة طيبة لأمدحه أنا أيضاً وأثني عليه. ونسيت أني حاسر الرأس وأني -من الحر- أحمل معطفي على ساعدي وأمشي بالقميص وبالأكمام القصار، فقرعت الباب قرعاً خفيفاً وجئت أدخل. فالتفت إليّ وصاح بي: إيه زمال وين فايت؟ (والزمال الحمار في لغة البغداديين). فنظرت لنفسي: هل أذناي

ص: 163

طويلتان؟ هل لي ذيل؟

فقال: شنو؟ ما تفتهم (تفهم)؟ أمّا زمال صحيح. وانطلق بـ «منولوج» طويل فيه من ألوان الشتائم ما لا أعرفه وأنا أسمع مبتسماً.

ثم قال: تعال لمّا نشوف تلاميذ آخر زمان، وقف إحكِ شو تعرف عن البحتري، حتى تعرف إنك زمال ولَاّ لأ؟

فوقفت وتكلمت كلاماً هادئاً متسلسلاً، بلهجة حلوة ولغة فصيحة. وبحثت وحللت وسردت الشواهد وشرحتها، وقابلت بينه وبين أبي تمام

وبالاختصار، ألقيت درساً يلقيه مثلي

والطلاب ينظرون مشدوهين، ممتدة أعناقهم محبوسة أنفاسهم، والمدرس المسكين قد نزل عن كرسيه وانتصب أمامي وعيناه تكادان تخرجان من محجريهما من الدهشة ولا يملك أن ينطق، ولا أنظر أنا إليه كأني لا أراه حتى قُرع الجرس.

قال: مَن أنت؟ ما اسمك؟

قلت: علي الطنطاوي.

وأدع للسامعين الكرام أن يتصوروا موقفه!

والبصرة بندقية العرب، فيها مع كل شارع قناة. فأنت إن شئت انتقلت بحراً وإن شئت سرت براً، وفيها شط العرب، لا يعدل جمالَه وأنت تخطر فيه العشيةَ بهذه الزوارق الحلوة مكانٌ في الدنيا. والبصرة كانت دارَ الأدب ومثابة الشعر ومنبع العربية، وتاريخها تاريخ البيان العربي. ولكن أيامي في البصرة كانت شقاء دائماً، وكانت إزعاجاً مستمراً. ولي فيها أحاديث مضحكات وأحاديث

ص: 164

مبكيات، ولولا أن أجاوز هذه الدقائق التي منحتني إياها المحطة لعرضت لأحاديثها.

ولكن لا، ولك أيتها الإذاعة الشكر على أن حدّدتِ الوقت، فتركتِني أتعلل بذكريات أمسي وحدي، وأن أعيش في ماضي على هواي، لا يرقبني المستمعون ولا يشاركني لذة الادّكار أحد.

* * *

ص: 165