المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌شكوى أذيعت سنة 1959   هذه شكوى. ولكن ممّن؟ ولمن؟ لست أدري؟ أسمع الآن - من حديث النفس

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌ ‌شكوى أذيعت سنة 1959   هذه شكوى. ولكن ممّن؟ ولمن؟ لست أدري؟ أسمع الآن

‌شكوى

أذيعت سنة 1959

هذه شكوى. ولكن ممّن؟ ولمن؟ لست أدري؟

أسمع الآن أذان الفجر وأنا في الفراش، أكتب وأجفاني مطبقة من النعاس، فاليد تكاد تجري بنفسها وأنا لا أبصر، أما الخط فخرابيشُ لا يقرؤها إلاّ أنا.

ذلك أني لبثت أتقلّب في الفراش إلى الآن؛ أغفي لحظة ثم أستيقظ. وما ذاك عن مرض، فأنا ولله الحمد نشيط قوي أمارس الرياضة وأحس دبيب الصحة في عضلاتي كأني شاب في الثلاثين. وما عن همِّ العيش والفكر في المال، فإنه يَرِدُ عليّ والحمد لله ما يكفيني ويزيد عني. وما عن خلاف في البيت أو مشاكل (1) مع الناس، فأنا مستريح في بيتي وقد تركت الناس فلا أعاملهم ولا أقاربهم ولا أشتري ولا أبيع، ولا أشتغل بسياسة ولا رياسة، فاسترحت من الناس.

(1) قال بأَخَرة: الصواب «مشكلات» لا «مشاكل» ، وكان اسم برنامجه اليومي في الإذاعة «مسائل ومشاكل» فغيّره فجعله «مسائل ومشكلات» (مجاهد).

ص: 293

فمالي إذن لا أنام؟ إنه همٌّ أكبر من هذه الهموم كلها؛ إنه هم الأدب! إن ما أنا فيه أصعب من عمل العامل الذي يحفر الطريق ويضرب المعول من الصباح إلى المساء، أصعب والله، لأن العامل يتعب حتى يسيل عرقه ولكنه يجد إذا أكل شهية حاضرة وإذا وضع جنبه على الأرض نام، وأنا أصبح جائعاً فلا أجد الرغبة الصحيحة في الطعام، فإذا أكلت وأنا أفكر لم أهضم ما أكلت. ويقتلني النعاس فأتقلب فلا أستطيع أن أنام، وهل ينام من يدق رأسه بالحجر؟ إن رأسي يدق ولكن من داخل، فيه أفكار تجري وتصطدم فتقرعه، فكيف أنام وهذه الأفكار تدق رأسي دق الحجارة؟

أفكار المقالات والأحاديث والقصص.

إن عليّ أن أعدّ لكم كل جمعة هذا الحديث، وعليّ أن أعدّ خطبة الجمعة في مسجد الجامعة أو أفتش عمّن أوكله بها، وعليّ أن أكتب مقالة الإثنين في «الأيام» ، وأنا مرتبط بثلاث مجلات أكتب بها ومجلات أخرى أعاود الكتابة فيها حيناً بعد حين، وعندي كتب أعدّها للطبع، وقد عهدت إليّ داران للنشر أن أكتب لهذه سلسلة من القصص للصغار ولتلك سلسلة في تراجم الرجال (1)، وعليّ فوق ذلك عملي في المحكمة، وهو وحده يملأ وقت مثلي ورأسه

(1) في السنة التي أذيع فيها هذا الحديث والتي بعدها أصدر جدي أكثر كتبه المطبوعة، جمع فيها ما كان نشره منجَّماً مقالاتٍ في الجرائد والمجلات على مر السنين. أما القصص التي كتبها للصغار فسلسلة «حكايات من التاريخ» (وهي سبع) والأخرى التي في تراجم الرجال سلسلة «أعلام التاريخ» وهي في سبعة كتيبات صغار (مجاهد).

ص: 294

ويستنفد قواه. إني أتمنى أن أعيش شهراً لنفسي كما يعيش الناس، وأين مني ما أتمناه؟ إن الناس إذا سمعوا خبراً أو قرؤوا قصة فكروا في ذلك لأنفسهم، وأنا إن سمعت أو قرأت فكرت كيف أبني على ذلك مقالة أو أصوغ منه قصة، وإن رأى الناس مشهداً من مشاهد الطبيعة أو فِلماً من أفلام السينما استمتعوا به لأنفسهم، وإن رأيته أنا فكرت كيف أصفه لأمتع به القراء والمستمعين، وإن فرحوا أو حزنوا كان فرحهم أو حزنهم لهم، وفرحي أنا أو حزني للناس، أعمل من أجل ذلك عمل المجانين.

أقف في الطريق لأدوّن فكرة طرأت عليّ تصلح لحديث أو مقال، وأكتب في زحمة الترام أن ذكّرني الترام بشيء يصلح لحديث أو مقال، وإلى جنب سريري الورق والقلم مربوط بالمصباح، فكلما خطرت لي فكرة أضأت المصباح وكتبت. ويقول مدرّسو الأدب إن الأفكار تجيء في المناظر الجميلة، في الرياض حيث تزقزق العصافير وتهدر السواقي والمرء مستريح نشيط، أما أنا فلا تجيئني الأفكار إلاّ في الفراش وأنا محطم من النعاس، فأنا أشعل النور كل ليلة وأطفئه عشرين مرة، لذلك يهرب مني الأهل فلا يستطيع أن ينام أحد في الغرفة التي أنام فيها.

أما الناس فقد هربت منهم أو هربوا مني، فأنا من سنين منفرد معتزل لا أكاد أزور أحداً ولا يزورني الناس إلا قليلاً. وإن زارني صديق على شدة الشوق إليه والرغبة فيه لم أستطع أن أستقبله، وهل يستقبل الطالب أحداً ليلة الامتحان؟ إن عليّ في كل ليلة إعداد مقالة يمتحن بها القراء أو السامعون أدبي، ليروا هل أنا حيث كنت أم قد أدركني الونى والكلال فسقطت في المعركة.

ص: 295

فكيف أجلس مع الضيف أساقطه لغو الحديث وهو فارغ الفكر جاء يتسلى ويدفع الساعات التي لا يجد له فيها عملاً، وأنا قاعد على مثل الجمر أفكّر في المطبعة التي تنتظرني فاتحةً فاها كجهنم تنتظر المقالة؟

لقد صيّرتني هذه المقالات وهذه الأحاديث غريباً وأنا في بلدي، وحرمتني حديث المجالس ولقاء الإخوان. لقد طار النوم من عيني الآن فقمت إلى المكتبة

وسألتني ربة الدار والنوم يغالبها: هل من شيء؟ فلم أجب

إنها ستسمع الجواب في هذا الحديث.

وهذه أيضاً من مصائب الأدب. للناس أسرار بينهم وبين أهليهم وأسرار يطوون عليها جوانحهم، والأديب المسكين ليس له سرّ، عليه أن يشرك القراء معه في أسراره كلها، حتى في أخباره في بيته، حتى في أدق مشاعره وأعمق عواطفه، عليه أن يصفها للناس ويحدثهم بها، فخفايا الأديب معلَنة وأسرار الأديب مذاعَة، فيا بؤس الأدباء!

هذه حالي يا أيها السامعون، وهذه هي الليلة الرابعة التي لا أنام فيها.

هذه حالي وأنا في هذا البلاء من إحدى وثلاثين سنة. نعم يا سادتي، من إحدى وثلاثين سنة وأنا أفكر للقراء، وأحس للقراء، وأعيش للقراء؛ همّي أن أصفّ كل يوم كلاماً أقدمه لهم، أنتزعه من روحي ومن نفسي ليكون متاعاً لهم يتسلون به في أوقات

ص: 296

الفراغ، أما السامعون فإن لي معهم سبع عشرة سنة ما انقطعت فيها عن حديثهم إلا فترات.

سبع عشرة سنة وأنا أحدثكم! أفما تنفد الموضوعات؟ أما أمَلُّ أو تملّون مني؟ دعوني أسترِح قليلاً وتستريحوا مني!

أقسم لكم بالله أني حين أجد في برامج الإذاعة ما يمنع من حديثي، حفلة أو مباراة أو شبهها، أفرح كما يفرح التلميذ الذي يجد المدرسة مغلقة لأن اليوم عيد! لقد لبثت ثلث قرن وأنا أكتب، أكتب دائماً، حتى زاد ما طُبع من كتاباتي على خمسة عشر ألف صفحة لم أعُدَّ منها الخطب التي خطبتها ولم أكتبها فضاعت (وهي تزيد على ألف خطبة)، وأنا أحسُّ -مع ذلك- بأن عندي شيئاً لم أقله، ولا أجد الوقت الكافي لأقوله

هو العمل الأدبي الخالد الذي أهم به وتشغلني عنه هذه الأحاديث وهذه المقالات.

إن لكل امرئ طاقة، وأنا لم أعد أحتمل. فإذا رأيتموني قد انقطعت فجأة عن هذا الحديث وعن الكتابة في الصحف والمجلات فلا تعجبوا، لأني أكون قد قررت الهرب.

إني أطلب إجازة، فهَبوني موظفاً أو عاملاً، أفليس من حق الموظف أو العامل أن يُجاز أياماً ليستريح؟

لقد كنت أكتب والشباب موات والحماسة تملأ النفس والرغبة في الشهرة والمجد الأدبي تحفز إلى العمل، أكتب وأعرض المقالة على الناشر لا أطلب منه مالاً ولا أجراً إلا نشرها، فإن رأيتها منشورة ملأ الزهو والفرح قلبي فوجدت المكافأة حاضرة، فأقبل

ص: 297

عليّ الآن الناشر يطلب مني، وعرض الأجر الكبير والمال الوفير، ولكني فقدت الحماسة وماتت في نفسي الرغبة في الشهرة حين نلتها فوجدتها سراباً.

سراب والله! هل تعرفون السراب؟ إن سالك الصحراء يراه من بعيد كنبع الماء الصافي، فإذا جاءه لم يجد شيئاً.

هذه هي الشهرة! وأنا أكتب عنها عن خبرة. لقد صار يعرف اسمي ملايين، وتُرجم كثير مما كتبت إلى الفارسية والأوردية وترجم شيء منه إلى الإنكليزية، وتجيئني كتب من القراء والسامعين من أندونيسيا في أقصى المشرق ومن مراكش في المغرب. فماذا في هذا كله؟ ما ينفعني وماذا يصير في يدي منه؟ ما ينفعني وأنا منفرد في داري أن يمدحني ملايين من الناس ويقولوا إني أديب العرب، وما يضرني أن يقولوا إني أكبر دعيّ وأجهلُ جاهل؟ أو أن لا يمر على ألسنتهم اسمي ولا يعرفوني؟

وما المجد الأدبي؟ هو أن تَرِد عليك كتب المعجبين، وأن تُقام لك حفلات التكريم، وأن تكتب عنك الصحف؟ لقد رأيت هذا كله من أكثر من عشرين سنة، فصدقوني حين أقول لكم إنه سراب.

إن الحقيقة الوحيدة من ثمار الأدب هي أجور المقالات وما نرجو من ثواب الله! ولقد أخذت على مقالاتي أكبر أجر أخذه كاتب عربي؛ قبضت غير مرة ثلاثمئة ليرة على المقالة الواحدة، وقبضت ألف ليرة على المحاضرة الواحدة

والمال حقيقة ليس سراباً، ولكن ماذا أصنع بهذا المال؟

ص: 298

إن راتبي يكفيني، وقد كنت أتمنى أن يكون لي بيت فصار لي بحمد الله بيت، وأنا لا أدّخر مالاً ولا أريد أن أكون من كبار المثرين، فلماذا الحرص على المال؟ وهل يعدل المال الذي آخذه الراحةَ التي أفقدها والنوم الذي أشتهيه فلا أجده؟

أما ثواب الله فأرجو أن يكون لي من الإخلاص ما أستحقه به أولاً، وأرجو ثانياً أن لا يحرمني الله الثواب إن استرحت حيناً لأجمَّ النفس وأجدد العمل.

لا؛ إن ثواب الله هو الحقيقة الواحدة الباقية وما عداه متاع الغرور، خدع نخدع بها أنفسنا وأوهام، قبض الريح! اقبض على الريح تَجِد يدك فارغة لا شيء فيها، وكذلك الدنيا. ما الذي نحمله معنا إن ذهبنا إلاّ العمل الصالح؟ كله سراب إلا ما تقدمه بين يديك لآخرتك.

وبعد، فإنكم -يا سادتي- تسمعون حديث المحدث أو تقرؤون مقالة الكاتب فلا تتصورون ماذا أنفق في ذلك من جهد وما حمل من تعب حتى وصل ذلك إليكم. إنه كرغيف من الخبز تأكلونه بلا فكر فيه أو بحث عن حاله، ولو فكرتم لعلمتم ماذا عملت فيه من يد وما صُبّ فيه من جهد، من يوم حرَثَ الأرضَ الزارعُ إلى أن عجنَ العاجنُ وخبَزَ الخبّاز.

بل إن عمل الأديب في المقالة أشق وبلاءَ الأديب بالأدب أكبر، فسامحوني إذا نفّست اليوم عن نفسي بهذا الحديث، فإنها شكوى:

ص: 299

ولا بُدَّ مِن شكوى إلى ذي مروءةٍ

يُواسيكَ أو يُسْليكَ أو يتوجّعُ

* * *

إني أشعر أني ألقيت بهذه الشكوى حملاً عن عاتقي، وأنا قائم الآن لأصلي الصبح وأحاول المنام، فسامحوني أنْ أتعبتكم بالحديث عن نفسي وتصبحون على خير.

* * *

ص: 300