الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب مفتوح
إلى الأستاذ أحمد أمين
نشرت سنة 1943
كان هنا شاعر لم يعرفه الناس حتى عرّفتهم به هدآتُ الأسحار؛ إذ كان يطوف فيها على مرابع حيّه، يغنيها على ربابه أعذب ألحانه وأشجى أغانيه، وكان ينادي الليلَ الراحل بأرقّ أسمائه فيلتفت الليل ويقف لحظة يصغي إليه، والفجرَ يستحثّه على الرحيل، وتنصت إليه قلوب العاشقين، فإن غنى بـ «يا ليل» هاج بها الشجن فأجابت من لوعتها بـ «آه
…
»، ويعرفه القمر لأنه كان يسكب في نوره ألحانه، فتطفو على وجه النور، ثم تسيل من رقتها فيه وتمتزج به امتزاج الخمرة بالماء، فيشرب فيه أرباب القلوب خمرة نورانية تهيج في نفوسهم سكر الحب الطاهر والعاطفة الخيّرة .... وعرَّفتهم به الضمائر المؤمنة، إذ كان يهتف بها مع الفجر بالنشيد العلوي الذي يوقظ في نفس الإنسان الذي يسمعه «المَلَك» ، فإذا استيقظ فيه المَلَك خنس «الشيطان» واستخذى «السبع» ، فتعرف بنشيده لذة الإيمان، وما في الأرض لذة كلذة الإيمان
…
شاعر لم يكن يعرف فضلاً (1)
(1) الفضل: الزيادة.
من عروض الأوزان ولا سُلَّم الألحان، ولكنه يعرف كيف يعتصر قلبَه بيد الألم وكيف يُذيب نفسه بلهيب الذكريات، ثم يجعل من ذلك أشعاره التي يغنيها على ربابه، فتميل إليه القلوب وتحنو عليه، وتجد عنده الأنس والاطمئنان.
غنّى للإيمان وللوطن وللحب، وأكثر الغناء. ولكن النغمة البارعة التي تجيش بها نفسه لم يتحرك بها لسانه، ولا جرَت بها يده على ربابه إلى اليوم. من أجل هذا كنت تراه -إذْ تراه- حائراً مضطرب الجوانح زائغ البصر، كأنما يفتّش في الفضاء عن شيء أضاعه، يفتّش وراء أفق الزمان عن الشيء الذي لم يجده فيه، فهو لا يفتأ ينظر إلى ماضيه يقلّبه ويجوس خلاله علّه يجد فيه ضالّته، فإذا افتقدها عاد إلى الآتي، يحاول أن يستشفّ بعين الأمل ما خَلْفَ بابه، فلا يشفّ البابُ عن شيء
…
أما الحاضر فلا شأن له به ولا يعنيه أمره.
أُعجب به الناس لما عرفوه وأحبوه، ثم ألفوه واطمأنّوا إليه، ثم تعودوا أن يروه ويسمعوه، فأضعفت العادة شعورهم به، فكانوا لا يدرون به إن حضر ولكنهم يفتقدونه إذا غاب
…
ثم أصبحوا لا يعنيهم فقده ولا يعزّ عليهم غيابه!
وطرَقَ الحيَّ «شعراءٌ» يضربون على الطبول الكبيرة ويصرخون بأغان فارغة مدوِّية كطبولهم، لا تدعو إلى فضيلة ولا تهزّ عاطفة ولا تمس من النفس موضع الإيمان، ولكنها تدعو إلى الشهوة وتثيرها في الأعصاب، لا تعرِفهم هدآتُ الأسحار ولا يدري بهم فُتونُ الفجر ولا شعاع القمر، ولكن تعرفهم أضواء الكهرباء الساطعة
في معابد الشيطان وهياكل الشهوة، وتعرفهم موائد الخمور في دور الفجور، فحفَّ الناس بهم وصفقوا لهم!
عند ذلك كسر الشاعرُ ربابَه وانسلّ خارجاً من الحيّ بسكون، وأمَّ الجبل ليتخذ لنفسه من «الجادة السادسة» ملتجأ، يعصمه علوّه من أن يسمع قرع هذه الطبول، وعاد كالشيخ الذي صارت أيامُه الثلاثة يوماً واحداً، فطال أمسه حتى شمل يومه وامتدت ظلاله إلى غده، فلم يعد يعيش وإنما يعيش خيالُه في خيالات الماضي، كالشجرة التي عرَّتْها لفحاتُ كانون، فهي تعيش في ذكرى آذار المنصرم وزهره وتموز الماضي وثمره
…
ومتى رجعت في كانون أزهار آذار (1)؟
أجل يا سيدي؛ لقد مات الشاعر ودُفن في جبة القاضي، ولو جاء أمرك إياه بالكتابة لـ «الثقافة» وفي عاطفته ذلك التوقد وفي أعصابه تلك النار، يوم كانت تنثال عليه المعاني وتجيش بالصور
(1) هذه هي أسماء الشهور الشمسية التي عرفها العرب من قديم؛ من أيام جاهليتهم. لكن هذا الكتاب سيصل بلاداً من بلاد العرب لم يعد أهلها يعرفون -للأسف- ما هذه الأشهر! فأما كانون فيمكن أن يكون الأول (آخر أشهر السنة الذي يعرفونه في بعض البلدان باسمه الأعجمي، ديسمبر) أو كانون الثاني، أول شهور السنة (يناير)، وكلاهما من شهور الشتاء القاسية. وأما آذار فهو شهر الربيع (مارس) وتموز شهر قلب الصيف (يوليو). يا ليتكم -يا أيها العرب في كل بلد- تدَعون هذه الأسماء الأعجمية وتعودون إلى أسمائنا العربية؛ أما كفانا أن استباح أعداؤنا منّا الأرض والعرض والثروة والكرامة حتى يسلبونا أسماء الشهور؟! (مجاهد).
نفسُه ويتحرك بالبيان لسانه من غير أن يحركه، حتى لكأنه الجواد الكريم يتفلّت من الشّكال، وكأنّ قلمه إذ يجري على الطّرس يسابق اليد التي تجريه والفكر الذي يمده، لوجدته أسرع إلى طاعتك من السيل الدفّاع إلى مستقره، بل أسرع من الطرب إلى نفس الكريم والحب إلى قلب الأديب! يوم كان يعيش في دنيا الناس وكأن له دنيا وحده؛ يرى فيها ما لا يرون ويسمع ما لا يسمعون: يرى في كل مشهد جمالاً، وفي كل جمال حلماً فاتناً يستغرق فيه مسحوراً، ويدرك من لذاذاته ومتعه ما لا يعرفه إلاّ مَنْ سمع حديث الجمال ووعاه بأُذن قلبه، وأمضى لياليه حالماً سادراً في أحلامه، فإذا صحا لم يجد ما يترجم به عن نفسه إلاّ لغة ضيقة قاصرة خُلقت للتعبير عن حاجات الأرض لا لوصف أحلام السماء! وماذا تصنع لغة لا تعرف للجمال كله -على ما لَه من الصور التي لا تنتهي والمعاني التي لا تنفد- إلا كلمة واحدة هي كلمة «الجمال» ؟ وأنّى لها أن تترجم عن عالَم كله حياة وقوة وسحر؟ وكيف تقنعه وللجمال في عينيه صحائف يقرأ منها كل يوم جديداً؛ فلكل وجه جمال لا يقاس به غيره ولا يشبهه سواه، ولكل مقلة جمال، ولكل بسمة ولفتة، ولكل رنة صوت ولكل ومضة ثغر، ولكل واد وجبل ولكل سهل ونهَر، ولكل مقطوعة من الشعر وكل صورة في المتحف وكل زهرة في الروض، ولكل رائحة وكل نغمة
…
فجمال ريا الياسمين، وجمال أريج الورد، وجمال عبق الزنبق، وجمال رَوْح الفُلّ، وجمال البَيَات والرصْد والحجاز والصَّبا، والعود والقانون والناي والكمَان، وجمال القصة المؤثرة والحكمة المتخيَّرة، وما شئت وما لم تشأ من أنواع الجمال في الوجود
…
كل أولئك ليس
له في هذه اللغات البشرية إلاّ لفظ واحد يدل عليه ويشير إليه
…
يا ما أفقر لغات البشر!
وكان تذوُّق الجمال يهيج في نفسه الأدب، والأدب هو البثُّ، فلا تتمّ له متعة ولا يحلو له نعيم حتى يُشرك الناس معه في نعيمه. وكذلك الأديب؛ يجود على الناس بأعزّ شيء عليه: بشعوره وعواطفه، فيفتح لهم نفسه ويكشف لهم عن سرائره ولا يستأثر دونهم بشيء، فهم معه في ألمه وسروره ويأسه وأمله، يتلو عليهم نبأ حبه وبغضه وحركاته وسكناته، فيشاركونه حياته، ثم يقولون: عجباً لهذا الغبيّ الثرثار الذي لا يفتأ يتحدث عن نفسه، ولا ينفك مزهوّاً بها زهو الديك بريشه، مالئاً الصحائف بأخبارها، كأنّ الناس لا همَّ لهم إلاّ أن يسمعوا خبرها! ما درى الظالمون أنهم يتهمون بالأثَرة رجلاً هو أول المُؤْثِرين!
وكان ينقل ما يحس به من معاني الخلود إلى لغة الفناء، فلا يبقى منه إلاّ الأقل الأقل، ثم يعدُّه للنشر فيضيع أكثر جماله الباقي بين مراعاة آداب المجتمع وقوانين النشر وأذواق الناشرين ونزعات القارئين، ثم ينشر فإذا هو يرضي القراء، وإذا منه المعجِب المطرِب المقيم المقعِد، ولكنه لا يرضى عنه ولا يُعجب به، لعلمه بأن خير ما كتب ما (1) لم يعبّر عنه بلفظ ولم يجرِ به قلمٌ على قرطاس
…
وما كان يا سيدي ليفخر أو ليزهى، وإنه لأعرف الناس بنفسه وعيوبها وأدبه ونقائصه، ولكنك فتحت عليه باباً للذكريات أعياه الليلة سدُّه، وقد كان قبل اليوم مسدوداً.
(1) ما هنا اسم موصول وليست نافية (مجاهد).
وذو الشوقِ القديم وإنْ تسلّى
…
مَشوقٌ حين يلقى العاشقينا
وإنه لواحد ممّن وأَدَ هذا المجتمع ما كان لهم من ملكات
…
كانت له «نفس» فماتت، أفما يُترَك ليرثي -يا قوم- نفسه؟ يذهب مال الرجل فيبكي ماله، ويُحرق بيته فيندب بيته، وتودي تجارته فيُعْوِل على تجارته، ويهجره حبيبه فيأسى على فقد حبيبه
…
وتموت نفسه ويجِفُّ في حلقه لسانه فلا يُطلَق ليبكي نفسه وينوح على بيانه؟!
* * *
في أصيل يوم من أيام الخريف من سنة 1928 وقف حيال جسر الزمالك في القاهرة شاب شارف العشرين من عمره، كان في السنّ التي يعيش فيها المرء للهوى والأحلام، فنظر إلى النيل مرة وإلى الفضاء الأرحب مرة، فذكّره الأفق البعيد المتّشح بأنوار الغروب بحلّته المنسوجة من خيوط الشمس بلداً له حبيباً إلى نفسه، هو أضوأ في عينيه من الأفق الذي توارى وراءه، وأمّاً له وإخوة كانوا هم جمال هذا البلد، وملاعب الصبا، ولِدات الطفولة
…
ذكر دمشق، وكان له في كل بقعة منها ذكرى هي قطعة من حياته، وما حياة المرء إلاّ الذكريات! ذكرَ سفحَ قاسيون الأنيس وصخوره الضاحكة ضحك الجبروت، والربوةَ منبت الحبّ ومثوى الأماني، والغوطةَ جنة الدنيا وبستان الأرض، والميزانَ والشاذروان، والمِزّة وكيوان
…
فهاج نفسَه الشوقُ وأثارها الحنين، فنسي مقعده في دار العلوم العليا، ونسي المطبعة السلفية في شارع الاستئناف التي تشرف فيها بلقاء الأعلام من علماء العصر من
أصدقاء خاله الكريم محب الدين: تيمور باشا والرافعي وأحمد أمين وعزام والخضر التونسي والغمراوي، ونسي جمعية الشبان المسلمين عند دار النيابة، وولّى وجهه شطر المحطة، فلم تكن إلاّ ساعات حتى كان هذا الفتى يودع القاهرة التي دنت له فيها الأماني ويركب متن الشوق إلى البلد الحبيب، لم يدرِ أنه ودّع -يوم ودّع مصر- مستقبله الأدبي ومجده، ونبوغه واستعداده، وفارق الأرض الخصبة الريانة يحمل بذوره لينثرها على الصخر الصلد ويرجو لها النبات! وترك القاهرة ورجع إلى البلد الذي يموت فيه الأديب، وكان ذلك أولَ سطر في صفحة شقائه!
هذا الشاب الذي كان يتدفق حياة، ويتوثب نشاطاً، والذي كان له في كل ميدان جولة وكان في كل معمعة فارسها المعلم، والذي عمل للأدب وللإصلاح، وللسياسة وللصحافة، وللتعليم وللتصنيف، والذي عرفته العراق وعرفها، وأحبها وأحبه تلاميذه فيها، وبقي فيهم من يفي له ويذكر عهده وبقي هو وفياً للعراق ذاكراً عهدها. وكان شأنه في لبنان كشأنه في العراق، والذي مشى إلى الحجاز، وكان له في كل بلد أثر في نفوس أصدقائه وفي قلوب الآلاف المؤلفة من تلاميذه، الذين ما انفكّ يوليهم من نفسه وقلبه حتى لم يبقَ له نفس ولا قلب
…
هذا الفتى أعادته الأيام بعد هذا كله شيخاً ولم يبلغ الأربعين، ميتاً يمشي مكفَّناً في جبة، وضُيّقت رحاب نفسه حتى أحاطت بها مواد القانون، وحطمت قلمه فتعثر فهو لا يجري إلاّ في حيثيات القرارات وصيغ المخالفات، وصَغُرت دنياه حتى صارت تحدّها جدران المحكمة الأربعة
…
فماذا -يا سيدي- يرجى منه بعد هذا؟
قضى عليه بلده الذي أحبه وفارق من حبه مصر بعدما بسم له فيها المستقبل عن ثنايا بوارق، ولو أنه بقي في مصر، ومصر (موطن أسرته الأول) تعرف للأدب حقه وللأدب منزلته، لكان منه اليوم «شيء» !
على أن مصر -إن أردت الحق- لا تحب إلاّ أبناءها ولا تبسم إلاّ لهم، وترى واحد الأديب المصري مئة، ومئة غيره لا تساوي عندها واحداً. وإلاّ فخبّرني بالله: لمَ يحتفل نقّادها بأصغر كتاب يصدر فيها ويشتغلون بالكلام عنه الأيام الطوال، ولا يخطّون كلمة ثناء أو نقد للكتاب القيم يصدر في بر الشام أو في العراق؟
وما له يعتب على مصر، وهذا بلده طاشت فيه الموازين وانقطعت الأسلاك وتبلبل الرأي، واختلط الحابل بالنابل والمتحليات بالعواطل، حتى إن الصحف لتجمع على مدح الكتاب وتقريظه وتهلل للشعر الجديد وتصفق، وما ثَمّ إلاّ منكَر من القول قد صيّروه معروفاً، أو ثقيل بارد استحبّوه أو غثّ متهافِت رأوه قوياً بليغاً؛ كأن الأدب صار لهواً وعبثاً، وكأن العربية انحلّت عُقَدها ولم يبقَ لها هذا «الكتاب» تعتصم به، فيحفظ عليها وحدتها ويكون بين أولها وآخرها السببَ الموصول والحبل المتين، فقديمها به حديث أبداً نفهمه اليوم ونتذوقه، وحديثها به قديم لو نشر الله العرب الأولين لفهموه وتذوقوه
…
وكأن الأديب هو من ينزع عن جسمه جلدَه ليلبس جلداً مصنوعاً في المعامل التي هي (هناك)، ومن يود لو خلع رأسه ليركّب له رأساً فيه عقل من (هناك)، والذي يفرق بالجهات بين الحق والباطل، فما جاء من حيث تشرق الشمس كان باطلاً كله ولو كان الدينَ والأخلاق والشرف، وما جاء من حيث تغيب فهو
حق كله ولو كان الكفر والفسوق والعصيان! وحتى إن هذا البلد لينكر الأديب الصريح الثابت النسب الموصول السبب، ويحفل بكل لصيق دعيّ
…
ولكن هل يشكو امرؤ بلدَه وأهله؟
بلادي وإن جارَتْ عليّ عزيزةٌ
…
وأهلي وإن ضنّوا عليّ كِرامُ
فلا عليكِ يا دمشق ما صنعتِ بمَن لم يكد يحبك أحدٌ مثلما أحبك، ولم يصف من جمالك كاتبٌ مثلما وصف ولا أشاد بذكرك مثلما أشاد، وهذي صديقتنا «الرسالة» أخت «الثقافة» شاهدة على ما يقول؛ لا يمنُّ ويؤذي بالمن، ولكن يعاتب ويشكو.
* * *
ولئن كتب الله لهذا «الميت» ولادة أخرى (والمرء يولَد فيه كل يوم رجل جديد ويموت رجل قديم) وأعاده إلى الحياة، فليضربنّ إن شاء الله في سماء الأدب بجناحَين مبسوطين، وليطلعن على آفاق لم يرها من قبل، وليحدّثنّ قراء «الثقافة» حديثاً هو أحلى من مناجاة الحب وحديث القلب، وإلاّ يُكتَبْ له ذلك فعليه رحمة الله، وما ضر الناس بفقده (شيئاً)!
وهذا اعتذار تضمنته شكوى، فانشره يا سيدي مشكوراً، أو فدَعْه غيرَ ملوم:
ولا بُدّ مِن شكوى إلى ذي مروءةٍ
…
يُواسيك أو يُسْليك أو يَتَوجّعُ
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
* * *
جواب الأستاذ أحمد أمين رحمه الله:
أرسلت «الثقافة» إلى الأستاذ الأديب الدمشقي ترجوه الخروج عن صمته والعودة إلى تلحينه، وقد عرفت منه كاتباً قديراً وأديباً متفنناً، فبعث بهذا الكتاب وأباح لنا نشره. ولعل هذا يكون سبباً باعثاً للأستاذ أن ينفّس عن نفسه، ويستعيد قلمه ويمتع القراء بآثاره، ويتحرر من الدنيا الضيقة التي يعيش فيها بين القضايا وكتب القانون وحيثيات الأحكام إلى الدنيا الواسعة، دنيا العواطف ودنيا الناس ومنازعهم ومشاكلهم وإصلاحهم، فما خُلق الأديب وَقفاً على مثل هذه الدنيا الضيقة.
والأستاذ يعتب على المجلات المصرية أنها تشيد بالتافه من نتاج مصر ولا تشير إلى الجيد من نتاج الأقطار الأخرى كالشام والعراق، وقد سمعنا هذه الشكوى مراراً، وقد يكون فيها شيء من الحق، ولكن أكبر الظن أنه إهمال غير مقصود، ولعلّ كتّاب الشام والعراق يحملون كثيراً من التبعة، فالكتب الشامية والعراقية تظهر بين أظهرهم وهم أعلم الناس بها وبملابساتها وبقيمتها، فلو كتبوا عنها ونقدوها نقداً قيماً وعرّفوا بها تعريفاً صحيحاً لما تأخرت المجلات المصرية عن نشر مقالاتهم ومشاركتهم في الإشادة بالآثار القيمة منها. و «الثقافة» على الأقل تلتزم هذا وتتعهد به، وتعتقد أنها بذلك تسد نقصاً واضحاً فيها وفي سائر المجلات، وهو عدم إيفاء باب النقد حقه، سواء أكان النتاج مصرياً أو عراقياً أو شامياً. وفي انتظار مقالات الأستاذ نحييه ونشكره.
* * *