الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عيدي الذي فقدته
أذيعت سنة 1946
يا آنسين بالعيد، يا فَرِحين به: هل تسمعون حديث رجل أضاع عيده، وقد كانت له أعياد، أم يؤذيكم طيف الشجى إذ يمر بأحلام أفراحكم الضاحكة؟ إذا كنتم تصغون إلى حديثي فلكم شكري، وإن أنتم أعرضتم عني فما يضرّني إعراضكم، وإن من نِعَم «المِذياع» أنه لا يدري المتكلم فيه مَنْ ينصت له ومن يَشْغب عليه، ولا يسمع مدحاً ولا قدحاً، وما يرى إلا «العلبة» يكلمها، وما ترد علبةٌ على متكلم جواباً.
ولا تقولوا إذا سمعتم حديثي: هذا رجل لا يتكلم إلاّ عن نفسه. فكذلك الأدباء كلهم؛ لا يتكلمون إلاّ عن أنفسهم، ولكنهم إذ يصفون أحلامها وآلامها يصفون أحلام الناس كلهم وآلامهم، فهم تراجمة العواطف، وألسنة القلوب، وصدى الخواطر، حتى ليقول القارئ إذ تمرُّ به آثارهم: ما هذا؟ إن في هذا التعبيرَ عما أحسّ به، إنه وصفٌ لي أنا وحدي
…
وما هو له وحده، إنه وصف لكل نفس بشرية.
ألا ما أعظم فضل الأدباء على الناس! ولكن الناس لا يشكرون.
يا سادة: إنه كان لي في حياتي عيد واحد، ولكن طمَسَ القِدَمُ صورتَه في نفسي فلا أرى منها إلاّ ملامح. لقد وجدت عيدي في (صُرْماية)(1) حمراء أصبحتُ يوماً فلقيتها إلى جانب الفراش. وكنا نبسط الفرش وننام على الأرض، لم تكن قد انتشرت هذه الأسِرَّة وعمّت، لم تكن إلاّ للأكابر، ولقيت معها (قمبازاً) من (الألاّجة)(2)، له خطوط حمر على أديم أخضر كأنه حقل قمح قد نبتت فيه سطور من شقائق النعمان، وعقالاً «مقصَّباً» كأنما قد نُسج بخيوط الذهب، يبرق كأنه تاج ملك جديد، وعباءة رقيقة فيها مناطق حمر وأُخَر بيض وحواشٍ من القصب اللمّاع، لها طُرَر مختلفات الألوان تخطف ببريقها النظر.
فلم أصدق أن ذلك كله لي أنا، وسألت متحققاً. فقالوا: إنه لك، إنه لباس العيد. قلت: وما العيد؟ قالوا: العيد؟! ألا تعرف العيد؟ فلم أعرفه، ولكني قنعت بما وجدت من نعمائه، وتخيلته ضيفاً جميلاً نزل البلد.
وذهبنا نبصر العيد، ومشينا في الطرقات، وإذا الوجوه باسمات الثغور منبسطات القسمات، فكأن أصحابها قد لبسوا مع الثياب البراقة الزاهية حلّة من اللطف والظرف، ولم نرَ -نحن الصغار- مَن يزجرنا ذلك اليوم عن حماقة نأتيها أو ذنب نذنبه، بل وجدت كل من أسلم عليه من أقربائي وأصحاب أبي يعطيني نقوداً «نحاسات» صفراً لامعات كالدنانير، و «مَتاليك» جدداً (ولم
(1) الصرماية: كلمة شامية معناها «الخف» .
(2)
نسيج شامي هو الذي تُصنع منه قفاطين مشايخ مصر.
تكن قد عُرفت هذه القروش الورقية القذرة الممزقة التي يأنف المرء من مسّها)، فاجتمع لديّ مبلغ من المال هو بالنسبة إلى طفل مثلي ثروة كثروة بعض مَن عرفنا من المحتكِرين، ولكني أخذته حلالاً بطيب نفس وأخذوا هم ما أخذوه حراماً، انتزعوه من فم الأرملة واليتيم، فكان برداً على قلوبهم وسلاماً في لهب هذه الحرب (1)، ولكنه سيكون من بعد ناراً آكلة في أكبادهم، وسمّاً هارياً في أمعائهم، وغصة خانقة في حلوقهم، ولعنة متسلسلة في ذراريهم، وجحيماً متسعّراً يوم المآب. فارتقبوا -أثرياءَ الحرب- إنّا معكم من المرتقبين!
* * *
وكانت دارنا في العُقَيْبة، فكان أول ما لقيت من العيد «جامع التوبة» ، هذا الجامع المأنوس الذي يملأ جوَّه دائماً خشوعٌ وأنس. ولم أكن أدري يومئذ ما الخشوع وما أنس الروح، ولكني أحسست فيه فرحة شاملة ملأت نفسي. وذهبنا إلى الأموي، وكان صوت التكبير ينبعث منه قوياً مجلجلاً كأنه هدير بردى عند شلال التكيّة، فشعرت بحال لم أعهدها في نفسي من قبل ولم أعلم ما هي، شعرت بالحماسة التي تغلي منها دماء المسلم حينما يسمع هذا النشيد السماوي الذي لم تسمع أذنا الأرض نشيداً بشرياً أروع منه روعة أو أشد أو أقوى؛ هذا النشيد الذي علمتُ -بعدُ- أن أجدادنا كانوا يهدرون به في أشداقهم فتتداعى أمامهم الحصون،
(1) يريد الحرب العالمية الثانية كما هو ظاهر من تاريخ إذاعة هذا الحديث (مجاهد).
وتَسَّاقط الأسوار، وتُفتح لهم أبواب المجد حتى فتحوا به الدنيا، هذا النشيد الذي كان من بشائر الرجاء أن اتخذه جنود الإسلام اليوم شعاراً لهم ليصلوا به ما كان انقطع من قِلادة أمجادنا التي طوّقنا بها عنقَ الزمان، ولينشروه مرة ثانية في آفاق الأرض، فتردده معهم الجبال والأودية والمدن والقرى.
دخلت فوجدت في المسجد متعة لم أجد مثلها في لهو كنت أتخذه أو متعة كنت أسرّ بها، وجدت -ولم أكن أدري- متعة الدين والدنيا إذا اجتمعا: الكثرة والألفة، والثياب البراقة والنظافة والنظام، والتقى والإخلاص، والغنى السمح الشاكر والفقر المتجمل الصابر، والمعاونة على الخير، والمواساة والإيثار
…
وكان في المسجد نساء قد اجتمعن في «المشهد» (1) بالأُزُر البيض والمِلاءات الساترة، ما يظهر منهنّ عين ولا بنان ولا ساق، قد جئن للصلاة.
كذلك كان بلدنا قبل أن تبلغه هذه «الحضارة» الجديدة، كذلك كان يوم كان أهله متأخرين جامدين، فيا ليته يعود كما كان، يا ليتنا بقينا متأخرين عن هوّة الفساد لم نَقْدم عليها، جامدين لم نعرف هذا المَيْع. إن الجامد يتماسك ويثبت، أما المائع فيسيل ويجري حتى ينصب في البَلُّوعة (2)
…
أفعرفتم الآن مصيركم يا أيها «المائعون» ؟!
(1) المشهد في الأموي اسم لحرم صغير فيه جانبيّ، وفي المسجد أربعة مشاهد في أحدها رأس الحسين، هو فيه لا في مصر، والله أعلم.
(2)
البلّوعة والبالوعة من العامي الفصيح.
ثم أمَمنا مقبرة الدحداح، فإذا الحياة الضاحكة جاءت تزاحم الموت العابس على أرضه وتنتزع منه مثواه، وإذا المقبرة، دار الوحشة والعبرة، قد أحالها العيد منزل الفرح واللهو، ففيها «الدُّوَّيْخات» منصوبات، و «القلَاّبات» قائمات، والعربات الصغار مزيَّنات بالأعلام الملونات مشدودة في جوانبها الأجراس والجلاجل، والأطفال بثيابهم التي تحكي زهر الربيع، منها الأحمر والأصفر والأخضر والفضي والمقصَّب وذو الطرر وذو الحواشي، راكبون على أفراس «الدُّوّيْخة» تدور بهم، أو جالسون في سرر «القلاّبة» تصعد بهم وتنزل، أو متعلقون بالعربة، والنساء قاعدات عند النهر، والرجال مجتمعون عند التلّ، وعلى القبور الآس الأخضر معقود بشُرُط الحرير يخيل للرائي من كثرته أنه في جنة ملتفة الأفنان، وخلال الآس الخيام المنقوشات والسّرادقات، وباعة «القضامة» و «اللب» و «عِرْق السوس» يجولون بين الناس ينادون أعجب النداء، وبياع «الفول النابت» قد أوقد ناره ورفع قدره ونصب مائدته، وحفَّ به الصبيان والبنات، وصاحب «صندوق الدنيا» قد حطَّ صندوقه، وقعد حوله الأولاد ينظرون، فإذا هم يسيحون في البلاد ويرون عبلة وعنتر بن شداد، فلا يكادون يستمرئون الحلم ويستغرقون فيه حتى يرخى الستار فيهبطوا إلى أرض الواقع، فإذا الذي كانوا فيه قد مرَّ كما تمرّ الأحلام لم يخلّف إلاّ ذكرى مشوبة بألم الفقدان.
كذلك كانت المقبرة أول ما عرفت العيد؛ إنها صورة المقبرة يوم نفخ إبليس في بوق الحرب العالمية الأولى سنة 1914.
صبرَكم -يا أيها المستمعون- ودعوني أُطِل وقوفي على
هذه المقبرة، فإنكم لا تعلمون منزلتها في قلبي، ولا أستطيع أن أعلمكم، وكيف؟ أوَ تصدقون إذا قلت لكم إن لهذه المقبرة صوراً في نفسي أحلى من صور الرّوض، وذكريات أجمل من ذكريات الحب؟ وإن نهرها هذا الصغير القذر أعزُّ عليّ من بردى ودجلة والنيل، وأشجارها هذه المنحنية عليه أبهى عندي من صنوبر فالوغا ونخيل الأعظمية، وكراسيها هذه الواطية أفخم في عيني من أسرّة «أوريان بالاس» و «شبرد» ؟
إن في هذه المقبرة بقايا من قلبي، إن لها تاريخاً في نفسي يعرف أكثره أخي أنور (1). فسلوا أنور متى يقوم بحق الوفاء لهذه الذكريات فيخلدها بقصائد بارعات من شعره العبقري؟ فما أُحسنُ أنا تخليدها، لا أطيق أن أفِيَ لها هذا الوفاء. سلوه أنَسِيَ ليالي نمشي فيها لنزور قبور الأحبة في ظلمة الليل: أبي وأمي وأمه وأبيه، ونبكي عليها والمقبرة ساكنة خالية، ما ترانا إلاّ عيون النجم وما تسمعنا إلاّ الشواهد الشواخص، ونحدق في سدفة الزمان نرقب أن نرى طلعة الأحباب الذين اشتد إليهم الشوق وطال الغياب، فلا نرى إلاّ ظلاماً متراكباً، ونعود فنحاول أن نخترق حجاب الآتي لنبصر طيف الأمل الحلو فلا نبصر إلا الظلام؟
…
ليالي كنا نعود وقد برّح بنا الألم وهدّنا الحزن، فأستمع من أنور بواكير أشعاره ويسمع مني بوادر رسائلي، تلك البواكير التي قرأها الناس فرأوها ندية بالدمع فياضة بالحزن، فقالوا: ما لهذا الشاب والألم، ما له
(1) هو أنور العطار. انظر مقدمة مقالة «من دموع القلب» في هذا الكتاب (مجاهد).
لا ينظم إلا الشعر الباكي؟ ما دروا أن هذا الشعر قد نُظمت حبّاته على قبر الوالدين في ليالي اليتم الكوالح.
مساكين الأدباء؛ يجبلون فلذات قلوبهم بدموع عيونهم ليقيموا منها تماثيل الأدب، فيأخذها الناس عابثين، وينظرون إليها لاهين، ويعيبونها ظالمين، ثم يملّونها كما يملُّ الصبي لعبته فيرمونها فيَحْطِمونها ويفتّشون عن لعبة جديدة!
مساكين الأدباء!
* * *
يا سادة:
لقد مشيت -بعدُ- في الزمان، وسحت في البلدان، فكبرت ورأيت أياماً قال (التقويم) إنها أيام عيد، رأيتها في دمشق بلدي، ورأيتها في الأعظمية في بغداد، ورأيتها في البصرة ذات الشط والنخيل، وفي الحرش من بيروت، وفي القاهرة أم الدنيا
…
ولكني لم أعد أجد في ذلك كله تلك البهجةَ التي كانت للصّرماية الحمراء والعقال المقصَّب، والعربة ذات الشراع الأحمر والجلاجل، والثياب الملونة الزاهية التي تحكي زهر الربيع.
أفتغيرت الدنيا أم قد أضعتُ عيدي؟
أتغيرت الدنيا يا ناس، أم الناس قد فقدوا فرحة العيش حينما تركوا تلك الحياة السمحة القانعة الطاهرة المبرّأة من أدران حضارة الغرب؟
تلفتوا أيها السادة حولكم، واسألوا من تلقون من الكهول عن ذلك الزمان
…
تجدوا في عيونهم عَبْرة، وفي قلوبهم حسرة، وعلى ألسنتهم جواباً واحداً: رحم الله تلك الأيام، لقد كانت أيام انشراح
…
كانوا لا يعرفون دسائس السياسة، ولا التزاحم على الرياسة، ولا شبه العلم، ولا رذائل الحضارة؛ لا يختلفون على مذهب اجتماعي، ولا يقتتلون لمصلحة حزب سياسي، ولا يقرعون أبواب الوظائف، إن تعلموا العلم تعلّموه لله لا للشهادات، وإن طلبوا المال طلبوه من التجارة لا من المضاربات والاحتكار والرشوات، وإن أرادوا تسلية ولهواً قصدوا الربوة أو الميزان أو الشاذِروان، ينصبون سَماوَرات الشاي وسماط الأكل وبساط الصلاة، لا يعرفون سينما ولا ملهى ولا ماخوراً ولا «نادي دمشق» ! المساجد ممتلئة بهم، ومدارس العلم حافلة بأبنائهم، والعلماء هم الأمراء؛ طلبوا العلم للآخرة لا للدنيا فأعطاهم الله الدنيا والآخرة، والبيوت جِنان الأرض، والنساء حور تلك الجنان لا يعرفن التبرج ولا التكشف، ولا يراهنّ أحد في الطريق إلا خارجات لضرورة لا بدّ منها ومعهنّ الزوج أو الأب، يسبقهن وهنّ يتبعنه، لا يعرفن بيوت الفجور ولا أماكن العصيان ولا «دوحة الغضب» ، ولا يخطر على بالهنّ أن الدنيا ستبلغ من الفساد أن سيكون فيها «فرق مضلاّت»
…
!
كذلك كانوا فكانت أيامهم كلها أعياداً، فأين أعيادنا نحن؟
أرَبِحنا من هذه المدنية وهذا العلم
…
أم خسرنا؟ سلوا هذه الحرب عما صنعته علومهم بسعادة البشر، وسلوا التاريخ عما صنعت بها علومنا وشريعتنا.
يا سادة:
إننا صرنا اليوم نلبس «البذلة» بدل «القنباز» ، وننام على السرير، ونأكل بالشوكة والسكين، ونقرأ أخبار أمريكا وأوروبا ونتكلم في الجغرافيا والكيمياء وفي السياسة، ونركب السيارة والطيارة، ونسمع الرادَّ ونبصر أفلام السينما
…
هذا الذي ربحناه، ولكنّا خسرنا التقى والعفاف والاطمئنان. لقد كان أجدادنا أبعد عن حضارة أوربا، ولكنهم كانوا أرضى لله منا وأقرب إليه، وكانوا أقوم أخلاقاً، وأطهر قلوباً، وأصفى سرائر، وأصدق معاملة، وكانوا أسعد منا في الحياة
…
لا يا سادة؛ إني لم أعد أجد للأعياد بهجة، فردوا إليّ ماضيّ، أرجعوني إلى عيد المقبرة والمسجد فإني لم ألقَ السعادة إلاّ فيه، أنقذوني من هذا العلم وهذه الحضارة، فأنا جامد، أنا رجعي، رجعي، رجعي!!
والعفوَ يا سادة؛ لقد نغّصتُ عليكم بهذا الحديث القاتم المضطرب عيدكم. لقد نسيت قواعد الآداب الاجتماعية فكدرتكم يوم الصفاء، وكنت عندكم فاسد الذوق سيء الاختيار، فلا تؤاخذوني
…
وأقبلوا على عيدكم وسروركم، ودعوني أبكي -يوم العيد- ماضيات أيامي.
وكل عام وأنتم بخير.
* * *