المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌أستاذنا الجندي ألقيت في حفلة الأربعين سنة 1955   إن من أصعب الصعب - من حديث النفس

[علي الطنطاوي]

الفصل: ‌ ‌أستاذنا الجندي ألقيت في حفلة الأربعين سنة 1955   إن من أصعب الصعب

‌أستاذنا الجندي

ألقيت في حفلة الأربعين سنة 1955

إن من أصعب الصعب أن أقوم لأؤبن رجلاً لا أعرف عنه شيئاً، وأصعب منه -يا سادتي- أن أؤبن رجلاً أعرف عنه كل شيء! أن أختصر ثلاثاً وثلاثين سنة في عشر دقائق، أن أجمع البحر في قطرة والروض في زهرة، وذكريات أستاذي سليم الجندي في كلمة تأبين.

لقد اقتنيتها دقيقة دقيقة؛ أجمعها وأحصيها كل يوم كما يجمع الشحيح فلساً إلى فلس ويحفظها، حتى اجتمع لي في صحبته ثلث قرن، فهل تروني أفرط فيها؟ لقد كتمتها سراً في القلب ونجوى للنفس وزاداً لي في مفازات العمر، فهل أكشفها اليوم وأعلنها وأبيحها كل سامع؟

إنها ذكرياتي أنا، وما الحياة لولا الذكريات؟ وإن أنا فعلت فمن أين أبدأ؟ من أين؟

وما أعددت لهذا المقام كلاماً لأني ما كنت أتوقع أن أقوم يوماً فأؤبن الأستاذ سليم الجندي.

كنت أظن أن حبلي منه لن ينقطع أبداً، الحبل الذي غُزلت خيوطه من مسالك اللحظات في مسارب الزمان. وكل حبل مودة إلى

ص: 183

انقطاع، وكل حي إلى ممات، ولكنها أماني النفوس

حتى جاءني الزميل الكريم الأستاذ نورس الجندي من أربعين يوماً (لا كنتِ يا هذي الأربعون) فقال لي والوجه ملتاع وفي الصوت ارتجاف: عظّمَ الله أجرك بالأستاذ سليم! ومرَّ على خاطري كل سليم أعرفه إلاّ الأستاذ الجندي، وقلت له: من؟ قال: أستاذكم سليم الجندي. وشُدهت ولبثت دقيقة لا أفقه ما يقول، لأن هذه الكأس أكبر من أن تُساغ بجرعة، ورحت أتجرعها على مهل حتى فهمتها.

فهمت أنه قد مضى الرجل الذي لم يبقَ تحت أديم السماء مَن هو أعلم منه بلسان العرب: لغة واشتقاقاً ونحواً وبلاغة وعَروضاً ورواية وضبطاً، ولا مَنْ هو أوفى لها وأغير عليها. وأنه لم يعد في ديار الشام مَنْ أستطيع أن أذهب إليه أنا والأفغاني والعطار (1) كلما دَهَمتنا عِظام المشكلات في العربية، نحملها إليه ليحل لنا عقدها. ولم يبقَ في الدنيا كلها من نقول له في العربية:«يا أستاذنا» ، وأن علينا بعد اليوم أن نعتمد على أنفسنا كما يعتمد الضابط على نفسه حين يفتقد القائد العبقري وسط المعمعة الحمراء. وهيهات أن يسد أحد مكان قائد المعركة بين العربية والعجمة، حجة العرب، سليم الجندي (2)!

(1) سعيد الأفغاني وأنور العطار، كانا وعلي الطنطاوي أصدقاء الطفولة والشباب. كان الأفغاني من علماء النحو الكبار في الشام وتوفي بمكة سنة 1996 ودُفن فيها، وأنور هو الشاعر الذي مرت بنا مقدمة ديوانه آنفاً، توفي سنة 1972 في دمشق (مجاهد).

(2)

في «الذكريات» تحدّث علي الطنطاوي عن أساتذته في مكتب عنبر، فذكر سليم الجندي وعبد القادر المبارك، ثم قال:"لقد ماتا وما أعرف تحت قبة الفلك أعلم منهما بالعربية"(1/ 118)(مجاهد).

ص: 184

ولم أعد أستطيع أن أقول لهؤلاء الإخوان، وللزركلي والجيرودي (1)، كلما رابنا ريب الحياة وشجانا زيف المودات وفقد المروءات: هلمّ إلى الجندي نجد عنده مثل الذي يجده الغريق حين ترفعه يد المنقذ إلى طلق الهواء.

لقد تحققت أن سليم الجندي مات، فأحسست كأن قد زاغ بصري وزلزلت أعصابي ومرّ في أذنيّ نهرٌ هدّار. لا تظنوا أني أبالغ أو أتخيل خيال شاعر؛ لا، وما أنا بالشاعر وما صناعتي نسج التهاويل. ما أنا إلاّ مصوّر يحمل آلته يطوف بها، يصوّر مشاهد الحياة وخطرات النفس، مصور فطوغرافي مسكين ينقل صوره نقلاً، ولست المصور المبدع الفنان الذي يحمِّل لوحاته ما لم يكن ولا يكون

مخلوق يدب على أرض الواقع على حين يضرب الشعراء أمواج الجو بأجنحة النسور.

وليست هذه هي الصدمة الأولى؛ لقد عراني مثلها مرات من قبل. عرتني يوم مات أبي، وكان لي أباً وكان لي معلماً، كما كان للعشرات من أكبر رجال هذا البلد اليوم. وما أمدح أبي، وهل قمت هذا المقام للفخر؟ ولكني أقرر إحدى الحقائق. ويوم مات شيخ الشام وأستاذ كل متعلم فيها ممن هم اليوم فوق الأربعين، الشيخ عيد السفرجلاني. ويوم مات أذكى إنسان عرفته، لا أستثني

(1) سليم الزركلي ومحمد الجيرودي، الأول شاعر والثاني محامٍ، وكلاهما من رفاق علي الطنطاوي في المدرسة ولهما أخبار في ذكرياته المنشورة (مجاهد).

ص: 185

أحداً أبداً، أستاذنا مسلّم عناية. ويوم مات الأستاذان الحبيبان عبد القادر المبارك وعبد الرحمن سلام (1).

أولئك رجال بكيتهم كما بكيت الأستاذ الجندي بدموع قلبي.

وهل تستكثرون عليّ أن أنضح بالدمع قبور رجال هم ملؤوا قلبي بالعاطفة التي ينبع منها الدمع؟ وهم غرسوا فيه دوحة الحب التي من ثمارها الوفاء؟

وهل كان أولادهم الذين خرجوا من أصلابهم أحق ببكائهم مني؟ لقد صرمت في صحبة الشيخ عبد القادر المبارك مدة أطول من كل ما عاشه في الدنيا نصف أبنائه، لقد عرفت من عبد الرحمن سلام ما لم يعرفه أهله وأولاده، لقد كنت لهؤلاء أكثر من تلميذ، بل (ودعوني أقلها) لقد كنت لهم أكثر من ولد.

التلميذ تلميذ ما دام المعلم على منبره، فإن نزل المعلم عن المنبر وخرج التلميذ من المدرسة سار كل في طريق، فلم يعد بينهما إلا ذكرى أيام مرت ولن تعود. والولد يرى في أبيه العبقري مظاهر إنسانيته التي يشترك فيها الناس جميعاً، فتختلط بمظاهر العبقرية التي يمتاز بها عن الناس جميعاً، ومن هنا قالوا: أزهد الناس في العالم أهله وجيرانه، والمريد لا يرى منه إلا الجانب

(1) لكل هؤلاء أخبار في «ذكريات علي الطنطاوي» تستحق أن تُقرأ، أكثرها في الجزء الأول (الحلقات 13 - 16) والثاني (الحلقات 52 - 55) ومواضع أخرى متفرقة كثيرة (مجاهد).

ص: 186

العلوي الخالد، لذلك تخلد صلته به أبداً وتعلو. والولد يشارك أباه طعامه وشرابه، والمريد يشاركه فكره وشعوره. والولد يرث عن أبيه ماله، والمريد يرث علمه.

لا أعني أولاد الفقيد الجندي، فهم جميعاً من النابغين النابهين، ولكن هل يزعمون أنهم أحق باللوعة عليه مني؟ هل كانت الصلات بين شيخ الأدباء وبين أنجاله الأطباء أقوى من الصلات الفكرية بينه وبين تلميذه الأديب؟ وهل ما يمتّون به من صلة النسب أمتن في مقاييس الخلود مما أمُتُّ به من صلة الأدب؟

عفوَكم يا سادة، عفوَكم. لقد تركت طريق موضوعي لأني أبصرت رياض الذكريات تلوح لي عن يمين وشمال، فلم أتمالك أن تنكّبت طريقي لأقطف منها وردة أو زهرة أو أعود بشمّة من رياها وعطرها، وسأرجع إلى هذا الذنب مرات في هذا الخطاب!

وهل لكلمتي هذه موضوع؟ إن موضوعها ذكريات، ومتى حصرت الذكريات أرقام الحاسب وأشكال المهندس؟ ذكريات، وهل في الحياة أمتع من التعلل بكأس الذكريات، والنشوة بخمرة الأماني؟ وأنا أعلم -يا سادة- أن أثقل الكلام في ميزان الأذواق كلمة «أنا» ، ولكني مضطر الليلة إليها؛ لأن الذكريات لا بد فيها من ذاكر، فكيف أنشر المطويّ من ذكرياتي أن أغفلت ذاتي؟ فائذنوا لي أن أعود إلى مواضي أيامي، إلى عهد الدراسة الابتدائية، يوم كان يحكم دمشق الرجل المرعب جمال باشا وصحبه الاتحاديون الملحدون، وكنا نحفظ الأسماء التركية نسردها كل صباح سرداً بلا فهم ولا علم، وكنا نقرأ النحو العربي بالتركية على المعلّم التركي،

ص: 187

وكان التركي هو اللسان الرسمي للبلاد، به يخاطب الحاكمون وينشد أغانيه المنشدون. لقد حسب الاتحاديون أنهم بهذا يقضون على العربية ويرثون أمجادها ويدّعون لأنفسهم مكارمها. أرأيتم الصبي الهزيل يلبس ثوب العملاق؟ أأبصرتم الأحمق الذي يلصق بالصمغ ورقة على وجه أبي الهول عليها اسمه، ليصحح خطأ التاريخ ويثبت أنه هو الذي نحت أبا الهول؟! هذا هو مثال الاتحاديين الذين ظنوا أنهم -بلغة ملفقة محدثة، وبمئة قصيدة وقصة، وبالسيف المصلت على أعناق العباد- يستطيعون أن يقتلوا اللغة التي كانت معجزة العبقرية الإنسانية؛ لأنها لم تنشأ كاللغات، فالتاريخ يعرف طفولة كل لغة وشبابها ويعرف تدرّجها في طريق الكمال، أما العربية فلم يعرفها التاريخ إلاّ كاملة مكملة، لأنها أسنّ من التاريخ! ولكن مالي وما لهذه التفاصيل الآن؟ حسبكم أن تعرفوا أننا كنا في أواخر هذا الليل الذي خاضت حِنْدِسَه (1) العربيةُ، وكانت تتخبط فيه في مسراها على غير هدى لولا من حملوا لها المصابيح تحت طِباق الظلام، أولئك الأعلام من رواد هذه النهضة الجديدة.

وعلى ضوء هذي المصابيح وَضَحَ للسارين الدرب، فسار الركب، وكان الفجر قد حل، ولكن سحابة الاتحاديين كانت تحجبه عن العيون (قلت الاتحاديين ولم أقل الأتراك)، فلما انزاحت السحابة ملأ الأفقَ نورُ الفجر. ونُشرت رسائل وكتب، وألقيت خطب ومحاضرات، وكان النادي العربي

ومن عجب أن قام النادي العربي أمام «أوتيل فيكتوريا» حيث كان ينزل جمال

(1) الحِنْدِس: الظلمة، أو الليل الشديد الظلمة (مجاهد).

ص: 188

السفاك! وعرفنا لأول مرة أن في الدنيا أدباً عربياً، وشعراً عربياً، وخطباء يخطبون في غير المساجد ومن غير ديوان ابن نباتة المرتَّب على الشهور والأسابيع، الذي كان يحفظه السامعون من المصلين مثلما كان يحفظه الخطيب! ومرت أيام، ودُفن الاستقلال الوليد في وادي ميسلون، ولكن النهضة بقيت عائشة، ولبثت تسير قدماً حتى أثمرت مجلة «الرابطة الأدبية» التي صدر العدد الأول منها في الأول من أيلول سنة 1921. وكان والدي من المشتركين فيها فكنت أقرؤها. ولئن قرأت قبلها كتباً من كتب الأدب القديم، ثقفت المعوجّ من بياني وقومت لساني، فإن أول ما قرأته من الأدب الجديد على الإطلاق هو مجلة الرابطة.

ورأيت بين كتّابها كاتباً ظهر لي من بحثه، ظهر لي وأنا في تلك السن (صدّقوني) أنه من وزن آخر، وأنه أرجح وأوقر، وأنه كان يمسك هو بمفاتيح القاموس ويمتلك كنوز اللغة، فهو يعطي الألفاظ للأدباء يقولون وهو يهذّب مقالهم، ويكتبون وهو يصحح كتابهم، فتصورته كأستاذ بين تلاميذ بارعين. ثم رأيت صورته فصدق النظرَ التصور، لأني رأيتهم شباباً ورأيته كهلاً بينهم، بصلعته وهيبته ولحيته

أو تخيلته كهلاً. وكانت هذه هي أول مرة سمعت فيها باسم الجندي.

ومن مباحث الجندي في «باب تهذيب الألفاظ» في «الرابطة» تعلمت أن في الدنيا شيئاً اسمه علم اللغة والتحقيق اللغوي.

وكانت المدرسة السلطانية الثانية التي كنا طلاباً فيها على عهد الشريف قد ألغيت، وذهبنا إلى مكتب عنبر، الثانوية الوحيدة في

ص: 189

دمشق، وهناك عرفنا الأستاذ سليم مدرّساً وقعدنا بين يديه تلاميذ.

ولكن هل أقفز قفزاً إلى حديث الأستاذ؟ ألا أحدثكم عمن علَّمنا قبله؟ عن سلفه الشيخ عبد الرحمن سلام؟ وعن الشيخ عبد القادر المبارك؟ أيقف شعراء العرب على حفرة طمستها الرياح وحجارة سوَّدتها النار ويبكون على آثار الخيام، ولا أقف عند ذكرى الرجلين اللذين لولاهما ولولا الجندي ما عرفت، ولا عرف العطار والمبارك والمحاسني والكرمي والأفغاني والجيرودي وسلطان وجمال الفرا ووجيه السمان، كيف يكون تأليف الكلام؟

امنحوني دقائق أحيي فيها مَن منح هذه العربية حياته كلها، ومن أعطى الشام هؤلاء الذين تعتز بهم من شعراء وخطباء وكتّاب.

لما دخلنا مكتب عنبر -يا سادة- وجدنا في درس العربية مفاجأتين: رجلين من نوادر الرجال. ولقد قلت مرة إن الرجل المهذب الاجتماعي كالنسخة المطبوعة من الكتاب، منها آلاف وآلاف، أما أمثال المبارك وسلام فكالنسخ المخطوطة؛ قد يكون فيها خرم أو غموض ولكنها أثمن من كل مطبوع لأنها مفردة ليس لها نظير.

أما الشيخ عبد الرحمن سلام فما رأيت (وما أظن أنني سأرى) من هو أطلق منه لساناً وأحلى بياناً؛ لقد كان عجباً من العجب، إذا احتاج أن يتكلم في موضوع لم يكن عليه إلاّ أن يفتح فمه ويحرك لسانه، فإذا المعاني في ذهنه، والألفاظ على شفتيه، والسحر من حوله، والأنظار متعلقة به، والأسماع ملقاة إليه، والقلوب مربوطة بحركة يديه! وكان يرتجل الشعر كما يرتجل الخطب، وكان يرمي

ص: 190

الكتاب (كتاب النحو) لا يباليه، ويتكلم من أول الساعة إلى آخرها في اللغة وفي الأدب وفي كل شيء

كان يريد أن يربينا على السليقة العربية بالمحاكاة والمِران وينفخ فينا من سحره ليجعلنا أدباء قبل الأوان.

وأما المبارك فما رأيت (وما أظن أني سأرى) مدرّساً له مثل أسلوبه في الشرح والبيان، وفي امتلاك قلوب الطلاب، وفي نقش الحقائق في صفحات نفوسهم بهذه الضوابط المحكمة العجيبة التي تلخِّص في جملة واحدة بحثاً من البحوث. وكان يعلمنا الفقه

ماذا قلت؟ الفقه؟ هذا هو اسم الدرس في عرف المدرسة، أما الدرس -في حقيقته- فكان فقهاً وتفسيراً وحديثاً ولغة وشعراً وأخباراً، وما شئتَ من كل نافع مفيد وكل طريف جديد.

وكان الأول هو الذي جرّأني على امتطاء صهوات المنابر ومقارعة الفرسان في ميادين البيان، وكان الثاني هو الذي أخذ بيدي فأطلعني على كنوز الثقافة العربية وطبع نفسي بطابعه، حتى لأستغرق أحياناً في الدرس فإذا بي أتكلم بلسان المبارك ولهجته وأتحرك مثل حركته والطلاب ينظرون مدهوشين (1).

(1) ممّا رواه جدي في «الذكريات» : "لما كنت أدرّس في بغداد أقيمت حفلة سمر في آخر سنة 1936، فسأل الطلابُ مدرّسيهم على عادة اعتادوها: هل يأذنون لهم أن يقلّدوهم؟ فكان منهم من أذن ومنهم من أبى، وكنت فيمن أذن. فقام طالب يقلدني بزعمه، فقلّد شيخنا المبارك. فقلت: ويحك، هذا شيخنا المبارك! وإذا بالطلاب يصيحون من الأركان الأربعة: بل هذا أنت، هذا أنت. وإذا أنا -لطول ما حاكيت الشيخ- قد صرت مثله! "(1/ 120)(مجاهد).

ص: 191

وفي يوم من أيام سنة 1923 دخل علينا الشيخ عبد الرحمن سلام، ولكن لا كما كان يدخل كل يوم، وألقى خطبة، ولكن لا كما كان يلقي؛ دخل حزيناً وألقى خطبة الوداع، وذهب وذهبت معه قلوبنا.

وجاءنا مدرس جديد فقعد على الكرسي، وما كان الشيخ ليقعد عليه أبداً، وفتح كتابه يقرر الدرس بصوت خافت وكلام لا يكاد يُسمع. وكان الأفغاني إلى جنبي فقلت له: مَن هذا؟ قال آسفاً: هذا والد سيدنا

وأشار إلى نجم الدين، قلت: الأستاذ سليم الجندي؟ قال: نعم.

أهذا هو الأستاذ سليم الجندي؟ أهذا الذي أعجبت به لمّا قرأت له في مجلة الرابطة؟ يا ضيعة الأماني! ويا حسرتاه على أستاذنا الذي أضعنا، على الشيخ سلام!

سلام على سلام. بل سلام على العربية؛ لقد زهدت فيها وعزفت عنها، وعزمت لأتوجهنَّ بالاهتمام إلى درس آخر من دروس المدرسة. ما لي وللعربية وهذا مدرّسها؟ مدرس لا يخطب ولا يرتجل الشعر ولا يتلاعب بمُهَج السامعين؟! ومرَّ بي الدَّوْر، فأخرجني الأستاذ فأقامني على اللوح وأملي عليّ بيتين للمعري، وقال: اقرأ وفسّر وأعرب.

فانطلقت كما علمنا سلام، انطلقت أخطب في موضوع البيتين خطبة حماسية مجلجلة، فإذا بالأستاذ يبتسم ابتسامة أحسست كأنها سكين في قلبي، وكأنها دلو ماء أُلقي على جمرة حماستي، وقال: بعدُ بعدُ، فسّر أولاً معاني الكلمات الغريبة.

ص: 192

ووقفت كما وقف حمار الشيخ في العقبة! وسألني عن دقائق الإعراب، فوقفت وقفة أخرى. قال: أرأيت؟ أتَبني الدار قبل نحت الحجارة؟

ورأيتُني حقاً أبني الدار قبل نحت الحجارة

أبني دوراً في الهواء!

وصَغُرت عليّ نفسي بقدر ما كبر الأستاذ. وعدت أبدأ قراءة النحو والصرف من جديد. وكان الكتاب الذي نقرؤه «قواعد اللغة العربية» (الجزء الرابع من الدروس النحوية لحفني ناصيف وأصحابه)، وهو كتاب يغني المتأدب، بل الأديب، عن النظر في كتاب غيره، وهو أعجوبة في جمعه وترتيبه وإيجاز عبارته واختياره الصحيح من القواعد، وهو أصح وأوسع من شذور الذهب ومن ابن عقيل التي كنت أقرؤها على أستاذيَّ الجليلين الشيخ أبي الخير الميداني والشيخ صالح التونسي.

وعكفنا عليه وملأنا حواشيه البيض، ثم ألحقنا بين صفحاته صحائفَ نملؤها بفوائد الأستاذ وشواهده وزياداته. وعرفنا -يوماً بعد يوم- مقدار النعمة التي أنعم الله بها علينا حين جعلَنا تلاميذ الأستاذ سليم الجندي. وكنا نفاخر إخواننا الذين يُقرئهم الشيخ الداودي، ونأتي بالمعضلات والصعاب نتصيدها من كتب الأدب وأفواه العلماء فنطرحها عليه، فنحظى بأجمع الجواب بلا مراجعة ولا كتاب ويرجعون هم بلا جواب.

وما أنتقص الداودي رحمه الله، فلقد كان معلماً فاضلاً، وكانت له أخلاق أعطر من زنبق الحقل وأطهر من ثلج الجبل،

ص: 193

وله قلب من الذهب، ولكنه لم يكن من بابَةِ الجندي. إن الذهب ذهب، ولكن إن قابلته بالجوهرة المفردة وارى بريقَه حياءً.

وأحببت الأستاذ الجندي حب الولد أباه وعرفت قدره، فكنت لا أكفّ عن سؤاله، أسأله في الصف وألحقه في الفرصة وأدخل معه غرفة المدرّسين، أشرب من معين علمه ولا أرتوي، أتزود من هذا المنهل العذب لسفري الطويل في صحراء الحياة، أسأله عن الغريب فلا تغيب عنه كلمة منه، كأنه قد وعى المعاجم وغيّبها في صدره، وأسأله عن التصريف والاشتقاق فيجيب على البديهة ما يُعيي العلماءَ جوابُه بعد البحث والتنقيب، وأسأله عن النحو فإذا هو إمامه وحجته، وألقي عليه بالبيت اليتيم وجدته في كتاب فإذا هو ينشد القصيدة التي ينمى إليها ويعرف بالشاعر الذي قالها.

لقد كان مدرّساً للعربية، ولكنه كان أكثر من مدرس. وكان عالماً من علماء البلد، ولكنه كان أكثر من عالم، ورُبّ مدرّس لا يكون عالِماً، وربّ عالم لا يكون عالماً إلاّ في بلده وبين أقرانه، وربّ عالم لا يكون عالماً إلاّ بالنسبة إلى عصره وزمانه. أما الجندي فقد كان أعلمَ علماء العربية في هذا العصر، وكان واحداً من أعلام العربية الأولين، ولكنه ضل طريقه في بيداء الزمان فجاء في القرن الرابع عشر الهجري لا في القرن الرابع!

أقرر هذا بعدما مشيت في البلاد وجالست العلماء، فما ثَمّ عالم مشهور في العربية في مصر والشام والعراق والحجاز والهند والملايو وأندونيسيا إلاّ عرفته. عرفت في مصر علماء الجامعة

ص: 194

المصرية وعلماء الجامع الأزهر والأدباء والكتاب، وأنا أؤكد لكم القول أني لم أجد فيهم من يفوق -في حفظه وضبطه وأمانته وملكته- الأستاذَ الجندي.

وكشفت فيه -يوماً- بحرَ علم آخر لم أكن أعرفه من قبل؛ سألته عن مسألة من الدين فإذا هو فقيه أصولي يروي الحديث ويعرف المقالات. ومن هنا، من هنا يا سادة، جاء حفاظه على اللغة ومعرفته بقدرها وغيرته عليها. لقد كتبت مرة أن إنكليزي القرن العشرين يقرأ أدب إنكليز القرن السادس عشر فلا يفهمه إلاّ بترجمان، ونحن نقرأ شعراً عربياً من ألف وأربعمئة سنة فنفهمه كما نفهم شعر شعرائنا اليوم!

فمن أين للعربية هذه المزية؟ وكيف ثبتت العربية برغم النكبات الثقال التي مرت بها؟ كيف عجزت الدول التركية والفارسية التي تعاقبت على بلاد العرب من أيام الواثق عن أن تقضي عليها؟ بل كيف استطاعت هي أن تقضي على عجمتهم وتدخلهم تحت لوائها؟ وما هو السر في قوة العربية وثباتها؟

إن السر في هذا الحصن المتين الذي حصّنها الله به: القرآن يا سادة، القرآن.

وهذا هو سبب نبوغ الجندي، حتى كان إمام العربية وهو ابن عصر حاول الأتراك أن «يترِّكوا» فيه كل عربي. السبب معرفةُ الجندي أن «العربية لغة القرآن» ، وأن من أراد أن يكون إماماً فيها فليكن خادماً للقرآن. ولست أنا الذي يقول عنه هذا، بل لقد قاله هو بلسانه؛ قال في العدد الأول من مجلة الرابطة الأدبية،

ص: 195

في مقدمة باب تهذيب الألفاظ: "مُنيت اللغة العربية بضروب من النكبات، لو أنزلت على جبل شامخ لتصدّع، ولو أصاب غيرها من اللغات معشارُ ما أصابها منها لعفت رسومها واندرست معالمها، ولكن الفضل في سلامة هذه اللغة الكريمة ونجاتها من براثن الفناء والموت يرجع إلى القرآن الكريم". وقال بعد قليل: "وغايتنا إرشاد الألسن والأقلام إلى مواقع الفصاحة والصواب، وصرفها عن مظانّ الغلط ووجوه الركاكة. ولسنا نزعم في كل ما نكتبه السلامة من الزلل والعثار لأن العصمة لله وحده".

أسمعتم هذه الجمل الثلاث؟ لقد لخص فيها الجندي منهاجه كله؛ المنهاج الذي يشتمل الدين والعلم والخلق، لقننا مع العربية الدين وقصد التقرب إلى الله بخدمة لغة القرآن. وأخذَنا -من أول يوم- بالبعد عن الجرائد والمجلات وهذا الأدب الجديد، ولم يكن يملي علينا في الإعراب والاستظهار إلاّ الشعر الذي يُحتج بعربيته من الجاهلي والإسلامي، ويخرِّج لنا الألفاظ تخريج المحدّثين الأحاديث، فيميز لنا الصحيحَ من الدخيل والفصيحَ من الشاذ.

وهو -على ذلك كله- متواضع حييٌّ، غاض الطرف والصوت، حاضر النكتة، صافي القلب، حسن المعشر، رضيّ الخلق، مستقيم لا تستطيع مغريات الدنيا أن تحوله عن طريقه.

ولقد سار على هذا المنهج حياته كلها، ولكنه قاسى في هذا السير الأهوال. لم يكن يوضَع برنامج للعربية في المدارس ويبدَّل أو يؤلَّف كتاب أو يعدَّل إلاّ دعوا الجندي، فإذا جاء وجد أعداء

ص: 196

العربية وخَدَمة الاستعمار متربصين له، يريدون أن يجهّلوا أبناء العربية بالعربية حتى يبعدوهم عن القرآن فيسلبوهم أقوى سلاح يحاربون به الاستعمار، يسلكون لذلك أدق المسالك ويتخذون لذلك أخفى المكر، وكان عليه أن يحاربهم وحده، يدفع مكرهم بأخفى منه ويسلك لذلك أدق من مسالكهم، فينال ذلك من أعصابه ومن صحته، ولكنه يحتسبه جهاداً عند الله.

وسيكون له -إن شاء الله- أجر المجاهدين.

لقد كان الجندي جندياً يحمي حمى العربية أن يدخله لص من باب البرامج أو الكتب أو الامتحانات العامة، أو من باب اختيار الجَهَلة للتدريس، ما غفل يوماً ولا فارق مكانه، فلما سقط شهيداً صريع المعركة استُبيح الحمى ورتع اللصوص، ودخلوا من كل باب من هذه الأبواب. لقد بُدِّلت البرامج وغُيّرت الكتب وعيث في الأرض الفساد، وصار بعض مدرّسي العربية اليوم أضعف من بعض طلاب البكالوريا في تلك الأيام (1).

لقد تساقط الحُماة واحداً إثر واحد، المبارك والبزم والجندي

وخلا من أسوده العرينُ، أفليس في الشِّبال من يحمي الذمار؟

بلى يا أستاذي، بلى!

(1) كان هذا من نصف قرن، فما حالنا اليوم؟ اللهمّ أدركنا برحمتك! (مجاهد).

ص: 197

هؤلاء هم تلاميذك، يقسمون على قبرك الطريّ أنهم ماشون على طريقك، حافظون لعهدك، محامون عن لغة القرآن التي صرمت حياتك كلها تحامي، وتربي المحامين، عنها. وما بحولنا وقوتنا، ولكن بحول الله وقوته وثقة بوعده:{إنّا نَحنُ نزّلْنا الذِّكْرَ، وإنّا لهُ لَحَافِظون} ؛ فكلما فتحوا للشر باباً (من تسهيل قواعد العربية أو درس اللهجات العامية) كان هو الذي يسده، وكلّما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله، والظفر للقرآن برغم ما هو خامد من نارهم وما هو «ساطع» (1).

يا سادة، لقد صحبت الجندي تلميذاً وزميلاً في التجهيز وفي الكلية الشرعية، وسامرته ليالي طوالاً، وكنت معه في السفر والحضر، وفي نفسي عنه ذكريات ما كشفت لكم إلاّ طرف الطرف منها، ولو أردت أن أسردها كلها لأبقيتكم هنا إلى الصباح.

لقد كانت له -على جلالة قدره- أوهام، وهل تعيش الأوهام إلاّ في القلوب الكبار؟ ومن أوهامه أنه لم يكن يطيق أن يزور مريضاً أو يعزّي بفقيد، مخافة أن يسمع باسم الموت. وهذا هو الموت قد نزل به!

(1) يريد ساطع الحصري، إمام القومية العربية. والغريب في سيرة هذا الرجل أنه كان متترّكاً في أول أمره وأصدر مجلة بالتركية وكتب بها كتباً، ثم تعرّبَ بعد سقوط الأتراك في الحرب الأولى والتحق بحكومة الشريف حسين، ودعا إلى القومية العربية التي جعلها ديناً ضلّ فيه وأضلّ، وألف كتباً عنها نشرها بالعربية «كان أصدقاؤه يساعدونه في إصلاح لغتها قبل الطبع» ! كما يروي صاحب الأعلام (مجاهد).

ص: 198

الموت، لو نجا منه أحد لكان أفضل الخلق محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الموت، ولكن هل مات الجندي؟ هل مات من مشى في موكب المؤرخين المحققين بكتابه «تاريخ المعرة» ؟ ومن كان مع أئمة اللغويين بـ «إصلاح الفاسد» ؟ ومع أعلام النحويين بـ «كتاب النحو» ؟ ومع مؤرخي الأدب بـ «تاريخ أبي العلاء» ؟

يا أستاذي، إن الموت حق، ولكنك ستحيا مرتين: مرة في هذه الدنيا باسمك وعلمك ما بقيت الدنيا، ومرة عند الله بإيمانك وخلقك ودفاعك عن لغة القرآن، وتلك هي الحياة الخالدة حقاً.

اللهم إني لا أتَألّى عليك، ولكن نبيك محمداً صلى الله عليه وسلم قال:«إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاّ من ثلاث، صدقة جارية، وعلم نافع، وولد صالح يدعو له» . اللهمّ وهذا علمه نافع أبداً، وهؤلاء أولاده، ونحن جميعاً أولاده، وما نحن بالصالحين ولكنا ندعو دعاء الصالحين:

اللهمّ ارحمه واعفُ عنه وأدخله جنتك، اللهمّ عوّض هذه العربية منه، اللهمّ لا تحرمنا أجره ولا تفتِنّا بعده واغفر لنا وله، اللهمّ آمين.

* * *

ص: 199