المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌في لج البحر

‌في لجّ البحر

نشرت سنة 1955

مات علي الطنطاوي

وليس عجيباً أن يموت، والموت غاية كل حي، ولكن العجيب أن يرجع بعدما مات ليصف لقراء «المسلمون» الموت الذي رآه!

وكان ذلك من شهرين، وكان على سيف (1) البحر في بيروت، وكان البحر هائجاً غضبان يرمي بأمواج كأنها الكثبان، وقد فرّ منه الناس فليس في الشطوط كلها -على طولها وامتدادها (من سان سيمون إلى الأوزاعي) - إلاّ نفر قليل.

ولم يكن يعرف من السباحة إلاّ درساً واحداً، كان قد تلقاه من أكثر من ثلث قرن على معلم لم يسبح أبداً، هو أن يقف حيث لا يصل الماء إلى الصدر، ثم يحاول أن ينبطح ويسيب قدميه ويخبط (2) بيديه، ويبقى على ذلك مقدار ما يبتلع من ماء

(1) أرجوكم لا تقرؤوها بفتح السين كما تنطقون اسم السَّيف الذي هو من أدوات القتال، بل هي بالكسر، ننطقها كما ننطق كلمة «ريف» ، و «السِّيف» هو ساحل البحر (مجاهد).

(2)

من العامي الفصيح.

ص: 283

البحر (وهو كشربة الملح الإنكليزي.) ما يملأ معدته وأنفه

ثم يخرج! وكان معه شاب تونسي من علماء جامع الزيتونة، لا يمتاز في السباحة عنه إلاّ بأنه أجهل فيها منه، حتى هذا الدرس لم يحضره لأنه لم يكن وُلد، فلما كبر لم يستطع أن يأخذ مثله لأن ذلك «المعلّم» كان قد مات.

وتركا (الحمام) حيث النساء العاريات مضطجعات ومنبطحات، رافعات السوق باديات العورات، وابتغيا مكاناً منعزلاً وراء صخرة مستديرة تطيف به إطافة الجدار، فتجعل من مائه الذي لا يبلغه من ورائها الموج بركةً آمنة ساكنة الماء قريبة القرار لا تغط (1) صبياً، فنزلا فيها. قال:

وأخذت أسبح السباحة التي أعرفها، أرفع رجليّ وأحرك يديّ، فإذا تعبت خرجت أستمتع بالشمس والهواء. وكنت ممتلئاً صحة، أكاد أتوثب من النشاط توثباً، أحسّ كأن الأرض تدفعني عنها دفعاً. وكان الموت بعيداً عن فكري، والموت -أبداً- أبعد شيء في أفكارنا عنا، وإن كان أقرب شيء في حقيقته منا، نتناساه وهو عن أيماننا وشمائلنا، نشيّع الجنائز ونمشي معها ونحن في غفلة عنها نتكلم كلام الدنيا، ونرى مواكب الأموات تمر بنا كل يوم فلا نفكر ولا نعتبر، ولا نقدّر أننا سنموت كما ماتوا ومات من كان أصح منا صحة وكان أشد منا قوة وأكبر سلطاناً وأكثر أعواناً، فما دفعت عنه الموتَ -لمّا جاءه- صحتُه ولا قوته ولا حماه منه سلطانه ولا أعوانه، نعرف بعقولنا أن الموت كأس سيشرب منها

(1) من العامي الفصيح.

ص: 284

كل حي، ولكننا ننسى هذه الحقيقة بشعورنا وعواطفنا وتحجبها عنا شواغل يومنا وتوافه دنيانا، يقول كل واحد منا بلسانه: إن الموت حق وإنه مقدر على كل حيّ، ويقول بفعله: لن أموت، لقد كُتب الموت على كل نفس إلاّ نفسي، فلا يزال في العمر فسحة لي دائماً ولن يأتي أجلي أبداً.

وعاودت الدخول في الماء وأطلت البقاء فيه، وما أحسست -وأنا أتزحزح شبراً فشبراً- أني جاوزت هذه البركة وبلغت موضعاً من البحر عميقاً، علمت بعدُ أن فيه تياراً يتحاماه السباحون القادرون، فكيف بمن لم يكن يتقن من السباحة إلاّ فن الرسوب؟

وحاولت الوقوف فإذا أنا لا أجد الأرض الصلبة من تحتي، وحاولت أن أرفع رأسي فأنظر فإذا أنا لا أجد الهواء ولا أبصر شيئاً، وأحسست الماء الملح قد تدفق على فمي وأنفي، فأنا لا أملك إلاّ أن أبلعه وأنشقه. وبدأت أحسّ آلاماً لا تُصوَّر ولا توصَف، ليست في الرأس وليست في عضو من الأعضاء وحده، ولكنها في كل ذرة من جسدي وروحي

وشعرت كأنْ قد ألقيت عليّ صخرة ضخمة وأن أعصابي تجذب من تحتها وتقطع كما تجذب خيوط الحرير مما خالطها من الشوك! وصار كل همي من دنياي أن أجد نسمة واحدة من الهواء فلا أجدها، فقلت: هذا هو الموت، هذا هو الموت الذي أفر من الكلام فيه والحديث عنه، والذي أراه بعيداً عني لم يحِنْ حينُه ولم يَدْنُ موعدُه، لذلك كنت أؤجل التوبة من يوم إلى يوم، أقول: إذا بلغت سن الشباب تبت، فلما بلغتها قلت: أتوب في الأربعين، فلما جاوزتها قلت: أنتظر حتى أتم بناء الدار، فلما أتممتها قلت: أتوب وأتفرغ إلى الله إذا بلغت

ص: 285

سن التقاعد (1)

كأني أخذت على مَلَك الموت عهداً ألاّ يطرق بابي حتى أبلغ سن التقاعد، فها هو ذا قد جاء على غير ميعاد!

وكان أول ما خطر على بالي أني كنت أتمنى ميتة سهلة سريعة تكون على الإيمان، وأن هذه الأمنية تلازمني من أزمان، فخشيت أن أكون قد سعيت إلى هذه الميتة فأكون (والعياذ بالله) منتحراً. ورحت أفكر فيما صنعته من لَدُن دخلت الماء، فإذا أنا لا أذكر من ذلك شيئاً، وإذا أنا أشعر أنه غدا بعيداً عني كأنه قد كان من مئة سنة لا من دقائق معدودات، وصَغُرَت الدنيا في عيني كأني أراها من طيّارة قد علت في طِباق الجو. ومن كان على سفر يسرع ليلحق القطار، هل يرى من الشوارع التي يجتازها شيئاً؟ وهل يغريه منها جمال ساحر أو فن طريف؟ إنه يحسّ بها غريبة عنه وأنها ليست له، ويغدو منظرها في عينه كصورة زائغة، فكيف ينظر إلى هذه الدنيا من أيقن بالموت؟

لقد امّحَت (والله) صورة الدنيا كلها من أمامي. وما لي وللدنيا ولم يبقَ لي فيها إلاّ لحظات معدودات، أنا أتجرع فيها ثمالة كأس الآلام؟ لم يبق لي منها ما يغريني بها، حتى الأهل والولد شُغلت بنفسي عنهم؛ فلا تصدّقوا ما تقرؤونه في القصص من أن المشرف على الغرق يفكر في أحبائه أو في أعماله أو في أدبه وعلمه ومقالاته وأشعاره، أو يهمه ما يُقال فيه من بعده

ربما

(1) أي سن المعاش في الاصطلاح المصري، و «التقاعد» أصح عربية وأقرب مدلولاً، وكذلك اصطلاحاتنا الشامية كلها ..

ص: 286

كان ذلك من غير المسلم، أما المسلم فلا يرى في تلك الساعة إلاّ ما هو قادم عليه.

وازدحمت عليّ الخواطر فيما أفعله، فحاولت التشهد والتوبة أولاً، فلم أستطع النطق بشيء مما كان في فمي من الماء. وازدادت عليّ الآلام ولكنها لم تقطع خواطري، وكان ذهني في نشاط عجيب ما أحسست مثله عمري كله، وكنت بين خوف من الموت ورغبة فيه: أرغب فيه أرجو أن تكون هذه الميتة على الإيمان، وأخاف لأنه ليس لديّ ما أقدم به على الله، وقد فاجأني الموت كما يفاجئ الامتحان التلميذ المهمل الذي لا يزال يؤجل المطالعة والحفظ ويقول: الامتحان بعيد

وتمضي الأيام، حتى إذا رآه صار أمامه قطع أصابعه ندماً وأذهب نفسه حسرة، وما نفعه ذلك شيئاً.

هذا وهو امتحان يسير أسوأ ما فيه أن تذهب بالسقوط فيه سنة من عمره سدىً، فكيف بالامتحان الأعظم الذي ما بعده إلاّ النعيم الأبدي في الجنة، أو الشقاء الطويل في النار؟ الامتحان الذي ليس فيه «إكمال» ولا تُعاد له دورة ولا يُجبر فيه «كسر» درجة، ولا تنفع فيه شفاعة شافع ولا وساطة ذي جاه أو مال؟ ورأيت موقف الحساب رأي العين، وقد شَغلت كلَّ امرئ نفسُه، والناس يُدعَون ليأخذوا نتائج الامتحان، فمَن أخذ كتابه بيمينه وحُمل إلى الجنة فهذا هو الفائز، ومن أخذ كتابه بشماله وسيق إلى النار فهذا هو الخاسر، وهذا هو الخسران المبين.

وعرضت عملي فلم أجد لي عملاً من أعمال الصالحين، فلا أنا من أهل المراقبة الذين لا يغفلون عن الله طرفة عين، ولا أنا من

ص: 287

المتعبدين الذي يقومون الليالي الطوال والناس نيام ويناجون ربهم في الأسحار، وما أنا من المتقين الذين يجتنبون المحرمات

ما أنا إلاّ واحد من الغافلين المذنبين، إي والله، فبِمَ أقدُمُ على الله؟

ونظرت فإذا كل الذي ربحته من عمري لحظات، لحظات كنت أحسّ فيها حلاوة الإيمان وأخلص فيها التوجه إلى الله، تقابلها عشرات من السنين كنت سابحاً فيها في بحار الغفلة تائهاً في بَيداء الغرور، أحسب -من جهلي- أن الأيام ستمتدّ بي، لم أدرِ أن العمر ساعات محدودة وأن ذلك هو رأس مالي كله، فإن أضعته لم يبقَ لي من بعده شيء.

وذكرت حديثاً كنت حفظته في صباي: «اغتنم خمساً قبل خمس: حياتَك قبل موتك، وصحتَك قبل سقمك، وفراغَك قبل شُغلك، وشبابَك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك» (1) وندمت على أنْ لم أكن وضعته في صدر مجلسي واتخذته منهجاً لحياتي، ولكني لم أعرف -مع الأسف- معناه ولم أدرك حقيقته إلاّ عندما انتهت حياتي.

وفكرت فيما كنت أكابد من ألم الطاعة، فإذا الألم قد ذهب وبقي الثواب، ونظرت فيما استمتعت به من لذّة المعصية، فإذا هو قد ذهب وبقي الحساب؛ فندمت على كل لحظة لم أجعلها في طاعة.

(1) قال الألباني: صحيح، رواه الحاكم في المستدرك والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس، وأحمد في الزهد وأبو نعيم في الحلية عن عمرو بن ميمون مرسَلاً (انظر: صحيح الجامع الصغير للسيوطي 1/ 243) (مجاهد).

ص: 288

ونظرت فإذا المقاييس كلها تتبدل ساعة الموت، وإذا كل ما كنت أحبه وأنازع عليه قد صار عدماً! وإذا أنا لم آخذ معي شيئاً؛ بنيت داراً فما حملت معي منها حجراً، واقتنيت مالاً فما كان لي منه إلاّ ما ظننت من قبل أني خسرته، وهو ما أخرجته لله، وكتبت آلافاً من المقالات في عشرات من السنين، وكان لي من القراء والمستمعين ملايين وملايين، فما نفعني إلاّ كلمة قلتها لوجه الله، وأين هي؟ لقد تركني هؤلاء المعجبون (كما يقولون) بأدبي وبياني أموت الآن وحدي، ما جاء واحد منهم ليأخذ بيدي وما أقبلَ واحدٌ منهم يدفع الموت عني!

وعرفت لذائذ الحياة كلها، فما الذي بقي في يدي وأنا أموت غرقاً من لذائذ الحياة كلها؟ وما الذي استبدلته بالعمل الصالح (1) الذي لا أرجو النجاة الآن إلاّ به؟

لقد كان إبليس يشغلني عن الخشوع في الصلاة بالتفكير في البنطال (2) أن يُفسد كيَّه السجودُ، ويخوّفني أن تذهب صحتي بقطع المنام لصلاة الفجر أو صيام أيام الحر من آب، وأن أخسر حسن رأي الناس فيّ إن جهرت بقولة الحق أو أن ينالني من ذلك أذىً في جسدي أو في رزقي! فوجدتني الآن أخسر الناس، إذ بعت النعيم الباقي، بهذا الوهم الزائل (3)؛ كزنوج إفريقية الذين يعطون

(1) القاعدة أن الباء تدخل على المتروك؛ أي: ما الذي تركت عملي الصالح من أجله؟ (مجاهد).

(2)

البنطال: تعريب بنطلون.

(3)

هذا كله من باب ضرب المثل بالنفس، وكل قارئ لبيب يدرك أنه من خيال المؤلف؛ فلم يحصل أبداً أن خاف علي الطنطاوي على نفسه أو =

ص: 289

كنوز بلادهم وخيراتها ليأخذوا خرزات لماعة، أو ساعة طنانة، أو هنة هينة من هنات الحضارة!

أو كأهل الجزيرة التي أراد الأميركيون أن يُخلوها ليتخذوها مكاناً لتجربة قنبلة ذرية يفجرونها فيها، فبعثوا إلى أهلها رسلاً منهم يخبرونهم وينذرونهم: إن هذه الجزيرة ستدمَّر وإنه لن يبقى فيها لحي مقام، وإنها صارت دار ممر وإن أمريكا هي دار المستقر، وإن مَن سلَّمَ أثاثه ورياشه وماله أعطوه في أميركا خيراً منها وأبدلوه بالخيمة في الجزيرة داراً في نيويورك، وإن الطيارات ستتوالى على الجزيرة لنقل أهلها فليكونوا جميعاً على استعداد، فإنه لا يدري أحدٌ متى سيُنقل، وليعلموا أنه ليس لأحد أن يحمل معه من متاعه شيئاً إلاّ ما كان قدّمه وسيجده أمامه.

أما العاقل فيبذل ما لديه من متاع، ويعلم أن الذي يعطيه اليوم هو الذي يبقى له غداً وأن الذي يحتفظ به ويخفيه يخسره ويخرج من يده، ويكون مستعداً للسفر في كل لحظة

وأما الأحمق فيتمسك بخيمته ومتاعه القليل ويقول: "أنا باق هنا، هذه هي داري وهذا متاعي، وما الدار الآخرة في أميركا إلاّ أكاذيب جرائد وأساطير محررين، ولن أكون أحمق فأبيع عاجلاً حاضراً

= رزقه إن قال كلمة الحق، وما أحسبه حفل يوماً برضا الناس أو غضبهم أمام رضا الله وغضب الله، بل هو لا يبالي الناس في أمور هي أهون من ذلك بكثير، والذي قرأ سيرته أو طرفاً منها يدرك أن هذه واحدة من أظهر الصفات فيه. ومثل ذلك يقال عن المقارنة بين الصيام والصحة أو الصلاة وكيّ البنطلون! إنما هي أمثلة أراد أن يوصل بها الفكرة فلم يجد أصدقَ من أن يجعل من نفسه مضرب المثل (مجاهد).

ص: 290

بآجل موهوم". ويرى الناس يطيرون كل يوم فلا يفكر ويظن أنه وحده هو الباقي، حتى يجيء دوره فيُحمَل قسراً لا يملك دفعاً ولا منعاً، ويخسر ما كان له في الجزيرة ولا يلقى في أمريكا إلاّ جحيم الفقر والحاجة إلى الناس.

وطغى عليّ ألم الموت ولم يعد في طَوقي أن أفكر، فتوجهت إلى الله وتصورت كرمه وعفوه، وكان يغلب عليّ الأمل وحب الحياة فأضرب بيديّ ورجليّ وأرفع يميني أشير بها، ثم يدركني اليأس فأسلم أمري إلى الله. ولم أكن أتمنى بعد المغفرة إلاّ شيئاً واحداً؛ هو أن يخفف الله عني بتعجيل موتي، أخشى أن يطول بي هذا الألم فوق ما طال.

وقد خُيِّل إليّ أني بقيت على ذلك ساعات، ولكن تبين لي من بعد أني لم ألبث أكثر من دقيقتين

في دقيقتين أحسست هذه الآلام ومرّت في ذهني هذه الخواطر! وهذا من العجائب التي أودعها الله النفس البشرية، فأنت ترى حلماً تعيش فيه عشرين سنة بأحداثها، ولا تكون قد نمت أكثر من خمس دقائق.

ثم لما خارت قواي وأوشكت أن أغوص فلا أطفو أبداً خُيِّل إليّ أني أسمع أصواتاً تناديني، وأحسست بيدي تمسّ شيئاً صلباً أدركت أنه طرف زورق، ففرحت فرحة ما فرحت قط مثلها، وشعرت أني أُرفع إلى الزورق، ثم غبت عن نفسي وهم يمسكون برجليّ لأخرج بعض ما في جوفي من ماء البحر.

لقد خرجت بنفس جديدة، واتّعظت موعظة أرجو أن تدوم لي، وعرفت قيمة الحياة وحقيقة الموت. ونحن لا نعرف مِن

ص: 291

الموت إلاّ ظاهره دون حقيقته، نراه عدماً ونندب القريب والحبيب أنْ وضعناه في حفرة باردة وخلّفناه وحيداً تأكله الدود! وليس حبيبك الذي أودعته الحفرة ولكن جسده، والجسدُ ثوبٌ يُخلَع بالموت كما تخلع الحية ثوبها، فهل يبكي أحد على ثوبٍ خُلع؟

وما الموت إلاّ انتقال إلى حياة أرحب وأوسع، إلى النعيم الدائم أو الشقاء الطويل، ولو كان الموت فناء لكان نعمة.

ولو أنّا إذا متنا تُرِكنا

لكانَ الموتُ راحةَ كلِّ حيِّ

ولكنّا إذا مِتْنا بُعثنا

ونُسأَلُ بعدَها عن كلِّ شيِّ

فإذا كان الموت سفرة لا بدّ منها، فالعاقل من تهيّأ لها وأعدَّ لها الزاد والراحلة وذكرها دائماً كيلا ينساها، ونظر في كل شيء، فإن كان مما يستطيع أن يحمله فيها حرص عليه، وإن كان مجبراً على تركه وراءه زهد فيه وانصرف عنه.

وبعد، فلا يهنّئْني أحدٌ بالسلامة، بل ليدعُ لنفسه ولي بحسن الخاتمة، فإني أخاف -والله- ألاّ أجد ميتة أكون فيها حاضر القلب مع الله، مستشعراً التوبة، متصوراً الدار الآخرة، كما كنت هذه المرة.

* * *

ص: 292