الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلى حلبون
نشرت سنة 1931
سألتَني أن أحدثك عن رحلتي إلى حلبون، وتالله ما عجبت لسؤالك عجبي من تسميتك مثل هذه الزّورة القصيرة رحلة. إنما يرحل الناس يا صاحبي إلى باريز أو لوندره (1) لا إلى حلبون! وإنما يدوِّن الناس قصة فيها لذة أو فائدة، وما في قصتي شيء من ذلك، وما هي بالتي تستحق التدوين. ولكنك أصررت عليّ فكتبتها لك، وما أدري ماذا تريد أن تصنع بها؟ وأخاف أن تتلوها على الناس أو تنشرها بينهم فتفضحني بها، وما كتبتها لتُنشر أو تُتلى بل لتقرأها أنت وكفى.
* * *
أنشأت الحكومة في حلبون مدرسة ابتدائية كانت في نظر «الحلابنة» أعظم من جامعة السوربون في رأي الباريزيين، واختارت لها أستاذاً من أصدقائنا الشباب، فدعانا لنراها معه فلبينا الدعوة شاكرين مهرولين.
(1) باريس ولندن، كذلك كانتا تُسميان في تلك الأيام (مجاهد).
كنا -يا صاحبي- ثلاثة: الأستاذ، أعني أستاذ الجامعة الحلبونية (1) وهو شاب في الثامنة عشرة من عمره، لطيف المعشر، فكه الحديث، تجلس إليه ساعات طويلة فلا تشعر بملل ولا تحس إلاّ الحديث الطلي المفيد.
وأنا
…
والثالث صديق لنا شاعر، وهو بيت القصيد من قصتنا. وأحسبك تفهم من كلمة «شاعر» كثيراً من صفاته وأطواره؛ فهو يرى العالَم كله فكرة بديعة، أو خيالة بارعة، أو صورة فاتنة، ولا يني يحدّثك عن الحب والجمال، والذكرى والأسى
…
يأتيك بصُوَر لهوغو ولامارتين الفرنسيَّين، وفِكَر لملتون وبيرون الإنكليزيَّين، وأحاديث لشيلر وكوته الألمانيَّين، وآراء لدانتي ولومبروزو الإيطاليَّين، وحكمٍ لتولستوي الروسي، وفلسفات لطاغور الهندي
…
ليس عند واحد من كل هؤلاء علم بها، وما هي إلاّ بنت ساعتها أخرجها رأس الشاعر الشاب!
* * *
كان موعدنا للرحيل دار الشاعر نلتقي فيها في الساعة الثامنة، فأتيناها على الميعاد، فإذا صاحبنا ينظم قصيدة.
حثثناه على الإسراع وألححنا عليه، فأجابنا وأسرع، ولكنه لبس ثيابه في نصف ساعة، وقرأ لنا القصيدة مرتّلاً منغّماً في ساعة،
(1) وقد حقق الله ذلك، فصار اليوم الدكتور حكمة هاشم مدير الجامعة.
ووصف لنا رواية شهدها في ساعتين. فخرجنا من البيت الظهر، فقال لنا الشاعر: إلى أين تذهبون؟
قلنا: إلى السيارة.
قال: هيهات؛ إنني لم أشترِ حوائجي بعد. إنني أريد خبزاً ولحماً وبصلاً وفجلاً.
قلت: وأنا أريد فراشاً ولحافاً ووسادة وسريراً.
قال: ولِمَ؟
قلت: لأنام، فإذا انتهيتَ أيقظتني!
وفارقته على أن نلتقي بعد ساعة. عدت بعد ساعة فإذا هو جالس في زاوية البيت، وإذا هو صامت حزين، فقلت في نفسي: ما له؟ أخسر أمواله؟ أضاعت أشعاره؟ أهدمت آماله؟ وسألته: هل اشتريت الحوائج؟
فقال: لا
…
ولكن أمراً محزناً وقع لي.
- وما هو؟
- دجاجة مسكينة سقطت من السطح فكسرت رجلها، فأنا جالس أنظم فيها مرثية.
فقلت: يا ضلالة من يتبع شاعراً! أبهذا أضعت ساعتك؟ قم، قم
…
فاشترِ الحوائج.
* * *
أسرعنا إلى السيارة فإذا هي من سيارات النقل، وإذا السيارة الصالحة قد سافرت، فلم نجد بداً من ركوبها، وليس فينا من يقدر على استئجار سيارة خاصة. أنا أفلس خلق الله ولا فخر، والأستاذ ليس من الموسرين، والشاعر مشغول عن عد دراهمه والتفكير فيها بالبكاء على الفقيدة الغالية: رجل الدجاجة!
كانت السيارة معدة لركوب تسعة نفر، ولكنهم أركبوا فيها خمسة عشر وخروفاً سميناً وفراشين وأربعين غرسة مشمش! وسدّوا شبابيكها جميعاً خشية البرد، فدُفنّا فيها أحياء. أما مولانا الشاعر فعزم علينا أن نؤثره على أنفسنا بالمكان الأجود (جانب السائق) حتى لا يشغله الازدحام عن إتمام معلقته. ولقد نسيت أن أقول لك إن مع كل راكب سلة أو سلتين وضعوها في الأحضان وبين الأرجل!
ثم سارت السيارة وهي تقوم بنا وتقعد، فإذا قامت وصلت مِعَدنا إلى حلوقنا وضربت رؤوسنا السقف، وإن قعدت آذتنا في مقاعدنا أجلّك الله
…
وإذا دارت أو تلفتت ترنحنا ذات اليمين وذات الشمال؛ فلا ترى إلا قائماً وقاعداً، ورائحة الخروف وعطر البصل والثوم يملأ هذا المجلس المبارك
…
وفوق هذا كله فتح السائقُ فمَه والخروفُ حلقَه، وراح ذاك يغني وهذا (يجعِّر)(1).
وأخيراً وصلنا بالسلامة (أو شئت بالموت الأحمر!) إلى التل. ثم حملتنا السيارة -وقد قذفت بمن فيها هناك- إلى منين، دار الشاعر الكريم، فدخلت منزله واستلقيت على الأرض،
(1) كلمة عامية شامية يصفون بها الذي يتحدث صراخاً بصوت قبيح، لم أجد لها أصلاً بهذا المعنى في كتب اللغة (مجاهد).
أستعيد ما زهق من روحي وأتنشق الهواء النقي بعد أن لبثت ساعة أتنشق زمهرير جهنم. ولولا هذا، ولولا كأس من شراب الليمون أمر لي بها صديقنا الشاعر، لمتُّ لا محالة.
صحوت فرحت أتمثل بقول الأول:
فألقَتْ عصاها واستقرّ بها النَّوى كما قرَّ عيناً بالإيابِ المُسافرُ
وإذا بالشاعر يصيح بي: أيُّ عين هذه؟ سخنت عينك! لقد قطعتَ شق الطريق السهل وبقي شقه الصعب!
فصحت: ولكني لا أقطعه في سيارة
…
لا أقطعه في سيارة. أفهمت؟ أبداً، أبداً
…
لا أركب السيارة.
فقال: أَرْبِع عليك وهوِّنْ على نفسك؛ إنك ستقطعه راكباً على جحش أو بغل.
فقلت: الحمد لله؛ والله لَلْحمارُ خيرٌ من هذه السيارة!
وأسرع الأستاذ إلى الهاتف فهتف بأهل حلبون أن ابعثوا إلينا ثلاث دواب؛ للأستاذ ولضيفيه. واقترب الشاعر من الهاتف، فقال: ولتكن خيولاً عربية كريمة مطهّمة حسنة السروج، والوحَى الوحَى
…
السرعةَ السرعةَ
…
العَجَلَ العَجَلَ (1).
ولكنهم أغلقوا في وجهه الطريق لأنهم حسبوا ما يقول من رُقى الجن، فغضب وصاح: ألو، ألو، ألو يا أولاد الكلب يا حمقى، ألو
…
(1) كلمات تقال في الاستعجال، كلها بمعنى واحد (مجاهد).
فلم يردّوا عليه، فعزم على الانتقام منهم إذا وصل حلبون. أما أنا فأزمعت على تملّقهم والتزلف إليهم، ليحملوا جثتي إلى أهلي إذا رمح بي البغل أو (عنفظ) فكسر رأسي أو دقّ عنقي.
ثم عدنا إلى منزل الشاعر في منين.
عمَّ أحدثك؟ إنك اشترطت عليّ أن أوجز، ومثل هذا الحديث من حقه أن يُتبسَّط به ويُسهَب
…
ولكن ماذا أصنع بشرطك؟
لبثنا ساعة في منين، رشفنا فيها من راح الجمال ما أنسانا شقاء السيارة وغرائب الشعراء، جلسنا على سطح المنزل مجلساً نشرف منه على ذلك الوادي الفاتن، وكانت أشجاره عارية تبدو من فُرَج أغصانها عينُ منين وهي تجري في الوادي، تتلوى وتميل تتدفق أمواجها فيعلوها الزبَد، ثم تلامسها أشعة الشمس فترى منها -إذ تنعكس على تلك الخمائل الخضراء- منظراً عجباً، نِثَار الذهب على بساط من سندس، والجبال الشمّاء تحيط به كأنما هي أم رؤوم تحدب على طفلها.
وكأنما هذه الجبال تطل علينا تحدّثنا عن الماضي، وتصف لنا آثار الروم في بطاحها وقصورَ الغساسنة البلق المنتثرة على سفوحها، ثم تخبرنا عن المأمون إذ يجر هذا الماء إلى قاسيون فيبلغ به قمته (1)، وتفيض علينا من هذه الأخبار، فنحس كأن أرواحنا تخرج من قيود الزمن، ثم تتخطى أعناق القرون وتتغلغل في أودية الماضي السحيق، فتستغرق في هذا الحلم ولا تكاد تفيق
(1) قول مشهور لم أتثبّت صحته، والغالب أنه لا أصل له.
منه، لولا أنها سمعت هذه الجبال تقهقه ساخرة من الإنسان هازئة من غروره، يرى نفسه شيئاً مذكوراً ويحاول أن يتكلم بعقله عن كل شيء وما هو بقادر على فهم نفسه، وما عمره في هذه الدهور (التي مرت من قبله كأنمّا لا أول لها، وتمر من بعده كأنمّا لا آخر لها) إلاّ كحبة من الرمل في صحراء جدباء أو هو أصغر من ذلك!
وما لي ولهذه الأفكار أتعبك بها؟ إني راجع إلى حديثي:
جاءنا الشاعر بطعام لذيذ كنّا أحوجَ ما نكون إلى مثله، فحملنا عليه حملة صادقة وحدَدنا أسناننا وشمرنا عن سواعدنا وهجمنا، فلم يثبت منه شيء أمامنا.
ثم قمنا نجول في منين، نمشي في الشارع الفرد الذي يمتد على سفح الجبل حتى يصل إلى العين، فيمر فوق منبعها على جسر رفيع الجنَبات متين الدعائم، تنظر إليها منه فترى صفحةً من الماء الزلال كأنها مرآة أزلية أقامها الإله جل جلاله لتنعكس فيها العواطف والتأملات ويبدو فيها خيال الحب وطيف الذكرى
…
ثم ملنا إلى الغرب فوقفنا عند مفترق الطرق نراقب طريق حلبون، ننظر هذه الخيول المطهمة وهذه السروج المحلاة بالذهب التي تفضل بطلبها مولانا الشاعر.
وراح الشاعر يحدثنا عن حلبة السباق التي ستقام عند وصوله، ويصف لنا المجلّي والمصلّي (1)، ويعِدنا أنه سيعدو
(1) المُجَلّي هو الأول في السباق والمُصَلّي هو الذي يأتي ثانياً، وهما مفردتان تُطلَقان على الفَرَس في السباق (مجاهد).
بفرسه عدْواً لا يدع معه مجالاً لسابق ولا شأواً للاحق، وأنه وأنه
…
وهو لم يركب فرساً قط! أما أنا فقد علمت عجزي، ورحت أتمثل مصرعي تحت سنابك فرس الشاعر الفارس وأن الأمة ستخسر بموتي فرداً منها ويربح الأدب قصيدة في الرثاء جديدة، أحسب صاحبي الشاعر لا يضنُّ عليّ بها وقد منحها الدجاجة.
وقفنا على مفترق الطرق ننظر، وكلما هبَّ غبارٌ قلنا هذا غبار الموكب الذي جاء لاستقبالنا، ولكن الانتظار طال ولم نبصر إلاّ راكباً على دابة عجفاء قد ارتفع لنا في الأفق. فرقبناه حتى إذا ما اقترب منا سألناه: هل أبصرتَ موكباً طويلاً عريضاً فيه خيول مطهَّمة وسروج حسنة وحلية مذهّبة؟
فقال: والله ما أفقه حديثكم، وما أريد إلاّ أن تدلّوني على أستاذنا الجديد.
قلنا: ومن أنت حفظك الله وأكرمك؟
فقال: أنا حارس حلبون.
فقلنا: تشرفنا بك يا حضرة حارس حلبون، هذا هو الأستاذ ونحن
…
فولاّنا ظهره، قصم الله ظهره! ولم يرد أن يعرف مَن نحن، ولكن الشاعر لحقه يقول له: أنا
…
أنا
…
نعم، أنا الشاعر.
وخجل الأستاذ منا، وحار في أمرنا، فعزمنا على الذهاب مشياً. وكنت قد أقسمت على الشاعر أن يصحبنا، ليسلينا أحياء ويرثينا أمواتاً.
سألت حارس حلبون عن الطريق، فقال: أما السهل البعيد فهذا، وأما الحَزْن (1) القريب فهذا. يدور الطويل مع الوادي ويرقى القصير الجبل.
قلت: نحن ممّن يحب الارتقاء.
قال: إنه مخيف.
قلت: نحن شجعان.
قال: إنكم تملُّون.
قلت: معنا شاعر!
وركبت رأسي عناداً وأبيت إلاّ سلوك طريق الجبل، فأجابني القوم إلى ذلك
…
ورضي الحارس، لا أدري أرضي اقتناعاً بحجتي أم ضجراً من كلامي؟!
* * *
أركبنا الشاعر الكريم وسرنا في ركابه، وكان الليل قد علا في الأفق والظلام قد تسرب إلى الكون. وذهبنا نصعد الجبل
…
وكلما قلت هذه هي القمة بدت لي من ورائها قمم، حتى كدنا نلامس السماء. وتلفتُّ إلى الوراء، فإذا منين كلها بقدر الدرهم، وإذا هي كأنها في قعر البحر، وإذا أمامنا وعن أيماننا وشمائلنا جبالٌ وبِطاحٌ لا حدَّ لها، وإذا نحن نبلغ موضعاً نشرف منه على غوطة
(1) بسكون الزاي: ضد السهل؛ فهو من الأرض ما شقَّ المشي فيه، ومن الدواب ما صَعُبت رياضته، ومن الناس من خَشُنت معاملته (مجاهد).
دمشق وقرية منين ووادي بردى في آن، ونرى فيه قاسيون كأنه أكمة تحتنا. ثم ملأ الظلامُ الكونَ فلم نعد نبصر مواضع أقدامنا، ثم توعّر الطريق فأصبح شِعباً ضيقاً على يمينه جبل عال كأنه جدار، وعلى شماله واد لا يبلغ النظر قراره، كأنما هو وادي النسيان الذي يبتلع كل شيء.
نزل الشاعر عن الدابة وراحت تسير خالية، وتضاءل كلٌّ في عين نفسه، حتى لقد رأيتنا أضعف من الديك في يد الأسد.
إنك تقرأ هذا الوصف -وأنت في بيتك- آمناً مطمئناً، فلا تكاد تقدر على تصوره، ولو ألقى بك الدهر في مثله مرة واحدة لعلمت ما هو أثره في النفس؛ لم يبقَ فينا من يقدر على النطق، وكلما رأينا صخرة أو نبتة من نبت الجبال يتراءى لنا في هذا الظلام حسبناه واحداً من هذه الضواري التي نسمع أصواتها
…
دِبَبَة حلبون، وما أدراك ما دبَبة حلبون؟ وربما تلفّتْنا إلى الوراء نبصر: هل يتبعنا من شيطان أو وحش؟ فتغوص أقدامنا في الثلج المنتشر من هذه الجبال كلها. هنالك يؤمن بالله الملحدون، ويعلمون أنه لا شيء إلا الله يُتوجَّه إليه أو يُرجى منه السلامة.
قطعنا هذه الجبال الوعرة في ثلاث ساعات، لا أذكر في حياتي ما هو أشد عليّ منها. ولقد عرضنا فيها على الموت ورأينا عزرائيل يهم بنا مراراً، ولم نبصر أضواء حلبون حتى تقطعت أباطين قلوبنا من الخوف، وأخماص أقدامنا من السير.
هنالك رأينا منظراً أنسانا الشقاء والآلام، ذلك هو منظر الاستقبال. إنه كان -في الحق- استقبالاً عظيماً لم يَحظَ به من
قبلنا أحد؛ لقد خرجوا للقائنا إلى مقبرة القرية، وبلغت أصوات هتافهم لنا قلب الصحراء التي أفلتنا منها ووثبوا للسلام علينا فرحاً بقدومنا.
ولكن أتدري مَن هؤلاء؟
إنها يا صاحبي كلاب المقبرة، رأتنا فعوتنا ووثبت إلينا لتقطع ثيابنا وتنهشنا.
فعرفنا أننا قد بلغنا حلبون (1).
* * *
(1) في الحلقة الرابعة والستين من «ذكريات علي الطنطاوي» ذكر جدي هذه الرحلة ثم قال: "كنت قد كتبت مقالة أصف فيها الجانب المسلي منها ووضعتها في كتابي «من حديث النفس»، ولكني واصفٌ اليوم الجانب الآخر. وإذا كان فيما نُشر من قبل شيء من تهاويل الخيال، فإن الذي أقوله اليوم هو الواقع أرويه كما وقع. كان ذلك سنة 1931، وكان أخي أنور العطار معلّماً في مدرسة منين خَلَفاً لأخي سعيد الأفغاني، فعين صديقنا حكمة هاشم معلماً في مدرسة حلبون. وكان شاباً في الثامنة عشرة، فضمنّا (أنا وأنور) لأبيه أن نذهب معه إليها"، إلى أن يقول: "وليست القصة عن بلوغنا حلبون ولكن عن الرجوع منها
…
"، وبقية القصة ممتعة مشوقة فاقرؤوها في آخر الجزء الثاني من الذكريات (مجاهد).