الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقفة على طلل
نشرت سنة 1945
[في حمى المسجد الأموي وفي ظلال سوره العالي، بين مثوى البطل الأجلّ الملك الناصر صلاح الدين والمدرسة الكلاّسية الأثرية، وبين المدرستين السميساطية والإخنائية، تقوم المدرسة الجَقْمَقية الخالية المائلة التي بناها سنجر الهلالي، وجدّدها الملك الناصر سنة 761 هـ، ثم احترقت فجددها الأمير سيف الدين جَقْمَق فنُسبت إليه.]
ما مررت بهذه المدرسة الخربة المعطلة وذكرت ما أودعتها من عواطفي وما تركت فيها من حياتي إلاّ تلفت القلب، وصغى الفؤاد، واعتلجت في النفس خواطر وانبثقت للعين صور، أقر بالعجز عن صوغها ألفاظاً مقروءة وجملاً ووضعها في هذه القوالب الجامدة الضيقة وهي أشد انطلاقاً من النور وأوسع من الزمان
…
ولا أجد -إذا أردت وصفها- إلا هذا الحديث المعاد وهذا القول المكرر المعار الذي لا يفتأ الشعراء من عهد امرئ القيس، الذي وقف واستوقف وبكى واستبكى، يعيدونه ويرددونه، وهو ما يزال جديداً في كل قلب سريعاً إلى كل لسان
…
فأسائل هذه الجدران المائلة، وأخاطب
…
هذه الغرف الخالية. وآه! لو تصف
هذه الجدران ما رأت وتنطق الأبواب، وآه! لو تعي المغاني وتحدّث المباني! وأنّى؟ وما وعت قلوب الناس ولا وفت حتى يفي الجماد!
هذه نفسي أسائلها: هل تعرف النفوس الوفاء، وهي تدور مع الدهر الدوار كيفما دار، تلبس لكل حالة لبوسها وتتخذ لكل يوم ميزانه؛ فيهون عندها اليوم ما عزَّ بالأمس، ويرخص ما غلا ويغلو ما رخص، نرى الشخص فلا نباليه وقبلاً كان مناط حبنا، وكنا نقنع إن كان وصله حظنا من دنيانا أو كان موضع إكبارنا وكان رضاه نهاية متمنانا، ونمر بالمكان لا نلتفت إليه وفيه ذقنا حلو العيش ومره، وفيه أثر من أنفسنا وفيه بقايا من أعمارنا؟!
لقد عشت دهراً لو قيل لي فيه إنه سيأتي عليك يوم تجوز فيه بهذه المدرسة فلا تقف عليها إلاّ وقفة التذكر والحنين، ثم تمضي لطيتك وتنساها بعد خطوات، لما صدقت! فكيف هانت عليّ هذا الهوان وقد كانت بالأمس نصف دنياي؟ وهل دنيا التلميذ إلاّ داره ومدرسته والطريق بينهما؟ وقد كانت أبداً في فكري وحسّي: في الصباح حين أتوجه إليها، وفي النهار حين أكون فيها، وفي المساء حين أعود منها؛ قد تجمعت فيها أفراحي كلها وأتراحي وأصدقائي جميعاً وأعدائي، وكانت بضعة مني. بل كيف أنكرت ذلك الطفل الذي كان في سنة 1918 تلميذاً فيها يحمل اسمي وملامح وجهي؟ كيف جوزت لنفسي أن أطّرح آراءه، وأهزأ بأفكاره، وأحقّر ما كان يعظمه؟ لقد ذهب المسكين ولا أدري أين ذهب، وجئت من بعده، ولكني لم أنسَ حوادثه. فهل الذاكرة هي الشيء الفرد الذي يبقى ثابتاً في الإنسان على حين تبدل العقول والأجسام؟
سلوا الفلاسفة إن كان عندهم علم، فما أنا بحمد الله من أهل الفلسفة!
* * *
سلوا الفلاسفة ودعوني أسترجع على باب هذه المدرسة أيامي التي ولّت. ولئن عاد أقوام إلى ماضيهم ليستريحوا إليه ويتسلوا بادِّكار أحداثه، فإنما أعود إلى الماضي لأحيا فيه، وأفرُّ إليه من حاضر أمقته وأجتويه. وأنا رجل كلما تقدمت به السنُّ ازداد إيغالاً في عزلته وهرباً من جماعته، فكأنه يقطع كل يوم خيطاً من هذا الحبل الذي يربط زورقه بآلاف الزوارق الصغيرة التي تمخر عباب الحياة مجتمعة، كما كانت تجتمع السفن إذ تجوز بحر الظلمات، فلا تخوض فيه ماء بل ناراً (1)، ناراً من تحتها لا تعلم متى تتفجر فتزلزل أرض البحر وتشعل جبال الموج، وأخرى من فوقها تحط عليها السماء رجوماً وتفتح عليها من جهنم أبواباً
…
وإن عباب الحياة لأشد من ذلك شدة وأعظم هولاً.
حتى غدوتُ وقد رثَّ حبلي وتصرّم إلاّ خيوطاً؛ طائفة من الأصحاب لا يبلغون عد أصابع اليدين، وأماكن هي أقل من ذلك، لا ألقى سواهم ولا أرتاد غيرها. ولم يبق لي في لياليّ الطوال مؤنس أو سمير إلاّ هذه الكتب التي مللتها وملّتني وصارت مودّتها تكلفاً وحديثها مملولاً، وهذا الماضي أزدادُ كل يوم تعلقاً به وحنيناً إليه، أما المستقبل فأخافه ولا أجرؤ على التفكير فيه.
لذلك تراني إن لقيت رفيقاً من رفاق الصبا استوقفته وشممته
(1) أي أثناء الحرب العامة الثانية، وبحر الظلمات هو البحر الأطلسي.
علّي أجد في ثيابه عبقاً من أزاهير الماضي الحلو الذي سَرَبْنا فيه جميعاً، يحملنا مرح الطفولة وعبثها اللذُّ، فجسنا خلال رياضِهِ وأوغلنا في دروبه المعشبة ومسالكه التي فتَّح على جانبيها الأقحوان وضحكت الشقائق، أحاول أن أستطلع من وراء هذا الشباب الذي نالت منه الليالي حتى أشرَفَ على الكهولة وهدّته مطالب العيش وأخذت منه رواءه وبهاءه، فبدا كالشجرة المنفردة القائمة على شفير الوادي عاجلها الخريف ببرده وعواصفه
…
أحاول أن أرى من ورائه طلعة «ذلك» الصبيّ الفرح أبداً، الضاحك اللاهي، الذي كان رفيقي يوماً والذي أحببته وقاسمته مرحه ولهوه
…
فإذا لم أرها أُبْتُ أجُرُّ رجلَ خائبٍ فُجِعَ في أعزّ آماله وفقد أحب أمانيه إلى قلبه، وإن وقفت على معهد من معاهد الصغر أو ملعب من ملاعب الطفولة فتّشت في زواياه وأركانه، وتحسست الحجارة من جدرانه، علّي أجد بينها ذكرى حلوة قد خبأتها يوماً ونسيتها.
ولذلك وقفت اليوم على «الجقمقية» ، ولكني لم أجد فيها ما أريد. لقد عدا سارقان على أحلى ذكرياتي فسرقاه في غلس الليل كما يسرق النبّاشون الذهب من قبور الفراعنة، ولم يدَعا لي إلاّ كل تافه حقير. فبماذا أتحف القراء بعد الذي صنعه معي هذان اللصان: الزمان والنسيان؟!
* * *
هذه هي المدرسة التي أودعتُها عهد الطفولة وذكرياته العذاب، لا تزال قائمة جدرانها ماثلاً بنيانها، وهذه هي الطرقات التي كنت أسلكها غادياً إليها من داري ورائحاً منها إليها، وهذا هو «الأموي» العظيم الذي كنا نعرّج عليه كل يوم بكرة وظهراً وعشياً،
وما بيننا وبينه إلاّ أن نخرج من باب المدرسة فندخل من بابه، نغافل «الحسكي» ونقفز فيلحقنا بعصاه ونحن نتضاحك ونروغ منه، نعدو في صحن الجامع الواسع النظيف حتى يكل المسكين ويتعب فيدعنا مكتفياً بما تسعده به قريحته من روائع فن الهجاء، فإذا انصرف عنا وذهب الحافز لنا على اللعب عقلنا ودخلنا نستمع إلى أصحاب الحلقات فيه. هذا هو الأموي لا يزال على عظمته وجلاله، لا يدانيه في وسعته وفخامته مسجد في دنيا الإسلام، غير أن صورته في ناظري قد تبدلت وامّحت روعتها وبطل سحرها. وماذا تصنع الجدران والسقوف إذا ذهبت الوجوه ومضى الساكنون وتغيرت الروح؟ لقد أضحى الأموي غيرَ الأموي؛ فلا دروسه تلك الدروس ولا علماؤه أولئك العلماء ولا جوّه ذلك الجو. إن المدن كالأشخاص؛ تُخلق كل يوم خلقاً جديداً. وقد ماتت دمشق التي نشأنا فيها، دمشق الإسلامية المرحة الفاضلة التي لم يكن فيها ماخور مشهور ولا ميسر ظاهر ولا عورات باديات ولا حانات ولا مُلهيات، وكانت فيها المرأة لبيتها والرجل لأهله، والعلماء عاملين بعلمهم مطاعين في أمتهم، والحي كالبيت الواحد في تعاون أهله وتعاطفهم، والمساجد عامرة والرجولة بادية، وأهل الدين لا يأكلون به الدنيا ولا يتخذونه تجارة
…
فيا أسفي على دمشق التي ماتت! ويا رحمة الله على تلك الأيام: أيام لم نكن نعرف من الدنيا إلا المتع الفاضلة والفضائل الممتعة، نلهو ونلعب ولكن لا كلهو فتية اليوم ولا كلعبهم. كان أقصى ما نأتيه أن نركض في الأموي، أو ننقسم عند المساء قسمين فنقيم بيننا سوق حرب سلاحها المقالع والعصي. وقد نجرح أو نكسر، ولكننا نتعلم الرجولة والقوة، ثم نرجع متفقين. وأن نتلهى عن الدرس بقراءة
قصة عنتر وحمزة البهلوان، نتلقى منهما ما ينقصنا من علم الكر والفر والمبارزة والقتال وأن نمكر بالمدرسين، وإن أممنا لهواً وأردناه فشهود خيال الظل (كراكوز)، وهو سينما تلك الأيام، ولا يراه منا إلا مقدوح في خلقه. أما التأنق والتجمل والترقق فلم نكن ندري منه شيئاً، وكان من العيب في أيامنا لبس البذلات لما تصور من أعضاء الجسم، فكنا نجيء إلى المدرسة بالقنابيز (الجلابيب)، وكنا نتعجل الشباب فنتخذ دواء (كان معروفاً) يطول به الشارب وينمو به قبل الأوان.
فأين أيامنا في هذه المدرسة، وهل تعود هذه الأيام؟ أين ذلك الشيخ الحبيب إلى كل نفس الجليل في كل عين، شيخ الشام ومعلمها ستين عاماً
…
ستين عاماً وهو دائب على علمه العظيم يأخذ من هذه الأمة أطفالاً صغاراً فيردهم إليها شباباً متعلمين، يصب من عقله الذي يزيد على البذل في أدمغتهم، ومن إيمانه في صدورهم، فتعلم منه الولد وأبوه وجده. إي والله، هذه سجلات مدرسته فسلوها تنبئكم. ذلك هو الإمام الشيخ عيد السفرجلاني (1).
* * *
هذه هي المدرسة! هذا البنيان فأين السكان؟ أين رفاقي فيها؟ أين من كان يجمعهم مقعد واحد وكانوا سواء في كل شيء لا يَميز أحد منهم على أحد إلا بمقدار ما ينجح في درس أو ينال ثناء من أستاذ؟ وكان فلان الفقير عريف الصف والمقدَّم في التلاميذ،
(1) انظر قصة «نهاية الشيخ» في كتاب «قصص من الحياة» لعلي الطنطاوي (مجاهد).
وكان الشيخ يتخذ منه مثلاً مضروباً لأبناء الأغنياء، ويبشره بالمجد والمال والرتب وبأنه سيمشي على الورد المفروش حين يمشي أولئك على الشوك.
رحمك الله يا شيخنا، فلقد أصبت في كل ما كنت تقول إلاّ في هذا. تعال انظر ترَ الدهر قد ضرب بيننا، ففرق الإخوان وشتت الخلان، فتفرقوا في آفاق الأرض وانتثروا على سلم الحياة علاء وخفضاً، وسار الأكثرون على الأشواك فدميت أقدامهم الحافية، ومشى قوم على الورد والفل والياسمين وحازوا المال والمجد والرتب، ولن أسمّي لك أحداً كيلا أفجعك بآرائك وفضائلك!
لا، لا أحب أن أعود إلى هذا الحاضر فدَعوني أستمتع بادِّكار ماضيّ كما يستمتع المنقطع في البادية بما بقي في سفرته من زاد المدينة التي خرج منها وأضاع طريق العودة إليها. إني أبصر كل ما حولي قد تغير فأُنكره وأحسّ كأني صرت غريباً في وطني، ولقد كنت أنا وأخي أنور العطار لا نزال نحِنّ إلى الوطن ونراه في صفحة البدر عند المطار، وفي صفحة دجلة على الجسر، فتسيل قلوبنا رقة وشوقاً ونحن في بغداد بلدنا وبلد إخوة لنا أعزة كرام، وطريق الشام مفتوح، فكيف بمن صار يحسّ أن وطنه قد طواه الزمان واختبأ وراء السنين ولم يبق إليه من سبيل؟
فيا أيتها المدرسة، خبّرينا: لماذا لا نستطيع أن نعود أدراجنا في طريق الزمان كما نملك أن نرجع في طريق الأرض؟ لماذا لا نقدر أن نقف في الفترة السعيدة من أعمارنا كما يقف المسافر في البقعة الجميلة إذا جاز بها؟
إذن لعدت أدراجي فلصرت العمر كله تلميذاً فيك، أستمتع بجوار ذلك الشيخ النوراني وأعيش في جو أنيس من نصائحه ومواعظه وقصصه، وأبقى أبداً ذلك الطفل الذي لا يدري ما الشرّ
…
هذا ما تمنيت أن أكونه، وهيهات أن تتحقق الأماني الكواذب!
* * *
إني كلما رأيت هذه المدرسة خالية خاوية خربة لا يحفل بها أحد ولا يذكر شيخها إنسان، أيقنت أن الجحود سجية في هؤلاء الناس. أتنسى دمشق شيخها ومعلمها الذي أحسن إليها؟ إن هذا الشيخ لم يكن عالماً مؤلفاً ولا سياسياً حاكماً ولا فيلسوفاً مفكراً، ولكنه بنى في نهضة دمشق ركناً لم يبنِ أضخم منه عالمٌ ولا حاكم ولا فيلسوف. لقد كان معلم أولاد ولكن أولاده صاروا قادة هذا البلد، لقد أنشأ مدرسة منظمة يوم لم يكن في دمشق إلا الكتاتيب، لقد كان مربياً بالفطرة لم يقرأ بستالوسي ولا تعلم أصول التدريس، ولكنه كان أحسن مربّ رأيته (1).
فيا أيها القراء، لا تقولوا: ومَن الشيخ عيد السفرجلاني؟ وما له يملأ صفحات الرسالة بأخبار نَكِرة في الرجال؟ فكم في ظلام النسيان من عظماء حقاً، وكم في ضياء الشهرة من أصنام قائمة نظنها ناساً وهي مبنية من جامد الصخر أو بارد النحاس!
* * *
(1) تحدث عنه جدي في مقالة «مع بعض مشايخي» ، وهي في آخر كتاب «رجال من التاريخ» (مجاهد).