المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌جواب على كتاب

‌جواب على كتاب

نشرت سنة 1959

يحمل إليّ البريد كل أسبوع نحواً من ثلاثين رسالة، يبعث بها إليّ سامعو أحاديثي في الإذاعة وقرّاء مقالاتي في الصحف، ولكني لم أجد فيها كلها مثل الرسالة التي تلقيتها أمس. رسالة من أم، جاءتني في «يوم الأم» ، ليس فيها من فصاحة اللفظ شيء ولكنها في البلاغة آية من الآيات، وهل البلاغة إلاّ أن تقول ما يصل بك إلى الغاية ويبلغ بك القصد؟

تقول هذه الأم إنها سمعت بعيد الأم ولكنها لم ترَه، وعرفت شقاء الأم بالولد ولكنها لم تعرف بر الولد بالوالدة. وهي لا تشكو عقوق ولديها، فهما صغيران ما بلغا سن العقوق، ولكنها تشكو ضيق ذات اليد وفقد المُسعد والمعين، وأنها تصبّر النفسَ حيناً ويتصرّم أحياناً صبرُها، وتسألني: أتطلق الولدين من إسار المدرسة وتبعث بهما يتكسبان دُريهمات تعينها على العيش؟ وتسأل ماذا تجني منهما إن درَسا وهي لا تملك ثمن كساء المدرسة ولا نفقاتها؟ فكيف يستطيعان أن يكملا الدرس ويتمّا التحصيل وهما بالثوب البالي والجيب الخالي؟

ص: 27

وما تمنيت أن أكون غنياً إلاّ اليوم، لأستطيع أن أواسيها باليد والمال لا بالقلم واللسان، ولكني أديب، والأديب لا يملك إلاّ قلبه ولسانه. وهاتان كلمتان من القلب: كلمة لها هي، وكلمة للقراء.

أما الكلمة التي هي لك، فأحسب أنها تبدو للناس غريبة لأن الأدباء ما تعوّدوا أن يقولوا مثلها، لأنهم لا يجرؤون أن يعرضوا على الناس حقائق صورهم ليراها الناس كما هم، بل يعرضون صوراً محرَّرة مزوَّقة، قد بدّلها (رتوش) المصور وفنه. وقد تكون أحلى وأجمل ولكنها ليست صورهم، إنهم لا يكشفون للقراء قلوبهم لكن يعرضون عقولهم. وإن كان هذا الذي سأقوله اليوم سنّة عند أدباء الإفرنج من سنن الأدب المسلوكة، لا بدعة من البدع المتروكة.

إنها قصة ولكن لم يخترعها خيال كاتب ولم يؤلفها قلم أديب، بل ألفت فصولَها الحياةُ وجئت أرويها كما كانت. أرويها لتعلمي وتعلم كل أم بائسة وكل ولد نشأ في الفقر أن المجد والعلاء رهن بأمرين: بتوفيق الله أولاً، واللهُ يوفق كل عامل مخلص، وبالعلم والجِد ثانياً.

واسمعي الآن القصة:

كان في دمشق -من نحو أربعين سنة- عالِم جليل القدر، كريم اليد، موفور الرزق، داره مفتوحة للأقرباء والضيوف وطلَبة العلم، وموائدُه ممدودة، لمّا أضاق الناسُ في الحرب العامة الأولى وسّع الله بفضله عليه فلم يعرف الضيق، وكان من ذوي المناصب الكبار والمكانة في الناس.

ص: 28

ونشأ أولاده في هذا البيت، لا يعرفون ذلّ الحاجة ولا لذعة الفقر. ولكنهم أصبحوا يوماً (من أيام سنة 1925)، الولد الكبير البالغ من عمره ستَّ عشرة سنة وإخوة له تتراوح أعمارهم بين عشر وبين شهر، فإذا بالوالد قد تُوفّي.

وارتفع السّتر، فإذا التركة ديون للناس؛ فباعوا أثاث الدار كله ليوفوا الدَّين، ثم تركوا الدار الفسيحة في الصالحية ونزلوا تحت الرصاص (وكانت أيام الثورة) يفتّشون عن دار يستأجرونها، فوجدوا داراً

أعني كوخاً، زريبةَ بهائم، مخزنَ تبن

في حارة الديمجيّة. هل سمعتِ بها؟ في آخر العُقَيْبة، قرب المكان الذي يسميه الناس من التوائه وضيقه «محلّ مَا ضيَّع القردُ ابنَه» . هذا هو اسمه، صدّقيني!

في غرفتين من اللبِن والطين، في ظل دار عالية لأحد موسري الحارة تحجب عن الغرفتين الشمسَ والضياء، فلا تراهما -قط- الشمسُ ولا يستطيع أن يدخلهما الضوءُ، ليس فيهما ماء إلاّ ماء ساقية وسخة عرضها شبران وعمقها أصبعان، تمشي مكشوفةً من «تورا» في الصالحية إلى هذه الحارة، تتلقّى في هذا الطريق الطويل كلّ ما يُلقى فيها من الخيرات الحسان! وليس فيها نور إلا نور مصباح كاز، نمرة ثلاثة

يضيء تارة و «يشحّر» (1) تارات

والسقف من خشب عليه طين، إن مشت عليه هرة ارتجّ واضطرب، وإن نزلت عليه قطرة مطر وَكَفَ و «سرَّبَ» .

(1) أي ينفث «الشَّحّار» ، وهو -في عامية أهل الشام- السُّخَام؛ أو السّواد الذي ينتج من احتراق فتيلة المصباح (مجاهد).

ص: 29

هنالك على أربعة فرش مبسوطات على الأرض متجاورات، ما تحتهنّ سرير، تغطيهن البسط والجلود، كان ينام هؤلاء الأولاد الذين رُبّوا في النعيم وغُذّوا بلبان الدلال، تسهر عليهم أم -مثلكِ- حملت ما لم تحمله أم، تدرأ عنهم سيل البقّ الذي يغطي الجدران، وأسراب البعوض التي تملأ الغرفة، والماء الذي ينزل من السقف. تظل الليلَ كله ساهرةً تطفئ بدمع العين حرق القلب، تذكر ما كانت فيه وما صارت إليه، والأقرباء الموسرين الذين لم يكونوا يخرجون من دار الوالد، كيف تخلوا عن الأولاد وأنكروهم، حتى جاؤوا يوماً يزورون جار الدار الموسِر يهنئونه بالعيد ولم يطرقوا -والله- عليهم الباب؟ ولم يُعِنْها أحد، ولم يسعفها إلاّ أخ لها في مصر (1) أمدّها بجنيهات مصرية قليلة لم يكن يطيق أكثر منها.

في هذا الجو يا سيدتي

وماذا تظنين هذا الجو؟ فيه أقبل الولد وإخوته على الدرس والتحصيل. وكانت أطراف البلد للثوار، ليس للفرنسيين إلاّ وسط المدينة. فكانوا يمرون على الموت في طريقهم إلى المدرسة كل يوم، يخترقون جبهة الحرب (الاستحكامات) القائمة أمام جامع التوبة، وصبروا ووثقوا بالله، وأعانهم الله ووفّقهم، حتى صاروا

ماذا تقدّرين أنهم صاروا الآن؟

صار الولد الثاني قاضياً، وصار أديباً شاعراً مصنّفاً، والثالث أستاذاً كبيراً في الجامعة وأولَ من حمل لقب دكتور في الرياضيات

(1) هو الأستاذ محب الدين الخطيب، الكاتب الكبير المعروف.

ص: 30

في سورية، والرابع مدرّساً موفقاً وداعية وأديباً (1). أما الولد الأكبر فلا أقول عنه شيئاً لأن شهادتي فيه مردودة؛ فهو صديقي الذي لا أفارقه أبداً، والذي أكون معه ليلي ونهاري وأراه كلما نظرت في المرآة، وهو فوق ذلك يحمل اسماً مثل اسمي!

وما قصصت هذه القصة إلاّ تسلية لك وتهويناً عليك، ولتوقني أنه ربما كان ينتظر ولديك هذين اللذين لا يجدان الغذاء والكساء، ينتظرهما مستقبل يحسدهما عليه أبناء الأغنياء.

فقولي لولديك ألاّ يخجلا إن لم يجدا الثوب الأنيق أو الكتاب الجديد أو المال الفائض؛ فإن أكثر النابغين كانوا من أبناء الفقراء. وكاتب هذه السطور (وإن لم يكن من النابغين الذين تُضرَب بهم الأمثال) كان يجيء إلى المدرسة الثانوية بالبذلة التي فصلتها له أمه من جبة أبيه، وقد عجز عن أداء رسم شهادة الحقوق فساعده عليه بعض المحسنين.

وأنا أعرف -والله- في أعلام البلد اليوم من نشؤوا في أشد الفقر، ثم نالوا بالعلم أوسع الغنى وأعلى المناصب، ولو كنت أعلم الرضا منهم بذكر أسمائهم لسميت لكِ خمسة أسماء كلها على طرف لساني الآن. وأنا أعرف محكمة صار ابن آذنها قاضيَها، وابن رئيسها «شيئاً» كالآذن فيها!

* * *

(1) ناجي الطنطاوي وعبد الغني الطنطاوي ومحمد سعيد الطنطاوي، وكلهم من أصحاب الفضل والعلم والأدب (مجاهد).

ص: 31

أما الكلمة التي هي للقراء، الذين كانوا الليلة البارحة -عندما أرعدت السماء وأبرقت ونزلت على الأرض- كانوا على المقاعد المريحة في الغرف الدافئة فلم يعرفوا ما حال الفقراء في تلك الليلة.

إني أقول لهم:

إن في البلد، في حيِّكم، بين جيرانكم، كثيرات من أمثال السيدة التي كتبت إليّ. وإن في البلد من يرتجف هذه الليلة من البرد في البيوت التي ثلّجها الشتاءُ، لا يلقى جمرة مشتعلة، وإن هنالك تلميذات وتلاميذ، يقرؤون بعيون تزيغ من الجوع والقرّ ويكتبون بأصابع محمرة من البرد. وإن في هؤلاء من لو أُمِدّ بالطعام واللباس وأُعينَ على الدراسة، لكان عبقرياً تعتز بمثله الأوطان وتسمو الأمم. واذكروا أن بين أُجَراء الخبّازين وصِبية المحامين مَن خُلق ليكون من كبار العلماء وأفراد النابغين، ولكن الفقر عطل مواهبه وسدّ أمامه طريق النبوغ، فلم يجد ذكاؤه مسرباً يسرب منه إلا الإجرام.

إن أكثر المجرمين الذين يسكنون السجون كانوا صبية أذكياء، ولكن المجتمع قال لهم: حرام عليكم الدرس والتحصيل لتكونوا من أفذاذ المثقفين، فكونوا -إذن- من أذكياء المجرمين!

إن الذي ينفقه الأغنياء على الترف والسرف، يكفي لتعليم كل ولد في البلدة، وإطعام كل جائع، وإسعاف كل فقير. إن عرساً واحداً من أعراس الموسرين الكبار تكفي نفقاته لإطعام عشر عائلات شهراً كاملاً، وما ينفَق على أكاليل الزهر في الجنائز وطاقات الورد

ص: 32

في الأفراح يفتح كل سنة مستشفى مجانياً للفقراء، وأثمان علب الملبَّس في الموالد تنشئ كل سنة مدرسة تتسع لخمسمئة تلميذ، وما تُشترى به هذه الثريات الفخمة وهذه التماثيل، وما يُنفَق في الولائم والحفلات وما يُصرَف في الملاهي والموبقات يكفي لسد حاجة كل محتاج.

وأنا لا أقول: دعوا هذا كله؛ فإنكم لن تفعلوا، ولكن اجعلوا من أموالكم نصيباً لهؤلاء المعذَّبين في الأرض

زكّوا عن أموالكم فإنكم لا تدرون هل تدوم لكم أو تذهب عنكم.

وهل أخذ أحدٌ على الدهر عهداً أن لا تحول عنه الحال، وأن لا يذهب من يده المال؟ ومَن الذي جعل لولد الغني الحق في أن يبقى أبداً سيداً، يُعطى ما يطلب وينال ما يريد، وكتب على ولد الفقير الفقرَ والشقاء أبداً؟ ومَن يثق بأنّ ولده لن يحتاج غداً إلى ولد الفقير، يسأله ويرجو رِفده؟

وإذا وثقتم ببقاء المال، فهل تثقون ببقاء الصحة؟ أتأمنون الأمراض والنوازل والنكبات؟

فاستنزِلوا رحمة الله بالبذل، وادفعوا عنكم المصائب بالصدقات.

وأنا لا أخاطب أرباب الآلاف المؤلفة فقط، بل أخاطب القرّاء جميعاً. إن الناس درجات؛ أمَا تفرح إن أعطاك صاحب الملايين ألف ليرة؟ فأعطِ أنت المُعدَم عشرَ ليرات. إن الليرات العشر له كالألف لك، والألف عند «المليونير» كالعشر عندك.

ص: 33

والثوب القديم الذي تطرحه قد يكون ثوبَ العيد عند ناس آخرين، فلماذا لا تسرهم بشيء لا يضرك ولا تحس بفقده؟

ولو أن كل امرئ يعطي من هو أفقر منه لما بقي في الدنيا محتاج. فيا أيها القراء، أسألكم بالله: لا تدَعوا كلمتي تذهب في الهواء، فإني والله ما أردت إلا الخير لكم. ويا أيتها الأم التي كتبت إليّ، ثقي بالله، فإن الله لا يضيع أحداً أبداً.

* * *

ص: 34