المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌في معهد الحقوق

‌في معهد الحقوق

(1)

نشرت سنة 1932

أمس

قبل أن تبدأ الدروس.

كان الصف الثالث هادئاً (2)، والطلاب الذين جاؤوا إلى المعهد في مثل هذه الساعة المبكرة من شهر الصيام (وقليل ما هم) يحفّون بالمدفأة على نظام غريب؛ واحد على كرسي الأستاذ وقد ألقى برأسه بين دفّتي مجلة، وآخر جالس بجانب المجلة على منبر الصف العريض، يقرع برجليه جانبه فيصيح به جاره الذي جذب كرسي المعيد فوضعه حيال المدفأة وجلس عليه ماداً رجليه إلى وجه آخر جالس على المقعد: حاجِه (3) بقى!

(1) هذه المقالة منشورة في كتاب «قصص من الحياة» . وقد تساءلت: أَضمَّها الشيخُ إلى ذلك الكتاب لأنها أشبه بالقصة وإلى هذا لأنها جزء من ذكريات الدراسة، أم أن النشر تكرر بسبب السهو والنسيان؟ فإن كانت الثانية أفلم يتنبّه لها من بعد أبداً؟ فغلب على ظني أن الأمر مقصود فأبقيت كل شيء على حاله وفي نفسي منه شيء. إنها ليست إلا واحدة أخرى من المرات الكثيرة التي تمنيت لو كان حياً أمامي أسأله فيجيبني وأنا أعد كتبه للنشر رحمه الله (مجاهد).

(2)

كانت دراسة الحقوق في ثلاث سنوات فقط.

(3)

يلفظونها بكسر الجيم وسكون الهاء المتطرفة (حاجِهْ)؛ أي: يكفي. وهو تعبير عامي دارج في الشام لا أعرف أصله (مجاهد).

ص: 55

وتمر دقيقة يتبادلان فيها «الشتائم الودّية» المعروفة، ثم يعود الهدوء كما كان حتى لا تُسمع في قاعة الصف الواسعة إلا صلصلة حديد الملقط في المدفأة، أو قرقعة جريدة «الأحرار» في يد طالب، أو سعال آخر في نغمة مزعجة يكون قرارَها صوتُ أحد الطلاب هاتفاً به: وآخرتها؟!

واستمرت الحال على ذلك ربع ساعة، جاء فيها بعض الطلاب فجلسوا حول النار صامتين بعد أن ألقوا على الحاضرين تحية الصباح.

* * *

ثم ظهر فجأة دويّ حديث في زاوية الصف، لم يلبث أن استحال إلى ضجة هائلة اختلطت فيها الأصوات وتباينت فيها اللهجات، فأسرع الحاضرون من هنا وهناك يسألون:

الطالب الشامي: شو، شو الحكاية؟

الطالب الحلبي: أشو خبر خيُّو؟

الطالب العراقي: شنو هي الكصّة (القصة)؟

الطالب المصري: طَبْ

ما تقولوا إيه الحكاية؟

وبعد لأي ما، استطعنا أن نطفئ لسان النار، وبدأ الحديث بيننا بهدوء واتّساق، فقال السيد «خ»: أرجوكم أيها الإخوان

لنتكلم بهدوء. هل تريدون أن تسمعوا؟

- ماذا؟

ص: 56

- إن أربعين ورقة (1) ندفعها في هذه الأزمة الخانقة رسماً للشهادة أمرٌ لا يُطاق، فيجب أن نتوسل بالطرق المشروعة.

- لإلغاء الرسم؟

- كلا؛ لا تتعجل أرجوك. إن إلغاءه غير ممكن، ولكن نطلب إنقاصه.

- كلام فارغ!

آخر: وماذا يهمك أنت؟ دعه يتكلم.

آخر: صَهْ؛ إن السيد «خ» معه الحق.

خ: والطريقة المشروعة هي أن

- أن نرفع عريضة

أقترح ذلك.

آخر: كلا. إن اقتراحك في غير محله. يجب أن نرسل وفداً.

- العريضة أحسن من الوفد.

آخر: وإذا لم تنجح العريضة؟

- إذا لم تنجح؟

يجب أن تنجح.

- منطق!!

- إذا لم تنجح نمتنع كلنا عن دخول الامتحان.

(1) كان راتبي -وأنا معلم ابتدائي يومئذ- 36 ليرة في الشهر، وكان كيلو الخبز بنصف فرنك.

ص: 57

- موافق.

آخر: بالعكس؛ غير موافق. فكرة سخيفة جداً.

- حافظ على أدبك

أرجوك.

- أنا محافظ على أدبي، ولكن أنت اسحب كلامك.

خ: أنا أسحبه عنه، لنرجع إلى صلب الموضوع.

- إننا متفقون على الغاية، وسنتفق على الطريق التي نصل بها إليها. وأرى أن تؤجلوا ذلك إلى حين اجتماع الطلاب، وتسمعوا من الآن القصة.

- لا؛ لا نسمعها، لا نريد أن نسمع قصصاً.

- ولا أساطير (ضحك).

خ: إنها قصة واقعة وليست أسطورة، ثم إنها تتعلق بالموضوع.

- من كان لا يريد سماعها فليسُدّ أذنيه. تفضل قل القصة. سنتسلّى بها على الأقل، شهر رمضان تُطلب فيه التسلية البريئة.

خ: هي قصة طالب في المعهد، كان منذ عامين. أظن أن بينكم مَن يعرفه، هو السيد سليمان الفالح.

- أنا أعرفها جيداً

رحمه الله.

- وهل مات؟!

خ: اسمعوا، سأتلو عليكم قصته. كان من أذكى طلاب

ص: 58

المعهد وأعمقهم ثقافة. اجتاز فحوص السنتين الأولى والثانية بتفوّق عظيم، وكان محلّ إعجاب الأساتذة والتلاميذ وتقديرهم، حتى إن المحاضرة التي ألقاها في ردهة المعهد تناقلتها ثلاثٌ من جرائد المدينة ولخّصتها مجلة «المقتطف» في مصر بعد أن أثنت على صاحبها وتنبأت له بمستقبل باهر.

- وكيف مات إذن؟

- كان من أولئك الذين قال عنهم الفيلسوف: "وسَكَتَ يفكر".

- اتركه

مين ما كان. وبعد؟

- الفقراء جيوباً، الأغنياء نفوساً. أجل، لقد كان فقيراً، لا يملك من نشب الدنيا وثرواتها إلا هذه الثروة المعنوية التي جاد بها عليه الله، فلما أكمل الصف الثالث عُرض عليه رسم الشهادة، ولم يكن له إلى جمعه من سبيل

فامتنع من دخول الفحص.

- باختصار

جاء الأستاذ.

- وبالاختصار، فقد شعر أنه ضيّع مستقبله وأنه قد انهار صرح آماله، فأطلق على نفسه الرصاص في ساعة هياج وانفعال.

- مسكين.

- مسكين؟ إنه مجنون.

- بل أنت المجنون.

ص: 59

ولما وصل «خ» من حديثه إلى هذا الحد كان الأستاذ قد دخل الصف، فأسرع كلٌّ إلى مكانه وعهدوا إليّ أن أكتب مقالة لتكون الخطوة الأولى في سبيل المطالبة بتخفيض «هذا الرسم

الباهظ».

وقد فعلت.

* * *

ص: 60