المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌شهادة ليسانس للبيع

‌شهادة ليسانس للبيع

نشرت سنة 1933

أنا -يا سادتي القراء الكرام- ليسانسيه في الحقوق من أربعة أيام فقط، وقد اتخذت لهذه الشهادة الجميلة الكبيرة المزينة بعشرة أختام وتوقيعات لأصحاب الفخامة والدولة والمعالي وما لست أدري ماذا: رئيسَي الجمهورية والوزارة ومندوب العميد ورئيسَي الجامعة والمعهد

والداعي، الفقير إليه تعالى حامل الشهادة! اتخذت لها إطاراً جميلاً ثميناً حصلت عليه بوسيلة من الوسائل لا أحب أن أكشف سرها للقراء، ولكن لهم أن يثقوا أني لم أنفق فيها قرشاً واحداً، وعلقتها في داري في الغرفة التي كان يجب أن تكون غرفة استقبال وأن تكون منظمة مرتبة لا كما هي الآن: يضلّ الداخل إليها بين آكام الكتب المنتشرة فيها، والتي تدور أبداً كما تدور تلال الصحراء الكبرى وينقلب عاليها سافلها كلما فتشت عن كتاب، علّقتها هناك إلى جانب أخواتها البكالوريا والكفاءة (1) والابتدائية

ووقفت سبعاً وسبعين دقيقة خاضعاً أمامها خاشعاً،

(1)«الكفاءة» لا معنى لها هنا، فسمّوها شهادة «الكفاية» إن لم يكن بد من هذا اللفظ.

ص: 61

وذكرت تلك الأعوام الستة عشر التي أنفقتها في تحصيلها، وكان خيراً لي أن أقضيها في حانوت حلاق أجيراً أتمتع بالجمال والمال، أو ممثلاً في جوقة أعيش عيش النعيم والتعظيم، أو عاملاً في مطبعة يدور عليّ الزمان فإذا أنا «صاحب جريدة كبرى»

أو لو قضيتها في تلاوة الروايات والأقاصيص أنال منها لذة ومتعة (إذا لم أنَلْ فائدة ونفعاً). وتأملت فيها معظِّماً مبجِّلاً، وتجرأت فلمستها (أي الشهادة) بيدي في ابتسامة بلهاء، كما يلمس الإنسان تحفة ثمينة ليزيد إحساسه بها، أو أثراً مقدساً ليتبرك به (1).

وجلست بعد ذلك أفكر: ماذا أصنع بها بعد أن زالت من نفسي رغبة النجاح ونشوة الظفر؟ وأغلقت الأبواب، وأطفأت الأنوار، وأشعلت البخور

وتلوت أسماء الجن واستصرخت الملك الأحمر والأخضر، ثم أحرقت الشهادة فخرج من لهيبها مارد طويل وقام أمامي في خضوع. فقلت له: ما اسمك أيها المارد؟

- ليسانس يا سيدي.

- ماذا تقدر أن تصنع؟

- كل شيء يا سيدي؛ أزحزح لك أصحاب الكراسي الجهال عن كراسيهم لتجلس يا صاحب الليسانس عليها.

- أتثق من قدرتك على ذلك؟

(1) ليس في الأشياء ما هو مقدس في نظر المسلم يتبرك به للنفع أو للضرر، حتى الحجر الأسود لا يضر ولا ينفع، وإنما يُقبَّل اتباعاً وتعبداً.

ص: 62

- نعم يا سيدي، على أن تمنع عني عدوي الألد.

- وَمنْ هو عدوك أيها المارد؟

- شيطان قوي مرعب لا يغلبه أحد، يُقال له «الالتماس» .

- لا أقدر أن أمنعه عنك، فماذا تستطيع غير ذلك؟

- آتيك بالأموال التي كدسها المحتالون والكذابون في خزائنهم، وأسلمها إليك وإلى أصحابك «أصحاب» الليسانس.

- بارك الله

هيا اذهب، هاتها.

- ولكني أخاف.

- مَن تخاف أيها المارد؟

- شيطاناً قوياً فاجراً، أعمى له أيد من نار، حيثما ضرب بها انفتحت ثغرة إلى الجحيم، ومن رضي عنه هذا الشيطان ملّكه ما يريد ويشتهي.

- وما اسم هذا بين الأبالسة؟

- الحظ يا سيدي.

- وماذا تستطيع غير ذلك أيها المارد؟

- أمنحك يا سيدي الزعامة وأنتزعها لك من هؤلاء الجاهلين.

- عالْ عالْ، أسرع.

ص: 63

- ولكن أخشى صديق الزعماء، وهو شيطان بأربعة وأربعين رِجلاً يمشي إلى الجهات كلها في وقت معاً ويصيح في الأنحاء كلها: يعيش يعيش!

- أعوذ بالله، هذا شرّ الأبالسة

ما اسمه؟

- التدجيل يا سيدي.

- إذن ما جاء بك يا أيها الليسانس الضعيف العاجز؟ اذهب من وجهي.

* * *

وبعد، فماذا نصنع يا أيّها الناس بهذه الشهادة؟

لقد عرضت على أحد المحامين -لما لي عليه من الجرأة بأنه أستاذي في المعهد- ليقبلني عنده متمرّناً، فـ

أبى!

وقالوا: إن هناك من يقبل المتمرنين، ولكنه لا يعطيهم شيئاً؛ يعني أن المتمرنين يشتغلون على أرواح أمهاتهم وينفقون ماء حياتهم ويكسرون رؤوسهم وأقدامهم -ولا مؤاخذة- في أشغال المكتب الذي يشتغلون فيه، ليأخذ الأساتذة ثمرة أتعابهم

لماذا بالله؟ لأنهم أساتذة؟ تشرّفنا!

وإن ذهبنا نطلب وظيفة قضائية وجدنا كل وظيفة مشغولة، وكل شاغل وظيفة يخشى أن تنزو نزوة في رأس رئيس له فيلقيه كما تُلقى النواة نُزع عنها «حلوها» .

ص: 64

وإن تركنا هذا البلد ويممنا شطر بلد آخر أنكروا شهادتنا ومعهدنا، ولم تغنِ عنا منهم شيئاً هذه التوقيعات وهذه الأختام.

وإن رَغِمت أنوفُنا وعملنا في هذه المكاتب (بلا شيء) ولوجه الله، على أن نعمل عملاً آخر في ذنَب النهار نشتري به خبزنا، قالوا: لا يجوز

أي إنهم لا يرحموننا ولا يتركوننا إلى رحمة الله؛ يحسبون أن المحامي المتمرن يشبع ويمتلئ بطنه ويكسى ويجد الراحة والدفء إذا أكل المحامي الأستاذ عشرة ألوان واتخذ عشر حلل!

* * *

فيا أيها القراء الكرام، إني أعرض شهادتي ولقبي الكريم للبيع برأس المال (الرسوم والأقساط)، أما فوسفور دماغي وأيام عمري فلا أريد لشيء منه بديلاً، وأجري على الله.

فمَن يشتري؟

المراجعة في جريدة «ألف باء» الغراء.

شهادة بيضاء ناصعة كبيرة، خطها جميل، ذات إطار بديع

جديدة (طازة)! من يشتري؟

* * *

ص: 65