المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌من رسائل الصيف

‌من رسائل الصيف

[وهي سلسلة كنت أنشرها في «ألف باء» سنة 1933، لم يبقَ لديّ منها إلاّ هذه الرسالة ورسالة أخرى، وقد ضاع سائرها فيما ضاع من مقالاتي.]

إلى صديقي (فلان):

لست أدري من أين أبدأ أحاديثي الكثيرة التي سأصبّها في هذه الرسالة صباً؟ وأخشى أن أبعث بها إليك مهوّشة مضطربة قد تَداخلَ بعضها في بعض، فلا تفقه منها شيئاً. وأنا -كما عهدتني قبل أن تأخذ طريقك إلى مَصِيفك هذا الجميل الذي تنعم فيه وكما يعهدني أصدقائي جميعاً- رجل فوضى واضطراب، أغدو ولي وجهة أنا موليها وعمل أريد أن أذهب إليه، فلا أبعد حتى تحملني موجة من موجات الحياة إلى غير ما قصدت

وما لي أحدثك عني قبل أن أسألك: كيف أنت؟ وهل أنت ساكن إلى حياتك في هذا المَغْنى الوادع، قانع من الدنيا بجلسة على صخرة «بقّين» والسهل تحت قدميك كأنه بساط من السندس، لولا أنه يفيض بالحياة فهو أسمى وأبهى

أم أنت متبرّم بهذه العزلة تَحِنُّ إلى صخب المدينة وضوضائها؟ وهل الطبيعة -كما يقولون- كائن حي له كآبته وبهاؤه

ص: 277

وحزنه وسروره؟ وهل يفيض بهاؤها وكآبتها على من يجاورها ويلقي بنفسه في حضنها؟ أما أنا فأحسب ذلك حديث خرافة، وأعتقد أن الإنسان هو الذي يمنح الطبيعة (وأسألك الإغضاء عن هذه الكلمة، فلستُ أول من استعملها في غير مكانها)، أقول إن الإنسان هو الذي يمنح الطبيعة الحزن والسرور، فيراها ضاحكة مستبشرة إذا كان هو الضاحك المستبشر، ويراها كامدة مظلمة إذا كان مظلم النفس خاثرها. وأكاد أؤمن برأي هذا المجنون الإنكليزي بركلي (ولا تغضبك كلمة المجنون، فلقد عنيت بها العبقري!) ذاك الذي يقول: الدنيا صحيفة بيضاء كصحيفة السينما، لا شيء فيها وإنما تسقط الصور إليها من الصندوق. وما صندوق الحياة إلا رأسي ورأسك ورؤوس إخواننا أعضاء المجمع الأدبي، وإننا قادرون بعون الله الذي جعلنا أدباء (أو أنصاف أدباء، لا بأس) على أن نرى الدنيا على غير ما خلقها الله، ونأخذ كل شيء مقلوباً، ونخترع أشياء ما وُجدت كالحب العذري، ولا أثر لمدلولاتها إلاّ في رؤوسنا الطاهرة وصفحات الكتب.

مالك بُهِتّ ورحت تلحف في السؤال عن هذا المَجْمَع. ألا تسكت لحظة فأحدثك حديثه (1): أنشئ هذا المجمع -يا صديقي- من السيد منير العجلاني «سكرتيراً» (أو ناموساً إذا اخترت الكلمة العربية) والسيد محمد الجيرودي «خازناً» والسيد أنور العطار والسيد ميشيل عفلق والسيد سعيد الأفغاني والسيد أنا «أعضاء

(1) تجدون عن المجمع حديثاً مفصلاً في الحلقة 66 من «الذكريات» ، في أول الجزء الثالث (مجاهد).

ص: 278

إداريين» والسيد سليم الزركلي والسيد جميل سلطان والسيد حلمي اللحام والسيد زكي المحاسني والسيد مصطفى المحايري «أعضاء عاملين»

هؤلاء جميعاً هم الأعضاء المؤسسون، وقد انضم إليهم السادة: كامل عياد ومصطفى العظم وأنور حاتم، وكل هؤلاء ممن تعرف غناءهم.

أما غاية المجمع فهي إنعاش الروح الأدبية في هذا البلد والتعاون على الإنتاج، والأخذ بضَبْعَي (1) كل أديب نابغ أقعده عن الظهور عارض من عوارض الدهر، وإنشاء أدب جديد قوي

والتجديد كما نفهمه (أو كما أفهمه أنا على الأقل) لا يكون بقطع الصلة بالماضي ولا بالخروج على قواعد اللغة العربية وسنن العرب في كلامها، ولا بالدعوة الحمقاء إلى اللغة العامية وإلى تحطيم قواعد النحو وإعلان الحرية اللغوية وإنزال الفاعل الذي تعب من الارتفاع هذه العصور الطويلة ورفع المجرور الذي طالما انخفض وذل

كلا. ولست أسمي شيئاً من هذا بالتجدد ولكنه هو التجرد والحماقة. فاللغة يجب أن تبقى كما هي في قواعدها وسننها، ولنصبَّ فيها -بعد ذلك- ما شئنا من أساليب جديدة وأفكار جديدة وكتب جديدة، أي أن نفعل فعل العرب في فجر الدولة العباسية حين ترجموا كتب اليونان والفرس فجعلوها عربية، ولم يجعلوا لغتهم من أجلها يونانية ولا فارسية ولا لغة ممسوخة، كل كلمة فيها هي من أصلها العربي كالقرد والخنزير من الإنسان

هذه اللغة القردية التي نراها في الصحف والمجلات التي تترجم

(1) الضَّبْع (بسكون الباء): ما بين الإبط إلى نصف العضُد من أعلاها، وهما ضبعان (مجاهد).

ص: 279

عن الإنكليز والفرنسيين أدبهم وشعرهم، والتي أُنفقُ ساعة كاملة في تفهّم الفقرة الواحدة منها ثم لا أفهمها!

فأول شرط إذن من شروط التجديد هو حفظ الصلة بين أدبنا وأدب العرب، ولا يكون ذلك إلاّ بانقطاع طائفة منا إلى تراثنا الأدبي الثمين الذي يسميه بعض الجاهلين -سخرية وهزءاً- بتراث «الكتب الصفراء» . نعم، يجب أن تنقطع طائفة منا إلى هذه «الكتب الصفراء» فيقرؤوها ويفقهوها حق الفقه؛ يجب أن نقرأ النحو لا في هذه الكتب المدرسية فحسب بل في المغني والأشموني وفي كتاب سيبويه وفي مفصّل الزمخشري. وأن نقرأ كتب اللغة، وأن نطالع كتب الأدب العربي الكبرى كالأغاني والكامل والبيان والأمالي، وأن نقرأ كتب البلاغة وأن ندرس الأصول والمنطق، ونقرأ تفسير الكشاف مثلاً وكتاباً آخر في الحديث، وأن يكون تحت أيدينا كتاب من كتب اللغة موسَّع كاللسان أو التاج أو القاموس على الأقل، وأن نرجع إليه عشر مرات في اليوم

ولعلي أفزعتك وأوقعت في وهمك أني رجعي لأني أفرض هذا كله على كل أعضاء المجمع! كلا يا سيدي؛ أنا لا أفرض على أحد فرضاً ولكني أراه فرض كفاية علينا، يجب أن يقوم به بعضٌ كما يقوم بعضٌ بتفقه الأدب الإنكليزي أو الفرنسي ودراسة مناهج النقد فيه وأصول التحليل وتطبيقها على أدبنا، وكما نجد كثيرين منا (كالسيد العجلاني وعفلق) يقبلون على العمل في هذه الجهة نرى آخرين (كالسيد الأفغاني والسيد الجيرودي وأنا) يقبلون على العمل في الجهة الأخرى، وأكاد أثق أن الأفغاني والجيرودي لا يَقبلان منذ الآن إدراكاً وفقها لهذه العلوم الإسلامية العربية عمّن أفنى عشرين سنة من حياته في دراستها وحدها، فإذا

ص: 280

راضا نفسيهما على دراستها من جديد والانقطاع إليها كان منهما ومن أمثالهما تلك الطبقة من الأدباء التي تألّمَ الأستاذ أحمد أمين لفقدها في مصر ودعا إلى تكوينها (1).

* * *

وبعد، فلعلي أزعجتك يا صديقي بهذه الأحاديث، ولعلها جوفاء لا شيء فيها، فأنا أعتذر إليك وإلى أصدقائنا القراء وأرجو ألاّ يكثروا لي الشتائم

وإلى الملتقى في رسالة أخرى تكون أقل سخفاً!

* * *

(1) في مقالة له عنوانها «الحلقة المفقودة» ، افتقد فيها طبقة من الناس تجمع بين علوم الدين وعلوم العصر. وقد وُجدت عندنا الآن والحمد لله، وكان أول تلميذ من تلاميذ المدارس الحديثة اشتغل معها بعلوم الدين كاتب هذه السطور وسعيد الأفغاني، ومن بعدهما الأساتذة مظهر العظمة ومحمد المبارك ومحمد كمال الخطيب، وأول شيخ اشتغل بعلوم العصر الأستاذ الزرقا (وقد نال البكالوريا بعدي بسنة) ثم الأساتذة صبحي الصباغ ومعروف الدواليبي، ثم تعاقب الناس من الجانبين. وأنا أكتب هذا للتاريخ. أما هذا المجمع الأدبي فلم يصنع شيئاً لأنه أُلِّف تأليف الزيت والماء، مهما خضضتهما وجمعتهما عادا فافترقا، لأنهما من جنسين متباينين وطبيعتين مختلفتين.

ص: 281