الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكريات
نشرت سنة 1937
هما موقفان لا أزال أذكرهما، أو تغمض عيني كف الغاسل:
أما الأول فعلى ضفاف بردى، في الثامن والعشرين من أيلول 1926.
وأما الثاني فعلى شاطئ دجلة، في الخامس من أيار 1937.
* * *
كان بردى يخطو على مهل متهللاً منطلق الوجه، يردّ على الشمس الوليدة أولَ تحياتها وهي تغمره برشاش من عطر أشعتها الحمراء
…
وكنت في السيارة الفخمة، أنظر إلى جموع المودّعين من الصحب والرفاق، الذين خرجوا من بيوتهم في هذا الصباح ليودّعوني قبل نزوحي إلى العراق، فأقلب النظر في وجوههم شاكراً لهم فضلهم حزيناً لفراقهم، ثم أتأمل بردى صديق الصبا وسمير الوحدة ونجيّ النفس، فأبصر في خلاله ظلال الحور والصفصاف تميس دلالاً وتيهاً، وأرى ظلال المآذن البعيدة السامقة تضطرب
في الماء فأبصر فيها ذكرياتي حية تطالعني وتحدّثني، وتعيد على مسمعي قصة حياتي وتتلو عليّ تاريخي، فأحس بلوعة الفراق وأشعر في تلك الساعة بأني أحب دمشق
…
دمشق مثوى ذكرياتي، ودنياي من الدنيا، وغاية أملي في حياتي
…
ثم يطوي المرج هذه الصور كلها ولا يدع حيال عيني إلاّ صور إخوتي، فأتأملها بعين دامعة وقلب واجف خائف من الفراق، ثم تجتمع كلها في وجه واحد، هو أحبُّ الوجوه إليّ وأدناها إلى قلبي
…
وألمح في الماء مشهداً طال عليه العهد ونأى به الزمان، فأراه ينفض عنه غبار السنين العشر ويعود حياً جديداً.
رأيتني في محطة الحجاز، آية الفن الحديث في دمشق، والمحطة مائجة بأهلها كما يموج البحر بمياهه؛ فمن مسافر عَجِل، ومن مودِّع باك، ومن بائع يصيح
…
ومن آت وذاهب، وطالع ونازل. وكنت منزوياً في ركن من أركان القطار المسافر إلى حيفا وإلى جانبي أختي الصغيرة
…
أنظر إلى بعيد، فأرى هناك، في أخريات الناس، امرأة تمسك بيديها طفلين، متلفعة بملاءة لا تبدي منها شيئاً، ولكن وراء هذا القناع الأسود عينين تفيضان بالدمع عالقتين بمكاننا من القطار، وخلال تلك الضلوع قلباً يخفق شوقاً ويسيل دمعاً، ووراء هذه الوقفة الساكنة الهادئة ناراً تضطرم في الجوف وزلزالاً شديداً يدك نفسها دكاً
…
وصفر القطار الذي يحملنا إلى مصر، فازداد القلب خفقاناً واضطراباً، ثم قذف إلى الجو بدخانه كأنما هو حي قد أخذ بموقف الوداع، فزفر زفرة الحزن الدفين والألم الحبيس، ثم هدر وسار
وراحت المحطة تبتعد عنا وعيني عالقة بيد تلك المرأة التي تلوح لي بمنديل أبيض، حتى غاب عني كل شيء.
هناك تلفتُّ فرأيتني وحيداً، ورأيت القطار يجدّ لينأى بي عن أهلي وبلدي، فهممت بإلقاء نفسي من نافذة القطار
…
لولا أن تعلقت بي أختي التي كانت على صغرها أكبر مني، وعلى أنوثتها أقوى وأجلد!
أردت أن ألقي بنفسي لأني لم أكن أتخيل أن في استطاعتي الحياة يوماً واحداً بعيداً عن أمي، التي كان تعلقها بنا وتعلقنا بها لا يشبه ما نرى من الأمهات والأبناء، وكان
…
آه، ماذا تفيد «كان» ، وقد كان ما كان؟
تلك هي أمي التي مرَّ على «غيابها» عني سنوات طوال، ولكني أحسُّ كأن الحادثة كانت أمس، فتحز في نفسي ولا أطيق أن أكتب عنها حرفاً.
تلك هي أمي التي كانت لي أماً وأباً بعد أبي رحمهما الله، وكانت حبيبة، وكانت أستاذة، وكانت دنياي، وكانت آخرتي
…
وكانت أمي.
تلك هي أمي التي فوجئتْ كما تُفاجَأ الشجرة الغضة الفينانة في ربيعها الزاهر، حين تعصف بها العاصفة فتدعها جذعاً مقطوعاً جافاً.
تلك هي أمي التي ما نسيتها -علِمَ الله- أبداً، ولم أذكرها أبداً! إنها تملأ نفسي ولكني لا أجري ذكرها على لساني. أراها
في أحلامي حية فأشعر كأني عدت حياً وأهم بعناقها، وأفتح عيني فأجد على وجهي حَرّ لطمة الدهر الساخر، ولكني أحمل اللطمة وأغضي على القذى، ولا أخبر إخوتي بشيء لئلا أذكّرهم ما هم ناسون أو أجدّد لهم بالمصيبة عهداً، فأهمل ذكرى أمي ويهملونه
…
ولعلّ كل واحد منهم يحسُّ مثلما أحس ويكتم مثلما أكتم!
ذكرت ذلك ساعة الوداع لأني كنت متألماً، وليس لآلامي كلها إلاّ معنى واحد هو أني أذكر وفاة أمي، ذلك هو الألم عندي لا ألم سواه.
فلما صحوت نظرت في وجوه المودّعين فلمحت وجه أمي مرة ثانية، ولكني لمحته حياً ماثلاً في وجوه إخوتي الأحباء. فودّعته بدمعة من العين وابتسامة على الفم وإشارة بالكف، ثم سارت بنا السيارة تطوي الأرض وتستقبل الصحراء
…
ذلك هو الموقف الأول!
* * *
أما الموقف الثاني فقد كان على شطّ دجلة في الهزيع الأول من الليل، وكانت محطة بغداد الغربية زاخرة بعشرات من خير شباب بغداد وزهرة فتيانها، تركوا دروسهم وامتحانهم القريب وخرجوا من دورهم في هذا الليل ليودّعوا صديقاً أحبهم وأحبوه وأخلصوا له الحب وأخلص لهم
…
ذلك الصديق هو أنا، وأولئك هم تلاميذي، بل إخوتي، جاؤوا يودّعونني لا قياماً بواجب رسمي
ولا رغبة في ثواب ولا رهبة من عقاب، ولكن وفاء وحباً. والحب أجمل ما في الوجود والوفاء أقدس ما فيه بعد الإيمان
…
وكنت مستنداً إلى نافذة القطار الذي سيحملني إلى البصرة، أصغي إلى خطبهم وأشعارهم التي صبوا فيها عواطفهم وكتبوها بمداد قلوبهم، أتأمل فلا أرى -والله- إلا بردى ودمشق وإخوتي.
وغبت عني في شبه ذهول، فما انتبهت إلاّ وأنا وحيد في القطار. أضم إلى قلبي هذه الهدية التي قدمها إليَّ تلاميذي. وأطللت من النافذة فلم أجد إلاّ الظلام
…
* * *
لما دخلت عليهم الصف أول مرة كنت مشتاقاً إلى بلدي كارهاً لغربتي متألماً ملتاعاً، فلم أرَ في الصف إلاّ عيوناً جامدة وقلوباً معرضة وأفواهاً مغلقة، وكانوا عندي من العدم لأنه لم يكن لهم في ذاكرتي وجود. ولكن لم ألبث أن وضعت بين أيديهم قلبي فأحببتهم كما يحب الأخ أخاه (أحبهم في مجموعهم لا أحب واحداً منهم
…
)، وأخلص لهم، وأحرص على رضاهم، وأحس الفرح يغمر نفسي إذا قدمت لواحد منهم خيراً أو درأت عنه شراً، ويتصدع فؤادي إن وجدت أحدهم متألماً، فلا أني (1) أخفف ألمه وأدفع عنه حزنه، وكنت أعيش بهم ولهم ومعهم.
ووضعت بين أيديهم رأسي أطلعهم على كل ما اختزنته فيه هذه السنين الطوال؛ أستغل أضعف المناسبات لأطلعهم على
(1) من وَنَى يَنِي.
جمال الأدب العربي، وعظمة التراث الإسلامي، وقيمة التفكير الحديث، واتجاه النقد الجديد. وأعلّمهم الاستقلال الفكري، وأحفزهم إلى المناقشة، ولا أستغل في إقناعهم سلطة المدرّس لأن ذلك ضعف، ولكن أستعملُ قوةَ المُحقِّ ولَسْنَ الجَدِل النظّار (1). وأعترف لهم بالحق إذا ظهر على لسانهم، وأقر بأني لا أدري ما لا أكون أدريه
…
وأبعث فيهم ملكاتهم المهمَلة، وأشجعهم على الإنتاج والنشر.
وكان زملاؤنا من المدرّسين يحذرونني عواقب هذه الطريقة لأن الطلاب (في رأيهم) لا يقدّرون قيمة الحرية واللطف ويحسبونها عجزاً وضعفاً ويتخذونها سبيلاً إلى الشغب، ولكني وجدتهم يقدرون قيمتها ويحترمون المدرس العادل العالِم اللطيف أكثر مما يحترمون المدرس الجبار العنيف، ووجدت هذه الطريقة قد أجدت جَدىً كبيراً، فأقبل الطلاب على الأدب وقد كانوا عنه منصرفين، وصار أحبَّ الدروس إليهم وقد كانوا يكرهونه، ونشأ فيهم كتّاب وشعراء ونقّاد يؤمل منهم بعث الحياة الأدبية في العراق في بضع سنين.
وضعت بين أيديهم رأسي وقلبي، فلما أثمرت الثمرة، ولما تحركت هذه العيون بالإخلاص وأقبلت هذه القلوب بالحب وتفتحت هذه الأفواه عن أجمل أحاديث العلم والأدب والود
…
ولما مُحيت تلك الفروق كلها وزال التكلف بين المدرس
(1) النظّار هو الشديد النظر، والجَدِل الذي يحسن المجادلة، أما اللَّسْن فمن قولهم: لَسَنَ فلانٌ فلاناً إذا غلبه في الملاسنة وكان أجود منه لساناً (مجاهد).
والطلاب، ولم يبق إلاّ إخوة يعيش الواحد منهم للجميع ويعمل الجميع للواحد
…
جاء الأمر بنقلي إلى البصرة!
* * *
وها أنذا الآن في البصرة في هذه الغرفة الصغيرة، أذكر مجالسنا على شاطئ دجلة فيخفق قلبي خفقاناً شديداً، وأتمثل أمامي صورة أخي الشاعر وهو ينشدنا أعذب أشعاره التي تشبه في رقتها نسيم الماء الرخيّ اللين، وفي انسيابها دجلةَ التي خلع عليها الغروب ثوباً منسوجاً من خيوط النور فيه مئة لون
…
وأذكر «ليلة المطر» ؛ ليلة جلسنا في هذه الحديقة التي تنبسط وراء المطار المدني في بغداد وأمامنا الفضاء الذي يمتد إلى
…
دمشق، لا يحجبه شيء، وكان مصباح المطار الأحمر القوي يريق ضوءه على الحديقة ومَن فيها فيجعلها كأنها بقعة من عالم مسحور، لا يشبهه شيء، ولكنه جميل أخّاذ يملأ النفس نشوة وسكراً، وكانت الطبيعة تبدو أمامنا كأنها لوحة خَطّتها ريشة أبرع المصورين، فهذه الحمرة العجيبة، وزرقة السماء الصافية، وسواد الليل عند الأفق، والنساء بثيابهن الملونة المبرقشة، والنادلون بقُمُصهم البيض، يمشون على الحشائش لا يسمع لهم صوت، يتكلمون همساً
…
وكان النسيم رخيّاً ناعشاً، تميل منه الأزهار فتفوح من أثوابها رائحة العطر فتطفو على هذا النسيم، والأضواء البعيدة كأنها تائهة في الظلام فهي ترتجف من الخوف، وقد جمعت الطبيعة في تلك الليلة سحرها كله: صفاء السماء، وسكون الليل، والربيع الذي
زخرف هذه الحديقة ورصعها بالورد والزهر ووضع فيها خلاصة فنه ونِتاج عبقريته.
وكان كل شيء عاشقاً قد سكر بخمرة الجمال وراح يحلم؛ فالصحراء الواسعة قد سكرت وتغلغلت في الظلام منفردة تحلم بالظل والماء، والسهول المجاورة راحت تحلم بربيع دائم، وعاد الأمس حياً حالماً بالخلود، وأطلّ الغد نَشوان يحلم بليلة مثل هذه الليلة.
وكنت أحلم
…
فما راعني وهبط بي من سماء أحلامي إلاّ ضحكة عذبة رقيقة كأنها رنين الذهب، لم أسمعها بأذني ولكني رأيتها بعيني تتدحرج طافية على وجه النسيم الأحمر حتى غاصت في الظلام الساكن، وعاد الصمت
…
وكانت ضحكة عاشقين قد نسيا الوجود وما فيه وغابا في حلم حي يقظان! فهاج ذلك صديقي الشاعر، فانحنى عليّ وألقى في أذني إحدى أغانيه (الجديدة):
زرعت روض شفتي بالقبل فأزهر وأينع، ولكن لم يقطفه أحد فذوى وجف.
وأعددت سرير الحب في قلبي وضمّخته بالعطر، ولكن لم يهجع عليه أحد فعلاه الغبار.
كأن الناس لمّا خُلقوا قُسموا أنصافاً، ثم نثروا في الحياة، فمن وجد نصفه صار إنساناً، ومن وجد غيره كان مسخاً، ومن لم يجد بقي نصف إنسان.
فأين أنت يا نصفي الآخر؟
لقد ضاع النصف الذي فيه قلبي، فمَن هي التي يخفق قلبي في صدرها؟
من هي التي تنظر بعيني، وتسمع بأذني؟
من هي التي لم أرَها أبداً، ولا أرى غيرها أبداً؟
شعرت بأن أغاني الشاعر قد سَمَتْ بي إلى عالَم كله خير وجمال، وشعرت بنشوة عجيبة، وعلمت أن ما أنا فيه غاية السعادة ونهاية السمو، وإذا أنا أسمع نغمة موسيقية فاتنة عادت تسمو بي، حتى رأيت ما كنت فيه أرضاً وهذي سماء، فذكرت كلمة فاجنر:«تبدأ الموسيقى حيث ينتهي الشعر» .
واختلط علينا الجمال، فصار طاقة واحدة قد اجتمع فيها همس الحب وألحان الموسيقى بعبق الزهر، وأريج العطر بخيوط الأشعة وروعة الألوان، فصرنا نسمع ما يُرى، ونشم ما يُسمع، وصارت الحواس كلها حاسة واحدة
…
هي حاسة الجمال!
* * *
وها أنذا أذكر مئات من الذكريات، وأتمثل طلابي كلهم أمامي حتى إني لأمدُّ يدي أصافحهم فلا تقبض يدي إلاّ الهواء، فأرتدّ مذعوراً وأجلس يائساً. لقد غدا هؤلاء الفتيان جزءاً مني لأنهم عاشوا في نفسي ذكريات كما عشت في نفوسهم ذكرى، فنحن مجتمعون ولو نأت بنا الديار!
وها أنذا آلفُ هذا البلد الذي كرهته واجتويته، وأصبر على شظف العيش فيه من أجل هؤلاء الطلاب الذين أحبوني
هم أيضاً، وأحببتهم وتعلقوا بي، فلا يأتون المدرسة إلاّ لسماع درسي، فإن لم يكن لي درس أقاموا في بيوتهم يجِدُّون ويستعدون للامتحان، ولا يدّخرون وسعاً في إسداء يد إليّ أو دفع الألم عني
…
ويحرصون على راحتي أكثر من حرصهم على نجاحهم في امتحانهم، ويفضلون كلمة مني على كلمة يقولها القانون.
أصبر من أجل هؤلاء الذين أغرس الآن حبهم في قلبي لأنتزعه منه غداً وأدعه جريحاً
…
أفهذه حياة المعلم؟ ماذا يبقى من قلبٍ في كل مدرسة منه قطعة؟
هنيئاً لمعلم ليس له قلب
…
ويا ويل المعلم إذا كان إنساناً!
* * *