الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني
تخصيص العام
في البداية نُعرّف كلا من التخصيص، والعام، فنقول:
العام: "كلامٌ مستغرقٌ لجميع ما يصلح له "(1).
التّخصيص: "إخراج بعض ما كان داخلًا تحت العموم"(2).
وتخصيص العام: "بيان ما لم يرد بلفظ العام"(3).
تخصيص العام في البيان المتَّصل:
أن تكون الجملة من الآية تدل على حكم، أو معنى عام يدخل تحته جميع أفراده، فيأتي بعدها، متَّصلا بها في الآية نفسها، أو ما يليها ما يبيّن تخصيص ذلك المعنى أو الحكم بأفرادٍ معينين، وذلك باستخدام أحد المخصّصات المناسبة.
أنواع المخصِّص المتَّصل في القرآن الكريم (4):
الأول: التخصيص بالاستثناء (5):
"هو إخراج بعض الجملة من الجملة بلفظ (إلا)، أو ما أقيم مقامه"(6).
ومنه قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} (7).
(1) المعتمد (1/ 189).
(2)
إرشاد الفحول (1/ 352)، للاستزادة يُنظر: الورقات، للجويني (ص: 16).
(3)
البحر المحيط في أصول الفقه، للزركشي (4/ 325).
(4)
يُنظر: الورقات (ص: 16)، المحصول (3/ 25، وما بعدها)، الإتقان في علوم القرآن (3/ 52).
(5)
يُنظر: الورقات (ص: 16)، الإتقان في علوم القرآن (3/ 52).
(6)
المحصول (3/ 27)، للاستزادة: يُنظر: الإحكام في أصول الأحكام، لابن حزم (4/ 10).
(7)
سورة العصر: 1 - 3.
فالمبيَّن: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} .
والبيان المتَّصل: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} .
المعنى الإجمالي للبيان المتَّصل:
"يقول تعالى: إن ابن آدم لفي هلَكةٍ ونقصانٍ، إلا الذين صدّقوا الله ووحَّدوه، وأقرّوا له بالوحدانية والطاعة، وعملوا الصالحات، وأدّوا ما لزمهم من فرائضه، واجتنبوا ما نهاهم عنه من معاصيه، وأوصى بعضهم بعضا بلزوم العمل بما أنزل الله في كتابه، من أمره، واجتناب ما نهى عنه فيه، وبالصبر على العمل بطاعة الله"(1).
الثاني: التَّخصيص بالوصف:
والمراد الصفة المعنوية، لا مجرد النّعت (2) المذكور في علم النحو (3).
قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)} (4).
المبيّن: المصلّين.
البيان المتَّصل: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)} (5).
المعنى الإجمالي للبيان المتَّصل:
ذكرت الآيات أن الوعيد الشديد جعله الله تعالى لصنفٍ من المصلّين ذكر صفتهم
(1) جامع البيان (24/ 589، 590).
(2)
النعت: تابع للمنعوت في رفعه، ونصبه، وخفضه، وتعريفه، وتنكيره، مكمل متبوعه ببيان صفة من صفاته. ينظر: الآجرومية (ص: 14)، شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك (3/ 191).
(3)
إرشاد الفحول (1/ 377).
(4)
سورة الماعون: 4 - 7.
(5)
سورة الماعون: 5 - 7.
في الآية التالية، وهم الذين يصلّون، لا يريدون الله عز وجل بصلاتهم، وهم في صلاتهم لاهون يتغافلون عنها، بتضييعها أحيانًا، وتضييع وقتها أخرى، وهم يراءون الناس بصلاتهم إذا صلّوا، لأنهم لا يصلّون رغبة في ثوابٍ، ولا رهبةً من عقاب، وإنما يصلونها ليراهم المؤمنون فيظنونهم منهم، فيكفون عن سفك دمائهم وسبي ذراريهم، وهم المنافقون الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يستبطنون الكفر ويُظهرون الإسلام.
ومن صفتهم أنهم يمنعون الناس ما يتعاونونه بينهم، ويمنعون أهل الحاجة والمسكنة ما أوجب الله لهم في أموالهم من الحقوق؛ لأن كل ذلك من المنافع التي ينتفع بها الناس بعضهم من بعض (1).
الثالث: التّخصيص بالشرط:
ويقصد به الشرط اللُّغوي وهو: ما دخل عليه أحد الحرفين: "إنْ" أو "إذا" أو ما يقوم مقامهما، مما يدل على سببية الأول، ومسببية الثاني (2).
المبيَّن: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} .
البيان المتَّصل: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} .
(1) جامع البيان (24/ 630 - 642) باختصار، وتصرف يسير.
(2)
إرشاد الفحول (2/ 43).
"والشرط يكون على أنواع، فقد يكون شرعيا، وقد يكون عقليا، وقد يكون لغويا .. "، للاستزادة يُنظر: الإبهاج في شرح المنهاج، للسبكي (2/ 158).
(3)
سورة النور: 2.
المعنى الإجمالي للبيان المتَّصل:
بعد أن أمرنا الله بإقامة حدّ الجلد على الزانية والزاني، نهى عن أن تحملنا الشفقة عليهما على ترك الحد، وفيه أن المؤمن لا تأخذه الرأفة إذا جاء أمر الله، فقد قال:{إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} .
وقيل هو من باب التهييج، والتهاب التغضب لله تعالى ولدينه، ومعناه: إن كنتم تؤمنون فلا تتركوا إقامة الحدود، فإن الإيمان بهما يقتضي الجدّ في طاعته تعالى والاجتهاد في إجراء أحكامه.
وذكر اليوم الآخر لتذكير ما فيه من العقاب في مقابلة المسامحة (1).
قال السعدي (2): "نهانا تعالى أن تأخذنا رأفةٌ بهما في دين الله، تمنعنا من إقامة الحدّ عليهم، سواء رأفةٌ طبيعيةٌ، أو لأجل قرابةٍ أو صداقةٍ أو غير ذلك، وأن الإيمان موجبٌ لانتفاء هذه الرأفة المانعة من إقامة أمر الله، فرحمته حقيقةً بإقامة حدّ الله عليه، فنحن وإن رحمناه لجريان القدر عليه، فلا نرحمه من هذا الجانب"(3).
الرابع: التّخصيص بالغاية:
الغاية: "هي نهاية الشيء المقتضية لثبوت الحكم قبلها، وانتفائه بعدها"(4).
(1) يُنظر: تفسير السمرقندي (2/ 495)، ولباب التأويل في معاني التنزيل، للخازن (3/ 279)، وإرشاد العقل السليم (6/ 156).
(2)
هو عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله بن سعدي، ولد سنة 1307 هـ، كان عالما مفسرا فقيها، من علماء الحنابلة، من مؤلفاته: تيسير الكريم الرحمن"، و"القواعد الحسان"، تتلمذ على يديه الكثير من المشايخ، منهم الشيخ محمد بن عثيمين، وتوفي سنة 1376 هـ، يُنظر: الأعلام (3/ 340)، وعلماء نجد خلال ثمانية قرون، للبسام (3/ 219).
(3)
تيسير الكريم الرحمن (ص: 561).
(4)
إرشاد الفحول (1/ 378)، للاستزادة، يُنظر: الإبهاج في شرح المنهاج (2/ 160)، وما بعدها، البحر المحيط في أصول الفقه (5/ 178).
ولها لفظان، وهما:"حتى" و"إلى"(1).
قال الرازي: "التقييد بالغاية يقتضي أن يكون الحكم فيما وراء الغاية بالخلاف".
المبيَّن: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} . البيان المتَّصل: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)} .
المعنى الإجمالي للبيان المتَّصل:
أي قاتلوا الذين لا يصدّقون بتوحيد الله، ولا بالبعث بعد الموت، ولا يُحرّمون ما حرّم الله ورسوله في التوراة والإنجيل والقرآن، ولا يخضعون لدين الحق، ولا يقرُّون بشهادة لا إله إلا الله.
وكان أهل الكتاب يقرُّون بالله، ولكنّهم لا يقرّون بما أعلم الله تعالى، فليسوا يدينون بدين الحق، يعني: دين الإسلام، فأمر الله تعالى بقتلهم إلا أن يعطوا الجزية عن قهرٍ وذلٍ، أو عن إنعامٍ عليهم بذلك، لأن قبول الجزية وترك أنفسهم يدٌ ونعمة عليهم، وإن لم يفُوا ولم يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، يقاتلون حتى يسلموا (3).
(1) إرشاد الفحول (1/ 378)، للاستزادة، يُنظر: الإبهاج في شرح المنهاج (2/ 160)، وما بعدها، البحر المحيط في أصول الفقه (5/ 178).
(2)
سورة التوبة: 29.
(3)
يُنظر: معاني القرآن وإعرابه (2/ 442)، وتفسير السمرقندي (2/ 51، 52)، وتيسير الكريم الرحمن (ص: 334).
"قتال الكفار على ثلاثة أنواع: في وجه: يقاتلون حتى يسلموا ولا يقبل منهم إلا الإسلام، وهم مشركو العرب والمرتدون من الأعراب أو من غيرهم. وفي وجه: يقاتلون حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، وهم اليهود والنصارى والمجوس. فأما اليهود والنصارى فبهذه الآية، وأما المجوس فبالخبر، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الكِتَابِ» وفي الوجه الثالث: اختلفوا فيه، وهم المشركون من غير العرب وغير أهل الكتاب، مثل الترك والهند ونحو ذلك، في قول الشافعي: لا يجوز أخذ الجزية منهم، وفي قول أبي حنيفة وأصحابه: يجوز أخذ الجزية منهم، كما يجوز من المجوس، لأنهم من غير العرب". يُنظر: تفسير السمرقندي (2/ 52).
قال الشّوكاني: "إن قوله: {قاتلوا} أمرٌ بالعقوبة، ثم قال: {الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}، فبيّن الذنب الذي توجبه العقوبة، ثم قال: {وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ}، فأكّد الذنب في جانب الاعتقاد، ثم قال: {وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ}، فيه زيادةٌ للذنب في مخالفة الأعمال، ثم قال: {وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ}، فيه إشارةٌ إلى تأكيد المعصية بالانحراف والمعاندة والأَنَفة عن الاستسلام، ثم قال: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} تأكيدًا للحجة عليهم لأنهم كانوا يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل، ثم قال: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ}، فبيّن الغاية التي تمتد إليها العقوبة"(1).
قال السعدي رحمه الله: " أمَره بقتال هؤلاء وحث على ذلك، لأنّهم يدعون إلى ما هم عليه، ويحصل الضرر الكثير منهم للناس، بسبب أنهم أهل كتاب، وغيّ (2) ذلك القتال {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} أي: المال الذي يكون جزاءً لترك المسلمين قتالهم، وإقامتهم آمنين على أنفسهم وأموالهم، بين أظهر المسلمين، يؤخذ منهم كل عام، كل على حسب حاله، من غنيٍ وفقيرٍ ومتوسطٍ، كما فعل ذلك أمير المؤمنين عمر بن
(1) فتح القدير (2/ 400)، نقلا عن أبي الوفاء بن عقيل.
(2)
الغَايَةُ: مَدَى الشَّيْءِ، والمعنى: جعل له غاية. لسان العرب (15/ 143).
الخطاب وغيره، من أمراء المؤمنين" (1).
الخامس: التَّخصيص ببدل البعض من الكل (2):
البدل تابعٌ مقصودٌ بالحكم بلا واسطة، وضابطه: أن يكون البدل جزءًا
حقيقيًا من المبدل منه، وأن يصح الاستغناء عنه بالمبدل منه؛ فلا يفسد المعنى
بحذفه (3).
نحو قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (4).
فالمبيَّن: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} .
والبيان المتَّصل: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} .
المعنى الإجمالي للبيان المتَّصل:
بيَّنت الآية فرض وجوب الحج على المكلفين، ثم بيّنت وخصّصت صنفًا من الناس، ولا بيان في ذلك أبين مما بينه الله عز وجل حيث قال بعدها:{مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} ، فيكون الفرض في ذلك على قدر الطاقة، بأن يكون مستطيعًا إليه السبيل، فمن كان واجدًا طريقًا إلى الحج لا مانع له منه من زمانةٍ (5)، أو عجزٍ، أو عدوٍ، أو قلة ماء في
(1) تيسير الكريم الرحمن (ص: 334).
(2)
الإتقان في علوم القرآن (3/ 53)، وفي جعل بدل البعض من كل تخصيصا خلاف بين العلماء، وأنكره بعضهم؛ لأن المبدل كالمطروح، فلم يتحقق فيه معنى الإخراج، والتخصيص لا بد فيه من الإخراج، للاستزادة، يُنظر: شرح الكافية الشافية، لابن مالك الجياني (3/ 1192)، والتقرير والتحبير على تحرير الكمال بن الهمام، لابن أمير حاج (1/ 252)، والبحر المحيط (4/ 466).
(3)
يُنظر: شرح قطر الندى وبل الصدى، لابن هشام (ص: 308، 309)، النحو الوافي، لعباس حسن (3/ 667). للاستزادة يُنظر: الكافية في علم النحو، لابن الحاجب (ص: 31).
(4)
سورة آل عمران: 97.
(5)
(زَمَانة): عُدْمُ بعض أَعْضَائِهِ أَو تَعْطِيل قواه؛ لوجود عاهة، أو نحوها. يُنظر: جمهرة اللغة (2/ 828)، والمخصص، لابن سيدة (1/ 471).
طريقه أو زادٍ، أو ضعفٍ عن المشي، فعليه فرض الحج، لا يجزيه إلا أداؤه، فإن لم يكن مطيقًا الحج بتعذُّر بعض هذه المعاني التي وصفناها عليه، فهو ممن لا يجد إليه طريقًا ولا يستطيعه. (1)
(1) جامع البيان (6/ 37، 43، 45) بتصرف يسير، واختصار.