الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول
مخالفة طرق التفسير المعتمدة
وطرق التفسير المعتمدة هي القرآن الكريم والسُّنّة المطهرة، وأقوال السلف.
قال ابن تيمية: " فإن قال قائل: فما أحسن طرق التفسير؟ ، فالجواب:
إن أصحّ الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن، فما أُجْمِلَ في مكان فإنه قد فُسِّرَ في موضع آخر، وما اخْتُصِر من مكان فقد بُسِطَ في موضعٍ آخر، فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة، فإنها شارحةٌ للقرآن وموضحةٌ له .. " (1)، ثم قال: "وحينئذٍ، إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السُّنّة رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرائن، والأحوال التي اختُصوا بها، ولما لهم من الفهم التام، والعلم الصحيح، والعمل الصالح" (2)، ثم قال: " إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السُّنّة، ولا وجدته عن الصحابة، فقد رجع كثيرٌ من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين
…
" (3).
فتلك هي الطرق التي سار عليها السلف في تفسير القرآن الكريم، فمن سلك سبيلهم فقد سلك المنهج الصحيح، ومن خالفهم وخرج عن منهجهم؛ حاد عن الجادّة.
وتتمثل المخالفة في أمور من أبرزها:
الأول: أن تُفسَّر آيات القرآن الكريم بما كان مخالفًا لأصول الدين والعقيدة الصحيحة الثابتة بالقرآن والسُّنّة وإجماع السلف؛ فكل معنىً يخالف الكتاب والسنة فهو باطلٌ وحجته داحضة.
(1) مقدمة في أصول التفسير (ص: 39).
(2)
المرجع السابق (ص: 40).
(3)
المرجع السابق (ص: 44).
قال ابن تيمية: "والتّمسك بالأقيسة مع الإعراض عن النصوص والآثار طريق أهل البدع؛ ولهذا كان كل قول ابتدعه هؤلاء قولًا فاسدًا، وإنما الصواب من أقوالهم ما وافقوا فيه السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان .. "(1).
ويتّضح ذلك من خلال النّظر في بعض كتب التفسير المنحرفة عن منهج أهل السنة والجماعة، وسنأتي على تفصيله في السبب الثاني من أسباب الخطأ.
الثاني: أن يعدل المفسر عن التفسير بالمأثور الثابت بالنصوص الصريحة الصحيحة في الكتاب والسنة، ويعمد إلى غيره، وهذا من أبرز الأسباب المؤدية للخطأ في التفسير، فالتفسير بالمأثور مقدمٌ على الرأي، ولا يمكن أن يُعارض به، ولا يجوز العدول إلى الرأي والاجتهاد في إيجاد حكمٍ أو تفسيرٍ نص الشارع عليه، فالنّص مقدمٌ، والاجتهاد ساقطٌ (2).
قال القاسمي (3): "وأولى الأقوال: ما دلّ عليه الكتاب في موضع آخر، أو السنة، أو إجماع الأمة، أو سياق الكلام .. "(4).
الثالث: تقديم اللغة على أصول التفسير الأخرى، تقديم اللغة على أصول التفسير الأخرى فإذا عرف تفسيرها وما أريد منها من الكتاب أو السنة أو أقوال السلف، لم يحتج في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة ولا غيرهم (5).
(1) الإيمان، لابن تيمية (ص: 307).
(2)
يُنظر: مناهل العرفان (2/ 64).
(3)
هو جمال الدين (أو محمد جمال الدين) بن محمد سعيد بن قاسم الحلاق، إمام الشام في عصره، كان عالما بالدين، متضلعا من فنون الأدب، سلفي العقيدة، ولد سنة 1283 هـ، اتهم بتأسيس مذهب جديد في الدين، لكنه نفى ذلك عن نفسه، من مؤلفاته:"محاسن التأويل"، و" الفتوى في الإسلام"، توفي سنة 1332 هـ. يُنظر: الأعلام (2/ 135)، ومعجم المفسرين (1/ 127).
(4)
محاسن التأويل، للقاسمي (1/ 163).
(5)
يُنظر: مجموع الفتاوى (7/ 286).
ونرجئ التفصيل فيه إلى الفقرة الثالثة من أسباب الخطأ.
نماذج من الخطأ بسبب مخالفة طرق التفسير المعتمدة:
النموذج الأول:
ومن أمثلة المخالفة للعقيدة الصحيحة الثابتة بالكتاب والسنة، ما جاء في تفسير قوله تعالى:{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)} (1).
قال الواحدي (2): " (فَوْقَ) يستعمل في كل ما يستحق أن يوصف بأفعل، ولا يراد به المكان العالي، كما يقال: هو فوقه في القدرة، أي: أقدر منه، وهو فوقه في العلم، أي: أعلم منه، وهو فوقه في الجود، أي: أجود، يُعبَّر عن تلك الزيادة بهذه العبارة للبيان عنها"(3).
ثم أورد معنيين للعلماء في تفسير هذه الآية:
"أحدهما: أن الآية من باب حذف المضاف، على تقدير: " يخافون عقاب ربهم من فوقهم"؛ لأن أكثر ما يأتي العقاب المهلك من فوق، سيّمَا والآية في صفة الملائكة.
والآخر: أن الله تعالى لما كان موصوفًا بأنه عليٌّ ومتعالٍ علو الرتبة في القدرة حَسُن أن يقال: {مِنْ فَوْقِهِمْ} ليدل على أنه في أعلى مراتب القادرين" (4).
أقول: وكلا القولين باطلٌ؛ لما فيهما من التعطيل (5) والتأويل، فالأول: تعطيلٌ
(1) سورة النحل: 50.
(2)
هو أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي النّيسابوري، أوحد عصره في التفسير، عالم بالأدب، من مصنفاته:"البسيط"، و"الوجيز"، و"الوسيط" في التفسير، و"أسباب النزول"، توفي سنة 468 هـ. يُنظر: طبقات المفسرين، للسيوطي (1/ 78)، وطبقات المفسرين، للداوودي (1/ 394).
(3)
التفسير البسيط، للواحدي (8/ 195).
(4)
المرجع السابق (13/ 82).
(5)
التعطيل: هو إنكار ما يجب لله تعالى من الأسماء والصفات، أو إنكار بعضه، وهو نوعان: تعطيل كلي: كتعطيل الجهمية الذين أنكروا الصفات، وغلاتهم ينكرون الأسماء أيضاً.
وتعطيل جزئي: كتعطيل الأشعرية الذين ينكرون بعض الصفات دون بعض، وأول من عرف بالتعطيل من هذه الأمة الجعد بن درهم. ينظر: مصطلحات في كتب العقائد (ص: 9).
لصفة الفوقية.
والثاني: تأويلٌ لظاهر النّص من فوقية العلوّ إلى فوقية القدرة والعظمة، والقولان خلاف مذهب أهل السُّنّة والجماعة.
الشاهد: خطأ المؤولة في صرف معنى الفوقية في قوله: {مِنْ فَوْقِهِمْ} إلى فوقية القهر والقدرة دون العلوّ في الذات.
والصحيح أن قوله: {رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} ، فيه تقريرٌ لصفة العلوّ لله عز وجل على خلقه، وتشمل علوّ الذات والقدر، وذلك وفقًا لما جاء في الكتاب والسُّنّة الصحيحة، ومن ذلك قوله تعالى:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17)} (1).
وقوله صلى الله عليه وسلم للجارية: (أَيْنَ اللهُ؟ )، قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. قَالَ: (مَنْ أَنَا؟ )، قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ. قَالَ: (أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ)(2)، وغير ذلك من الأدلة التي تثبت صفة العلوّ والفوقية لله عز وجل (3).
قال السعدي رحمه الله عند قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} :
" لما مدحهم بكثرة الطاعة والخضوع لله، مدحهم بالخوف من الله الذي هو فوقهم
(1) سورة الملك: 16 - 17.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة، ونسخ ما كان من إباحته (1/ 381)، رقم الحديث: ] 537 [، من حديث معاوية بن الحكم السلمي.
(3)
للاستزادة يُنظر: إثبات صفة العلو، لابن قدامة (ص: 186)، والفتاوى الكبرى لابن تيمية (4/ 450)، واجتماع الجيوش الإسلامية، لابن القيم (2/ 156).
بالذّات والقهر، وكمال الأوصاف
…
" (1).
وقد استدل العلماء بقوله: ({رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ}، على ثبوت الفوقية والعلوّ لله تعالى، بلا تشبيهٍ ولا تمثيل (2).
النموذج الثاني:
ومن أمثلة مخالفة طرق التفسير المعتمدة، ما جاء في تفسير قوله تعالى:
قال الزّمخشري عند قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} : "فمنكم آت بالكفر وفاعل له"(4).
الشاهد: تأويل الزّمخشري الآية بمذهب المعتزلة، الذي يقضي بأن العبد هو الخالق لفعله، وهذا منافٍ للطرق المعتمدة في التفسير، ومخالفٌ لما عليه أهل السُّنّة والجماعة، من أن الله خالق أفعال العباد (5).
والصحيح في تفسير الآية ما جاء عن الطبري، يقول:" {فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ}، فمنكم كافرٌ بخالقه وأنه خلقه، {وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ}، يقول: ومنكم مصدِّقٌ به موقنٌ أنه خالقه أو بارؤه"(6).
(1) تيسير الكريم الرحمن (ص: 442).
(2)
يُنظر: محاسن التأويل (6/ 377).
(3)
سورة التغابن: 2.
(4)
الكشاف (4/ 545).
(5)
للاستزادة، يُنظر: شرح العقيدة الواسطية للعثيمين (2/ 219)، والمسائل الاعتزالية في تفسير الزمخشري، لصالح بن غرم الله الغامدي (ص: 1004).
(6)
جامع البيان (23/ 416).
وقيل: "إن تمام الكلام عند قوله ̧: {خَلَقَكُمْ} ، ثم وصفهم، فقال ̧:{فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ}
…
" زاد المسير في علم التفسير (4/ 292).
وقد أورد المفسرون بعض الأحاديث التي تُعضِّد هذا التفسير، ومنها:
قوله ‘: " إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، فَوَ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَدْخُلُهَا"(1).
وقوله ‘: "خَلَقَ اللهُ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا فِي بَطْنِ أُمِّهِ مُؤْمِنًا، وَخَلَقَ فِرْعَوْنَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ كَافِرًا"(2).
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم صلوات الله عليه وذريته، (4/ 133)، رقم الحديث] 3332 [، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته، (4/ 2036)، رقم الحديث: ] 2643 [، من حديث ابن مسعود.
(2)
أخرجه الطبراني في معجمه الكبير (10/ 224)، رقم الحديث: ] 10543 [من حديث ابن مسعود.
وقال الألباني: (حسن). صحيح الجامع الصغير وزيادته (1/ 616).