الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول
الانحراف العقدي
ظهرت الانحرافات العقدية في التفسير متزامنةً مع ظهور المذاهب الدّينية المختلفة، ومن ذلك أنهم يعمدون إلى بعض الآيات، فيحملون ما بعدها على أنه بيانٌ لها، وحينًا يقطعون الآية عن لاحقها المرتبط بها بالمعنى، وهم في ذلك كله يتأوّلون الآيات تبعًا لعقائدهم الباطلة، فيطوِّعونها لخدمة مذاهبهم؛ لتكون مستندا لهم في صحة مايدَّعون، ونستعرض في هذا المقام بعضًا من النَّماذج:
النموذج الأول: [نفي الجهمية أن يسمّى الله (شيئا)]
نُقل عن جُهم (2)، ومن تبعه إنكار كونه تعالى (شيئًا)(3)، حيث قالوا:"لا قدرة لله ولا علم ولا حياة ولا إرادة ولا سمع ولا بصر ولا كلام، فقيل لجهم: أتقول: إن الله شيء؟ ، فقال: لا أقول إنه شيء؛ لأن معنى شيء معنى مُحدث مخلوق، ومعنى مخلوق، معنى شيء"(4).
(1) سورة الأنعام: 19.
(2)
هو جهم بن صفوان، أبو محرز الراسبي مولاهم، السمرقندي الكاتب المتكلم، أس الضلالة ورأس الجهمية، كان صاحب ذكاء وجدال ومراء، ينكر الصفات، ويقول: بخلق القرآن، وبأن الله في الأمكنة كلها، وغير ذلك، توفي سنة 128 هـ يُنظر: سير أعلام النبلاء (6/ 204)، والوافي بالوفيات، للصفدي (11/ 160).
(3)
مفاتيح الغيب (12/ 497).
(4)
الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار، لابن سالم العمراني (1/ 246)، وللرد عليهم، يُنظر:(ص: 246، 247)، للاستزادة: يُنظر: الإشارات الإلهية إلى المباحث الأصولية، للطوفي (2/ 149، 150).
وحملوا قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} ، على أنه كلامٌ مستقلٌ بنفسه، ولا تعلُّق له بما قبله، وحينئذٍ لا يلزم أن يكون الله تعالى مسمىً باسم (الشَّيء)(1).
الشاهد: أن قوله: {قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} تفسيرٌ متصلٌ بما قبله، وهو إجابة الاستفهام في قوله:{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً} ، وقد أخطأ من قال إنها كلامٌ منفصلٌ عمّا قبله؛ لينفوا بذلك أن يسمى الله (شيئًا).
قال القرطبي: "ولفظ (شيء) هنا واقع موقع اسم الله تعالى، والمعنى: "الله أكبر شهادة"، أي انفراده بالربوبية، وقيام البراهين على توحيده أكبر شهادة وأعظم، فهو شهيد بيني وبينكم على أنِّي قد بلَّغتكم، وصَدَقت فيما قلتُه وادعيتُه من الرسالة"(2).
قال البغوي (3): "باب الرد على الجهمية (4): قال الله عز وجل: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، سمّى الله نفسه شيئا، وقال الله عز وجل: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً
(1) الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار (1/ 246).
(2)
الجامع لأحكام القرآن (6/ 399).
(3)
هو أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد المعروف بالفراء البغوي الشافعي، المفسر، كان إماما في الفقه، والحديث، صاحب التصانيف الكثيرة، ومنها: شرح السنة، ومعالم التنزيل، ولقِّب بمحي السنة، توفي سنة 510 هـ. يُنظر: سير أعلام النبلاء (19/ 439)، وطبقات المفسرين للسيوطي (ص: 50).
(4)
الجهمية: هم أصحاب جهم بن صفوان وهو من الجبرية، وافقوا المعتزلة في نفي الصفات الأزلية، وزادوا عليهم بأشياء، منها قولهم: لا يجوز أن يوصف الباري تعالى بصفة يوصف بها خلقه، لأن ذلك يقضي تشبيها، والإيمان لا يتبعض أي لا ينقسم إلى: عقد، وقول، وعمل، ولا يتفاضل أهله فيه، فإيمان الأنبياء، وإيمان الأمة على نمط واحد، وغيرها من البدع والآراء المخالفة لمذهب أهل السنة والجماعة. يُنظر: الملل والنحل (1/ 86)، ورسالة في الرد على الرافضة، للشيخ محمد بن عبد الوهاب (ص: 9، وما بعدها).
قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [سورة الأنعام: 19] " (1).
وقد بوَّب البخاري في صحيحه بابًا فقال: "باب {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ} (2)، فسمَّى الله تعالى نفسه شيئا، وسمَّى النبي صلى الله عليه وسلم القرآن شيئًا، وهو صفةٌ من صفات الله، وقال: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} (3) "(4).
النموذج الثاني: [المعتزلة ينفون عن الله خلق الشر]
في قوله تعالى: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)} (5).
"قرأ بعض المعتزلة (6) القائلين: بأن الله لم يخلق الشر: (من شرٍ ما خلق)، بتنوين
(1) شرح السنة، للبغوي (1/ 172).
(2)
سورة الأنعام: 19.
(3)
سورة القصص: 88.
(4)
صحيح البخاري، باب {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ} ، (9/ 124).
قال ابن بطال: "قال عبد العزيز صاحب كتاب الحيدة: إنما سمى الله نفسه شيئًا إثباتًا للوجود ونفيًا للعدم، وكذلك أجرى على كلامه ما أجراه على نفسه فلم يتسم بالشيء ولم يجعل الشيء من أسمائه، ولكنه دل على نفسه أنه شيء أكبر الأشياء
…
ثم عدد أسماءه في كتابه فلم يتَسمّ ب (الشيء)، ولم يجعله من أسمائه
…
". شرح صحيح البخاري، لابن بطال (10/ 443، 444).
(5)
سورة الفلق: 2.
(6)
المعتزلة: فرقة إسلامية نشأت في أواخر العصر الأموي وازدهرت في العصر العباسي، على يد واصل بن عطاء المتوفى سنة 131 هـ، وقد اعتمدت على العقل المجرد في فهم العقيدة الإسلامية لتأثرها ببعض الفلسفات المستوردة مما أدى إلى انحرافها عن عقيدة أهل السنة والجماعة. وقد أطلق عليها أسماء مختلفة منها: المعتزلة، والقدرية، وأهل العدل والتوحيد، والوعيدية، من اعتقاداتهم: نفي رؤية الله تعالى بالأبصار في دار القرار، وأن العبد خالق لأفعاله خيرها وشرها، والرب تعالى منزه أن يضاف إليه شر وظلم. يُنظر: الملل والنحل (1/ 43)، والموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (1/ 64).
(شرٍ)، وأن (ما) نافية وهي قراءةٌ مردودةٌ مبنيةٌ على مذهبٍ باطل." (1).
وفي هذه القراءة الباطلة جُعلت (شرٍ) موصوفةٌ ومفسَّرة بما بعدها: (ماخلق)، على اعتبار أن (ما) نافية، فيكون المعنى: أنهم يستعيذون من شرٍّ لم يخلقه الله، بل خلقه فاعله، وذلك لتقرير مذهبهم الاعتزاليّ الباطل، حيث يُثبتون أن العباد يخلقون الشّر نظيرًا لقول المجوس الذين أثبتوا خالقين: أحدهما يخلق الخير والآخر يخلق الشّر (2).
الشاهد: على هذه القراءة الباطلة يكون قوله: (ما خلق) بيانًا متصلًا لقوله" (شرٍ)، وفي ذلك إثباتٌ أن الله لا يخلق الشّر، واستدلوا به على أن العبد يخلق فعله، وهو مذهبٌ باطل.
والصّحيح في تفسير الآية: أن (ما) موصولة، والمراد بالشر: عموم الشّر، فتشمل كل شر خلقه الله تعالى، وليس في إثبات خلق الله للشر عيبٌ ولا نقص.
وقد فصّل ابن القيم في معنى الشّر في الآية، عند تفسيره للمعوذتين،
فقال:
و(ما) هاهنا موصولةٌ ليس إلا، والشّر مسندٌ في الآية إلى المخلوق المفعول، لا إلى خلق الرب تعالى الذي هو فعله وتكوينه، فإنه لا شرّ فيه بوجه ما؛ فإن الشرّ لا يدخل في شيء من صفاته ولا في أفعاله، كما لا يلحق ذاته تبارك وتعالى؛ فإن ذاته لها الكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وأوصافه كذلك لها الكمال المطلق والجلال التام، ولا عيب فيها ولا نقص بوجه ما، وكذلك أفعاله كلها خيراتٌ محضة، لا شرّ فيها
(1) وتنسب هذه القراءة إلى عمرو بن عبيد. يُنظر: المحرر الوجيز (5/ 538).
(2)
وقد زعمت القدرية إلى قريب من ذلك، فقالت: إن الله يخلق الخير وإن الشيطان يخلق الشر.
الإبانة عن أصول الديانة، لأبي الحسن الأشعري (ص: 15)، ويُنظر: بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية، لابن تيمية (2/ 588).
أصلًا، ولو فعل الشّر سبحانه لاشتُق له منه اسم، ولم تكن أسماؤه كلها حسنى، ولعاد إليه منه حكم، تعالى ربنا وتقدس عن ذلك.
وما يفعله من العدل بعباده، وعقوبة من يستحق العقوبة منهم، هو خيرٌ محض، إذ هو محض العدل والحكمة، وإنما يكون شرًا بالنسبة إليهم، فالشّر وقع في تعلّقه بهم وقيامه بهم، لا في فعله القائم به تعالى.
ونحن لا ننكر أن الشّر يكون في مفعولاته المنفصلة فإنه خالق الخير والشر ولكن هنا أمران ينبغي أن يكونا منك على بال:
أحدهما: أن ما هو شرٌ، أو متضمنٌ للشر، فإنه لا يكون إلا مفعولًا منفصلًا لا يكون وصفًا له، ولا فعلًا من أفعاله.
الثاني: أن كونه شرٌ هو أمر نسبيٌّ إضافي، فهو خيرٌ من جهة تعلق فعل الرّب وتكوينه به، وشرٌّ من جهة نسبته إلى من هو شرٌّ في حقه، فله وجهان هو من أحدهما خير، وهو الوجه الذي نُسب منه إلى الخالق - ̧- خلقًا وتكوينًا ومشيئة، لما فيه من الحكمة البالغة التي استأثر بعلمها، وأَطلع من شاء من خلقه على ما شاء منها، وأكثر الناس تضيق عقولهم عن مبادئ معرفتها فضلًا عن حقيقتها، فيكفيهم الإيمان المجمل بأن الله سبحانه هو الغنيّ الحميد، وفاعل الشّر لا يفعله إلا لحاجته المنافية لغناه، أو لنقصه وعيبه المنافي لحمده، فيستحيل صدور الشّر من الغنيّ الحميد فعلا
…
" (1).
(1) بدائع الفوائد (2/ 210، 211)، للاستزادة: شرح العقيدة الواسطية، للعثيمين (1/ 70)، (2/ 222، 221)