الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني
ترك العدول عن ظاهر القرآن، إلا بدليل يجب الرجوع إليه
(1)
للظاهر عند العلماء تعاريف، من أبرزها:
" أنه ما يُعرف المراد منه بنفس السَّماع من غير تأمل، وهو الذي يسبق إلى العقول والأوهام لظهوره موضوعًا فيما هو المراد"(2).
وقيل: "اسمٌ لكلامٍ ظهر المراد منه للسامع بنفس الصّيغة، ويكون محتملًا للتأويل والتّخصيص"(3).
وقيل: "ما يسبق إلى الفهم منه عند الإطلاق معنىً مع تجويز غيره"(4).
وقيل: "ما احتمل معنيين هو في أحدهما أظهر"(5).
ومن خلال مجموع التعاريف السابقة يمكن القول: إنّ المراد بالظاهر هنا هو الظاهر في اصطلاح الأصوليين تارة، وقد يكون هو النّص في اصطلاحهم (6).
حكمه: "كل نصّ قرآني يدل على معنىً متبادر منه، ولا يحتمل غيره أصلًا يُفسّر بذلك المتبادر تفسيرًا قطعيًا دون حاجةٍ إلى دليلٍ أو قرينةٍ على إرادته منه"(7).
(1) ينظر: قواعد الترجيح عند المفسرين، للحربي (1/ 137).
(2)
أصول السرخسي (1/ 163، 164).
(3)
التعريفات (ص: 143).
(4)
كشف الأسرار شرح أصول البزدوي، لعلاء الدين البخاري (1/ 46).
(5)
يُنظر: التمهيد (1/ 7)، وروضة الناظر (1/ 508).
(6)
قواعد الترجيح عند المفسرين، للحربي:(1/ 123)، وقد نقل عن الشافعي أنه كان يسمي الظاهر نصا. البحر المحيط في أصول الفقه (5/ 35).
والنّص: "هو ما يفيد بنفسه من غير احتمال".روضة الناظر (1/ 506).
(7)
ضوابط القطعي من تفسير القرآن الكريم (1/ 128).
ويفهم من ذلك أن الظاهر دليل شرعي يجب اتباعه والعمل به، بدليل إجماع الصحابة على العمل بظواهر الألفاظ، ولا يجوز تركه إلا بتأويل" (1).
نماذج توضح الضّابط:
النموذج الأول:
قال أبو حيان عند قوله: {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} : "وظاهر الآية وسياق الكلام أن هذه الجملة هي مفسّرة لبعض آيات البيت، ومُذكّرة للعرب بما كانوا عليه في الجاهلية من احترام هذا البيت، وأمن من دخله من ذوي الجرائم"(3).
ورجَّحه الطبري بعد أن عرض أقوال العلماء في ذلك، فقال:"وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب، قول من قال: "الآيات البينات، منهنّ مقام إبراهيم"، .. فيكون
(1) يُنظر: البحر المحيط في أصول الفقه (5/ 35، 36)، وروضة الناظر (1/ 508).
"والتأويل: صرف اللفظ عن الاحتمال الظاهر إلى احتمال مرجوح به؛ لاعتضاده بدليل يصير به أغلبَ على الظن من المعنى الذي دل عليه الظاهر.
ولفظ التأويل في القرآن يراد به ما يؤول الأمر إليه، وإن كان موافقاً لمدلول اللفظ ومفهومه في الظاهر، ويراد به تفسير الكلام وبيان معناه، وإن كان موافقاً له، وهو اصطلاح المفسرين المتقدمين كمجاهد وغيره، ويراد به صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلي المرجوح لدليل يقترن بذلك.
وتخصيص لفظ التأويل بهذا المعني إنما يوجد في كلام بعض المتأخرين فأما الصحابة، والتابعون لهم بإحسان، وسائر أئمة المسلمين كالأئمة الأربعة وغيرهم فلا يخصون لفظ التأويل بهذا المعنى، بل يريدون المعنى الأول أو الثاني". يُنظر: درء تعارض العقل والنقل، لابن تيمية (1/ 14).
(2)
سورة آل عمران: 97.
(3)
البحر المحيط في التفسير (3/ 273).
الكلام مرادًا فيه "منهنّ"، فترك ذكره اكتفاءً بدلالة الكلام عليه" (1).
النموذج الثاني:
في قوله {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} ، قال الطبري:"يعني تعالى ذكره بقوله: "ذلك"، هذا الذي أبَحْتُ أيها الناس، من نكاح فتياتكم المؤمنات لمن لا يستطيع منكم طَوْلًا لنكاح المحصنات المؤمنات؛ أبحتُه لمن خشي العنت منكم، دون غيره ممن لا يخشى العنت، وفيه إشارة إلى نكاح عادم طَول الحرّة المؤمنة"(3).
"فالذي دل عليه ظاهر القرآن أنه لا يجوز نكاح الحر الأمة إلا بثلاثة شروط:
اثنان في الناكح وهما: عدم طول الحرة المؤمنة، وخوف العنت. وواحد في الأمة وهو: الإيمان" (4).
فيجب الأخذ بالأحكام الظاهرة من الآيات لعدم وجود دليل يصرفها عن معناها الظاهر.
ويجوز العدول عن ظاهر النّص إن دلّ دليل شرعي على ذلك.
(1) جامع البيان (6/ 28).
(2)
سورة النساء: 25.
(3)
جامع البيان (8/ 204).
(4)
البحر المحيط في التفسير (3/ 599).
قال ابن تيمية: "ويجوز باتفاق المسلمين أن تفسَّر إحدى الآيتين بظاهر الأخرى ويُصرف الكلام عن ظاهره؛ إذ لا محذور في ذلك عند أحدٍ من أهل السنة وإن سمي تأويلًا وصرفًا عن الظّاهر؛ فذلك لدلالة القرآن عليه ولموافقة السُّنّة والسلف عليه؛ لأنه تفسير القرآن بالقرآن؛ ليس تفسيرًا له بالرأي، والمحذور إنَّما هو صرف القرآن عن فحواه بغير دلالةٍ من الله ورسوله والسابقين "(1).
"وقد أجمع جميع المسلمين على أن العمل بالظَّاهر واجب حتى يرِد دليلٌ شرعيٌ صارفٌ عنه إلى المحتمَل المرجوح، وعلى هذا كل من تكلم في الأصول"(2).
ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)} (3).
قال الشنقيطي: " قد يتوهم غير العارف من مفهوم مخالفة (4) هذه الآية الكريمة، أعني مفهوم الغاية في قوله: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}، أنه إذا بلغ أشده، فلا مانع من قربان ماله بغير التي هي أحسن، وليس ذلك مرادًا بالآية، بل الغاية ببلوغ الأشد يراد بها: أنه إن بلغ أشده يدفع إليه ماله، إن أُونس منه الرشد، كما بيّنه تعالى بقوله: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ .. } (5) "(6). فصُرفت الآية عن ظاهرها بدليل من القرآن الكريم.
(1) مجموع الفتاوى (6/ 21).
(2)
أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، ط: دار الفكر (7/ 269).
(3)
سورة الإسراء: 34.
(4)
مفهوم المخالفة: "هو إثبات نقيض حكم المنطوق للمسكوت ويسمى دليل الخطاب". البحر المحيط في أصول الفقه (5/ 132).
(5)
سورة النساء: 6.
(6)
أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، ط: دار الفكر (1/ 545).