المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌التصوف 1 - أصل الكلمة: التصوف مصدر الفعل الخماسي المصوغ من "صف" - موجز دائرة المعارف الإسلامية - جـ ٧

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌ ‌التصوف 1 - أصل الكلمة: التصوف مصدر الفعل الخماسي المصوغ من "صف"

‌التصوف

1 -

أصل الكلمة:

التصوف مصدر الفعل الخماسي المصوغ من "صف" للدلالة على لبس الصوف، ومن ثم كان المتجرد لحياة الصوفية يسمى في الإسلام صوفيًا.

ينبغي رفض ماعدا ذلك من الأقوال التي قال بها القدماء والمحدثون في أصل الكلمة، كقولهم إن الصوفية نسبة إلى "أهل الصفة" وهم فرق من النساك كانوا يجلسون فوق دكة المسجد بالمدينة لعهد النبي [صلى الله عليه وسلم]، أو أنهم من الصف الأول من صفوف المسلمين في الصلاة، أو من بنى صوفة، وهي قبيلة بدوية، أو أنهم نسبوا إلى "الصَوفْانة" وهي بَقْلة أو إلى "صوفة القفا" وهي الشعرات النابتة عليه، أو أن اللفظ مشتق من "صوفى"، مطاوع صافى والأصل صَفَا. وقد استعصل هذا اللفظ المطاوع منذ القرن الثامن الميلادي للتورية مع كلمة صوفى بمعنى المتنسك لابس الصوف، ومع الكلمة اليونانية سوفوس التي حاولوا فيها المحال بالمعادلة بين "تيوسوفيا" Theosophie".

و"تصوف". وقد رد نولدكه Noeldeke هذا المذهب الأخير في أصل كلمة "صوفى" مبينا أن السين اليونانية تكتب باطراد في العربية سينًا لاصادًا، وأن ليس في اللغة الآرمية كلمة متوسطة للانتقال من "سوفوس" اليونانية إلى "صوفى" العربية (Noeldeke في Zeitschrift der -Deutschen Morgenlandischen Ge sellschafl ج 48، ص 45).

وورد لفظ "الصوفى" لقبًا مفردا لأول مرة في التاريخ في النصف الثاني من القرن الثامن الميلادي، إذ نعت به جابر بن حَيان، وهو صاحب كيمياء شيعى من أهل الكوفة، له في الزهد مذهب خاص (انظر خشيش النسائي المتوفى عام 253 هـ الموافق عام 867 م: الاستقمامة) وأبو هاشم الكوفي المتصوف المشهور. أما صيغة الجمع "الصوفية" التي ظهرت عام 199 هـ (814 م) في خبر فتنة قامت بالإسكندرية (الكندى: قضاة مصر، طبعة غست Guest، ص 162 ، 440) فكانت تَدل -قرابةَ ذلك العهد فيما يراه المحاسى (مكاسب، مخطوط فارسى، رقم 87) والجاحظ (البيان والتبين ج

ص: 2214

1، ص 194 - على مذهب من مذاهب التصوف الإسلامي يكاد يكون شيعيا نشأ في الكوفة، وكان عَبْدَك الصوفى آخر أئمته، وهو من القائلين بأن الإمامة بالتعيين، وكان لا يأكل اللحم، وتوفى ببغداد حوالي عام 210 هـ (825 م) ، وإذن فكلمة "صوفى" كانت أول أمرها مقصورة على الكوفة.

وقدر لهذا الاسم أن يكون له شأن خطير فيما بعد، فما انقضى خمسون عاما حتى أصبح يطلق على جميع الصوفية بالعراق في مقابل "الملامتية" وهم الصوفية بخراسان، ثم أخذ هذا الاسم يطلق بعد ذلك بقرنين على جميع أهل الباطن من المسلمين كما هو حالنا اليوم في إطلاق كلمة "صوفى" و"صوفية". وفي غضون ذلك أصبحت لبسة الصوف، أي عباءة من الصوف، وما برحت، من أخص أزياء المسلمين من أهل السنة. واستقبح هذا الزى حوالي عام 100 هـ (719 م) فقيل إنه نصرانى دخيل في الإسلام. وقد عابوا على فرقد السبخى تلميذ الحسن البصري هذه اللبسة. وروى الجوبيارى عن النبي أحاديث، يستحب فيها لبس الصوف لرجال الدين.

2 -

أصول التصوف:

والتفاسير الصوفية للقرآن والأحاديث الصوفية عن حياة محمد الباطنة التي لا نعلم عنها إلا القليل، متأخرة في الزمن بعض الشيء حتى ليشك فيها، على أن النزوع إلى التصوف، وما خلا منه قطر من الأقطار أو أمة من الأمم لم يكن يعوز البلاد العربية الإسلامية في القرنين الأولين للهجرة؛ فإذا ما استبعدنا الأساطير المتأخرة، فإنا نجد الجاحظ وابن الجوزي، وهما من القصاص، قد حفظا لنا أسماء نيّف وأربعين زاهدًا عاشوا حقا في ذلك العهد، وكان في إبطانهم العبادات دلائل بينة على حياة التصوف؛ على أنه لم يعد من الجائز أن يقال إن محمدًا [صلى الله عليه وسلم] أخرج المتصوفة ابتداءً من الجماعة الإسلامية، إذ لا يخفى على أحد اليوم أن الحديث المشهور "لا رهبانية في الإسلام" - الذي ذهب شبرنكر Sprenger في تفسيره

ص: 2215

هذا المذهب- حديث موضوع، وليس من شك أنه وضع في القرن الثالث الهجرى على أكثر تقدير تحبيذا وتدعيما لتفسير جديد للآية السابعة والعشرين من سورة الحديد التي ورد فيها ذكر الرهبانية، وهو تفسير يحرمها ويعيذ الإسلام منها، وكان مفسرو القرون الثلاثة الأولى للهجرة أمثال مجاهد وأبي أمامه الباهلى (انظر Essai sur les origines: Massignon -du Lexique tech nique de la mystique Mu sulmane ص 123 - 131) والمتصوفة القدامى الذين عرفوا بالحرص (انظر جنيد: دواء الأرواح) قد أجمعوا على تفسير هذه الآية تفسيرا يجيزها ويمتدحها قبل أن يشيع التفسير المعارض الذي غلّبه الزمخشرى على جميع التفاسير.

ويجوز للمتصوفة المسلمين أن يزعموا أنه كان بين الصحابة رجلان يعدان بحق السابقين إلى التصوف هما أبو ذر وحذيفة، ولم يثبت ثبوتا قاطعا أن أويسا وصهيبا كانا على شاكلة هذين الصحابين. وجاء بعد هؤلاء، النساك والزهاد والبكاءون والقصاص، وكانوا أول أمرهم متفرقين لا رابط بينهم، ثم تجمعوا فريقين، شأنهم في ذلك شأن بقية المتفقهين في سائر العلوم الإسلامية، وكان مركز الفريقين على حدود أرض الجزيرة من صحراء العرب أحدهما في البصرة والآخر في الكوفة.

وكان العرب الذين استوطنوا البصرة من بنى تميم، مفطورين على النقد لا يؤمنون إلا بالواقع، كلفوا بالمنطق في النحو والواقع في الشعر والنقد في الحديث وكانوا على مذهب أهل السنة مع جنوح المعتزلة والقَدِرَية، وكان شيوخهم في التصوف الحسن البصري المتوفى عام 110 هـ (728 م) ومالك بن دينار وفضل الرقاشى ورباح ابن عمرو القيسى وصالحا المرّى وعبد الواحد ابن زيد المتوفى عام 177 هـ (793 م) صاحب طائفة الزهاد في عبادان.

أما العرب الذين استوطنوا الكوفة فكانا من اليمانية، أصحاب مثل وتقاليد يستهويهم الشواذ في النحو والخيال في الشعر والظاهر في الحديث. وكانوا

ص: 2216

على مذهب الشيعة مع ميل إلى المرجئة. وشيوخهم في التصوف ربيع بن خَيثَم المتوفى عام 67 هـ (686 م) وأبو إسرائيل الملائى المتوفى عام 140 هـ (757 م) وجابر بن حَيّان، وكليب الصيداوى، ومنصور بن عمّار، وأبو العتاهية وعَبْدَك. وقضى منصور بن عمّار وأبوالعتاهية وعبدك الشطر الثاني من حياتهم في بغداد، قصبة الدولة الإسلامية التي غدت مركز الحركة الصوفية بعد عام 250 هـ، وهو العام الذي بدأت تعقد فيه الاجتماعات والحلقات للتناظر في شئون الدين، وتلقى فيه أولى الدروس الصوفية في المساجد.

وهو أيضًا العهد الذي اشتجر فيه الخلاف جهرة ولأول مرة بين المتصوفة والفقهاء، وسيق فيه أمام قضاة بغداد ذو النون المصري عام 240 هـ، والنورى، وأبو حمزة (ما بين عامي 262 - 269 هـ = 875 - 882 م في رواية ابن الجوزي: تلبيس إبليس، ص 138) والحلّاج.

3 -

شأن الصوفية في الجماعة الإسلامية:

لم يكن المتصوفة الأول يتوقعون أن يصطدموا بأولى الأمر في الجماعة الإسلامية، فهم إذا كانوا قد جنحوا إلى العزلة وآثروا الفقر فذلك لكى يتقرأوا القرآن (تقرأ هو المرادف القديم لكلمة تصوف) بالتماس القربى من الله في الصلاة. والواقع أن منشأ النزوع إلى التصوف هو ثورة الضمير على ما يصيب الناس من مظالم لا تقتصر على ما يصدر عن الآخرين وإنما تنصب أولًا وقبل كل شيء على ظلم الإنسان نفسه. وتقترن هذه الثورة برغبة في الكشف عن الّله بأى وسيلة يقويها تصفية القلب من كل شاغل، وهذا الذي نلمسه في سيرة الحسن البصري وفي عبره وعظاته (انظر Is 1: Schaeder ج 14، ص 1 - 72، Massignon: Essai ، ص 152 - 179) قد تجلى في السيرتين الرائعتين اللتين كتبهما المتصوفان الكبيران المحاسبى (الوصايا، وقد نشرت ترجمتها في Massignon، ص 216 - 218) والغزالى (المنقذ من الضلال، وقد ترجمه - Barbier de Mey

ص: 2217

nard) يترجمان فيهما عن نفسيهما. على أن ذلك لم يكن قد هدد بعد النظام القائم بالغا ما بلغ جور الحاكم، ولكن الفقهاء والمتكلمين أسخطهم أن يروا أناسا يتحدثون عن نشدان الضمير ويحتكمون إلى قضائه الباطن، في حين أن شريعة القرآن تحاسب على الأعمال الظاهرة وتعاقب الناس على آثامهم ولا حيلة لها مع النفاق في الدين، ولذلك حاولوا أن يبينوا أن حياة الصوفية لا محالة مفضية بهم إلى الزيغ، لأنهم يقولون إن النية مقدمة على العمل وإن السنة خير من الفرض وإن الطاعة خير من العبادة.

وكان الخوارج أول الفرق الإسلامية التي أظهرت عداوتها للصوفية، وهذا باد فيما وقع للحسن البصري. ثم جاءت الإمامية (الزيدية والاثنا عشرية والغلاة) في القرن الثالث الهجرى فأنكروا كل نزوع إلى التصوف لأنه يستحدث بين المؤمنين ضربًا من الحياة الشاذة (صوف، خانقاه) تتمثل في طلب الرضا من غير توسل بالأئمة الاثنى عشر وطلب إمامة تناقض ما جروا عليه من تَقِيَّة.

وأبطأ أهل السنة في بيان موقفهم وأجمعوا على إنكار التصوف، ودحضه فريقان منهم الحَشْويَّة، وابن حنبل يأخذ على التصوف أنَّه يغذى التفكر ويصرف أصحابه عن مظاهر العبادة ويحملهم على طلب الخلة مع الله فيستبيحون إغفال الفرائض. وخشيش وأبو زرعة، وهما ممن تتلمذ لابن حنبل، يجعلان المتصوفة طائفة من الزنادقة (الروحانية).

أما المعتزلة والظاهرية فيستنكرون العشق، لأنه يقوم من الناحية النظرية على التشبيه، ويقوم من الناحية العلمية على الملامسة والحلول.

ولكن الواقع أن أهل السنة لم يقولوا بمروق المعتدلين من المتصوفة، فقد دأب أهل السنة على الاهتداء في معاملاتهم وعباداتهم بالرسائل المشهورة التي ألفها ابن أبي الدنيا المتوفى عام 181 هـ (894 م) ثم بعيون التواليف مثل كتاب "قوت القلوب" لأبي طالب المكي المتوفى عام 386 هـ (996 م) وكتاب الإحياء للغزالى بصفة خاصة، وكان

ص: 2218

فقهاؤهم -الذين اشتدوا في الحط من شأن المتصوفة أمثال ابن الجوزي وابن تيمية وابن القيّم- يقدرون الغزالى ويعدونه حجة في مسائل الأخلاق. وإنما صب فقهاء أهل السنة المتأخرون جام غضبهم على مريدى ابن عربي لقولهم بالوحدة. وقد شرح صاحب مذهب الوهابية -ونحن نعلم مبلغ خصومته للمتصوفة- وصية المتصوف "شقيق" إلى "حاتم الأصم".

4 -

معنى الاتحاد وتطوره في تاريخ التصوف

كان التصوف في أول عهده يدور حول نقطتين: أولاهما أن العكوف على العبادة يولد في النفس "فوائد" هي الحقائق الروحية، وقد أنكر الحَشْويَّة ذلك؛ وثانيهما أن علم القلوب يفيض على النفس "معرفة" تنطوى على استعداد الإرادة لتلقى هذه الفوائد، وقد أنكر المعتزلة ذلك وقنعوا بمعرفة النفس معرفة نظرية.

ويقول المتصوفة إن في علم القلوب قوة محركة، وهو يبين السفر إلى الله وما فيه من مقامات وأحوال عدتها اثنا عشر، كما يقولون إن بعض الفضائل يُكتسب وبعض الفوائد يُتلقى. والمتصوفة -أمثال السرَاج والقشيرى والغزالى- يختلفون في ذكر المقامات والأحوال، ولكنهم مع ذلك يكادون يجمعون على استعمال اصطلاحات مشهورة بعينها مثل التوبة والصبر والتوكل والرضا.

وإذا صرفنا النظر عن خلاف المتصوفة في السفر إلى الله فإنا نجدهم قد وجهوا همهم بنوع خاص إلى تحديد الغاية القصوى التي هي تحقق النفس بمعرفة الحق عندما يقطع العبد كل علائقها بالبدن. ولكن كيف السبيل إلى التعبير في لغة أهل السنة عن هذه الحال الراقية التي تخاطب فيها النفس الله وهي واحدة، وهي حال تثير موضوع "الشَطْح" الذي لم نصل بعد إلى رأى فيه، وقد كانت رابعة والمحاسبى ويحيى الرازي أول من فتح الله عليهم بها.

ومن هنا لم يجد الصوفية بدًا من الرجوع إلى الألفاظ التي استعملها الفقهاء لعهدهم، فاستعاروا منها في

ص: 2219

شتى المواطن مصطلحات حوروها بعض الشيء دون أن يحددوا لها معنى. ومن قبيل ذلك أن شقيقا استعمل لفظ "التوكل"، والمصرى وابن كَرَام لفظ "المعرفة"، والمصرى والبسطامى لفظ "الفناء" وهو ضد "البقاء"(انظر سورة الرحمن، الآيتين 26 ، 27)، والخرّاز لفظ "عين الجمع"، والترمذي لفظ "الولاية" إلخ. وقد انتهج التصوف الإسلامي في عهده الأول هذا السبيل فألقى بنفسه في مزالق ما وراء الطبيعة التي عرض لها المتكلمون الأول وفي مسائل الجوهر الفرد والمادية والاتفاق، وهي مباحث تنكر روحانية النفس بل بقاءها، وتخلط بين الموحدة الوجودية والوحدة العددية مما ينبنى عليه بالضرورة أن تسلك المدرسة الصوفية الأولى في زندقة الحلولية. فلو نظرنا إلى الكَرَامية الذين يقولون إن لله شأنا في خلق النفوس رأينا أن الأشعرية يأخذون عليهم إضافة الأعراض إلى الذات الأزلية، وإذا نظرنا إلى السالمية الذين يميلون إلى القول بأن النفوس المقبلة على الله تستطيع أن تتصل بالحضرة الإلهية، وجدنا أن الحنابلة يعيبون عليهم اتخاذهم من ذكر الله سبيلا إلى معرفته، ثم إننا إذا نظرنا إلى الحَلاجية رأينا أنهم يستدلون من خطاب الله في حالة الوجد ومما يعرض للعبد في هذه الحالة من تغير يحصل في أعماق نفسه، على أن الله قد جعل له من أوليائه شواهد، وهذا الرأى مردود لاستحالته ومنافاته للدين وتغليبه جسم الإنسان الفانى على الذات الإلهية، إذ ليس لذاتين أن تتحيزا مكانا بعينه في وقت واحد.

وتسربت الفلسفة اليونانية إلى العالم الإسلامي، وأخذ سلطانها يزداد باطراد منذ أيام الأدرية القرامطة القدامى والرازى الطبيب إلى عهد ابن سينا، وكان من نتيجة ذلك أن استحدثت في القرن الرابع للهجرة مصطلحات ميتافيزيقية أدق من سابقها يفهم منها أن الروح والنفوس جواهر غير مادية، وأن ثمت معاني عامة وسلسلة من العلل الثانية وغير ذلك، وأن هذه المصطلحات اختلطت بالإلهيات المنحولة لأرسطو وبمثل أفلاطون وفيوضات أفلوطين، وقد كان لهذا كله

ص: 2220

أثر بالغ في تطور التصوف. وحار شيوخ الصوفية لهذا العهد بين ضروب ثلاثة في تصير الاتحاد الصوفى تفسيرًا، فلسفيًا:

(1)

فالاتحادية -من ابن مَسَرَة وإخوان الصفاء إلى الفارابى وابن قَسى - يقولون إن الاتحاد هو تأليف معان بتأثير العقل الفعال (والعقل الفعال هو الفيض الإلهى؛ والفيض الإلهى هو النور المحمدى عند القرامطة والسالمية) على النفس المنفعلة.

(ب) والإشراقية -من السهروردى الحلبى والجلدَكى إلى الدّوانى وصدر الدين الشيرازى- يقولون بتجوهر النفس وتألق النور الإلهى في إشراقات العقل الفعال.

(ج) والوصولية -من ابن سينا إلى ابن طفيل وابن سبعين- يلتزمون القول بأن النفس تصل إلى موافقة الحق، ومن ثم تشعر بوجود جامع لا تكثُّر فيه ولا تعدد ولا تفرقة بأى وجه من الوجوه.

ولنلاحظ في هذا المقام أن الغزالى (مقاصد الفلاسفة، ص 74) أنكر رأى الاتحادية، وهو رأى أقره ابن سينا في كتاب النجاة (القاهرة، ص 402 - 481) ورفضه في كتاب "الإشارات"(الفصل التاسع، ص 118؛ ابن عربي: التجليات)؛ ولنلاحظ أيضًا أن ابن سبعين، وهو من غلاة القائلين بالمادة الحية Hylemorphiste) لا يرى في الله إلا الصورة أو مبدأ "الأنِّية" في جميع المخلوقات.

وفي القرن السابع الهجرى (الثالث عشر الميلادي) يبدأ العهد الثالث والأخير في تطور مذهب التصوف، وأبرز مدارس الصوفية لهذا العهد هي المدرسة التي أطلق عليها خصومها اسم "الوحدانية" أو "الوجودية" لأنها تدعو إلى وحدة الوجود، ويزعم أصحاب هذه المدرسة أن لمذهبهم أصلا قديما، فهم يؤولون آيات من القرآن سورة القصص، الآية 88؛ سورة ق، الآية 15 *) بما يعزز مذهبهم، كما يؤولون "كلام" الأشاعرة الأقدمين في أن كل حال روحية إنما هي فعل من أفعال الله الصادرة عنه بلا واسطة، ومبالغات المتصوفة الأول كالبسطامى

(*) ورد في الأصل ضمن هذه الإشارات سورة البقرة الآية 109 ولا يستقيم معها الإسناد: .

المحرر

ص: 2221

والحلاج (وقد جمع عين القضاة الهمذانى في كتاب "التمهيدات" بعض هذه الأقوال، ومنها كلمة "الوجود" المشتقة من الوجد، واستعملها صاحب هذا الكتاب أيضًا بمعنى إلباس الّله مخلوقاته صفات في مقابل كلمة "كون"). على أن مذهب الوحدانية هذا مستمد في الواقع من الفكرة التي عرضت منذ القرن الثالث الهجرى وهي أن النور المحمدى الذي قال به الأدرية المسلمون هو عين العقل الفعال الذي ظهر في العهد اليونانى المتأخر، (ولم يبرأ ابن رشد نفسه من التأثر بمذهب الفيض، وذلك أنه قال في كتابه "تهافت التهافت" إن ثبوت الأشياء في علم الّله هو أرقى درجات وجودها وإن النفوس يجب أن تتحد به على نحو ما يتحد عقل منفعل في العقل الفعال). وكان ابن عربي المتوفى عام 638 هـ الموافق 1240 م أول من صاغ أصول مذهب وحدة الوجود. ويلاحظ ابن تيمية أن مذهب ابن عربي في جوهره هو أن وجود المخلوقات عين وجود الخالق: وهو في الحقيقة يرى أن الأشياء تصدر ضرورة عن العلم الإلهى الذي ثبتت فيه معانيها بفيض يتجلى على مراتب خمس. وأن النفس تعود إلى الذات الإلهية الجامعة بتنقلها من الكثرة إلى الموحدة تنقلا ترتبط مراحله ارتباطا منطقيًا. وفصل الفرغانى والجيلى هذا المذهب بعض التفصيل، وما زال الصوفية المسلمون جميعًا يقولون بهذا المذهب، وكثيرًا ما تغنى شعراء الفرس بالعبارة السهلة التي صاغها القونيوى ورتب بها آراء العطار على النحو الآتي: الله هو الوجود من حيث هو كلى لا يقوم بشيء، وهذا الوجود هو الذي يفيض بالكائنات المشخصة كما يفيض البحر من تحت أمواجه.

وفي نهاية القرن السابع عشر الميلادي أثار الكورانى والنابلسى سخط أهل السنة لأنهما انتهيا إلى أن مذهب وحدة الوجود هذا هو أصح ما تؤول به شهادة "أن لا إله إلا الله" في الإسلام (انظر Massignon: Hallaj، ص 784 - 790). ذلك أنهما يذهبان إلى أن الشهادة التي يرى المسلمون أنها تثبت استقلال الله الواحد عن خلقه إنما تدل على اتصاله به اتصالا مطلقا، وإن

ص: 2222

جُمّاع الموجودات بكل ما يصدر عنها من أفعال خلقية بأن تكون مجلى يُعبد الله فيه. وهذا المذهب في التأمل الذي يجعل للمشيئة الإلهية المكان الأرفع بالقياس إلى الأمر التكليفى قد جر الصوفية فيما جرهم إلى القول بفتوة إبليس (وهو قول أيده الجيلى) وفرعون (وهو قول مشهور من أقوال ابن العربي).

5 -

سمات التصوف الأخرى ودراسة مصادره:

والخصائص الأخرى التي يمكن ملاحظتها في مذهب التصوف هي:

1 -

الإسناد: ويزعم الصوفية أنه يصل سلسلة شيوخهم بالنبي [صلى الله عليه وسلم] كما هو الشأن في الحديث، وأقدم أسانيدهم المعروفة (الفهرست، ص 183) إسناد الخُلدى المتوفى عام 348 هـ الموافق 959 م، وهو يرفعه إلى النبي [صلى الله عليه وسلم] على الوجه الآتي:

جنيد (7) السَقَطى (6) معروف الكرخى) (5) فَرقَد (4) الحسن البصري (3) ثم أنس بن مالك (2) وجاء الدقاق المتوفى عام 405 هـ (1014 م)، (انظر القشيرى، ص 158) بعده بعشرين عامًا فذكر شيوخه بترتيب الخلدى ولم يختلف معه إلا في ذكر الكرخى قيل داود الطائى (4) ثم ذكر آخر الأمر الإسناد الذي عليه الجمهور والذي تحددت طبقاته في القرن الثالث عشر الميلادي (ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء، جـ 2، ص 250) وهو الإسناد الذي أخذت به جميع الطرق الدينية الكبرى، ويأتى فيه بعد جنيد (7) الروذبارى (8) وأبو على الكاتب أو الزجاجى (9) والمغربى (10) والكركانى (11) ثم يأتي قبل داود الطائى (4) حبيب العجمى (3) والحسن البصري (2) وعلى (1).

وقد بين ابن الجوزي والذهبي أن الطبقات الأربع الأولى في هذا الإسناد منحولة لأن واحدًا من هؤلاء لم يلق الآخر. وتصطنع بعض الطرق الأخرى إسنادًا تقدم فيه أئمة الشيعة التسعة الأول على معروف الكرخى، وهو أيضًا إسناد ملفق.

ب- طبقات رجال الغيب: ويزعم الصوفية أن العالم يدوم بقاؤه بفضل

ص: 2223

تدخل طبقة من الأولياء المستورين عددهم محدود، وكلما قبُض منهم واحد خلفه غيره، ورجال الغيب هم: ثلاثمائة من النقباء، وأربعون من الأبدال، وسبعة أمناء، وأربعة عمد ثم القطب وهو الغوث.

ب- الرخص التي تقوم عليها حياة الصوفية العامة والغالب أنها رخص لا نظير لها ولا حد لسطوتها، وهي قديمة العهد ترجع إلى أيام البسطامى والشبلى وأبي سعيد وتنتهي بمجذوبى العصر الحديث الذين يتفاوتون في الفسق والتحرر من التبعات. وينشد الصوفية في حلقاتهم أشعارًا خاصة، وقد ترعرع هذا الأدب الذي هو من خصائص الإسلام في كل مكان وغزر إنتاجه إلى حد بعيد، ولكنه لا يخلو من جفوة وإملال، فهو يتوسل بفنون البلاغة إلى إحداث ضرب من التواجد في نفوس المستمعين إليه.

ويمدح أصحاب هذا الأدب في لغة صوفية الخمر التي حرمها الشرع في هذه الدنيا وادخرت لجنة أهل الخصوص، ويتغنون بكاس المحبة التي يديرها الساقى (شمس الدير = ترسابجه) عليهم مسترسلين في تلويحاتهم فيتملكهم هيجاق يخرج بهم عن الطور في كثير من الأحيان، ومن هنا رأى غالب نقلة الغرب أن من الحكمة إغفال هذه التلويحات.

وأشهر شواهد هذا الشعر في العربية: قصائد ابن الفارض والتسترى، وفي الفارسية رباعيات أبي سعيد ومثنويات العطار والرومى المطولة (كقصة جلال الدين الرومى في الموحدة: من هناك؟ .. إنه أنت .. إلخ) وغزل حافظ وقصائد جامى المختلفة، وأشهرها في التركية أشعار نسيمى ونيازى. وتأقلم هذا الضرب من الأدب في بلاد الأردو والملايو وبقى بها إلى يومنا هذا، ومع ذلك فلم يعد له أثر في الشرق الأدنى، وينصرف عنه خاصة المسلمين المحدثين على الأيام.

أما دراسة مصادر التصوف فإن الشقة بيننا وبين استكمالها مازالت بعيدة، وقد حار علماء. الإسلاميات الأول في تعليل ذلك الخلاف الكبير في العقيدة بين مذهب الموحدة الحالى ومذهب أهل السنة الصحيح، فذهبوا

ص: 2224

إلى أن التصوف مذهب دخيل في الإسلام مأخوذ إما من رهبانية الشام (وهو رأى مركس Merx) وإما من أفلاطونية اليونان الجديدة، وإما من زرادشتية الفرس، وإما من فيدا الهنود (هو رأى جونس Jones). وقد بين نيكولسون Nicholson أن إطلاق الحكم بأن التصوف دخيل في الإسلام غير مقبول؛ فالحق إننا نلاحظ منذ ظهور الإسلام أن الأنظار التي اختص بها متصوفة المسلمين نشأت في قلب الجماعة الإسلامية نفسها أثناء عكوف المسلمين على تلاوة القرآن والحديث وتقرئهما وتأثرت بما أصاب هذه الجماعة من أحداث وما حل بالأفراد من نوازل. على أنه إذا كانت مادة التصوف إسلامية عربية خالصة فمما لا يخلو من فائدة أن نتعرف على المحسنات الأجنبية التي أدخلت عليه ونمت في كنفه. وهكذا استطاع الباحثون المحدثون أن يلمسوا في التصوف الإسلامي كثيرًا من خصائص العكوف عند رهبان النصارى (ومن هؤلاء الباحثين آسين بلاثيوس asin Palacios فنسنك Wensinck وأندرية T. Andrae)) وطائفة كبيرة من المصطلحات الفلسفية اليونانية المنقولة عن السريانية. ولم تدرس بعد شواهد المحسنات الإيرانية التي ساقها بلوشيه Blochet.

أما من حيث الخصائص السنسكريتية في التصوف الإسلامي (وهو قول هورتن Horten) فقد ذهب البيرونى ودار اشكواه إلى أن هناك تشابها بين الأوبنشاد أو إليوجاسوترا وأنظار المتصوفة الأول، ولم يقم بعد ما ساقاه من الأدلة إلا القليل، ونجد من ناحية أخرى أن بحث المراحل التي أدت إلى إدخال "الذكر" في طرق الصوفية المحدثين تدلنا على تسرب بعض طرائق الهنود إلى التصوف الإسلامي.

المصادر:

(1)

عنى pfannmueller.G عناية فائقة في مصنفه Handbuch der Islam Litter atur يبسك سنة 1923 ، ص 265 - 292) بذكر المصادر الغربية التي يرجع إليها في دراسة التصوف وخير المصادر العامة التي أوردها في بيانه المطول هي:

(2)

Mystics of Islam: R.A Nicholson لندن سنة 1914

ص: 2225

(3)

Islamic Mysticism in Studies كامبردج سنة 1921

(4)

in Sufism The Idea of Personality سنة 1922. وثمت مصادر يرجع إليها في بعض مسائل التصوف. فعن أصوله يرجع إلى أبحاث كولدتسيهر Goldziher الدقيقة Revue del'histoire des Religions جـ 37، ص 314.

(5)

fuer die Kunde Wiener Zeitschrift des Morgenlandes 68 ، ص 544

(6)

Der Islam جـ 9، ص 144

(7)

Essai sur les origines: Massignon -du Lexique techique de la mystique Mu sulman ، باريس سنة 1922.

(8)

الكاتب نفسه - La Passion d' al martyr mystique de l'Islam Hallaj باريس سنة 1922. ويرجع في شأن الغزالى إلى:

(9)

Algazel: Asin Palacios سرقسطة سنة 1901 وإلى:

(10)

Cultura espaniola ، ص 209 وإلى:

(11)

- Melanges de la Faculte Orien tale de Beyrouth سنة 1914 ، ص 67

(12)

Der philosophische: Obermann Subjektivismus Gazalis und religioese فينا سنة 1921 ، ويرجع في شأن ابن الفارض إلى:

(13)

Nallino في رده على Di Mat- teo في Rivista degli studi orientali سنة 1919 - 1920. ويرجع في شأن ابن عربي إلى:

(14)

Elmistico Mur-: Asin Palacios: ciano Abenarabi، مدريد سنة 1925 - 1926 في ثلاثة مجلدات، ويرجع في شأن التصوف الهندى في القرن السابع عشر إلى:

(15)

Von Kremer في Journal Asia- tique سنة 1869، ص 105، ويرجع فيما يختص بمناهج التصوف النفسية إلى:

(16)

وثائق أفلاكى، ترجمة Hart في Les saints des deruiches tour- neurs باريس سنة 1918

(17)

The Religious: D.B. Macdonald Attitude and Life in Isilm سنة 1908.

ويرجع في شأن النصوص الأصلية إلى

ص: 2226