المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفنون (Diction. ch To) بيان طيب بتطورات هذه المعاني (ص - موجز دائرة المعارف الإسلامية - جـ ٨

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: الفنون (Diction. ch To) بيان طيب بتطورات هذه المعاني (ص

الفنون (Diction. ch To) بيان طيب بتطورات هذه المعاني (ص 1468 - 1470 وانظر أيضًا ص 1463 - 1468).

[ماكدونالد D. B. Macdonald]

‌التوحيد، علم

نشأته، تطوراته، رأى رجال الدين فيه.

مقدمات:

1 -

التوحيد الإيمان بالله، وفعله أحد، ووحد؛ ففي اللسان (مادة وحد) تقول: أخدت الله ووحدته. وهوالواحد الأحد. وحقيقة التوحيد اعتقاد عدم الشريك في الألوهية وخواصها (1) ويرى ابن خلدون (2) - بحق- أن المعتبر في التوحيد ليس الإيمان أو التصديق وحده، بل الكمال في أن يحصل للنفس حال يحصل عنها علم اضطرارى هو توحيد الله في ذاته وصفاته وأفعاله. وقريب منه ما ذكره التهانوى (3) من أن التوحيد مراتب، منها ما كان علميا بالبرهان وهو الحاصل للنظار بأدلة النقل والعقل، ومنها ما كان عينيا مصدره الوجدان بأن يجد صاحبه بالذوق والمشاهدة عين التوحيد- أي توحيد الله في ذاته وصفاته وأفعاله- ويرى حينئذ أن الذوات والصفات والأفعال متلاشية ليس فيها وجود بجانب ما لله تعالى الذي لا يرى غيره.

2 -

والتوحيد باعتباره العلم المعروف لدى المسلمين هو العلم بالعقائد الدينية المكتسبة عن الأدلة اليقينية، ويعرفه ابن خلدون (4) بأنه علم يتضمن الحجاج عن العقائد الأيمانية بالأدلة العقلية والرد على المبتدعة

(1) المقاصد للتفقازاني ب 2، ص 47 طبعة الأستانة.

(2)

المقدمة ص 365 - 366 مطبعة التقدم بمصر سنة 1322.

(3)

ب 2، ص 1468 وما بعدها.

(4)

المقدمة ص 363.

ص: 2389

المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة. ومهما اختلفت تعاريفه التي عرفه بها العلماء، فالمراد أنّه العلم الذي يبحث فيه عن الله وصفاته، والرسل وما يجب أن يكونوا عليه، والدار الآخرة وأحوالها، وأخيرًا عما ألحق بهذه المسائل كمسألة الإمامة.

3 -

وقد سمى هذا العلم بأسماء متعددة، منها أصول الدين، الفقه الأكبر كما سماه أبو حنيفة، علم النظر والاستدلال، علم الكلام (1). إلا أن أشهر هذه الأسماء هو علم التوحيد لأن الوصول للوحدانية هو أشرف مباحثه ومقاصده، وعلم الكلام لأن أشهر ما وقع فيه الاختلاف كان مسألة كلام الله أو لأنه يورث من يعانيه قدرة على الكلام في تحقيق عقائد الدين، كالمنطق في العلوم الفلسفية، وخص باسم الكلام للتفرقة بينهما، أولما فيه من الجدل والمناظرة في العقائد والبدع وهي كلام صرف لا ترجع إلى عمل (2).

4 -

وهذا العلم وإن التبست مسائله بمسائل الفلسفة الإلهية في كتب المتأخرين حتى ظنا علمًا واحدًا على ما سيأتي بيانه، بينه وبين هذه الفلسفة فرق كبير ذلك أنه في الفلسفة الإلهية يبحث العقل بنوره الخاص ويرى حقا ما توصل إليه بالدليل دون نظر إلى ما جاء به الشرع، اما في علم الكلام فالبحث فيه يستند إلى ما جاء عن الدين من العقائد، ثم يلتمس العقل من الحجج العقلية ما يعاضد هذه العقائد التي وجب التسليم بها أولًا عن الشرع، أو بعبارة أخرى مأثورة:"الفيلسوف يستدل ثم يعتقد، والمتكلم يعتقد ثم يستدل"، وكثير ما بين المقامين (3).

(1) التعريفات للجرجانى، ص 124 طبعة الأستانة سنة 1327 هـ، والمقاصد للتفتازانى جـ 1، ص 4.

(2)

التهانوى طبعة الأستانة جـ 1 ص 26، والمقاصد جـ 1 ص 5 وابن خلدون ص 328.

(3)

المقاصد جـ 1، ص 9، وابن خلدون ص 392، والتهانوى جـ 1، ص 28.

ص: 2390

5 -

وقد اقتضت طبيعة هذا العلم الخلاف في مسائل كثيرة ترجع إلى الدين وعقائده، إلا إنّه من الممكن أن نقول إن هذه المسائل ترجع -كما يقول الخوارزمى- إلى اثنتى عشرة مسألة. هذه المسائل هي: حدوث الأجسام للرد على الدهريين القائلين بقدم الدهر، وإثبات أن للعالم محدثا هو الله تعالى، وانه واحد للرد على الثنوية والمثلثة من المجوس والزنادقة والنصارى، وأنه لا يشبهه شيء للرد على المشبهة والمجسمة، والكلام في الرؤية ونفيها وإثباتها، والكلام في الصفات للرد على المعطلة، والكلام في أفعال العباد وهل يخلقها الله أو العباد أنفسهم، وأنه تعالى يريد القبائح أو لا يريدها، وحكم مرتكب الكبيرة ومعنى هذا الكلام في الأيمان وحده وماهيته، والدلالة على النبوة بصفة عامة ردا على البراهمة وغيرهم من مبطليها والدلالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة، والقول في الإمامة ومن يصلح لها. هذه هي أصول الدين -كما يرى الخوارزمى- التي تدور عليها بحوث المتكلمين وخلافاتهم، وما عداها ففروع منها أو مقدمات وتمهيدات لها (1).

6 -

وبسبب الخلافات في أكثر هذه المسائل نشأت الفرق الإسلامية المختلفة التي سجلتها كتب علم الكلام، وهي فرق متعددة يجتمع بعضها أحيانا ويفترق أحيانا، كما قد ينضوى الكثير منها تحت لواء فرقة واحدة. من أجل ذلك يمكن حصر الفرق الأصول في ست، هي: أهل السنة، والمشبهة المجسمة، والمعتزلة، والمرجئة، والخوارج، والشيعة. ومن يرد استقصاء أمر هذه الفرق ومعرفة ما انقسمت إليه كل فرقة منها يجد طلبته على حبل الذراع منه في كتاب الملل والنحل للشهرستانى، والفصل في الملل والنحل لابن حزم، ومقالات الإسلاميين للأشعرى، ومفاتيح العلوم للخوارزمى (2) وغيرها من

(1) مفاتيح العلوم طبع ليدن ص 39 - 41

(2)

الطبعة المذكورة ص 34 وما بعدها. وقد جعل الإسفرايينى في التبصير ص 15 - 16 وابن حزم في الفصل ب 2 ص 111 الفرق الأصول خمسًا لا ستًّا. ولكنى زدت عليها المشبهة التي عدها الخوارزمى لأنهم جماعة لهم مذهبهم الخاص في الذات والصفات.

ص: 2391

المؤلفات التي عنيت بهذا العلم وتاريخه.

نشأته:

لم ينشأ هذا العلم كاملًا مرة واحدة بل كان- شأنه شان العلوم الأخرى- محدود الدائرة في أول أمره، ثم أخذ يتسع وينمو شيئًا فشيئا تابعًا سنة النشوء والارتقاء، ومتاثرًا بعوامل مختلفة عملت على خلقه وإنمائه، حتى نضج وكمل وصار على ما نعرفه اليوم. هذه العوامل كان منها ما يتصل بالقرآن والحديث، وما يتصل بمن دخل في الإسلام من أمشاج من الأمم المختلفة في العقلية والثقافة. وما يتصل بما نقل للعربية من فلسفة اليونان وغير اليونان.

1 -

القرآن وهو الكتاب الأول للإسلام يدعو إلى التفكير والنظر وينعى على التقليد والمقلدين، لذلك كان لا بد للمسلمين من أن يجيلوا العقل والرأى في القرآن نفسه وفي السنة التي جاءت تقريرا له وإيضاحًا. إلا أنهم- والرسول بين ظهرانيهم- كانوا في غير حاجة لكثير من التعمق في فهم القرآن، فكانوا يستفتونه فيما لا يفهمونه فيهديهم سواء السبيل، ولما لحق النبي صلى الله عليه وسلم بربه وظهرت مشكلة الخلافة وحدثت فتنة عثمان وعلى رضي الله عنهما، كان ذلك مما استدعى الخلاف والجدل والحجاج. اختلفوا في الإمامة وشروطها ومن أحق بها، فكان منهم الشيعة الذين يقصرونها على على وسلالته، والخوارج ومعهم المعتزلة الذين يرونها حقًّا لأصلح المسلمين ولو كان عبدًا، والمعتدلون- وهم الجمهرة الغالبة الذين يجعلونها للأصلح من قريش. ثم اختلفوا - بعد أن استحر القتل بينهم في فتنة عثمان وعلى- في الكبيرة ما هي، وفي حكم مرتكبها أمؤمن هو أم كافر، واستتبع هذا طبعًا الخلاف في الإيمان وحده، فكان من هذا الخلاف خوارج ومرجئة ثم فيما بعد معتزلة، وهكذا أصبح هذا الخلاف دينيًّا بعد أن كان أول أمره

ص: 2392

سياسيًا فصار من مباحث علم الكلام الهامة، كما صارت الإمامة مبحثًا هامًا آخر مع أنها بالفقه أليق لأنها هن الأحكام العملية دون الاعتقادية، إذ قصاراها أنها قضية مصلحية- تتعلق بمن يصلح لإدارة أمور المسلمين- لا اعتقاديه تتعلق بأصل من أصول الدين. ولكن لما غالت الإمامية والروافض والخوارج فيها، وكان لبعضهم فيها آراء تكاد تقضى إلى رفض كثير من قواعد الإسلام، ألحقها المتكلمون بعلم الكلام لتبحث بحثًا بعيدًا عن التعصب والهوى ويتبين منه الحق من الباطل صونًا للعقائد الدينية الصحيحة (1).

2 -

ولما استقر المسلمون بعد الفتوحات، ودخل هن دخل في الإسلام من أرباب الديانات المختلفة، عكف المسلمون من جهة على فهم القرآن والتعمق في هذا الفهم، ومن جهة أخرى أثار بعض هؤلاء الذين التحقوا بالإسلام- دون أن يتبطنوه - كثيرًا من عقائدهم الدينية التي جرت منهم مجرى الدم، وصاروا يتجادلون حولها ويجادلون المسلمين فيها. في هذه المرحلة نجد الآيات المتشابهة في القرآن يستعرضها المفكرون ويحللونها، ويحاول كل أن يخضعها لما يرى من راى؛ إما بأخذها على ظواهرها، وإما بتأويلها تنزيها لله تعالى عما يوهم التشبيه في الذات أو الصفات، وإما بالإيمان بها كما جاءت دون تعرض لها بتفسير أو تأويل. وكانت نتيجة هذه المواقف من دلك الآيات ظهور فرقة المشبهة والمجسمة، فرقة المعتزلة المعطلة النافية للصفات مبالغة في التنزيه، والصفاتية وهم جمهور السلف الذين بين بين (2). كما نجد- من ناحية اخرى- إنّه لما استفحل شر الملاحدة الذين كان دأبهم نشر الألحاد بين المسلمين وترجمة كتب الثنوية وغيرهم من أصحاب المقالات الضالة، انتدب علماء الجدل من المتكلمين أنفسهم لدحض تلك

(1) المقاصد، ب 2 ص 199 - 700، ابن خلدون ص 268

(2)

ابن خلدون ص 367. والشهرستانى في الملل والنحل جـ 1 هـ 166.

ص: 2393

المقالات، وكان حاملو لواء هذا الدفاع طائفة من نبغة المعتزلة، فألفوا لهذه الغاية الجليلة الرسائل والكتب التي تشهد لهم بطول الباع وحسن البلاء، على ما سنرى.

3 -

في هذه الفترة- فترة تطاحن المذاهب والنحل والآراء وعناية نبغة المتكلمين وبخاصة المعتزلة بالرد على أرباب المذاهب الضالة- نجد أبا الحسن الأشعرى ينبغ ويكون صاحب المذهب المعروف باسمه والذي ينتظم أكبر عدد من المسلمين حتى هذه الأيام، كما يكون وجوده فاتحة طور جديد في تاريخ علم التوحيد. ظهر الأشعرى وعاش في القرنين الثالث والرابع الهجريين، وأحس بحدة الخلاف بين طوائف المتكلمين في مسائل كثيرة وبخاصة في مسائل صفات الله كلامه ورؤيته، ورأى كل فريق من هؤلاء المتناضلين في هذه المشاكل قد تطرف في رأيه وغلا غلوًا كبيرًا وراح ينصره بالحق وبالباطل، فعمل على أن يكون في رأيه وسطًا وعلى أن يبنى له ولأنصاره مذهبًا يجمع عليه كلمة الأمة. وقد حقق الله له ما تشوف إليه وعمل له، فكان مذهبه هو الذي عرف بعد بمذهب أهل الحق أو مذهب أهل السنة والجماعة.

4 -

انتشر مذهب الأشعرى وكثر أنصاره من المتكلمين الذين أخذوا أخذه في التأليف في علم الكلام على غراره، يردون على خصومهم ومنهم المعتزلة الذين كانوا اضطروا للتسلح بالفلسفة للرد على خصومهم الملاحدة وأرباب الملل والنحل الأخرى، فكان لا بد إذن للأشاعرة من أن يخلطوا كلامهم بغير قليل من الفلسفة، ومن أجل هذا وذاك نرى كثيرًا، من قضايا الفلسفة ومسائلها تحتل كتب علم التوحيد. وإذا فليس علم الكلام وليد الفلسفة كما يظن كثيرون خطأ. إنه ولد في الإسلام قبل أن يعرف المسلمون الفلسفة، وإن كانت أثرت فيه- لما تمثلها المسلمون- أثرًا كبيرًا، إذ قوته وشدت أزره، وأمدته بالكثير من الأسلحة والمسائل والأدلة والبراهين.

ص: 2394

وكان من هؤلاء الأنصار الذين عملوا على نصرة مذهب الأشعرى ونشره في الشرق والغرب القاضي أبو بكر الباقلانى المتوفى سنة 403 هـ الذي له قريب من خمسين ألف ورقة من تصانيفه في نصرة الدين والرد على أهل الزيغ والبدع، لا تكاد تندرس إلى يوم القيامة (1) إلا أن هذا العالم الجليل الذي تصدى للإمامة في مذهب الأشعرى وهذبه، ووضع لمسائل العلم وقضاياه المقدمات العقلية التي تتوقف عليها الأدلة، وذلك مثل إثبات الجوهر الفرد والخلاء، وأنه لا يقوم العرض بالعرض وأنه لا يبقى زمانين، وأمثال ذلك مما تتوقف عليه أدلتهم- إلا أن هذا العالم على ألمعيته وجلالته جعل هذه القواعد تبعًا للعقائد الإيمانية في وجوب اعتقادها لتوقف تلك الأدلة عليها، وأن بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول" (2). وهكذا ضيق القاضي ومن معه على الناس ولم يوغلوا برفق، وليت شعرى ماذا يرون في إيمانهم أنفسهم قبل ذلك وفي إيمان الصحابة وعامة المسلمين الذين يجهلون هذا من قبل ومن بعد (3).

5 -

وكان من حسن جد المسلمين أن نبغ بعد الباقلانى إمام الحرمين أبو المعالى الجويني وتلميذه الأشهر حجة الإسلام أبو حامد الغزالى، فصار كل منهما إمامًا للمذهب في زمنه ولم يعتقدوا ومن تبعهم -كما رأى الباقلانى من قبل- بطلان المدلول إذا بطل الدليل، وبهذا انفك الحجر على الناس في الاستدلال، وعرفت هذه الطريقة بطريقة المتأخرين التي لاتزال تسود راسة علم الكلام حتى هذه الأيام.

وهذه الطريقة تمتاز أيضًا بإفساح المجال فيها للرد على الفلاسفة فيما خالفوا فيه من عقائد الدين، وهذا هو السبب في خلط مذاهب الفلسفة بعلم التوحيد. ثم غلا المتأخرون في حشو كتبهم بمسائل الفلسفة والرد عليها - كما نرى فيما يدرس منها بالأزهر في العصر الحاضر- حتى التبس عليهم

(1) الإسفرايينى، في التبصير في الدين، نشر عزت العطار الحسينى بمصر سنة 1940 ص 119.

(2)

ابن خلدون 369.

(3)

الشيخ حسين والى في كتابه التوحيد، جـ 1 ص 54 الطبعة الأولى عام 1909 م.

ص: 2395

شأن الموضوع في العلمين فحسبوه فيهما واحدًا من اشتباه المسائل فيهما (1)، مع أن الحق اختلاف العلمين في الموضوع والمنهج كما أشرنا من قبل.

ويرى العلامة ابن خلدون في مقدمته (ص 369) أن الغزالى أول من كتب طريقة الكلام على هذا المنحى، أي الذي يتضمن الرد على الفلاسفة، لكنى أجدنى مضطرًا لمخالفته فيما ذهب إليه، هذا لأنه بالرجوع إلى بعض مؤلفات إمام الحرمين، مثل الإرشاد في قواعد الاعتقاد (2) يتبين أن الغزالى استقى منها في الرد على الفلاسفة. ويكفى أن يرجع الباحث إلى مبحث القول في العالم (3) ومبحث إثبات العلم للصانع (4) ليعلم مقدار ما استفاد الغزالى من أستاذه في الرد على الفلاسفة، وإذن فلايكون هذا أول من أدخل في كتاباته في هذا العلم الرد على ماذهب إليه الفلاسفة من آراء لا تتفق في رأيه والدين (5).

أهم الفرق الكلامية:

هكذا -كما رأينا- نشأ علم الكلام، ونما وتطور من حال إلى حال حتى صار على ما نرى اليوم. فلنذكر بعد هذا كلمة قصيرة عن كل من الفرق الكلامية التي لها خطر وتاريخ.

ونرى من الخير أن نتناول الحديث عن المشبهة والمعتزلة والأشاعرة معًا لارتباطهم في مسائل كثيرة، كان لكل من الفرقتين الأوليين فيها رأى خاص على النقيض من رأى الأخرى، وكان رأى الأشعرى والأشاعرة وسطًا بينهما.

1 -

جاء في القرآن آيات تدل بظاهرها على أن لله وجهًا ويدين، وجهة هي السماء، ومكاناً هو العرش، ونحو ذلك مما يوهم التشبيه والجسيمة والنقلة؛ واخرى تثبت له صفات مختلفة

(1) ابن خلدون ص 369

(2)

مخطوط بدار الكتب برقم 819 توحيد.

(3)

الكتاب المذكور من الورقة السابعة.

(4)

نفسه، الورقة الثانية عشرة.

(5)

من الحق أن أقرر أن خالى العلامة المرحوم الشيخ حسين والى تبع ابن خلدون في رايه الذي أخالفه فيه. وذلك في موْلفه"كتاب التوحيد" ص 57.

ص: 2396

من العلم والقدرة والكلام ونحوها؛ وطائفة ثالثة منها ما يصرح بأنه لا تدركه الأبصار، ومنها ما يدل على جواز رؤيته تعالى. فرأى رجال السلف الصالح متابعة الصحابة والتابعين في موقفهم منها، فغلبوا -كما يذكر ابن خلدون- أدلة التنزيه لكثرتها ووضوح دلالتها، وعلموا استحالة التشبيه، وقضوا بأن الآيات من كلام الله فآمنوا بها ولم يتعرضوا لمعناها ببحث ولا تأويل" (1). ومن هؤلاء الذين وقفوا هذا الموقف مالك بن أنس وأحمد بن حنبل رضي الله عنهما، فقد سئل الأول عن معنى قوله تعالى "الرحمن على العرش استوى" فقال: "الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والأيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة" (2).

إلا أنه شذ لعصر هوْلاء وبعدهم جماعة من المبتدعة راوا الأخذ بظاهر هذه الآيات ونحوها من الأحاديث، ورأوا تفسيرها كما وردت من غير تأويل، فوقعوا في التشبيه المحض والتجسيم الصريح، باعتقاد بعضهم أن لله يدا وقدما ووجها وبعضهم أن له جهة ينزل منها حين يريد وعرشًا يستوى عليه وكلامًا له صوت وحروف؛ وبذلك نرى الأولين أشبهوا في ذاته تعالى، والآخرين أشبهوا في صفاته وأنهم آلوا جميعًا إلى التجسيم (3)

من هؤلاء المشبهة المجسمة جماعة من الحنابلة الغلاة الذين أوقعهم في هذه الهاوية تطرفهم في الأخذ بالظاهر وتفسيره كما ورد. وقد ذكر جمال الدين بن الجوزي في كتابه "دفع شبهة التشبيه" كثيرا من آراء هؤلاء المتطرفين أمثال الحسن بن حامد البغدادي الوراق شيخ الحنابلة في زمنه والقاضي أبو يعلى وابو الحسن بن الزاغونى، وغيرهم ممن يقول فيهم ابن الجوزي، في كتابه المذكور، إن من أصحابنا الحنابلة من تكلم في الأصول بما لا يصلح فنزلوا إلى مرتبة العوام؛ إذ

(1) المقدمة ص 367 ومثل هذا في الملل والنحل جـ 1، ص 116 - 177

(2)

الملل والنحل جـ 1، ص 118.

(3)

ابن خلدون ص والملل والنحل جـ 1، 117 ص.

ص: 2397

حملوا الصفات على مقتضى الحس، وأثبتوا لله صورة ووجها زائدا على الذات .. ! وقد حكى عنهم عضد الدين الأيجى في هذه الناحية ما تأنف الآذان من سماعه (1).

2 -

على النقيض من رأى هؤلاء الغلاة في التمسك بظاهر ما تشابه من الآيات والأحاديث فصاروا إلى التشبيه والتجسيم، نجد المعتزلة الذين غلوا في فهم وحدة الله وتنزيهه فصاروا إلى التعطيل بنفى كل الصفات.

رأس هذه الفرقة هو واصل بن عطاء (80 - 131 هـ) حتى إن بعض المؤلفين يلقبها أحيانا بالواصلية (2). كان واصل من تلاميذ الحسن البصري، إمام أهل السنة في وقته؛ وفي يوم ما سئل البصري عن رأيه في جماعة يكفرون أصحاب الكبائر وآخرين يرجئون الحكم عليهم، فتفكر الحسن قليلا، وقبل أن يجيب قال واصل:"أنا لا أقول إن صاحب الكبيرة مؤمن مطلق ولا كافر مطلق، بل هو في منزلة بين المنزلتين: لامؤمن ولا كافر" ثم قام واعتزل إلى أسطوانة من أسطوانات المسجد يقرر ما أجاب به، فقيل اعتزل عنا واصل، وسمى هو وأصحابه معتزلة (3).

وليس من همنا الآن أن نحقق سبب تسميتهم معتزلة، لذلك نضرب صفحًا عن الأقوال المختلفة في سبب التسمية، إلا أننا نذكر أنه قد يكون الحق أن هذه التسمية لم تكن لتركهم سارية من المسجد إلى سارية أخرى، بل لاعتزالهم ما كان معروفًا حين ذاك من الآراء في المسألة التي كان فيها الخلاف، أي من حكم من ارتكب إحدى الكبائر. وهؤلاء المعتزلة يرجعون في الأصل إلى شعبتين: شعبة البصرة التي أسسها واصل هذا الذي يذكره المسعودى بأنه شيخ المعتزلة وقديمها (4)، وشعبة الكوفة التي أسسها بشر بن المعتمر المتوفى عام 210 هـ. وهم فرق كثيرة تختلف في بعض التفاصيل والجزئيات إلا أنها كلها تجمعها أصول خمسة: التوحيد، والعدل، والوعد، والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. وليس يستحق أحد منهم اسم

(1) المواقف، طبع مصر عام 1357، ص 273

(2)

الشهرستانى في الملل والنحل جـ 1، ص 57.

(3)

الملل والنحل ص 60.

(4)

مروج الذهب طبع دار الرجاء بمصر 4 ص 54.

ص: 2398

الاعتزال حتى يجمع القول بهذه الأصول (1). وقد تناول هذه الأصول بالشرح والتحليل كثير من المؤلفين، نذكر منهم الخياط المعتزلى في كتابه الانتصار، والمسعودى في مروج الذهب جـ 3 ص 153 - 154، والشهرستانى في الملل والنحل جـ 1 ص 51 وما بعدها، وغير هؤلاء من المتكلمين فلا حاجة للتطويل بشرحها وتحليلها.

وتطبيقًا لأصلهم الأول، وهو التوحيد، نراهم يغلون في فهم تنزيه الله عن سمات المخلوقين فينفون صفات المعاني- من العلم والقدرة والإرادة والحياة- حذرًا من تعدد القديم، كما قضوا بنفى السمع والبصر والكلام لكونها من عوارض الأجسام (2) وهكذا أمعنوا في هذه الناحية بنفى الصفات حتى سموا أيضًا بالمعطلة (3)، أي الذين عطالوا الذات من صفاتها، في مقابلة الذين أثبتوها من السلف فسموا بالصفاتية.

وخير ما يمعر شرح المعتزلة لهذا الأصل- أعنى التوحيد -هو ما حكاه عنهم الأشعرى في كتابه القيم مقالات الإسلاميين (4) من أن الله تعالى واحد ليس كمثله شيء؛ فليس بجسم ولا سورة ولا جوهر ولا عرض ولا بذى لون ولا رائحة ولا مجسة، ولا طول ولا عرض ولا عمق، ولا يتحرك ولا يسكن، وليس بذى أعضاء وأجزاء وجوارح وليس بذى جهات ولا يحيط به مكان، ولا تجوز عليه المماسة ولا تدركه الحواس، ولا يقاس بالناس ولا يشبه الخلق بوجه من الوجوه، ولا تدركه الأبصار ولا يسمع بالأسماع، إلى آخر للك الصفات السلبية كلها التي بها يسلم أصلهم الأول وهو توحيد الله في كل شيء وتنزيهه عن كل مشابهة لشئ من خلقه ماخطر منها بالبال وما لم يخطر.

وهكذا نرى رأى المعتزلة في هذه المسألة يقوم على الاستمساك بآيات التنزيه وتأويل الآيات المتشابهة تأويلًا يتفق والتنزية والتوحيد اللذين جاء بهما الإسلام. كان من هذا أن أولوا الاستواء على العرش بالاستيلاء، واليد بالقدرة أو النعمة، والعين- في قوله تعالى

(1) الانتصار لأبي الحسين الخياط المعتزل نشره الدكتور نيبرج وطبع دار الكتب عام 1925 م ص 126

(2)

ابن خلدون ص والتفتازانى في المقاصد جـ 2 ص 54.

(3)

الملل والنحل جـ 1 ص 116، والمقاصد ص 54.

(4)

ص 155 - 156.

ص: 2399

"ولتصنع على عينى"- بالعلم (1)، وأن أجمعوا على أن الله لا يرى بالأبصار (2) لاستلزام الرؤية الجهة والجسمية عندهم.

والمعتزلة بعد هذا كانوا أكثر الفرق اتصالًا بالفلسفة اليونانية وأسرعهم للإفادة منها؛ اضطرهم لذلك ما انتدبوا أنفسهم له من الحجاج عن الدين وعقائده، والرد على المخالفين من أصحاب الملل والنحل الأخرى. ولهم في هذا أعلام يشار إليهم مثل أبو الهذيل العلاف شيخهم الأكبر كما يصفه الشهرستانى (3)، والذي عاش في القرنين الثاني والثالث من الهجرة، وتلميذه إبراهيم بن سيار النظام المتوفى عام 221 هـ الذي جعل وَكده الرد على الملحدين وبخاصة الدهريين، والجاحظ تلميذ النظام وخريجه المتوفى -كما يروى ابن خلكان- عام 255 هـ وقد نيف على التسعين والذي كان حياته لسان المعتزلة المدافع عنها، وساعده على هذا أن حظه من الفلسفة اليونانية كان أوفر من حظ سابقيه. هذه الجهود في نصرة الدين والرد على الملاحدة هي التي جعلت أبا الحسين الخياط يقول:"وويل صاحب الكتاب- يريد ابن الروندى- من الملحدين والذب عن التوحيد لولا إبراهيم وأشباهه من علماء المسلمين، الذين شأنهم حياطة التوحيد ونصرته والذب عنه عند طعن الملحدين فيه الذين شغلوا أنفسهم بجوابات الملحدين ووضع الكتب عليهم إذ شغل أهل الدينا بلذاتها وجمع حطامها. (4) ".

بعد هذا لا يكون الباحث مبالغًا أن قرر أن المعتزلة هم الذين خلقوا علم الكلام على هذا النحو، بنصبهم أنفسهم مدافعين عن الدين، رادين على الفرق المخالفة للحق في رأيهم من المسلمين وغير المسلمين.

في ذلك يقول الشهرستانى: "ثم طالع بعد ذلك شيوخ المعتزلة كتب الفلاسفة حين فسرت أيام المأمون فخلطت مناهجها بمناهج الكلام، وأفردتها فنًا من فنون العلم وسمتها باسم الكلام"(5) ولا نتعرض هنا للحكم على خلقهم هذا العلم أكان شرًّا أم خيرًا، فلذلك موضع آخر غير هذا البحث المحدود.

(1) مقالات الإسلاميين ص 595.

(2)

نفسه ص 157.

(3)

جـ 1 ص 33.

(4)

الانتصار جـ 1 ص 4.

(5)

الملل والنحل جـ 1 ص 32.

ص: 2400

3 -

ومهما يكن فقد ظهر الأشعرى في هذه الفترة، فترة تطاحن الملل والنحل والمذاهب والآراء، فأسس مذهبه الذي عرف فيما بعد بمذهب أهل السنة والجماعة من أصحاب الحديث والرأى. وحملة فرق الفقهاء، أي أهل الحق دون من عداهم من المبتدعين (1). ومؤسس هذا المذهب هو أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعرى البصري مولدًا والمتوفى عام 330 هـ على أرجح الأقوال.

ومن الطريف ذكره هنا أن الأشعرى، وهو إمام أهل السنة، نشأ على الاعتزال وتتلمذ على أبي على الجبائى حتى صار إمام المعتزلة في عصره؛ وأن واصل بن عطاء كان -كما رأينا- في أول أمره سلفيًا تلميذًا للحسن البصري؛ من أجل هذا نرى الناس يرتابون في الأشعرى حينما ظهر بمذهبه الجديد، سواء في ذلك أصحابه الأولون المعتزلة ومن مال إليهم وهم أهل السنة، وبلغ من هذه الريبة أن كفره الحنابلة واستباحوا دمه. عنى الأشعرى بتحكيم العقل والنظر الصحيح في آراء تلك الفرق المتعارضة المتناقضة وبخاصة في آراء المعتزلة أصحابه القدامى، حتى هدى في كثير من الحالات إلى رأى وسط يعتبر الحق لدى جمهرة النظار المعتبرين. وفي ذلك يقول ابن خلدون بعد ما حكى في إيجاز آراء المشبهة والمجسمة وما كان من المعتزلة من عقائد تخالف مذهب أهل السلف، ومن هذا رأيهم في القرآن وأنه مخلوق مما كان سببًا للفتنة الدامية المعروفة أيام المأمون ومن بعده ومن رأى رأيه- يقول: وكان ذلك سببًا لانتهاض أهل السنة بالأدلة العقلية على هذه العقائد دفعًا في صدور هذه البدع، وقام بذلك الشيخ أبو الحسن الأشعرى إمام المتكلمين فتوسط بين الطرق، ونفى التشبيه، وأثبت الصفات المعنوية وقصر التنزيه على ما قصره عليه السلف وشهدت له الأدلة المخصصة لعمومه، ورد على المبتدعة في ذلك كله، وتكلم معهم فيما مهدوه لهذه البدع من القول بالصلاح والأصلح والتحسين والتقبيح، وكمل العقائد في البعثة وأحوال الجنة والنار والثواب والعقاب، وألحق بذلك

(1) التبصير في الدين للإسفرايينى ص 16، وابن حزم جـ 2، ص، 122.

ص: 2401

الكلام في الإمامة لما ظهر حينئذ من بدعة الإمامية من قولهم إنها من عقائد الإيمان" (1).

وفي مكانة الأشعرى وأثره في هذا العلم يقول أيضًا الحافظ بن عساكر الدمشقي المتوفى عام 571 هـ: إنه في ذلك العصر قام سوق البدع، وحاد أهل الاعتزال عن سنن الاعتدال فنفوا عن الرب سبحانه ما أثبته من صفاته، وتمادى أهل التشبيه حتى توهموا ربهم جسمًا يقبل تميزًا وافتراقًا وانضمامًا. حتى جاء أبو الحسن الأشعرى فكان لديد الخصام لمن حاول الإلحاد في أسماء الله وصفاته، وألزم الحجة لمن خالف السنة، فلم يسرف في التعطيل ولم يغل في التشبيه وكان بين ذلك قوامًا (2).

وقد ظهر توسط الأشعرى وكبار النظار الذين نصروا رأيه من بعده وسموه مذهب أهل السنة والجماعة، في مسائل كثيرة نذكر منها ثلاثًا هي في رأينا أهمها. هذه المسائل هي: مسألة الصفات، ومسألة الكلام وما يتبعها من أن القرآن مخلوق أو غير مخلوق، ومسألة رؤيته تعالى.

ففي مشكلة الصفات وجد الأشاعرة أن المشبهة والمجسمة ألغوا عقولهم بحجة التمسك بالظاهر فأضافوا لله ما لا يرتضيه عاقل من الصفات التي تدل على أن له تعالى جهة ومكانًا وأجزاء ونحو هذا، وأن المعتزلة غلوا في الطرف الآخر فنفوا عن الله كل صفة فوقعوا في التعطيل، وأن الحق التوسط في الأمر فأضافوا له صفات العلم والقدرة ونحوهما مما لا يوهم التجسيم والتشبيه، وبذلكُ كانوا بحق وسطًا بين طرفى الإفراط والتفريط.

وكذلك في مشكلة الكلام: أحادث هو أم قديم، والقرآن: أمخلوق هو أم غير مخلوق، رأوا- في الأشاعرة- الحنابلة والحشوية يذهبون إلى أن الأصوات والحروف مع تواليها وترتب بعضها على بعض كانت ثابتة في الأزل قائمة بذاته تعالى، وإلى أن المسموع من أصوات القراء والمرئى من أسطر الكتاب

(1) المقدمة ص 368.

(2)

تعيين كذب المفترى، نشر المقدسي بدمشق عام 1347 هـ، ص 25 - 26

ص: 2402

نفس كلام الله القديم، بل زاد بعضهم في الغلو فذهب إلى أزلية الجلدة والغلاف كما ذهب آخرون إلى أن الجسم الذي كتب به القرآن فانتظم حروفًا وكلمات هو بعينه كلام الله وصار قديما بعد أن كان حادثًا (1)؛ كما رأوا أن المعتزلة ذهبوا إلى أنه حادث مخلوق لأنهم زعموا أنه من الحروف وهذا بلاشك حادث؛ ولذلك قالوا الحادث لايقوم بذاته تعالى، وإذن فمعنى كون الله متكلمًا- وهذا مالا يسعهم إنكاره- أنه خلق الكلام في بعض الأجسام المخصوصة كاللوح المحفوظ وجبريل والنبي [صلى الله عليه وسلم](2).

هكذا رأى الأشاعرة الأمر بين الحنابلة والمعتزلة، فنظروا في حجج الفريقين، ووزنوها بميزان العقل والإنصاف، فكانت النتيجة أن وافقوا الأولى في أن القرآن قديم، ولكنه ليس كما قالوا الألفاظ والحروف التي نراها مسطورة في الصحف ونسمعها بآداننا ونتلوها بألسنتنا، إنما هو المعنى النفسى القائم بذاته تعالى. كما وافقوا الآخرين على أن النظم المؤلف من الحروف والأصوات على الترتيب المعروف حادث، لكن هذا ليس القرآن محل النزاع، إنه كما قلنا المعنى النفسى القائم بذات الله وهو قديم لاريب فيه للاتفاق على استحالة قيام الحوادث بذاته تعالى (3) وهذا الرأى الذي حكيناه عن الأشاعرة نجده في كتب التوحيد بأيدينا وتدرس بالأزهر، كما نجده للأشعرى نفسه في كتابه الإبانة وكتابه مقالات الإسلاميين (4)، وللغزالى في كتابه الاقتصاد (5).

بقى -بعد هذه المسألة وتلك- مسألة رؤية الله، وهل هي جائزة أو ممتنعة، وإذا كانت جائزة فكيف، أما الحنابلة المشبهة فيجيزونها في الدنيا، جريًا وراء الظاهر من الآيات والأحاديث كما ذكره جمال الدين بن الجوزي في كتابه دفع شبهة التشبيه (6) وأجازوها في جهة ومكان (7)، بينما أحالها المعتزلة لما تستلزمه في رأيهم من جهة يكون فيها المرئى في مقابلة الرائى، كما تقدم

(1) المقاصد جـ 2، ص 74، والمواقف، الطبعة السابقة ص 293

(2)

المقاصد جـ 2، ص 74 والمواقف ص 293 - 294.

(3)

نفسه ص والمقاصد ص 74 وما بعدها.

(4)

ص 292.

(5)

ص 53 وما بعدها.

(6)

ص 29 وما بعدها.

(7)

المقاصد جـ 2 ص 82.

ص: 2403

بيانه عنهم (1)، فجاء الأشاعرة وذهبوا إلى جواز الرؤية بالأبصار في الدنيا ووقوعها في الآخرة من غير أن تستلزم أن يكون المرئى في مكان وجهة ودون ارتسام سورة المرئى في العين ونحو هذا مما يوهم التشبيه (2). بذلك كان الأشاعرة وسطًا في هذه المسألة كما في سابقتيها، إذ لم يذهبوا إلى ما رآه المعتزلة من نفيها مطلقًا، ولا إلى ما رآه الحنابلة من جوازها- بل ووقوعها- بما تستلزمه من الجهة والمكان والمقابلة كما في الحوادث.

وإذا جاز لنا أن نبحث هنا مدى نجاح الأشاعرة في محاولاتهم التي ذكرنا بعض الشيء عنها في التوفيق بين بعض الآراء والمذاهب المتعارضة، نقول إنهم في مسألة الصفات لم يوفقوا فيما نرى. إنه ليس هناك من الأدلة القطعية ما يثبت أن لله صفات غير الذات، وكل ما في الكلام أنه متكلم وقادر وعالم إلخ فلو وقفوا عند هذا ولم يحاولوا إثبات صفات زائدة على الذات، لما لزمهم القول بتعدد القدماء لزومًا لم يستطيعوا الفرار منه ولا الدفاع عنه.

وفي مسألة كلام الله وقدمه كان التوفيق فيما نرى حليفهم. لقد فرقوا بين الكلام المتلفظ به الذي نقرؤه - وهو حادث- وبين الكلام النفسى القائم بذاته تعالى وهو القديم، وبهذا حكموا اللغة والنقل والعقل وخلصوا من شنعة القول بخلق القرآن أو بقدم كل ما يتصل به حتى الجلدة والغلاف.

وكذلك كانوا موفقين في مشكلة رؤيته تعالى. إنهم بعد أن نزهوا الله عما يوهم التشبيه والتجسيم اللذين وقع فيهما المشبهة والمجسمة، وجدوا من الآيات والأحاديث ما يجيز رؤيتنا لنّه تعالى، فأثبتوها بلا كيف ولا انحصار ولا جهة ولا مكان ولا غير ذلك مما يكون عادة في رؤية الحوادث، وهذا ما لا يحيله العقل السليم.

بعد هذا نذكر كلمة عن الخوارج والمرجئة والشيعة، حتى نخلص من التعريف بالفرق الأصول كلها كما وعدنا أول البحث.

(1) وينظر أيضًا المواقف ص 307 وما بعدما.

(2)

المواقف جـ 299 وما بعدها والمقاصد جـ 2 ص 83 وما بعدها.

ص: 2404

4 -

ظهر الخوارج إثر فتنة على ومعاوية رضي الله عنهما، وتاريخهم كحزب سياسى كان له آثار لها خطرها في الدولة الإسلامية، كل ذلك معروف فلا حاجة للكلام فيه، إنما الذي يهمنا الآن هو تعرف ما كان لهم من رأى في بعض المسائل الدينية التي جرهم إليها موقفهم السياسي. فقد انتهى تشددهم في الدين إلى أن قرروا أن الإيمان ليس الاعتقاد وحده، بل يدخل فيه العمل بما أنزل الله من أوامر، وإذًا فمن اعتقد بوحدانية الله وبرسالة من أرسل من رسله ولم يعمل بأوامره فهو كافر. وبذلك نرى الخلاف السياسي الذي كان يدور على الخلافة ومن أحق بها، يأخذ طابعًا دينيًّا قويًّا، وتتكون حوله فرق الخوارج والشيعة والمرجئة.

وفرق الخوارج العشرون تختلف فيما بينها في الجزئيات والتفاصيل إلا أنها جميعها تتفق علي أن كل من أتى من المسلمين ذنبا فهو كافر (1)؛ لأن الإيمان اعتقاد وعمل، وهذا ما اشتهر بين علماء الكلام بمسألة مرتكب الكبيرة وهل هو كافر أو مؤمن أو في منزلة بين المنزلتين، على الخلاف بين الخوارج والمرجئة والمعتزلة. ويذكر ابن حزم أن عمدة مذهب الخوارج هو الكلام في الإيمان والكفر ما هما، والتسمية بهما، والوعد، والإمامة، واختلفوا فيما عدا ذلك كما اختلف غيرهم (2). وبهذا لا يكون بعيدًا عما ذكر الأسفرايينى في التبصير.

وجملة القول في مرتكب الكبيرة أن الأمة اختلفت في حكمه واسمه على مذاهب لكل أدلته التي استند إليها؛ فقال الأشاعرة إنه مؤمن ورأى الخوارج أنه كافر، وتوسط بينهما المعتزلة فذهبوا إلى أنه لا مؤمن. ولاكافر، بإطلاق بل هو في منزلة بين الإيمان والكفر (3) ومعلوم أن هذا الخلاف فرع الخلاف في حد الإيمان والكفر.

5 -

وكما كان بحث الخوارج يدور حول الإيمان والكفر، كذلك كان بحث

(1) التبصير ص 26، الملل والنحل للشهرستانى جـ 1 ص 154 وها بعدها، والمقاصد جـ 2 ص 182.

(2)

الفصل جـ 2 ص 113.

(3)

المقاصد جـ 2 ص، والمواقف الطبعة السابقة ص 384 ، وما بعدها.

ص: 2405

المرجئة (1) وهم الفرقة التي ذهبت إلى أن الإيمان هو التصديق أي معرفة الله بالقلب دون الإقرار باللسان والعمل بالجوارح، وبعضهم زاد الإقرار باللسان على المعرفة بالقلب، وبعضهم غلا غلوًا كبيرأ فزعم أن الإيمان قول باللسان وإن اعتقد الكفر بقلبه، وإذن فهم جميعًا يتفقون على أن العمل ليس من مفهوم الإيمان (2)، ولعل هذا الرأى في الإيمان، أعنى إرجائهم وتأخيرهم العمل منه على معنى أنهم يقولون؛ "ولا تضر المعصية مع الإيمان كما لا تنفع الطاعة مع الكفر"، هو سبب تسميتهم بهذا الاسم الذي عرفوا به (3).

وقد كان الباعث الأول لظهور المرجئة سياسيًا مرده إلى مسألة الإمامة وخلاف على ومعاوية؛ رأوا الخوارج يكفرون أصحاب الكبائر والشيعة الذين يرون -كما سيجئ- أن الإيمان بالإمام وطاعته جزء من الإيمان بالله، فأخذوا يبحثون فيما هو الإيمان، وكان أن ذهبوا إلى ما ذهبوا إليه فيه فلم يكفروا طائفة من تلك الطوائف المختلفة. إلا أنه لما كانوا على طرفى نقيض مع الخوارج كانت الخصومة حادة بين الطائفتين، كما كان شديدًا خلافهم مع المعتزلة أيضًا، لجعل هؤلاء وأولئك- الخوارج والمعتزلة- العمل جزءًا من الإيمان لا يتم إلا به.

من أجل ذلك نرى بعضهم يؤلف الكتب في نصر مذهبه والرد على خصومه. كما ذكر ابن النديم أن اليمان ابن رباب، من جملة الخوارج ورؤسائهم، كان من تآليفه كتاب على المعتزلة في القدر، وآخر في الرد على المرجئة (4) ولهذا أمثال كثيرون بين الفرق الإسلامية.

6 -

وأخيرًا نصل إلى الشيعة، الفرقة السادسة من الفرق الأصول الست. أشرنا من قبل إلى أن مشكلة الخلافة كانت من المشاكل الأولى التي واجهت المسلمين واختلفوا فيها فتكون حول هذا الخلاف الخوارج والشيعة والمرجئة.

(1) الفصل لابن حزم جـ 3 ص 112

(2)

نفسه جـ 4 ص 204، والشهرستانى جـ 1 ص 186 - 187

(3)

التبصير ص 60.

(4)

الفهرست ص 258.

ص: 2406

وأصل كلمة "شيعة" تطلق على أتباع الرجل وأنصاره، فكان هناك إذا شيعة على وشيعة معاوية، لكن هذا لما أصبح بعد وفاة على وتنازل ابنه الحسن عن الخلافة صاحب أمة لا صاحب حزب وشيعة خاصة، أصبحت هذه الكلمة إذا أطلقت يراد بها حزب على وبنيه وحده. هذا الحزب أقض مضاجع الأمويين أولًا ثم العباسيين من بعد، وكان له منازعات- تستخفى آنا وتستعلن آنا- وحروب غيروا بها من حكومات الدولة الإسلامية، وذلك كله معروف ليس هنا موضع الكلام فيه. إنما الذي نشير إليه هو خلافهم الهام في الإمامة الذي ألبسوه ثوب الدين فأصبح ملحقًا بعلم الكلام (1) أما فيما عدا الإمامة فهم يوافقون المعتزلة في كثير من مسائله.

والشيعة طوائف متعددة، إلا أنه تكاد تجمعهم هذه الطوائف: الغالية الذين غلوا في على رضي الله عنه وقالوا فيه ما لم يرد. وما لم يأذن به الله، والكيسانيةَ الذين ينسبون إلى كيسان رئيس جند المختار بن عبيد الثقفى الذي خرج مطالبا بدم الحسين وداعيًا لمحمد ابن الحنفية؛ والزيدية نسبة إلى زيد بن علي بن زين العابدين بن الحسين عليهما السلام والإمامية الذين يجعلون الخلافة بعد على زين العابدين هذا في محمد الباقر لا زين العابدين بن علي. ولكل من هذه الطوائف فرق تتفرع منها وتختلف في هذه أو تلك من المسائل، وإن كان عمدة كل منهم جميعًا يدور حول الإمامة والمفاضلة بين أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم (2).

والشيعة جميعًا يعتقدون أن الإمامة ركن من أركان الدين، فليس للنبي [صلى الله عليه وسلم]- إذًا- إغفالها ولا تركها للأمة تعين فيها من تشاء، بل عليه تعيين الإمام لهم، وزادوا على هذا أنهم يعتقدون أيضًا أن الرسول صلى الله عليه وسلم عين لهذا المنصب الجليل عليًّا رضي الله عنه معتمدين على نصوص يتداولونها ويؤولونها كما يشاءون، كان كان جهابذة السنة ونقلة الشريعة -كما يقول ابن خلدون- لا يعرفونها (3) لذلك اضطر أهل السنة

(1) ابن خلدون في المقدمة ص، والمقاصد جـ 2 ص 199 - 200

(2)

الفصل لابن حزم جـ 2 ص 113. ومن الخير أن يرجع في بيان هذه الفرق وغيرها إلى مقدمة ابن خلدون ص 156 وما بعدها.

(3)

المقدمة. ص 155، والمقاصد جـ 2 ص 20

ص: 2407

لإلحاق مبحث الإمامة بعلم الكلام ليردوا على عقائد الشيعة فيها ما دام هؤلاء قد جعلوها من عقائد الإيمان (1). وقد فصل سعد الدين التفتازانى القول في إيراد حجج الشيعة والرد عليها (2) كما فعل أمثاله من محققى علماء الكلام، فمن السهل الرجوع إلى ذلك في مواطنه.

خاتمة:

تلك كلمة عن علم التوحيد أو الكلام ونشأته وعوامله وتطوراته التي بها، وأشهر فرقه، وأصول كل فرقة منها. بقى إن نشير إلى رأى رجال الدين في هذا العلم بعد ما رأوا ماجره من فرقة وخلاف أمرهما معروف.

لما اتصل المسلمون بالفلسفة اليونانية ونقلت كتبها للغة العربية أقبل عليها المسلمون إقبال الفهم، فمنهم من أخذ منها ما يصلحه ودينه، ومنهم من أعطى لعقله كامل حريته فلم ير للتفكير حدودًا يقف عندها إلا حدود المنطق. وكان من ذلك -كما رأينا- أن اختلط علم الكلام بالفلسفة اختلاطًا كبيرًا أضر بالعقيدة، فكرهه كثير من رجال الدين ورأوا تحذير العامة منه. إلا أن منهم من غلا في هذا غلوًا كبيرًا.

يروى ابن الجوزي المتوفى عام 597 هـ عن الشافعي أنه قال: "لأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه ما عدا الشرك- خير له من أن ينظر في علم الكلام"، كما يروى عن أحمد بن حنبل أنه قال:"لا يفلح صاحب الكلام أبدًا، علماء الكلام زنادقة (3) " والمقريزى المتوفى عام 845 هـ يذكر في فصل عقده لبيان الحال في عقائد المسلمين إلى أن انتشر مذهب الأشعرى، أنه تبع المعتزلة في بدعهم خلق كثير فنهى أئمة الإسلام عن مذهبهم وذموًا علم الكلام وهجروا من ينتحله (4). ونفس المؤلف يختم هذا الفصل بقوله: "فهذه جملة من

(1) المقاصد جـ 2 ص 199

(2)

نفسه جـ 2 ص 210 وما بعدها.

(3)

تلبيس إبليس، مطبعة النهضة بمصر سنة 1928 م ص 82 - 83 ومفتاح السعادة ومصباح السيادة لطاش كبرى زاده جـ 3 ص 26.

(4)

الخطط، طبع مصر سنة 1326، جـ ص 183

ص: 2408

أصول عقيدته -أي عقيدة الأشعرى- التي عليها الآن جماهير أهل الأمصار الإسلامية والتي من جهر بخلافها أريق دمه" (1).

وبعد هذين نجد طاش كبرى زادة المتوفى عام 962 - يذكر أن كثيرًا من فقهاء عصره أنكروا على المشتغلين بهذا العلم أشد الإنكار؛ وأنه- لهذا- يجب التفرقة بين علم الكلام الذي دخل فيه من الفلسفة ما لا يتفق والكتاب والسنة، ككلام المعتزلة والمرجئة وأمثالهم، وبين علم الكلام المؤسس على الكتاب والسنة في مسائله، والأول هو الذي يجب ذمه وإنكاره دون الثاني (2).

نعتقد أن هؤلاء وأمثالهم قد أسرفوا في ذم هذا العلم والتنفير منه، ولكن نعتقد أيضًا أنه كان لهم شيء من العذر فيما ذهبوا إليه، وربما كان من الخير- وقد أشرنا إلى تلك الآراء- أن نشير إلى رأى نوافق عليه كل الموافقة وهو رأى العلامة المرحوم الشيخ حسين والى من علماء هذا العصر الذي نعيش فيه.

هذا الرأى هو أن دراسة القرآن لفهم العقائد والتدليل عليها أولى من دراسة كتب الكلام الآن! لأن هذا العلم حدث في زمن كانت الحاجة ماسة له للرد على خصوم الإسلام من الدهريين والزنادقة والملاحدة والمبتدعة أما الآن وقد ذهبت تلك الخصوم وجاء خصوم آخرون فلا يليق فرض المذاهب حاضرًا وتركُ الحاضر الذي لا يرده إلا كتاب الله إذا بينه المراد على وجهه، وليس من الحزم أن يضيع الإنسان عمره في الاشتغال بخصوم موهومة وتركُ الخصم الموجود الذي ضيق عليه المساللُ. فضلًا عن هذا فإن تلك الكتب- كتب علم الكلام- فيها حجب كثيفة تمنع النور وتحدث الظلمة، وربما قضت على اعتقاد ثابت صحيح. والله الهاد إلى سواء السبيل.

محمد يوسف موسى

(1) الخطط ص 188

(2)

مفتاح السعادة جـ 3 ص 33 وما بعدها.

ص: 2409