المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تعليق على مادة " تفسير - موجز دائرة المعارف الإسلامية - جـ ٨

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌تعليق على مادة " تفسير

ويحدد مذاهب أهل التقى من المسلمين في تفسير القرآن. وقد علق الكثيرون على هذا التفسير. ونذكر من التفاسير الأخرى:

تفسير فخر الدين الرازي المتوفى عام 606 هـ ويعرف باسم التفسير الكبير، وتفسير إسماعيل حقى البروسوى المتوفى عام 1127، وله مقام كبير عند الترك. وأكثر هؤلاء العلماء من فارس.

وعلم التفسير قديم يرجع تاريخه إلى صدر الإسلام، ويروى أن ابن عباس المتوفى عام 68 بعد الهجرة كان حجة في التفسير، وقد نسبوا إليه تفسيرًا (محفوظ بالمكتبة الحميدية بإستانبول).

فللتفاسير إذن شأنها في الإحاطة بدقائق الشريعة والدين وفقه اللغة.

وفي أيامنا هذه حاول عالم مصرى هو الشيخ طنطاوى (جوهرى) أن يجدد دراسة التفسير، وقد نشر تفسيرًا فيه كثير من الآراء المأخوذة عن الفلسفة والعلم الحديث.

المصادر:

(1)

انظر فهرس الكتب والمخطوطات العربية تحت كلمة تفسير.

المصادر:

(2)

انظر فهرس الكتب والمخطوطات العربية تحت كلمة التفاسير.

Mohammedanische: Goldziher (2) Studien هال سنة 1890، ج 2 ص 206.

(3)

الكاتب نفسه Die Richtungen: der lslamischen Koranauslegung ليدن سنة 1920. الفهرس

(4)

Les Penseurs: Carra de Vaux de l'Islam ج 3، باريس سنة 1923، فصل 11.

(كارا ده فو Carra de Vaux)

‌تعليق على مادة " تفسير

"

1 -

تلتقى مادتا - ف س ر، س ف ر - في معنى الكشف؛ ثم نرى السفر الكشف المادى والظاهر؛ والفسر الكشف المعنوى والباطن. والتفعيل منه - التفسير - كشف المعنى وإبانته.

ويقدر الأقدمون أن مثل هذه المعارف، في اللغة والتفسير والحديث، ليست علومًا بالمعنى المعروف في العلوم العقلية؛ فيرى بعضهم ألا يتكلف

ص: 2310

للتفسير حدًّا ولا بيان موضوع ومسائل، لأنه ليس قواعد وملكات ناشئة عن مزاولة القواعد، كغيره من العلوم التي استطاعت أن تشبه العلوم العقلية؛ فيكتفى في إيضاح التفسير بأنه: بيان كلام الله: أو أنَّه المبين لألفاظ القرآن ومفهوماتها .. (1) ومنهم من يتكلف له التعريف فيذكر في ذلك ما يشمل غير التفسير من العلوم "كعلم القراءات؛ كما يشمل أقدارًا من علوم أخرى يحتاج إليها في فهم القرآن، كاللغة، والصرف، والنحو، والبيان

والمسلك الأول أسلم، وأبعد عن الأطالة بما ليس وراءه كبير جدوى.

والتفسير أحد العلوم -أو الدراسات- الشرعية التي حاول الأولون ضبطها باعتبار ما كعادتهم، فقالوا: إنها إما مدونة لبيان السنة النبوية لفظًا وإسنادًا، وهو الحديث، وعلم أصوله. هامًا مدونة لإظهار ما قصد بالقرآن وهو التفسير

إلى آخر ما يسوقونه من بيان هذا الاعتبار الضابط لأنواع العلوم الشرعية (2).

ويعرضون في هذا المقام لذكر التأويل، وأنه هو والتفسير بمعنى واحد، أو أن التفسير أعم من التأويل؛ أو غير ذلك مما لا نطيل القول فيه

وأحسب أن منشأ هذا كله هو استعمال القرآن لكلمة التأويل، ثم ذهاب الأصوليين إلى اصطلاح خاص فيها، مع شيوع الكلمة على ألسنة المتلكمين من أصحاب المقالات والمذاهب .. ولعل من خير ما يحرر به معنى كلمة "تأويل" ماذكره الراغب الإصفهانى مرويًّا عن ابن عباس، في رسالته "مقدمة التفسير" التي طبعت ملحقة بكتاب تنزيه القرآن عن المطاعن (3)؛ ثم تولى ابن تيمية تفصيل هذا الموجز وإيضاحه في رسالته "الإكليل في المتشابه والتأويل"(4) بيان كنت لم أره

(1) المبادئ النصرية طبعة الخيرية سنة 132 ص 25، 26.

(2)

الدر النضيد من مجموعة الحفيد لشيخ الإسلام أحمد بن يحيى بن الحفيد الهروى طبعة التقدم سنة 1322 هـ، ص 2.

(3)

رسالة الراغب، المطبعة الأزهرية سنة 1329. ص 42.

(4)

هذه الرسالة مطبوعة ضمن الجزء الثاني من مجموعة الرسائل الكبرى لابن تيمية - المطبعة الشرقية سنة 1323.

ص: 2311

يشير إلى ما ساقه الراغب الأصفهانى من معاني التأويل، مع أنَّه أصل فكرته ولبها.

ب - نشأته:

يرى ابن خلدون أول كلامه عن التفسير في المقدمة، "أن القرآن أنزل بلغة العرب، وعلى أساليب بلاغتهم، فكانوا كلهم يفهمونه، ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه". القول بأنهم كلهم يفهمونه فيه تعميم واسع، لم يطمئن إليه الأقدمون أنفسهم، فهذا ابن قتيبة، قبل ابن خلدون ببضعة من القرون، يقول في رسالته المسائل والأجوية (ص 8)"إن العرب لا تستوى في المعرفة بجميع ما في القرآن، من الغريب والمتشابه، بل إن بعضها يفضل في ذلك على بعض". وأحسب ابن خلدون قد شعر بذلك فيما أورده بعد عبارته السابقة بأسطر، فذكر أن في القرآن نواحى للحاجة إلى البيان، وقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يبين المجمل ويميز الناسخ من المنسوخ ويعرفه أصحابه، فعرفوه، وعرفوا سبب نزول الآيات ومقتضى الحال منها منقولا عنه". وتلك الأمور وغيرها من مواضع الحاجة إلى الإبانة، قد أحوجت - منذ أول العهد الإسلامي- إلى بيان القرآن تفسيره.

ولعل الروعة الدينية لهذا العهد" والمستوى العقلى لأهله؛ وتحدد حاجات حياتهم العملية؛ ثم شعورهم - مع هذا - بأن التفسير شهادة على الله بأنه عنى باللفظ، كل أولئك جعلهم لا يقولون في تفسير القرآن إلا التوفيق الَّذي نقل إليهم، وروى صاحب الرسالة عليه السلام؛ فكان أول ما ظهر من التفسير؛ تفسير الرواية، أو التفسير الأثرى. وكان رجال الحديث والرواية هم أصحاب الشأن الأول في هذا؛ فرأينا أصحاب مبادئ العلوم، حين ينسبون - على عادتهم - وضع كل علم لشخص بعينه، يعدون واضع التفسير - بمعنى جامعة لا مدونة - الإمام مالك بن أنس (1) الأصبحى إمام دار الهجرة.

وهكذا تتصل نشأة التفسير، بتاريخ تدوين الحديث؛ وقد كان الإمام مالك رضي الله عنه، من قدماء المدونين في الحديث؛ ولو أن كتابه "الموطأ" لا يشتمل -فيما رأيت - على الكثير من

(1) المبادئ النصرية، ص 26.

ص: 2312

تفسير القرآن؛ وفي كل حال قد حملت المجموعات الحديثية، مقادير مختلفة من هذا التفسير، حتَّى لنرى في صحيح البخاري، كتابين - هما: كتاب تفسير القرآن، وكتاب فضائل القرآن - يشغلان حيزًا واضحًا من الكتاب، ربما كان نحو الثمن منه.

ولعل هذا المعنى من صلة التفسير بالحديث، هو الَّذي يفهم به قول الأستاذ كارادى فو كاتب مادة التفسير في دائرة المعارف الإسلامية، (أنَّه فرع خاص هام من علم الحديث، يعلم في المدارس والجامعات"

وإلا فإن ما استقر عليه الأمر أخيرًا، في مكان التفسير بين العلوم الشرعية، هو ما سقناه آنفًا مبينًا بالاعتبار الَّذي لاحظوه في تنضيد هذه العلوم؛ ولا يظهر فيه التفسير فرعًا خاصًّا من علم الحديث؛ ولولا حظنا أن التفسير فيما بعد لم يقف عند الرواية وأن القول في التفسير غير النقلى قد اتسع واستأثر بجهد العلماء وعنايتهم؛ لو لاحظنا هذا لوجدنا أن غد التفسير من فروع الحديث لا يظهر له وجه إلا ما أشرنا إليه من هذه النشأة، واتصاله فيها بالرواة والمحدثين.

اشتهر برواية التفسير نفر من الصحابة رضي الله عنهم، ويجتمع من هذه الرواية تفسير منسوب لابن عباس رضي الله عنه -هو الَّذي طبع باسم " تنوير المقباس من تفسير ابن عباس"، للفيروز أبادى صاحب القاموس المحيط. وحسبنا في التعقيب على هذا ما يروى منسوبا إلى الإمام الشافعي - رضه - من قوله: لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلا شبيه بمائة حديث (1) مع أن هذا التنوير المنسوب إليه مطبوع في نحو أربعمائة صفحة من القطع العادى.

وأكثر ناس من التابعين رواية التفسير؛ وتردد ذكر أسماء منهم، كانت أحكام نقاد الرواية من القدامى عليهم ليست بذاك؛ فالضحاك بن مزاحم الهلالى المتوفى عام 102 أو 105 هـ- وإن وثقه نفر، قد قالوا إنه روى عن اب

(1) شذرات الذهب لابن العماد ج 1، وخلاصة تذهيب الكمال في أسماء الرجال ص 150 طبعة الخرية سنة 1323 هـ - والإتقان ج 2 ، 2242.

ص: 2313

عباس، ولم يلقه فطريقه عنه منقطعة؛ وقالوا: في جميع ما روى نظر، إنما اشتهر بالتفسير" (1) .. وفي هذه العبارة الأخيرة لا إنما اشتهر بالتفسير "ما يدلك على درجة تقديرهم لرواية التفسير؛ وعطية بن سعد العوفى المتوفى عام 111 - الَّذي يروى عن ابن عباس، قد ضعفوه (2). وإسماعيل بن عبد الرحمن السدى الكبير؛ وان وجد من قبله، قد قالوا إنه ضعيف (3). والتفسير الَّذي جمعه قد رواه أسباط بن نصر، وأسباط هذا لم يتفقوا عليه، وقال النسائي: ليس بالقوى (4) .. ومحمد بن السائب الكلبى المتوفى 146 هـ - وهو أحد الطرق عن ابن عباس؛ مشهور بالتفسير، وليس لأحد تفسير أطول منه ولا أشبع؛ ومع ذلك فإن وجد من قال رضوه في التفسير؛ فقد وجد من قال: أجمعوا على ترك حديثه؛ ليس بثقة ولا يكتب حديثه؛ واتهمه جماعة بالوضع (5) .. ومحمد بن مروان السدى الصغير، الَّذي يروى عن ابن الكلبى السابق، قالوا: أنَّه يضع الحديث، وذاهب الحديث متروك، وإذا كانت رواية هذا السدى الصغير عن الكلبى عن أبي صالح عن ابن عباس فهي سلسلة الكذب. ثم مقاتل بن سليمان الأزدى الخراساني المتوفى عام 150 - وهو المفسر الَّذي قالوا إن الناس عيال عليه في التفسير، وتنسب هذه الكلمة عنه إلى الشافعي نفسه، ومع ذلك نراهم يقولون: إنه يروى عن مجاهد ولم يسمع من مجاهد شيئًا، ويروى عن الضحاك، ولم يسمع منه شيئًا، فقد مات الضحاك قبل أن يولد مقاتل بأربع سنين، ويكذبونه، ويضعفه من يستحسن تفسيره، ويقول: ما أحسن تفسيره لو كان ثقة؛ ، وأخيرًا هذا أبو خالد عبد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج - وهو من أوائل من دونوا الحديث - قد رويت عنه أجزاء كبار في التفسير، ومع ذلك لاحظ النقاد أن ابن جريج في التفسير لم يقصد الصحة، وإنما روى ما ذكر في كل آية من الصحيح والسقيم.

(1) الإتقان: الموضع السابق، والتذهيب ص 126، والشذرات ج 1.

(2)

التذهيب وهامشه ص 30.

(3)

الإتقان الموضع السابق، والتذهيب ص 22.

(4)

الإتقان الموضوع السابق - والتذهيب وهامشه ص 287.

(5)

التذهيب ص 306 - والإتقان في الموضوع السابق.

ص: 2314

وهكذا نجد غير قليل من النقد التفصيلى لرواة التفسير النقلى؛ كما نجد النقد الإجمالى لهذه المرويات فالإمام أحمد بن حنبل، له الكلمة المعروفة:"ثلاثة ليس لها أصل: التفسير والملاحم والمغازى" أي ليس لها إسناد لأن الغالب عليها المراسيل (1). ويقول ابن تيمية بعد ذكر وضع الحديث والأدلة القاطعة على كذبة: "وفي التفسير من هذه الموضوعات قطعة كبيرة كما يقول "والموضوعات في كتب التفسير كثيرة (2) ..

وهكذا لم يعتمد النقل التفسيرى على أساس من الثقة الوطيدة، كما سمعت من النقاد الأقدمين منذ الدهر الأول. فإذا تساءل النقاد المحدثون عن قيمة الأحاديث الواردة في هذه الكتب الجامعة، ولم يصلوا بعد إلى رأى يعززها كثيرًا كما يقول كارا دى فو، فإن هؤلاء النقاد المحدثين لم يجيئوا بجديد في هذا على ما ترى، إذ أن الاتهام قديم

وقد كان من وراء ذلك أن تأثرت تلك المنقولات بكل ما في البيئة الإسلامية من متنافل القصص المديني، محمولا إليها من مختلف الأنحاء؛ فقد كان اليهود في ماضيهم الطويل قد شرقوا راحلين من مصر ومعهم من آثار حياتهم فيها مامعهم، ثم أبعدوا مشرقين إلى بابل في أسرهم. ثم عادوا إلى موطنهم وقد حملوا من أقصى المشرق في بابل، وبعيد المغرب في مصر ماحملوا؛ وجاء البيئة العربية الإسلامية من كل هذا المزيج ما جاء إلى جانب ما بعثت إليها الديانات الأخرى التي دخلت تلك الجزيرة، وألقت إلى أهلها ما ألقت من خبر أو قصص دينى، وكل أولئك قد ترد. على آذان قارئى القرآن ومتفهميه، قبلما خرجوا إلى ما حول جزيرتهم شرقًا وغربًا فاتحين، ثم ملأ آذانهم حين خالطوا أصحاب تلك البلاد التي نزلوها وعاشوا بها وإن كان الَّذي اشتهر من ذلك هو اليهودى، لكثرة أهله، وظهور أمرهم فدعيت تلك التزيدات التي اتصلت بمرويات التفسير النقلى باسم "الإسرائيليات.

(1) ابن تيمية - مقدمة في أصول التفسير، ص 14، دمشق.

(2)

المصدر السابق ص 19.

ص: 2315

وابن خلدون في مقدمته يذكر من أسباب الاستكثار من هذه المرويات، اعتبارات اجتماعية، ودينية أغرت المسلمين بهذا الأخذ والنقل، الَّذي اتسعت له كتب التفسير المروى فاشتملت على الغث والسمين، والمقبول والمردود؛ فيعد ابن خلدون من الاعتبارات الاجتماعية، غلبة البداوة والأمية على العرب، وتشوقهم لمعرفة ما تتشوق إليه النفوس البشرية، في أسباب المكونات، وبدء الخليفة، وأسرار الوجود؛ وهم إنما يسألون في ذلك أهل الكتاب قبلهم. ثم يذكر من الاعتبارات الدينية التي سوغت عنده هذا التلقى الكثير لمثل تلك المرويات في تساهل، وعدم تحر للصحة، أن مثل هذه المنقولات ليست مما يرجع إلى الأحكام، فيتحرى فيها الصحة التي يجب بها العمل، فتساهل المفسرون في مثل ذلك، ملأوا كتبهم بمنقولات عن عامة أهل التوراة الذين كانوا بين العرب، وكانوا بداة مثلهم، لا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب؛ ولا تعلق لها بالأحكام الشرعية التي يحتاط لها (1).

وسواء أكانت هذه هي كل ما هيأ لذلك من الأسباب، أو كان وراءها أسباب أخرى، في حياة الرواية، وحياة العقيدة، وضرورة تأثرها بما حولها؛ فقد اتسعت على كل حال نقول التفسير، لمثل هذه المرويات التي يبين البحث أنها شملت مزيجًا متنوعًا من مخلفات الأديان المختلفة، التي ترامت إلى علم العرب.

وما بنا بعد الَّذي عرف من تنبه الأقدمين إليها أن نبين كيف تترك أو يتقى أثرها، فقد تصدوا لهذا وتحدث عنه غير واحد من المفسرين؛ وإن كان الَّذي سلم من التأثر به فيهم قليلًا أو نادرًا.

وقد تداعى أشياخ الأزهر اليوم إلى تجريد كتب التفسير من هذه الإسرائيليات، وهو أمر يسير الخطر؛ ولعل الأجدى من هذا التجريد أن تنقد هذه المجموعة المركومة من التفسير النقلى، على هدى قواعد القوم في نقد الرواية متنًا وسندًا، ليستبعد منها هذا الكثير الَّذي لا يستحق البقاء، ويستريح

(1) مقدمة ابن خلدون، ص. يتصرف.

ص: 2316

الناظرون في الكتاب الكريم من الاتصال به، إذا ما حاولوا تفهم آيه؛ فلا يقفون عند شيء لا أساس له.

وأما هذه الإسرائيليات، كما سموها، فعلى الأشياخ أمامها واجب آخر في تاريخ الأديان وتحقيق صلاتها" وهو واجب لا ينبغي أن يقوم به أحد قبلهم، ذلك هو جمع هذه القصص، ودرسها مردودة إلى أصولها، مبينة مصادرها ليدل ذلك على مسالك التأثر والتأثير بين الأديان، ومداخل اتصالها.

ونعود إلى ما نحن بصدده هنا أولًا؛ وهو التفسير النقلى، الَّذي كان أول أصناف التفسير نشأة فقد جعلت تتناقله الطبقات شفاها، ثم تدوينا تدريجيًا، حتَّى أفردت له المؤلفات الخاصة؛ واستمر ذلك، إلى أن تغيرت موجهات الحياة، وظهر تفسير جانب العقل فيه آثر من جانب النقل، عنى المؤلفون به، بيان بقى في كتبهم أثر من الروايات المنقولة، يرجعون إليه بين الفينة والفنية، حتَّى فترت العناية عن إفراد التفسير المأثور بالتأليف المستقل.

ونكتفى بأن نشير هنا إلى ثلاثة من كتب تفسير الرواية، أحدها شرقي، والثاني غربي، والثالث مصرى. فأما الشرقي، فهو كتاب "جامع البيان في تفسير القرآن لابن جرير الطبري المحدث المؤرخ الفقيه - في ثلاثين مجلدًا، وهو مطبوع .. ويقول كارا دى فو، في مادة تفسير بالدائرة؛ "ويشمل تفسيره [ابن جرير] المطول كثيرًا من الأحاديث المسندة الصحيحة

وأكبر الظن أن هذا الحكم لا يقوم على فحص خاص، فابن جرير رحمه الله، لم يسلم من الرواية عن أولئك الَّذي قدمنا آراء نقاد الرجال فيهم؛ وقد لوحظ عليه مثلًا، أنَّه يورد الكثير من طريق السدى وهو ما لم يورد منه ابن أبي حاتم شيئًا، حين التزم أن يخرج منه أصح ما ورد (1) ولعل تفسير ابن جرير محتاج إلى النقد الفاحص، احتياج غيره من تلك المرويات التفسيرية، على ما قدمنا.

وشخصية ابن جرير الأدبية والعلمية تجعل كتابه مرجعًا غير قليل الأهمية، في المصنف الثاني من التفسير،

(1) الإتقان 2: 224.

ص: 2317

أي تفسير الدراية، فترجيحاته للمعانى المختلفة تقوم على نظرات أدبية ولغوية وعلمية قيمة فوق ما جمع كتابه من روايات أثرية.

وأما الكتاب الغربي، فهو الكتاب الَّذي عرف باسم "المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لأبي محمد عبد الحق بن أبي بكر غالب بن عطية الغرناطى الأندلسى - ت 541 هـ الَّذي يقول عنه ابن خلدون في المقدمة: "إنه لخص فيه كتب التفاسير كلها - أي تفاسير المنقول - وتحرى ما هو أقرب إلى الصحة فيها، ووضع ذلك في كتاب صتداول بين أهل المغرب والأندلس، حسن المنحى، وهو مخطوط، منه بضعة أجزاء في دار الكتب المصرية، وفي التيمورية رجعت إليها فوجدت من جملة وصفها، أنَّه يعني بالشواهد الأدبية للعبارات، ويهتم بالصناعة النحوية، في غير إسراف ولا يعني بالوقوف مثل عناتيه بالقراءات، ويورد من التفسير المنقول، مع الاختيار منه، في غير إكثار؛ كما ينقل عن الطبري، ويناق المنقول عنه أحيانا ..

وأما الكتاب الثالث المصري، فيحسن أن نشير بين يدي الكلام عنه، إلى ما كان لمصر من حظ قديم في التفسير المنقول، فقد حدثوا عن أحمد بن حنبل، أن بمصر صحيفة في التفسير، رواها علي بن ابى طلحة الهاشمي - رواها طريق جيد في الرواية عن ابن عباس؛ لو (-3 رجل فيها إلى مصر قاصدًا ما كان كثيرًا؛ وقد اعتمد عليها البخاري في صحيحه كثيرًا فيما يعلقه عن ابن عباس، كما ينقل ذلك عن ابن حجر (1).

وفي التفسير المنقول خلف جلال الدين السيوطي المصري - ت 911 هـ - كتاب "الدر المنثور في التفسير" وهو مطبوع؛ وقد ذكرت هذه الكتب الثلاثة في الكلام عن نشأة التفسير من حيث كانت تفسيرًا نقليًا، وهو أول ما ظهر من صنوف التفسير، وإن كنت أقدر أن هذه الكتب قد تفاوتت قيمها وأحوالها بهذا التراخى البعيد في الأزمنة - من القرن الثالث إلى العاشر - وأن ما فيها

(1) الإتقان 2: 223 وفيه بعد هذا النقل "أن ابن أبي طلحة لم يسمع التفسير عن ابن عباس، وإنما أخذه عن مجاهد أو سعيد بن جبير، ويقول ابن حجر "أن الواسطة ثقة فلا ضير في ذلك.

ص: 2318

من تفسير مأثور قد تأثر بما حوله من عوامل وموجهات، يتبينها جليًا من يتصدى لتاريخ التفسير والتأليف فيه.

ج - تدرج التفسير

وهنا أحب أن يقدر الدارس، أنى لا أتصدى لكتابة تاريخ للتفسير، أو تخطيط هذا التاريخ وإنما هي إشارات عامة مجملة عن المعالم الكبرى في حياته .. وذلك أننا لا نجرؤ على التفكير في كتابة تاريخ للتفسير يمكن أن يسمى تاريخًا بالمعنى الصحيح إلا بعد أن نقف على ما خلفت تلك العهود الطوال من آثار فيه، وهي كثيرة واسعة، متنوعة المقاصد والإتجاهات، يدهشك ما تقرأ في وصفها وسعتها وجلال مؤليفها، ففي القرن الثاني كتب عمرو بن عبيد شيخ المعتزلة تفسيرًا للقرآن عن الحسن البصري رحمه الله (1) وناهيك بهما جلالة قدر. ولأبي الحسن الأشعرى المتكلم، كتاب المختزن، لم يترك آية تعلق بها بدعى إلا أبطل تعلقه بها، وجعلهما حجة لأهل الحق، وذكر بعضهم أنَّه رأى منه طرفًا وكان بلغ سورة الكهف وقد انتهى إلى مائة كتاب (2). إلى غير ذلك من صنيع له في التفسير يذكرون عظيم قيمته. وللإمام الجويني تفسير كبير، وللقشيرى تفسير كبير، وإلى جانب هؤلاء رجال اللغة والأدب يذكرون منهم: أبا طالب المفضل بن سلمة الكوفي.

(ق 3) له كتاب معاني القرآن؛ وابن الأنبارى (ق 4) كان يحفظ مائة وعشرين تفسيرًا من تفاسير القرآن بأسانيدها.

وقد ألف كتاب "مشكل القرآن أملاه فبلغ فيه إلى "طه" ما أتمه. وقد أملاه سنين كثيرة (3) ولأبي هلال العسكرى كتاب المحاسن في تفسير القرآن خمس مجلدات (4) .. ولو رحت أذكر لك جانبًا من هذه الطرائف التي كتبها أئمة الفنون المختلفة في التفسير لملأت من ذلك صحفًا وصحفًا، فهلا ترى معى، أن من القحة علميًّا أن نزعم أننا نتحدث في شيء من تاريخ التفسير، قبل أن نغبر قدمًا في البحث عن هذه الكتب وجمعها ودرسها؟ ! ! أحسب أي نعم.

(1) ابن خلكان 1: 486 بولاق.

(2)

تبيين كذب المفترى ص 133 ط الشام.

(3)

طبقات الأدباء لابن الأنبارى ص 332.

(4)

ترجمته من مقدمة كتابه ديوان المعاني.

ص: 2319

وهل يؤود محبى العلم القرآنى، ثم هذه المعاهد الدينية الفسيحة، ثم الدولة معهم أن يجمعوا من ذلك كل ما عرفت الدنيا من هذا المكتوب عن القرآن، أو صورة منه على الأقل، قبل أن يفكروا في أشياء كثيرة لا تقدم العلم المديني ولا تؤخره؟ ! !

* * *

وإذا ما نظرنا إلى المعالم الكبرى في تدرج التفسير، وجدنا أن صلة الإسلام بالحياة، ومنزلة القرآن في ذلك من حيث هو مرجع المسلمين في شئونهم المختلفة، قد جعلت تدرج الحياة يظهر أثره واضحًا في حياة التفسير، فبعد ما كان يشيع التحرج من القول في القرآن، حتَّى في تفسير لفظه كالأب (1)، والخبر (2)؛ صار الأمر إلى إختلاف الناس في أن تفسير القرآن: هل يجوز لكل ذي علم الخوض فيه؟ " فرأى قوم أن من كان ذا أدب وسيع، فموسع له أن يفسره، وقال قوم: لا يجوز لأحد تفسير شيء من القرآن وإن كان عالمًا أديبًا وإنما له أن ينتهى إلى ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الذين شهدوا التنزيل من الصحابه - رضه - إلخ. وكان التحقيق، أن المذهبين هما الغلو والتقصير، فمن إقتصر على المنقول إليه، فقد ترك كثيرًا مما يحتاج إليه. ومن أجاز لكل أحد الخوض فيه فقد عرضه للتخليط (3). وعلى أساس هذا التحقيق ذهبوا يبينون ما ينطوى عليه القرآن، وما يحتاج إليه مفسره من العلوم، ويذكرون شرائط المفسر ويعدون من ذلك علومًا لغوية وعقلية، وموهبية، من تكاملت فيه، خرج من كونه مفسرًا للقرآن برأيه، لان القائل بالرأى إذ ذاك إنما هو من لم تجتمع عنده آلالات التي يستعان بها في ذلك، ففسره تخمينًا وظنا (4) وهو التفسير بمجرد الرأى.

هكذا يلمح الناظر في تدرج التفسير طرفين متقابلين، ووسطا أو أوساطا، يختلف قربها من الطرفين، فأما أحد هذين الطرفين وأولهما فهو: التحرج من

(1) قصة عمر - رضه - في تفسير كلمة الأب.

(2)

قصة أبي عبيدة والأصمعى في تفسير كلمة الخبر.

(3)

مقدمة التفسير للراغب الأصفهانى ص وفي العبارة بعض اضطراب يسهل الترجيع معه بأن بعض لفظها محرف، وقد أخذت منها بالبعيد عن ذلك.

(4)

المصدر السابق ص 425.

ص: 2320

القول في القرآن على نحو ما يروى عن رجال من الصدر الأول ومن تلاهم، والمنقول في ذلك غير قليل، وحسبك أن مالك بن أنس، وهو الَّذي يذكر أصحاب المبادئ أنَّه واضع التفسير - بمعنى مدونه - يروى هو نفسه أن سعيد بن المسيب كان إذا سئل عن تفسير آية من القرآن قال: إنا لا نقول في القرآن شيئًا (1) .. وأما الطرف الثاني المقابل فهو الَّذي تلمحه من عبارة الراغب السابقة، وهو إجازة الخوض في القرآن لكل أحد، والغزالى، الإحياء (2) .. بعد الإحتجاج والإستدلال على بطلان القول بألا يتكلم أحد في القرآن إلا بما يسمعه بقول: فبطل أن يشترط السماع في التأويل، وجاز لكل واحد أن يستنبط من القرآن بقدر فهمه وحد عقله، كما قال قبل ذلك

"إن في فهم معاني القرآن مجالًا رحبًا ومتسعًا بالغًا، وأن المنقول من ظاهر التفسير ليس منتهى الإدراك فيه " .. هما طرفًا نقيض -كما يقال وتستطيع أن تلمح بينهما إنتقالات تدريجية متعددة، فبعد التحرج، أمكن الوقوف عند المنقول، وكان ذلك المنقول قليلا ثم كثر النقل واتسع، حتَّى إستفاض وشمل ما ليس موثوقًا به، ثم داخلت النقل محاولات فهم شخصى تقبلوا منها لا ما يرجع إلى اللغة وحدود دلالة الكلمات.، ثم ظلت محاولات الفهم الشخصى تزداد وتتأثر بالمعارف المختلفة حتَّى كان من كتب التفسير ما يجمع أشياء كثيرة طويلة لا حاجة بها في علم التفسير كالذي فعله الرازي في تفسيره حتَّى قال عنه بعض المتطرفين من العلماء: فيه كل شيء إلا التفسير (3) وإذا كان الراغب الإصفهانى في أوائل القرن الخامس الميلادي يرى خوض كل أحد في القرآن يعرضه للتخليط، فهذا أبو حيان في القرن الثامن الميلادي يقول إن ما ذكره الوازى وغيره في التفسير يشبه علمه، بينا هو في عمل النحوي يبحث في الألف المنقلبة، إذا هو يتكلم في الجنّة والنار، ثم يقول: "ومن هذا سبيله في العلم فهو من التخليط والتخبيط في أقصى الدرجة (4) .. وقد اختلف حظ المفسرين

(1) أصول التفسير لابن تيمية ص 31.

(2)

أبو حيان: البحر المحيط 1: 341

(3)

1: 261 ط الحلبى.

(4)

أبو حيان، الموضع السابق.

ص: 2321

من هذا التعرض، وإن قلت سلامهم جميعًا منه.

وإنك لتلمح على غرار هذا تدرج التدوين والتأليف في التفسير، فبينما توجد بمصر أو بغيرها صحيفة فيه، كما سبق، إذا هو جزء أو أجزاء تلقيت عن الصحابة، ثم هي أكثر من ذلك مما يجمع أقوال الصحابة والتابعينء ثم يختلط الفهم العقلى فيه بالتفسير النقلى رويدًا، كالذي تراه في مثل تفسير بن جرير الطبري، وما ذكرناه من كتب التفسير النقلئ ثم يغلب هذا الجهد العقلى على الكتب، فيكون أظهر ما فيها، بيان لم تخل مع ذلك من منقول يتصل بأسباب النزول مثلًا أو يتصل بغيرها من المروئ فترى الزمخشرى في كشافه، ينحو هذا النحو الخاص في تفسير القرآن تفسيرًا ينصر مذهبًا بعينه ولكنه لا يخلى كتابه من هذا المنقول، بل من ضرب ضعيف منه، كالحديث الَّذي يسوقه في فضائل القرآن سورة سورة، فإنه موضوع بإتفاق أهل العلم (1). وهكذا تداخل الصنفان، وإتجهت الكتب إتجاهات متنوعة، بعد ذلك.

هـ - طرائق التفسير:

رأينا ظهور المصنف الثاني من التفسير، المقابل لتفسير الرواية النقلى، وهو تفسير الدراية العقلى، ورأينا كيف أنهما إتصلا وتداخلا، وإذا كان ابن خلدون يقول في المقدمة:"إن ثانيهما قل أن ينفرد عن الأول، إذ الأول هو المقصود بالذات وإنما جاء هذا - الثاني - بعد أن صار اللسان وعلومه صناعة .. نعم قد يكون - الثاني - في بعض التفاسير غالبًا (2) " إذا قال ابن خلدون هذا فإنا لنقول له: إن هذا الثاني قد وصل القرآن بثقافة المتصدين لتفسيره وصلا قويًّا، شديد الأثر، انتهى إلى التخليط الَّذي ذكره أبو حيان، فأظهره ألوانًا من التفسير وإن فيها أمر النقل .. وهي طرائق من التفسير لعلها مما لا يسهل حصره وتبويبه، إذ كانت متأثرة باعتبارات كثيرة متعددة "وإذا كانت علوم اللسان بعد ما صارت صناعة، قد وجهت التفسير" فإن علومًا عقلية ونقلية قد وجهته توجيهات مختلفة،

(1) أصول التفسير لابن تيمية ص 19.

(2)

المقدمة ص 384.

ص: 2322

وإن مقاصد وأغراضًا في الحياة العملية، سياسية وغيرها، قد اشتركت في هذا التوجيه أيضًا، وتركت هذه وغيرها مناهج وكتبا كثيرة، وأثرت في مجرى الحياة والثقافة الإسلامية تأثيرًا قويًّا فعالًا ..

ولئن كان كولدتسهير في كتابه "اتجاهات التفسير" قد تحدث عن تفسير الرواية، والتفسير الاعتقادى، والتفسير الصوفى، والتفسير التشيعى، وتفسير التجديد الإسلامي الحديث، فألم بأصول كبرى ينطوى تحتها كثير من طرائق التفسير واتجاهاته، فإن إلى جانب ذلك تفسيرات لغوية ونحوية، وأدبية وفقهية، وتاريخية، وغيرها، لعله لا يسهل إدماجها في هذه الأصول، وليس يصح - فيما أرى - أن نتحدث عن هذه الاتجاهات واحدًا واحدًا لنبين أثرها في توجيه فهم القرآن، أو أثر اتصالها بالقرآن في حياة تلك العلوم والفنون نفسها إلا بعد أن يكتمل لنا العثور على أكثر ما يمكن من كتب ودراسات في أنواع التفسير المختلفة، تم تنسيقها ودرسها في روية واتقان، درسًا يهيئ لمثل هذا القول الشامل فيها.

على أنا إذا ما تركنا في هذا الإجمال الخاطف الكلام عن التفسير الصوفى أو التفسير التشيعى، فلم نقف عندهما لبيان ما زاده على معاني القرآن، وللحكم على منهجهما وما ماثله من مناهج، لها طابعها المخالف؛ فلم نتحدث عن الظاهر والباطن والحد والمطلع وما أشبه ذلك، ولا عما أخذ من القرآن من علوم خفية أو خاصة، وكان من عذرنا في ذلك - فوق الإجمال وضيق الفرصة - أن مثل هذه الاتجاهات قد قل تعرض الحياة لها، وخفت بلواها بها الآن. ثم إذا ما تركنا الحديث عن الفنون الأدبية المختلفة، وصلتها بالقرآن إلى فرصة أفسح، وأهدأ، من التاريخ الأدبى، فإنا رغم هذا كله لنشعر بضرورة القول في صلة التفسير بالعلوم العقلية الظاهرة، لأن فكرة تفسير القرآن بالعلم وأخذ هذه العلوم من القرآن، قد حاولها نفر من القدماء والمحدثين جميعا، حتَّى نوافق على قول الأستاذ كارا دى فو، في ختام مادة تفسير ما معناه أن

ص: 2323

تضمين التفسير كثيرًا من الآراء المستقاة من الفلسفة والعلوم الحديثة محاولة في تجديد دراسة التفسير، لا نوافق على هذا لأن وصل القرآن بالفسلفة والعلوم العملية محاولة جد قديمة.

و- التفسير العلمي:

وهو التفسير الَّذي يحكم الاصطلاحات العلمية في عبارة القرآن، ويجتهد في استخراج مختلف العلوم والآراء الفلسفية منها، وقد وقع ذلك على رغم ما قرر في ميادين علمية إسلامية مختلفة، من قواعد فهم عبارة القرآن، واتسع القول في احتواء القرآن جمل العلوم جميعًا، فشمل إلى جانب العلوم الدينية اعتقادية وعملية، وظاهرة وخفية، سائر علوم الدنيا. ولعل الغزالى - فيما رأيت - كان إلى عهده، أكثر من استوفى بيان هذا القول، فهو في الإحياء يعرض لهذا (1) .. ويقرر "أن كل ما أشكل فهمه على النظار واختلف فيه الخلائق في النظريات والمعقولات ففي القرآن إليه رموز، ودلالات عليه"؛ وأن القرآن يشير إلى مجامع العلوم كلها؛ ثم هو يزيد ذلك بيانًا وتفصيلًا في كتابه جواهر القرآن (2) الَّذي يبدو انه ألفه بعد احياء علوم الدين (3) إذ يعقد الفصل الخامس منه لكيفية انشعاب سائر العلوم مطلقًا من القرآن، بعد ما بين في الفصل الرابع قبله، كيفية انشعاب العلوم الدينية كلها منه عن تقسيمات وتفصيلات تولاها، وهو بعد ذكر العلوم الدينية وما لا بد منه لفهمها من العلوم اللغوية، وبعد ذكر علم الطب والنجوم، وهيئة العالم، وهيئة بدن الحيوان، وتشريح أعضائه وعلم السحر والطلسمات، وغير ذلك، يشير إلى أن وراء ذلك علومًا أخر، يعلم تراجمها، ولا يخلو العالم ممن يعرفها، وفي الإمكان والقوة أصناف من العلوم لم تخرج بعد إلى الوجود وإن كان في قوة الآدمى الوصول إليها، وعلوم كانت قد خرجت إلى الوجود، واندرست الآن،

(1) في الباب الرابع في فهم القرآن وتفسيره بالرأى من غير نقل ج 1: 259 - 264 ط الحلبى.

(2)

طبع بمطبعة كردستان العلمية بمصر سنة 1329.

(3)

الغزالى: جواهر القرآن ص 28، 29.

ص: 2324

فلن يوجد في هذه الأعصار على بسيط الأرض من يعرفها، وعلوم أخر ليس في قوة البشر أصلا إدراكها، والإحاطة بها، ويحظى بها بعض الملائكة المقربين .. ثم يعقب بأن هذه العلوم، ما عددناها وما لم نعدها، ليست أوائلها خارجة عن القرآن، فإن جميعها مغترفة من بحر واحد، من بحار معرفة الله تعالى، وهو بحر الأفعال، وقد دكرنا أنَّه بحر لا ساحل له، إن البحر لو كان مدادا لكلماته لنفد البحر قبل أن تنفد؛ وعرض في بيان أفعال الله، والحاجة في فهمها إلى مختلف العلوم كفعل الشفاء والمرض لا يفهمان إلا بالطب، وفعله في تقدير الشمس والقمر ومنازلهما بحسبان، لا يعرف إلا بالهيئة، إلى أن يشير أخيرًا إلى أنَّه لو ذهب يفصل ما تدل عليه آيات القرآن، من تفاصيل الأفعال لطال، ولا تمكن الإشارة إلا إلى مجامعها (1)، وهكذا ظهرت آثار الثقافة الفلسفية والعلمية للمسلمين في تفسير القرآن، كما ظهرت آثار التصوف واضحة في التفسير، وكما ظهرت آثار النحل والأهواء فيه ظهورًا جليًا .. واستمرت هذه النزعة في التفسير العلمي، وأصبحت فيما يبدو وجهًا من تعليل إعجاز القرآن، أو بيان صلاحية الإسلام للحياة، وإذا كان هذا التفسير قد ظهر في مثل محاولة الفخر الرازي ضمن تفسيره القرآن، فقد وجدت بعد ذلك كتب مستقلة في استخراج العلوم من القرآن، وتتبع الآيات الخاصة بمختلف العلوم، وراجت هذه الفكرة في العصر المتأخر، فاخرجت لنا مثل كتاب كشف الأسرار النورانية القرآنية فيما يتعلق بالأجرام السماوية والأرضية، والحيوانات والنباتات والجواهر المعدنية، لمحمد بن أحمد الإسكندرانى الطبيب من أهل القرن الثالث عشر الهجرى، وكتاب تبيان الأسرار الربانية في النبات والمعادن والخواص الحيوانية له، وقد طبع الكتاب الأول في القاهرة سنة 1297 هـ والثاني في سورية سنة 1300 هـ. ومثل رسالة عبد الله فكرى باشا وزير المعارف المصرية سابقًا في مقارنة بعض مباحث الهيئة بالوارد في النصوص الشرعية، طبعت بالقاهرة

(1) جواهر القرآن 211 - 2.

ص: 2325

سنة 1311 هـ. وانحاز إلى هذه الفكرة من رجال الإصلاح الإسلامي المرحوم السيد عبد الرحمن الكواكبى فاستخرج (1) من القرآن مكتشفات حديثة، يقول: إنه ورد التصريح أو التلميح بها في القرآن منذ ثلاثة عشر قرنًا، وما بقيت مستورة تحت غشاء من الخفاء إلا لتكون عند ظهورها معجزة للقرآن شاهدة بأنه كلام رب، لا يعلم الغيث سواه .. كما يعرض لها في إعجاز القرآن، الأديب المصري المرحوم مصطفى صادق الرافعي (2) فيعقد فصلًا عنوانه "القرآن والعلوم " يجنح فيه إلى مثل ما سبق من احتواء القرآن على جمل العلوم وأصولها، ويأخذ في ذلك بالبعيد والقريب، وإذ ينقل كلمة السيوطي في الإتقان، حول أخذ الباحثين علومهم منه، ويعلق على استخراج علم المواقيت من القرآن، فيقول (3)"وإذا أطلق حساب الجمل في كلمات القرآن كشف منه كل عجائب العصور وتواريخها، وأسرارها، ولولا أن هذا خارج عن غرض الكتاب لجئنا منه بأشياء كثيرة من القديم والحديث"؛ كما يشير إلى استخراج مستحدثات الاختراع، وغوامض العلوم الطبيعية من القرآن: ويذكر شواهد لذلك، حتَّى ينتهى إلى أن يقول:(4)"ولعل متحققا بهذه العلوم الحديثة لو تدبر القرآن وأحكم النظر، وكان بحيث لا تعوزه أداة الفهم، ولا يلتوى عليه أمر من أمره، لاستخرج منه أشارات كثيرة، تومئ إلى حقائق العلوم وإن لم تبسط من أنبائها، وتدل عليها وإن لم تسمها" .. ولعل من أكثر من جمع في هذا وأطال المرحوم الشيخ طنطاوى جوهرى في تفسيره. ومما يتصل بهذا من قرب، ما ظهر من مؤلفات علمية عنى أصحابها عناية خاصة بهذا الجانب، وتوخوا هذا التطبيق، كمحاضرات المرحوم الأستاذ محمد توفيق صدقى في سنن الكائنات وما أشبهها.

ز - إنكار التفسير العلمي:

إذا كان الاتجاه إلى التفسير العلمي قديمًا، وكانت العناية به أكثر نوعا ما،

(1) طبائع الاستبداد ص 26 - 27.

(2)

إعجاز القرآن له، ص 115 - 1166.

(3)

الإعجاز له ص 151 (هامش).

(4)

الإعجاز له ص 1164.

ص: 2326

في العصر المتأخر، فإن المخالفة في صحة هذا التفسير قديمة أيضًا. ولعله اليوم أقل رواجًا عند المثقفين

فأما المخالفة القديمة فيه، فهي ما يبديه الأصولى الأندلسى، أبو إسحاق ابن موسى الشاطبي - 970 هـ - في كتابه الموافقات (1) في أثناء أبحاثه عن القرآن، إذ تكلم أولًا عن أن هذه الشريعة المباركة أمية، لأن أهلها كذلك، فهو أجرى على اعتبار المصالح، ودلل ذلك بأمور، ثم عقب بفصل عن: أن العرب كان لها اعتناء بعلوم ذكرها الناس، وكان لعقلائهم اعتناء بمكارم الأخلاق، واتصاف بمحاسن الشيم، فصححت الشريعة منها ما هو صحيح، وزادت عليه، وأبطلت ما هو باطل وبينت منافع ما ينفع من ذلك ومضار ما يضر منه، وذكر من ذلك علم النجوم وعلم الأنواء، وأوقات نزول الأمطار وإنشاء السحاب، وهبوب الرياح المثيرة لها. ومنها علم التاريخ وأخبار الأمم الماضية، ومنها الطب، وفنون البلاغة، هذا من العلوم الصحيحة. وذكر من الباطل علم العيافة والزجر والكهانة وخط الرمل، والضرب بالحصى، والطيرة، وقد أبطلتها الشريعة .. وهو يبين في كل ذلك، أن الشريعة في تصحيح ما صححت، وإبطال ما أبطلت، قد عرضت من ذلك ما تعرفه العرب، ولم تخرج عما ألفوه .. وبعد شرح هذه الفكرة المبينة لرأيه في علوم القرآن، يتقدم لبيان ذلك بإسهاب وإيضاح، ويعقد لذلك بحثًا خاصًّا يقول فيه: ما تقرر من أمية الشريعة، وأنها جارية على مذهب أهلها وهم العرب، ينبنى عليه قواعد: - منها أن كثيرًا من الناس تجاوزوا الحد في الدعوى على القرآن، فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين أو المتأخرين من علوم الطبيعيات، والتعاليم والمنطق، وعلم الحروف، وجميع ما نظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأشباهها، وهذا إذا عرضناه على ما تقدم لم يصح.

ثم ينظر في حال السلف، نظرة علمية، فيحتج بها على صحة دعواه، ويقول: وإلى هذا، فإن السلف الصالح من الصحابة والتابعين، ومن يليهم كانوا أعرف بالقرآن، وبعلومه، وما أودع فيه ولم يبلغنا أنَّه تكلم أحد

(1) طبع السلفية 1341 هـ، ج 2، ص 46 وما بعدها.

ص: 2327

منهم (1) في شيء من هذا المدعى، سوى ما تقدم، وما ثبت فيه من أحكام التكاليف وأحكام الآخرة، وما يلي ذلك، ولو كان لهم في ذلك خوض ونظر لبلغنا منه ما يدلنا على أصل المسألة، إلا أن ذلك لم يكن فدل على أنَّه غير موجود عندهم: وذلك دليل على أن القرآن لم يقصد فيه تقرير لشيء مما زعموا، نعم تضمن علوما هي من جنس علوم العرب، أو ما ينبنى على معهودها، مما يتعجب منه أولو الألباب، ولا تبلغه إدراكات العقول الراجحة، دون الاهتداء بأعلامه، والاستنارة بنوره، أما أن فيه ما ليس من ذلك فلا ..

وبعدما احتج الشاطبى لدعواه، عرض لأدلة اصحاب هذا التفسير العلمي، فقال في تلخيص حججهم: ربما استدلوا على دعواهم:

1 -

بقوله تعالى: ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء، وقوله: ما فرطنا في الكتاب من شيء، ونحو ذلك: 2 - بفواتح السور، وهي مما لم يعهد عند العرب، وبما نقل عن الناس فيها. 3 - بما حكى من ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره.

ثم تقدم لنقض هذه الأدلة واحدًا واحدًا، فقال عن الأول: فأما الآيات فالمراد بها عند المفسرين ما يتعلق بحال التكليف أو التعبد .. والمراد بالكتاب في قوله: "مافرطنا في الكتاب من شيء"، اللوح المحفوظ. ولم يذكروا فيها ما يقتضي تضمنه لجميع العلوم النقلية والعقلية .. وفي الرد على الثاني يقول: وأما فواتح السور فقد تكلم الناس فيها بما يقتضي أن للعرب به عهدا، كعدد الجمل الَّذي تعرفوه من أهل الكتاب، حسبما ذكره أصحاب السير، أو هي من المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله تعالى، وغير ذلك، وأما تفسيرها بما لا عهد به فلا يكون، ولم يدعه أحد ممن تقدم فلا دليل فيها على ما ادعوا وفي الرد على الثالث يقول: وما ينقل عن على أو غيره - وقد أورد منه طرفًا - في هذا لا يثبت، فليس بجائز أن يضاف إلى القرآن مالا يقتضيه، كما أنَّه لا

(1) يذكرنا قول الشاطبى هذا بما يورده الغزالى في الإحياء. 1: 261. من قول على:

من فهم القرآن فسر به جمل العلم، وتجد النفس حتَّى من صياغة هذه العبارة أشياء وأشياء! !

ص: 2328

يصح أن ينكر منه ما يقتضيه، ويجب الاقتصار في الاستعانة على فهمه على كل ما يضاف علمه إلى العرب خاصة، فيه يوصل إلى علم ما أودع من الأحكام الشرعية، فمن طلبه بغير ما هو أداة له ضل عن فهمه، وتقول على الله ورسوله فيه .. وتلك هي الخلاصة الشاملة لما أكمله الشاطبى بيانا في غير موضع من الموافقات، بعد ما عرض لأصله الجامع وفيما أشرنا إليه من صفحات

وإذا كان هذا هو الرأى القديم العهد، في فهم القرآن فهما يجعله مصدر العلوم المختلفة، ويأخذ كلمه باصطلاحات حادثة بعده بأزمنة غير قصيرة فإنك لتضم إلى هذا البيان، من النظرات الحديثة ما يؤيده ويعززه، فمنها:

1 -

الناحية اللغوية، في حياة الألفاظ وتدرج دلالتها؛ لو ملكنا منها ما لا بد لنا أن نملكه، في تحديد هذا التدرج، وتأريخ ظهور المعاني المختلفة للكلمة الواحدة، وعهد استعمالها فيها لوجدنا من ذلك ما يحول بيننا وبين هذا التوسع العجيب في فهم ألفاظ القرآن، وجعلها تدل على معان واطلاقات لم تعرف لها، ولم تستعمل فيها، أو إن كانت تلك الألفاظ قد استعملت في شيء منها، فباصطلاح حادث في الملة، بعد نزول القرآن باجيال .. وسترى فيما يلي - من بيان عن التفسير اليوم، وكيف يتناول - ما يكشف عن هذا الجانب كشفًا كافيًا.

2 -

الناحية الأدبية، أو البلاغية إن شئت، - والبلاغة فيما يقال: مطابقة الكلام لمقتضى الحال، فهل كان القرآن على هذا النحو المتوسع من التفسير العلمي، كلامًا يوجه إلى من خوطب به من الناس في ذلك العهد، مرادًا به تلك المعاني المذكورة مع أنها معان من العلم لم تعرفها الدنيا إلا بعد ما جازت آمادًا فسيحة، وجاهدت جهادًا طويلًا، ارتقى به عقلها وعلمها! ! ! وهب هذه المعاني العلمية المدعاة كانت هي المعاني المرادة بالقرآن فهل فهمها أهل العربية منه إذ ذاك وأدركوها؟ !

وإذا كانوا قد فهموها فما لنهضتهم العملية في علوم الحياة المختلفة لم تبدأ بظهور القرآن، ولم تقم على هذه الآيات الشارحة لمختلف نظريات العلوم المفهمة

ص: 2329

لدقائقها! ! وإن كانت لم تفهم منها، ولم يدركها أصحاب اللغة الخلص من عباراتها -كما هو الواقع فعلا - فكيف تكون معاني القرآن المرادة؟ ! وكيف تكون للك الألفاظ مفهمة لها، وهل هذه هي المطابقة لمقتضى الحال!

3 -

وهناك الناحية الدينية، أو الاعتقادية، وهي التي تبين مهمة كتاب الدين، وهل هو كتاب يتحدث إلى عقول الناس وقواهم العالمة عن مشكلات الكون، وحقائق الوجود العلمية؟ ؟ وكيف يساير ذلك حياتهم، ويكون أصلًا ثابتًا لها، تختم به الرسالات السموية، كما هو الشأن في القرآن، مع أن هوْلاء المتدينين لا يقفون من معرفة هذه الحقائق عند غاية محدودة، ولا ينتهون منها عند مدى ما؟ ؛ فكيف تؤخذ جوامع الطب والفلك والهندسة والكيمياء من القرآن على نحو ما سمعت آنفًا، وهي جوامع لا يضبطها اليوم أحد إلا تغير ضبطه لها بعد يسير من الزمن أو كثير؛ وصا ضبطه منها القدماء قد تغير عليهم فيما مضى، ثم تغير تغيرًا عظيمًا فيما تلا! !

والحق البين أن كتاب الدين لا يعني بهذا من حياة الناس ولا يتولاه بالبيان، ولا يكفيهم مؤنته حتَّى يلتمسوه عنده، ويعدوه مصدرًا فيه.

وأما ما اتجهت إليه النوايا الطيبة من جعل الارتباط بين كتاب الدين والحقائق العلمية المختلفة، ناحية من نواحى بيان صدقه، أو أعجازه، أو صلاحيته للبقاء

الخ فربما كان ضره أكثر من نفعه. على أنَّه إن كان لا بد لأصحاب هذه النوايا ومن لف لفهم من أن يتجهوا إليه، ليدفعوا مناقضة الدين للعلم، فلعله يكفى في هذا ويفى، ألا يكون في كتاب الدين نص صريح يصادم حقيقة علمية يكشف البحث أنها من نواميس الكون ونظم وجوهره، وحسب كتاب الدين بهذا القدر صلاحية للحياة، ومسايرة للعلم، وخلاصًا من النقد .. على أنى حين أتسمح بهذا القدر في سبيل إرضاء رغبات هؤلاء الطيبى النية، لا أنسى أن أذكرهم بأن التناول الفني لحقائق الكون ومشاهده، هو التناول الَّذي يقصد به الدين رياضة وجدانات الناس، ويوجهه لعامتهم وخاصتهم، وعلمائهم وأنصاف علمائهم

ص: 2330

بل لجهلائهم أيضًا -كما هي مهمة الدين والغاية من تلاوة كتابه بينهم جميعًا، وهذا التناول إنما يقوم على المشهود البادى من ناحية روعته في النفس، ووقعه على الحواس، وانفعال الناس به؛ لا من ناحية دقائق قوانينه، ومنضبط نواميسه في معادلات جبرية أو أرقام حسابية، أو بيان جاف لخصائصه وحقائقه .. وبقيام هذا التناول على المشاهد، والمدرك بادئ الرأى، والمؤثر في النفس المثير للانفعال، لا يجب الوفاء فيه بحماية الحقائق العلمية، والخصائص المجربة لهذه العوالم الموصوفة والمناظر التي لا يراد من تناولها إلا إثارة الشعور بجلالها وجمالها، ودلالتها على عظمة القوة المدبرة لها المحققة لنظامها، ولو التزم في شيء من هذا تصحيح المقررات العلمية لأخل هذا الالتزام كثيرًا بالأهداف الفنية الوجدانية، التي يريد الدين تحقيقها ونفع الحياة بها عن طريق التأمل التدين، والاعتبار النفسى العاطفى المريح، قبل كل شيء آخر ..

ومن هنا قد يبدو في تعبير القرآن ما يظهر متعارضا مع شيء من المقررات العلمية؛ وإن أمكن التوفيق بينهما. ولا أحسب أن عليه بأسًا بشيء من هذا ولا فيه ضير

فخير لأصحاب هذه الرغبات الذين يبينون الصدق، أو الإعجاز، أو الصلاحية لكتاب الدين بهذا النحو من التفسير العلمي، خير لهم أن يقدروا مثل هذا الاعتبار، فلا يتكلفون ما يتكلفون من ربط الكتاب بالعلم؛ على أنهم إن كانوا لا بد فاعلين فحسبهم -كما تقدم - ألا يكون في القرآن نص صريح يصادم حقيقة علمية، دون أن يمكن التوفيق بينه وبينها

وبيان هذا الأصل مما لا يسمح المقام فيه بأكثر مما قيل.

وهناك نواح أخرى من النظر محدثة، تؤيد الرأى القديم الَّذي بينه الشاطبى في كيفية فهم عبارة القرآن؛ وتجعل من الخير ألا توجه العناية إلى مثل هذا الضرب من التفسير العلمي، لأنه ليس بذى جدوى على القرآن نفسه، والقرآن غنى عن أن يعتز بمثل هذا التكلف الَّذي يوشك أن يخرج به عن هدفه الإنسانى الاجتماعى في إصلاح الحياة، ورياضة نفوس الناس جميعًا على اختلاف حظهم من العلوم الطبيعية الرياضية وما إليها.

ص: 2331

ح - ألوان التفسير:

إنما نشير تحت هذا العنوان المتجوز إلى ظاهرة واضحة الأثر هي: أن الشخص الَّذي يفسر نصًّا، يلون هذا النص - ولا سيما النص الأدبى - بتفسيره له وفهمه إياه. وإذ أن المتفهم لعبارة هو الَّذي يحدد بشخصيته المستوى الفكرى لها، وهو الَّذي يعين الأفق العقلى، الَّذي يمتد إليه معناها ومرماها، يفعل ذلك كله، وفق مستواه الفكرى وعلى سعة أفقه العقلى .. لأنه لا يستطيع أن يعدو ذلك من شخصيته، ولا تمكنه مجاوزته أبدًا .. فلن يفهم من النص إلا ما يرقى إليه فكره ويمتد إليه عقله وبمقدار هذا يتحكم في النص ويحدد بيانه، فهو في حقيقة الأمر يجر إليه العبارة جرًا، ويشدها شدًا؛ يمطها حينًا إلى الشمال، وحينًا إلى الجنوب؛ وطورًا يجذبها إلى أعلى، وآونة ينزل بها إلى أسفل؛ فيفيض عليها في كل حالة من ذاته، ولا يستخرج منها إلا قدر طاقته الفكرية واستطاعته العقلية؛ وما أكثر ما يكون ذلك واضحًا، حينما تسعف اللغة عليه، وتتسع له ثروتها، من التجوزات والتأولات، فتمد هذه المحاولة المفسرة، بما لديها من ذلك .. بيان المستطاع منه في اللغة العربية لكثير وكثير

على هذا الأصل وجدنا آثار شخصية المتصدين لتفسير القرآن، تطبع تفسيرهم له، في كل عهد وعصر، وعلى أي طريقة ومنهج، سواء أكان تفسيرهم له نقليًا مرويًّا، أم كان عقليًا اجتهاديًا .. ولعله لا يبدو هذا الأثر الشخصى واضحًا في التفسير المروى لأول وهلة، ولكنك تتبينه إذا ما قدرت أن المتصدى لهذا التفسير النقلى إنما يجمع حول الآية من المرويات، ما يشعر أنها متجهة إليه، متعلقة به، فيقصد إلى ما تبادر لذهنه من معناها، وتدفعه الفكرة العامة فيها، فيصل بينها وبين ما يروى حولها في اطمئنان

وبهذا الاطمئنان يتأثر نفسيًا وعقليًا، حينما يقبل مرويًّا ويعنى به؛ أو يرفض من ذلك مرويًّا - إن رفضه - ولم يرتح إليه

وكذلك راج بين القوم -كما لاحظ ابن خلدون فيما أوردنا من عبارته - ما هم في شوق إليه وتعليق به، من أخبار بدء الخلق، ونشأة الوجود، وتفصيل الأحداث الكبرى في

ص: 2332

تاريخ الإنسانية الأولى؛ لأميتهم، وقلة المتداول بينهم منه، فكانت كثرة الإسرائيليات! ! وكان كل أولئك صورة عقلية لهذا العصر الأول.

ومن هنا نستطيع القول بأنه حتَّى في رواج التفسير النقلى وتداوله، تكون شخصية المتعرض للتفسير هي الملونة له، المروجة لصنف منه.

أما حين يصير التفسير عقليًا اجتهاديًا، فإن هذا التلوين الشخصى يبدو أوضح وأجلى. وقد أشرنا إلى ما لثقافة متعاطى التفسير، من الأثر في تفسيره؛ إذ أن ثقافته، ونوع معارفه هو الَّذي يحدد ناحية عنايته وميدان نشاطه، وما ينتفع به في استخراج معاني العبارة، وما يعني به قبل غيره من هذه المعاني فيتأثر التفسير بذلك كله، ويتأثر تاريخ هذه المعارف نفسها بمزاولة التفسير، أو الاهتمام به -كما سبقت الإشارة إلى ذلك. فأنت ترى - في جلاء - أن التفسير، على هذا التلوين - يتأثر بالعلوم والمعارف التي يلقى بها المفسر النص، ويستعين بها في استجلاء معانيه، كما أن وصل هذه العلوم بالتفسير، يكسب هاتيك العلوم نفسها، ضربًا من الثروة، بقدر أثره في تاريخها .. فالنحوى يلقى القرآن بأصول الصنعة الأعرابية، يحكمها في فهم معانيه، ويحتكم إليها في تحديد مدلولاتها، فيلون التفسير بمنهج دراسته وأسلوبها .. ثم هو بعد ذلك يترك في حياة النحو بهذا الوصل آثارًا، تعود على دراسته، ويلتمس بيانها، في تاريخ حياة هذه المادة .. وهكذا تنوعت ألوان التفسير، وتعددت بتعدد ثقافات المتصدين له، فقد سمعت أن أبا الحسن الأشعرى المتكلم، في كتابه الَّذي سموه "المختزن" لم يترك آية تعلق بها يدعى، إلا أبطل تعلقه بها وجعلها حجة لأهل الحق

إلخ بل ينقلون من قوله هو نفسه في وصف كتاب هذا: إن فيه من ضروب الكلام مسائل للمخالفين لم يسألوه عنها ولا سطروها في كتبهم، ولم يتجهوا للسؤال، وأجاب عنه بما وفقه الله تعالى له (1)

وقد جاءك نبأ ما فعل الفخر الرازي في تفسيره، من جمع أقوال الحكماء والفلاسفة،

(1) ابن عساكر - تبين كذب المفترى ص 133، ط دمشق يتغير في الضمائر.

ص: 2333

وشبههم في الكلاميات، حتَّى قيل فيه ما قيل آنفًا. فهذا ومثله تلوين كلامى للتفسير يضفى على القرآن، من منهج علم الكلام ويوجه تفسيره، وقد انتهى به إلى نزعات مذهبية خاصة لعل من أشهرها كشاف الزمخشرى في منحاه الاعتزالى

كما تجد تلونيًا فقهيًا للتفسير، وآخر بلاغيًا، وغيرهما قصصيًا.، وهكذا مما تعد فيه كتب كل صنف وحدها؛ وتوصف في التاريخ التفصيلى للتفسير .. كما يبين فيه المحبب المقبول من هذا التلوين؛ والمنفر المكروه منه، كالتلوين الباطنى والإشارى المتطرف، وما إلى ذلك من تفسير مرددو، يخرج القرآن عن وضعه، ويناقض الحكمة الإلهية والغرض الإصلاحى من وصله بحياة الدين والدنيا، وقد وصف القدماء مثل هذه الألوان المنفرة المستقبحة، واستبعدوها.

أما ما عدا هذا المكروه من التلوين، فقد ينجو من هذا الاستبعاد والاستنكار؛ ولكن يبقى النظر في تحقيقه للفائده المرجوة من القرآن؛ فيسلم فيه بذلك أو لا يسلم.

وفي هذا يقول الأستاذ الإمام (1) رحمه الله:

إن الإكثار في مقصد خاص من هذه المقاصد يخرج بالكثيرين عن المقصود من الكتاب الإلهى، ويذهب بهم في مذاهب تنسيهم معناه الحقيقي. كما يقول في هذا الصدد أيضًا (2):"إن التفسير قسمان: أحدهما جاف مبعد عن الله وكتابه وهو ما يقصد به حل الألفاظ وإعراب الجمل، وبيان ما ترمى إليه تلك العبارات والإشارات من النكت الفنية، وهذا لا ينبغي أن يسمى تفسيرًا وإنما هو ضرب من التمرين في الفنون كالنحو والمعانى" .. ويقول عن التلوين الفقهى بخاصة (3)"الأحكام العملية التي جرى الاصطلاح على تسميتها فقها هي أقل ما جاء في القرآن؛ وإن فيه من التهذيب ودعوة الأرواح إلى ما فيه سعادتها والأستاذ رحمه الله حين ينفر من هذه الألوان يطمئن إلى تلوين آخر وصفه في غير موضع، فما قال (4) عنه: "والتفسير الَّذي نطلبه هو فهم الكتاب، من حيث هو دين يرشد الناس

(1) تفسير الفاتحة ط المنار سنة 1345 هـ، ص 9، 10.

(2)

المصدر السابق ص 18.

(3)

المصدر السابق ص 10.

(4)

المصدر السابق، ص 8.

ص: 2334

إلى ما فيه سعادتهم في حياتهم الدنيا وحياتهم الآخرة، فإن هذا هو المقصد الأعلى منه، وما وراء هذه المباحث تابع له أو وسيلة لتحصيله وكذلك يقول (1) عنه "التفسير الَّذي قلنا إنه يجب على الناس، على أنَّه فرض كفاية وهو ذهاب المفسر إلى فهم مراد القائل من القول، وحكمة التشريع في العقائد والأخلاق والأحكام على الوجه الَّذي يجذب الأرواح ويسوقها إلى العمل، والهداية المودعة في الكلام، ليتحقق فيه معنى قوله (هدى ورحمة) ونحوهما من الأوصاف، فالمقصود الحقيقي وراء تلك الشروط والفنون، وهو الاهتداء بالقرآن، هذا هو اللون الَّذي يجمل في نظر الأستاذ الإمام، وسنعود للنظر إليه بعد كلمة يسيرة عن:

ط - خطة التفسير

منذ عصر مبكر (2) جعل القوم يتناولون تفسير القرآن على ترتيب سوره، يقفون منها عند بعض الآية، أو الآية، أو الجملة من الآى، فيبينون ما فيها على اللون الَّذي يؤثره المتناول وتضفيه شخصيته على تفسيره؛ ومازالت تلك الخطبة هي السائدة في التفسير، حتَّى عندما يعني المفسر بناحية خاصة من القرآن. فبين يدينا مثلًا كتاب أحكام القرآن للجصاص - ت 370 هـ - وهو فقهى الاتجاه، يعني

(1) المصدر السابق، ص 19

(2)

يقول عكرمة مولى ابن عباس- ت 105 هـ- "لقد قسرت ما بين اللوحين" - إتقان 2: 225 - ولابن جريح ت 150 هـ- ثلاثة أجزاء كبار في التفسير - اتقان 2: 224 فهذه العبارة وتلك الأجزاء الكبار إذا ما أنضم إليها ملاحظة قوة اتصال القرآن بالحياة الإسلامية، وشديد عناية القوم بأخذ الأحكام وغيرها منه، وحاجتهم الملحة في ذلك، كل أولئك وما يشبهه مؤذن بأن تتبعهم لتفسير القرآن، واستيفاءهم ذلك في سوره وأية قد كان عملا مبكرا، ولا أميل إلى تأخيره لنهاية القرن الثاني وأوائل الثالث - وصاحب ضحى الإسلام - 2: 141 - يميل إلى عد الفراء- ت 207 هـ أول من تعرض لآية آية حسب ترتيب المصحف وفسرها على التتابع، آخذا ذلك من نص في فهرست ابن النديم، وكتاب معاني القرآن للفراه في أيدينا، وهو شبيه في تناوله للآى على ترتيبها في السور بكتاب مجاز القرآن لأبي عبيده - ت 209 هـ وحوالى هذا. فإن القطعة التي منه بأيدينا تتناول السور على ترتيبها، وتعرض لما في السورة من آى تحتاج لبيان مجازها أي المراد بها، فليس للفراء، ولعله لو وقع إلينا شيء مما قبل ذلك العهد لرجح أن هذا التناول المرتب لتفسير سور القرآن وآيه أقدم عهدًا من صنيع الفراء وأبي عبيدة بغير قليل.

ص: 2335

بهذا الجانب قبل كل شيء؛ ولكنه مع هذا يتبع للك الخطبة التقليدية في تفسير السور على توتيبها والآى في السور

وأقل من ذلك أن يتتبع المفسر موضوعًا خاصًّا في القرآن، يجمع متفرقه، فترى مثل كتاب التبيان في أقسام القرآن لشمس الدين ابن قيم الجوزية - ت 751 هـ- الَّذي قصد فيه إلى درس موضوع خاص، هو القسم في القرآن؛ قد انتظم نظرات عامة لصنيع القرآن في الأقسام، ولكنه مع ذلك لا يستقصى تتبع النظائر ويتولاها بالتفسير المقابل الَّذي يستعان فيه على فهم بعض القرآن ببعضه فهمًا يعطى الفكرة الموحدة عن المنهج القرآنى في القسم بشيء خاص، ويحصى ما ورد من ذلك فينظر في جملته، وإن كان قد ألم بشيء من هذا إلمامًا سريعًا لا تشفى

وتلك الخطبة الغالبة في تفسير القرآن على ترتيب سوره وآيه فيها، مما هو موضع للنظر، يقول فيه كلمة ضمن ما نعرض له من حديث عن:

التفسير اليوم

والقدماء فيما يقولون عن حياة العلوم الإسلامية قد قسموها ثلاثة أقسام: علم نضج واحترق وهو النحو والأصول؛ وعلم نضج وما احترق وهو علم الفقة والحديث؛ وعلم لا نضج ولا احترق، وهو علم البيان والتفسير

ويشاء الله أن يكون علم البيان وعلم التفسير من أول ما أقوم على خدمته في كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول .. فيكون قول القدماء أنفسهم بعدم نضجهما إذنًا صريحًا منهم بالمحاولة المحددة في حياة هاتين المادتين، وقد تقدمت إلى هذه المحاولة، تحت الشعار الَّذي اتخذته لنفسى وهو: أول التجديد قتل القديم فهما، وأراد الله أن يكون في دائرة المعارف الإسلامية أول تسجيل لإجمال هذه المحاولة المحددة في مادة البلاغة؛ وها هي ذي أول من يسجل أصول هذه المحاولة في مادة التفسير.

1 -

القرآن كتاب العربية الأكبر

في الَّذي مضى من القول عن "ألوان التفسير" بيان للأغراض التي كان يقصد إليها المفسرون، ويعنون بتحقيقها أكثر من غيرها؛ وقد سمعنا الأستاذ الإمام رحمه الله، بنقدهم فيما آثروا من أغراض؛ ويرى أن الغرض الأول والأهم في التفسير، أن يكون

ص: 2336

محققًا لهداية القرآن ورحمته، مبينًا لحكمة التشريع في العقائد والأخلاق، والأحكام على الوجه الَّذي يجذب الأرواح .. إلخ فالمقصد الحقيقي عنده: هو الاهتداء بالقرآن، وهو مقصد جليل ولا شك .. يحتاج المسلمون إلى تحقيقه.

لكن ليس بدعًا من الرأى أن ننظر في هذا المقصد لنقول: إنه ليس الغرض الأول من التفسير، وليس أول ما يعني به ويقصد إليه، بل إن قبل ذلك كله مقصدًا أسبق، وغرضًا أبعد، تنشعب عنه الأغراض المختلفة، وتقوم عليه المقاصد المتعددة، ولابد من الوفاء به قبل تحقيق أي مقصد آخر، سواء أكان ذلك المقصد الآخر، علميًّا أم عمليًّا، دينيًّا أم دنيويًا .. وذلك المقصد الأسبق والغرض الأبعد هو النظر في القرآن من حيث هو كتاب العربية الأكبر، وأثرها الأدبى الأعظم، فهو الكتاب الَّذي أخلد العربية، وحمى كيانها وخلد معها، فصار فخرها، وزينة تراثها، وتك صفة للقرآن يعرفها العربي مهما يختلف به الدين أو يفترق به الهوى، ما دام شاعرًا بعربيته مدركًا أن العروبة أصله في الناس، وجنسه بين الأجناس، وسواء بعد ذلك أكان العربي مسيحيًا أم وثنيًا، أم كان طبيعيًا دهريًا لا دينيًّا، أم كان المسلم المتحنف، فإنه سيعرف بعروبته منزلة هذا الكتاب في العربية، ومكانته في اللغة، دون أن يقوم ذلك على شيء من الإيمان بصفة دينية للكتاب، أو تصديق خاص بعقيدة فيه .. وليس هذا شأن العرب فحسب، بل إن الشعوب التي ليست عربية الدم أصلًا، ولكن وصلها التاريخ، وسير الحياة بهذه العروبة، فارقضت الإسلام دينًا، أو خالطت العرب فسالت دماءها بدمائهم، ثم اتخذت العربية لغة، حتَّى صارت تلك العربية أصلًا من أصول حياتها الأدبية .. حتَّى هذه الشعوب التي ربطتها بالعربية هذه الأواصر الوثقى، إلى أن صارت العربية عنصرًا أساسيًا، وجانبًا جوهريًا من شخصيتها اللغوية الفنية، قد صار لكتاب العربية الأعظم، وقرآنها الأكرم مكانه بين ما تعنى به، من دراسة أدبية وآثار فنية قولية؛ فألزمها كل أولئك تناول هذا الكتاب بدراسة أدبية، تتفهم بها أصول ما ورثت من تلك العروبة، إن كانت عربية النجار أو كانت قد اتصلت بتلك العروبة اتصالًا قويًّا، دفع شخصيتها، وسير وجودها، ووجه حياتها .. فالعربى القح، أو من ربطته

ص: 2337

بالعربية تلك الروابط، يقرأ هذا الكتاب الجليل، ويدرسه درسًا أدبيًا، كما تدرس الأمم المختلفة عيون آداب اللغات المختلفة، وتلك الدراسة الأدبية لأثر عظيم كهذا القرآن هي ما يجب أن يقوم به الدارسون أولًا وفاء بحق هذا الكتاب، ولو لم يقصدوا الاهتداء به أو الانتفاع بما حوى وشمل بل هي ما يجب أن يقوم به الدارسون أولًا ولو لم تنطو صدورهم على عقيدة ما فيه، أو انطوت على نقيض ما يردده المسلمون الذين يعدونه كتابهم المقدس "فالقرآن كتاب الفن العربي الأقدس، سواء انظر إليه الناظر على أنَّه كذلك في الدين أم لا.

وهذا الدرس الأدبى للقرآن في ذلك المستوى الفني، دون نظر إلى أي اعتبار دينى، هو ما نعتده وتعتده معنا الأمم العربية أصلًا، العربية اختلاطًا؛ مقصدًا أول، وغرضًا أبعد، يجب أن يسبق كل غرض ويتقدم كل مقصد

ثم لكل ذي غرض أو صاحب مقصد بعد الوفاء بهذا الدرس الأدبى أن يعمد إلى ذلك الكتاب فيأخذ منه ما يشاء، ويقتبس منه ما يريد، ويرجع إليه فيما أحب من تشريع، أو اعتقاد، أو أخلاق، أو إصلاح اجتماعى، أو غير ذلك

وليس شيء من هذه الأغراض الثانية يتحقق على وجهه إلا حين يعتمد على تلك الدراسة الأدبية لكتاب العربية الأوحد دراسة صحيحة كاملة مفهمة له، وهذه الدراسة هي ما نسميه اليوم تفسيرًا، لأنه لا يمكن بيان غرض القرآن ولا فهم معناه إلا بها.

فجملة القول: أن التفسير اليوم - فيما أفهمه -هو: الدراسة الأدبية، الصحيحة المنهج، الكاملة المناحى، المتسقة التوزيع. والمقصد الأول للتفسير اليوم أدبى محض صرف، غير متأثر بأى اعتبار، وراء ذلك. وعليه يتوقف تحقق كل غرض آخر يقصد إليه .. هذه هي نظرتنا إلى التفسير اليوم وهذا غرضنا منه؛ وعلى هذا الأساس نتقدم لبيان طريقة تناوله، ومنهج درسه.

2 -

أثر ترتيب القرآن في تفسيره

وننظر بين يدي الخطبة في مسألة الترتيب لنبنى عليها الرأى في كيفية تناول التفسير، وهل تتبع فيه الخطة التي سادت حتَّى اليوم -كما تقدم - فندرسه على ترتيب سوره وآيه في السور، أو على غير هذا من ترتيب؟ والقرآن -كما هو المعروف- لم يرتب على الموضوعات والمسائل، فيفرد

ص: 2338

كل شيء منها بباب أو فصل؛ يجمع ما ورد فيه عن هذا الموضوع أو تلك المسألة، فليس على ترتيب كتب العقائد مع ما فيه من أصول العقيدة، وليس على ترتيب كتب التشريع مع ما فيه من أصول التشريع، ولا هو كذلك على نسق كتب الأخلاق أو التاريخ ولا القصص، ولا غير ذلك .. بل ليس على ترتيب بعض كتب الدين حين أفردت أحداث الحياة بأسفار عنونت كل سفر منها بحادث؛ أو حين جرت على تسلسل حياة فرد خصت كل حين منها بقسم، كما لم يرتب على شيء من تاريخ ظهور آياته

إنما جرى القرآن على غير هذا كله، فعرض لكثير من الموضوعات ولم يجمع منها واحد، بعينه، فيلتقى أوله بآخره، ويعثر به في مكان معين .. وإنما نثر ذلك كله نثرًا، وفرقه تفريقًا؛ فالحكم التشريعى في أكثر من موضع، والأصلى الاعتقادى قد عرض له غير مرة، والقصة قد وزعت مناظرها ومشاهدها في جملة أماكن، وهكذا تقرأ في السورة الواحدة فنونًا من القول، وتمر بألوان من الأغراض المختلفة، تعرض لها سورة أخرى، فيتكامل العرضان، وتتم الفكرة بتتبعها في مواطن متعددة؛ وذلك لحكمة ومرمى يبين في غير هذا المكان من الدراسة القرآنية التي تعرض للكلام في الترتيب.

وإنما ننظر إلى ما لهذا الواقع من أثر في طريقة تناول القرآن بالتفسير، وتتبعه لفهم معانيه وأغراضه، فيبدو للناظر أن تفسير سورا وأجزاء لا يمكن من الفهم الدقيق، والإدراك الصحيح، لمعانيه وأغراضه، إلا إن وقف المفسر عند الموضوع ليستكمله في القرآن ويستقصيه إحصاء، فيرد أوله إلى آخره، ويفهم لاحقه بسابقه .. فالناظر في سورة البقرة مثلًا يجد من الحديث عن المؤمنين وحالهم ما أحسب أنَّه يفهم الفهم الصحيح، إذا ما قورن بما في سورة "المؤمنون"، من الجزء الثامن عشر- ثم هو واجد في هذه السورة عن المنافقين وحالهم مالا يفهم على وجهه إلا مع سورة المنافقون في الجزء الثامن والعشرين .. وقصة آدم في البقرة، إنما تفسر مع ما ورد عنها في سورة الأعراف، والحجر والكهف وغيرها.

ص: 2339

وأنت - أرشدك الله - مقدر أن الَّذي يفهم جملة نصوص خاصة بموضوع واحد، إنما يصل إلى صحيح معناها ودقيقة، بمعرفة سابقها ولا حقها ومتقدمها ومتأخرها، إذا ما كان الزمن قد تباعد بين تلك النصوص، وبخاصة مثل هذا التباعد الزمنى الَّذي بين آى القرآن، فقد طال سنين وسنين .. ثم هذا المتفهم محتاج إلى إدراك الملابسات والمناسبات والأسباب التي أحاطت بما يفهمه من النصوص، إذ هي أضواء لا بد منها لاستجلاء المعنى. وترتيب القرآن لم يرع شيئًا من تقدم الزمن وتأخره، فمكيه يتخلل مدنية ويحيط به، وهكذا ترى من النظر في ترتيب القرآن على سوره - أي ترتيب كان في المصاحف المختلفة - ما لا يساير حاجات مفسره المتفهم له، بل يقضى ما كان من أمر الترتيب، بالنظر الجديد والترتيب الخاص لآى الموضوع الواحد، بحيث يكشف هذا الترتيب لنا عن تلك النواحى، التي عرفت أن المفسر المتفهم مضطر إلى مراعاتها وتقديرها، توصلا إلى الفهم الصحيح، والمعنى الدقيق.

فجملة القول، أن ترتيب القرآن في المصحف قد ترك وحدة الموضوع لم يلتزمها مطلقًا، وقد تردُ الترتيب الزمنى لظهور الآيات لم يحتفظ به أبدًا؛ وقد فرق الحديث عن الشيء الواحد والموضوع الواحد في سياقات متعددة، ومقامات مختلفة، ظهرت في ظروف مختلفة؛ وذلك كله يقضى في وضوح بأن يفسر القرآن موضوعًا موضوعًا؛ وأن تجمع آيه الخاصة بالموضوع الواحد، جمعًا إحصائيًا مستقصيًا، ويعرف ترتيبها الزمنى، ومناسباتها وملابساتها الحافة بها، ثم ينظر فيها بعد ذلك لتفسر وتفهم فيكون ذلك التفسير أهدى إلى المعنى، وأوثق في تحديده

وليس تفسير القرآن سورة سورة إلا تعرضًا مفرقًا لموضوعات مختلفة تنتظمها السورة الواحدة؛ ثم يعود المفسر بعد ذلك في السورة الأخرى إلى مثل هذه الموضوعات أنفسها. فإن عجل النظرة الجامعة إلى هذه الموضوعات في القرآن كله حينما عرضت له في أول سورة، فقد آل به الأمر إلى تفسير الموضوعات، وكانت وقفاته الطوال المتباعدة عند كل

ص: 2340

موضوع تركًا لتفسير السورة وإخلالًا به، وإن تعرض للموضوع الواحد مرارًا كلما عرض في السور المختلفة فقد أخل بوحدة الموضوع حين ترك الإلمام الجامع به في مقام متصل.

فصواب الرأى - فيما يبدو - أن يفسر القرآن موضوعا موضوعًا، لا أن يفسر على ترتيبه في المصحف الكريم سورًا أو قطعًا .. ثم إن كانت للمفسر نظرة في وحدة السورة وتناسب آيها واطراد سياقها فلعل ذلك إنما يكون بعد التفسير المستوفى للموضوعات المختلفة فيها.

3 -

المنهج الأدبى في التفسير:

وإذا ما كان وجه الراى أن التفسير الأدبى لكتاب العربية الأكبر، هو أول ما يجب أن يحاوله من لهم بالعربية صلة لغوية أدبية سواء أكانوا عربًا أم غير عرب .. وإذا ما كان وجه الرأى أن هذا التفسير الأدبى ينبغي أن يتناول القرآن موضوعًا موضوعًا، لا قطعة قطعة؛ فعلى هذا الأساس يكون منهج التفسير الأدبى إذن صنفين من الدراسة، كما هي الخطبة المثلى في درس النص الأدبى (1) وهذان الصنفان هما:

ا - دراسة حول القرآن

ب - دراسة في القرآن.

فأما دراسة ما حول القرآن:

فمنها دراسة خاصة قريبة إلى القرآن، ومنها دراسة عامة بعيدة - فيما يبدو من ظاهر الرأى - ولكنها في تقدير المنهج الأدبى لازمة لفهم القرآن فهمًا سليمًا دقيقًا.

والدراسة الخاصة هي ما لا بد لمعرفته، مما حول كتاب جليل كهذا الكتاب: ظهر في نحو عشرين عاما أو كذا وعشرين عاما، ثم ظل مفرقًا سنين حتَّى جمع في أدوار مختلفة وأحوال مختلفة، وكان جمعه وكتابته عملًا ساير الزمن طويلا، وناله من ذلك ما ناله .. ثم هناك قراءته، ومسايرة هذه القراءة للتطور اللغوي الَّذي تعرضت له اللغة العربية، بفعل النهضة الجادة التي أثارتها الدعوة الإسلامية والدولة

(1) بيان هذه الخطبة، وتصحيح الوضع فيها مما انتظمت دراسات كاتب هذه المادة في "الأدب المصري، بكلية الآداب من جامعة فؤاد الأول [جامعة القاهرة الآن]. "مخطوطة".

ص: 2341

الإسلامية، فقد كانت هذه القراءات عملًا ذا أثر واضح في حياة الكتاب وفهمه. وتلك الأبحاث - من نزول، وجمع، وقراءة، وما إليها - هي التي عرفت اصطلاحيًا - منذ حوالي القرن السادس الهجرى - باسم علوم القرآن (1) بعدما تناولها المفسرون المختلفون قبل ذلك بالبحث المجمل، والبيان المتفاوت في الاستيفاء، حسب عناية المفسر واهتمامه؛ ومثل تلك الأبحاث جد لازمة، في نظر دارسى الآثار الأدبية، ولابد منها لفهم النصوص المدروسة، والاتصال بها اتصالا مجديًا .. بل كان لزوم هذه الأبحاث لفهم القرآن مما شعر به القدماء أنفسهم، حتَّى قال السيوطي في مقدمة كتابه "الإتقان في علوم القرآن":"وقد جعلته مقدمة للتفسير الكبير الَّذي شرعت فيه وسميته بمجمع البحرين ومطلع البدرين الجامع لتحرير الرواية، وتقرير الدراية، ومن الله أستمد التوفيق والهداية (2). " كان أكثر المفسرين يلمون في مقدمة تفاسيرهم بشيء من القول في النزول والجمع، والقراءات

وقد أفرد ما حول القرآن من تلك الموضوعات حديثًا بالعناية، عند من يمارسون هذه الأبحاث من الغربيين. وكان أجل من كتب في ذلك منهم الألمانى نولدكه Noeldeke T. صاحب كتاب تاريخ القرآن Geschichte des Qorans` الَّذي اشترك في تحقيقه وإكمال طبعته الثانية نفر من علماء الألمان مثل شفاللى وزيمرن وبرجشتراسر، وقد جاهد أحد شبابنا من خريجى كلية الآداب فترجم الكتاب بمعونة من في الكلية من أساتذته الألمان وعارفى لغتهم، لكن حالت عوائق تافهة دون طبع الكتاب، مع أن أبحاث هؤلاء المحدثين قد أفاضت على تلك الموضوعات ألوانًا من العناية العلمية، إن لم تخل من الاتهام فإنها لن تخلو من روح النقد والتمحيص، التي لا بد منها في تناول هذه الأبحاث .. وهي دراسات ضرورية لتناول التفسير كما أشرناء حتَّى ما ينبغي مطلقًا أن يتقدم لدرس التفسير من لم ينل حظه من تلك الدراسة القريبة الخاصة حول القرآن، ليستطيع فهمه فهمًا أدبيًا صحيحًا

(1) محاضرات علوم القرآن لكاتب هذه في كلية الآداب."مخطوطة".

(2)

الإتقان، ج 1:7.

ص: 2342

مسترشدًا بتلك الملابسات الهامة في فهم القرآن.

وأما ما حول القرآن من دراسة عامة، فهو ما يتصل بالبيئة المادية والمعنوية، التي ظهر فيها القرآن وعاش؛ وفيها جمع وكتب وقرئ وحفظ، وخاطب أهلها أول من خاطب، وإليهم ألقى رسالته لينهضوا بأدائها، وإبلاغها شعوب الدنيا. فروح القرآن عربية، ومزاجه عربي، وأسلوبه عربي، "قرآنا عربيا غير ذي عوج" .. والنفاذ إلى مقاصده إنما يقوم على التمثل الكامل، والاستشفاف التام لهذه الروح العربية، وذلك المزاج العربي، والذوق العربي (1) ومن هنا لزمت المعرفة الكاملة لهذه البيئة العربية المادية، أرضها بجبالها وحرارها وصحاريها وقيعانها، وسمائها بسحبها ونجومها، وأنوائها وجوها بحره وبرده وعواصفه وأنسامه، وطبيعتها بجدبها وخصبها، وقحولها أو نمائها، ونباتها وشجرها

إلخ. فكل ما يتصل بتلك الحياة المادية العربية وسائل ضرورية لفهم هذا القرآن العربي المبين

مع هذا ما يتصل بالبيئة المعنوية بكل ما تتسع له هذه الكلمة؛ من ماض سحيق، وتاريخ معروف، ونظام أسرة أو قبيلة، وحكومة في أي درجة كانت، وعقيدة بأى لون تلونت، وفنون مهما تتنوع، وأعمال مهما تختلف وتتشعب، فكل ما تقوم به الحياة الإنسانية لهذه العروبة، وسائل ضرورية كذلك لفهم هذا القرآن العربي المبين .. وإذا جهدت الدراسة الأدبية في أن تعرف عن تلك العربية والعروبة أكثر وأعمق وأدق ما يعرف تبتغى بذلك درس أدبها درسًا صحيحًا؛ فإن هذا القرآن رأس هذا الأدب، وقلبه الخافق، ولن يدرس درسًا أدبيًا صادقًا، يفى بحاجة المتعرض لتفسيره إلا بعد أن تستكمل كل وسائط تلك المعرفة للبيئة العربية مادية ومعنوية. أما ما دمنا نقرأ التشبيه العربي القرآنى، أو التمثيل العربي القرآنى، فإذا مادته الأضواء العربية، والظواهر الجوية العربية، والحى أو الجماد المشهود في بلاد العرب لا نعرف عنه شيئًا وليس

(1) إن القرآن معاني ومرامي إنسانية اجتماعية بعيدة الهدف أبدية العمر: لكن ذلك كله إنما جاء الإنسانية في ثوبه العربي وبذلك التعبير العربي، والتمثيل التام لهذه العروبة هو السبيل المتعينة لفهم ذلك كله والوصول إليه.

ص: 2343

عندنا عنه صورة خاصة، فما يحق لنا - مع هذا - أن نقول إننا نفسر هذا القرآن أو نمهد لفهمه فهمًا أدبيًا، يهيئ للانتفاع به في نواح أخرى، وما دمنا نذكر الحجر، والأحقاف، والأيكة، ومدين، ومواطن ثمود ومنازل عاد، ونحن لا نعرف عن هذه الأماكن إلا تلك الإشارات الشاردة، فما ينبغي أن نقول إننا فهمنا وصف القرآن لها ولأهلها، أو إننا أدركنا مراد القرآن من الحديث عنها وعنهم، ثم لن تكون العبرة بهذا الحديث جلية ولا الحكمة ولا الهداية المرجوة مفيدة مؤثرة! !

ولعله ليس بالكثير مطلقًا أن نطلب مثل تلك الدراسات المفصلة لبيئة القرآن الَّذي هو أحدث الكتب السماوية عهدًا، ولغتة التي بها نزل. لا تزال لغة حية تتكلمها مئات الملايين، وأدبها هو أدب غير واحدة من الأمم، تدعى لنفسها حق الحياة؛ ثم هي أصل كبير للهجات ولغات تقوم دراستها الصحيحة على دراسة هذه العربية

ليس بالكثير في شيء أن نطلب هذه الدراسة لبيئة القرآن وهذه حالته؛ لأن الكتب الدينية الأخرى أقدم من القرآن بالقرون المتطاولة وبيئاتها قد عفت معالمها، ولغاتها قد تخلت عنها إذ خرجت من الحياة؛ ولكنا نجد ما في هذه الكتب الدينية جميعا من حي وجماد، وحادثة، وعلم، قد أفرد بالدراسة ووضعت له الكتب المطولة والمعاجم المستوفاة حتَّى ما يفوت شيء منها من يبتغى معرفته، وهذا كله إلى جانب الدراسات التاريخية والأدبية والدينية، والقانونية، والاجتماعية العميقة والمقارنة التي أصابتها تلك الكتب. ولا أتحدث عن الترجمات والنشرات، فتلك نواح أخرى ليست الآن موضع حديثنا، ولكن بها تعظم المأثمة في هذا التقصير الدراسى لكتاب هو أجل وأقدم، وأوثق ما عرفت العربية من آثارها الأدبية!

تلك إلمامه بما حول القرآن من دراسة، وهي في جملتها ترجع: إما إلى تحقيق النص وضبطه وبيان تاريخ حياته

وإما إلى التعريف بالبيئة التي فيها ظهر، وعنها تحدث، وبين مغانيها ومعانيها تقلب

وبعد استيفاء ذلك يكون التقدم إلى:

دراسة القرآن نفسه:

وهي تبدأ بالنظر في المفردات، والمتأدب يجب أن يقدر عند ذلك، تدرج

ص: 2344

دلالة الألفاظ، وتأثرها في هذا التدرج يتفاوت ما بين الأجيال وبفعل الظواهر النفسية والاجتماعية، وعوامل حضارة الأمة، وما إلى ذلك مما تعرضت له ألفاظ العربية في تلك الحركة الجياشة المتوثبة التي نمت بها الدول الإسلامية، والنهضة الدينية والسياسية والثقافية، التي خلفت هذا الميراث الكبير من الحضارة

وقد تداولت هذه اللغة العربية في تلك النهضات أفواه أمم مختلفة الألوان والدماء والماضى والحاضر، فتهيأت من كل ذلك خطوات تدريجية فسيحة متباعدة في حياة ألفاظ اللغة العربية، حتَّى أصبح من الخطأ البين أن يعمد متأدب إلى فهم ألفاظ هذا النص القرآنى الأدبى الجليل، فهما لا يقوم على تقدير تام لهذا التدرج والتغير، الَّذي مس حياة الألفاظ ودلالتها، وعلى التنبه إلى أنَّه إنما يريد ليفهم هذه الألفاظ في الوقت الَّذي ظهرت فيه ولليت أول ما تليت على من حول قال ها الأول عليه السلام (1) - وهذا هو أحد الاعتبارات الجوهرية التي تقف في وجه التفسير العلمي للقرآن على ما أشرنا إليه من قبل.

وإذا كان هذا هو الأصل الأول في فهم دلالة ألفاظ القرآن، فمن لنا به مع أن معاجمنا لا تسعف عليه ولا تعين.؟ فأكبر ما نملكه منها - وهو "لسان العرب" لابن منظور المصري - قد كتب على طريقة المقص والغراء، كما يقول العصريون، فتجاورت فيه نصوص تباعدت عصور أصحابها، فابن دريد في أوائل القرن الرابع الهجرى (321 هـ)، يجاور ابن الأثير في أوائل القرن السابع الهجرى (606 هـ) وتمازج لغويات الأول دينيات الثاني .. والقاموس المحيط -كما نعرفه - عصارات غير ممتزجة لثقافات متغايرة متباينه، من فلسفية عقلية إلى طبية عملية، فأدبية لغوية، فدينية اعتقادية، أو غيرها .. معاجمنا لا تسعف على شيء من تحقيق هذا الأصل الثابت في تدرج الألفاظ

فليس أمام مفسر القرآن حين يبتغى المعنى الأول لألفاظه إلا أن يقوم

(1) لا ينكر أن خلود هذا الكتاب ورياضته الدائمة للحياة مع صلته الوثقى بها. كل ذلك يهيئ لفهم معان متجددة أو نامية لكنا مع عدم إنكار هذا القدر نرى أنَّه لا ينبغي أن تنسب إلى القرآن من هذه المعاني إلا ما كان طريق فهمه الحس اللغوي للعربية، وسبيل الانتقال إليه هو دلالة اللفظة الأولى في عصر نزول القرآن

وبيان هذا والتمثيل له مما لا يتسع له المقام هنا.

ص: 2345

بعمل في ذلك، مهما يكن مؤقتًا وقاصرًا فإنه هو كل ما يمكن اليوم، وإلى أن نملك قاموسًا اشتقاقيًا تتدرج فيه دلالات الألفاظ، وتتمايز فيه المعاني اللغوية على ترتيبها، عن المعاني الاصطلاحية على ظهورها .. فلا معدى للمفسر من النظر في المادة اللغوية للفظ الَّذي يريد تفسيره، لينحى فيها المعاني اللغوية عن غيرها ثم ينظر في تدرج المعاني اللغوية للمادة نظرة ترتبها على الظن الغالب، فتقدم الأسبق الأقدم منها على السابق، حتَّى يطمئن - ما استطاع - إلى شيء في ذلك ينتهى منه إلى ترجيح معنى لغوى للكلمة، كان هو المعروف حين سمعتها العرب في آى الكتاب

والمفسر في هذا التمييز والنظر مسلم - ما أمكن - بمحدث الدراسة في أنساب اللغات وصلة ما بينها، ليطمئن كذلك إلى أن الكلمة عربية أصيلة، أو هي دخيلة؛ وإن كانت فما بيئتها؟ وما معناها الأول؟

ثم هو محاذر كذلك من اندفاع معاجمنا في رد الكلمات إلى أصل عربي يشابهها في اللفظ، مع التكلف في الاشتقاق والربط ..

وإذا ما فرغ من البحث في معنى اللفظة اللغوي، انتقل بعده إلى معناها الاستعمالى في القرآن يتتبع ورودها فيه كله، لينظر في ذلك، فيخرج منه برأى عن استعمالها: هل كانت له وحدة اطردت في عصور القرآن المختلفة ومناسباته المتغيرة؛ وإن لم يكن الأمر كذلك، فما معانيها المتعددة التي استعملها فيها القرآن؟ وبذا يهتدى بمعناها أو معانيها اللغوية إلى معناها أو معانيها الاستعمالية في القرآن؛ وهو بما ينتهى إليه من كل أولئك يفسرها مطمئنًا في موضعها من الآية التي جاءت فيها.

وقد حاول الراغب الأصفهانى منذ قرابة ألف عام، أن يعطينا مفردات القرآن في قاموس خاص بها. وعانى فيها شبيها بما وصفنا أو بشئ من أصل فكرته، ولكنه لم يتم التعقب اللغوي، ولم يستوف التتبع القرآنى، وفاته مع ذلك كله فرق ما بين عصره وعصرنا في دراسة اللغات وصلاتها؛ إلا أنَّه في كل حال نواة تخجل من بعده، وبخاصة أهل هذا العصر الطموح، فيؤلمهم ألا يملكوا إلا هذا

ص: 2346

القاموس القرآنى الناقص بل البدائى. وبالتزام هذا المنهج الأدبى يرجى كمال هذا القاموس، وقواميس أخرى تتطلبها حياة القرآن، كتاب العربية الأعظم.

ثم بعد المفردات يكون نظر المفسر الأدبى في المركبات، وهو في ذلك - ولا مرية - مستعين بالعلوم الأدبية من نحو وبلاغة .. إلخ ولكن لا على أن الصنعة النحوية عمل مقصود لذاته؛ ولا لون يلون التفسير كما كان الحال قديمًا .. بل على أنها؟ ؟ أداة من أدوات بيان المعنى وتحديده؛ والنظر في اتفاق معاني القراءات المختلفة للآيات الواحدة، والتقاء الاستعمالات المتماثلة في القرآن كله .. ثم على أن النظرة البلاغية في هذه المركبات ليست هي تلك النظرة الوصفية التي تعنى بتطبيق اصطلاح بلاغى بعينه، وترجيح أن ما في الآية منه هو كذا لا كذا؛ أو إدراج الآية في قسم من الأقسام البلاغية دون قسم آخر! ! كلا، بل على أن النظرة البلاغية هي النظرة الأدبية الفنية التي تتمثل الجمال القولى في الأسلوب القرآنى، وتستبين معارف هذا الجمال، وتستجلى قسماته، في ذوق بارع قد استشف خصائص التراكيب العربية منضما إلى ذلك التأملات العميقة في التراكيب والأساليب القرآنية لمعرفة مزاياها الخاصة بها بين آثار العربية، بل لمعرفة فنون القول القرآنى وموضوعاته فنًا فنًا، وموضوعًا موضوعًا، معرفة تبين خصائص القرآن في كل فن منها ومزاياها التي تجلو جماله.

ولئن كان مثل هذا مما يطلب أو يوصف في قليل من الجمل أو الأسطر، فإن تحقيقه ليس بهذه السهولة والقرب، وإنما يقوم على إصلاح أدبى بلاغى أحسب أن الحياة الأدبية اليوم تحاوله، وهي بالغة منه إن شاء الله مبلغًا حسنًا، ومستفيدة به في التفسير الأدبى للقرآن، كما تستفيد هذه المحاولة الإصلاحية نفسها بمزاولتها للتفسير القرآنى، وإذا أوفى بنا القول على هذا الإصلاح الأدبى فإنا نشير إلى ما تنبغى مراعاته من:

التفسير النفسى: لأن ما استقر من تقدير صلة البلاغة بعلم النفس (1) قد

(1) بحث "البلاغة وعلم النفس" .. لكاتب هذا المقال نشر في الجزء الثاني من المجلد الرابع لمجلة كلية الآداب سنة 1936.

ص: 2347

مهد السبيل إلى القول بالاعجاز النفسى للقرآن، كما كشف عن وجه الحاجة إلى تفسير نفسانى للقرآن يقوم على الإحاطة المستطاعة، بما عرف العلم من أسرار حركات النفس البشرية في الميادين التي تناولتها دعاوة القرآن الدينية، وجدله الاعتقادى، ورياضته للوجدانات والقلوب، واستلاله لقديم ما اطمانت إليه، وتوارثته عن الأسلاف والأجيال، وتزيينها بما دعا إليه من إيمان، ينقض مبرم هذا القديم، ويهدم أصوله .. وكيف تلطف القرآن لذلك كله، وماذا استخدم من حقائق نفسية، في هذه المطالب الوجدانية، والمرامى القلبية، وماذا أجدت رعاية ذلك كله، في إنجاح الدعوة، واعلاء الكلمة. فالتفسير النفسى، يقوم على أساس وطيد من صلة الفن القولى بالنفس الإنسانية، وأن الفنون على اختلافها - ومن بينها الأدب - ليست إلا ترجمة لما تجده النفس

وقد ألممنا بذلك في مكانه من الدراسة البلاغية الفنية، ولا نقول الآن أكثر من أن اللمحة النفسية في المعنى القرآنى، ربما تكون أحسم لخلاف بعيد الغور، كثير الشعب بين المفسرين، قد تأثلوا له البراهين النظرية والأقيسة المنطقية، وتلاقوا فيه بصنوف الأعاريب، ومعقد الصناعة النحوية البعيدة عن روح الفن، أو بالمحاولات البيانية الجافة، إلى النظرات السوفسطائية المسفة؛ وانظر على سبيل المثال تفسير الآيات 193 - 195 من سورة الشعراء في الفخر الرازي 6: 541 - 543 بولاق - وقابلة بتفسير الزمخشرى لهذه الآيات - كشاف 2: 132 ط بولاق - ترى الفرق بين الصنيعين، وكيف كانت نظرة الزمخشرى النفسية فيصلا حاسما في الموضع

فالملاحظة النفسية حين تعلل نسج الآية وصياغتها، وتعرف بجو الآية وعالمها، ترفع المعنى الَّذي يفهم منها إلى أُفق باهر السناء. وبدون هذه الملاحظة يرتد المعنى ضئيلًا ساذجًا، لا تكاد النفس تطمئن إليه، ولا هو خليق بأن يكون من مقاصد القرآن.

والحديث عن التفسير النفسى يذكرنا بما عرض له الأستاذ الإمام -

ص: 2348

روح الله روحه - من صلة بين التفسير وعلم الاجتماع: فقد ذكر (1) بيان علم أحوال البشر مما لا يتم التفسير إلا به، وأنه لا بد للناظر في الكتاب من النظر في أحوال البشر في أطوارهم وأدوارهم، ومناشئ اختلاف أحوالهم من قوة وضعف، وعز وذل، وعلم وجهل، وإيمان وكفر" .. وهذا هو ما جعلنا نفهم من قوله أنَّه يريد علم الاجتماع؛ وإن لم يسمه .. ولكنه عقب على ذلك بقوله .. "ومن العلم بأحوال العالم الكبير، علويه وسفليه، ويحتاج في هذا إلى فنون كثيرة، من أهمها التاريخ بأنواعه". وعلى كل حال فنحن إنما أعنينا بما يقوم به الفهم الأدبى للقرآن، وهو الفهم الَّذي يتقدم كل استفاده منه .. ثم تتلوه بعد ذلك المطالب الأخرى من هداية الخلق، أو إصلاح حالهم أو التشريع لهم .. فكل هذا يجب أن يقوم على أساس وطيد من الدرس الأدبى الَّذي أسلفنا وصفه العام، فيتصل بالخبرة النفسية كما ذكرنا، وقد تتصل المطالب الأخرى بعد ذلك بعلم الاجتماع أو غيره.

وبعد فقد وصفت الَّذي وصفته من منهج التفسير الأدبى ومطالبه الجليلة، وأنا ذاكر مالا أنساه أبدًا كلما شرحت المنهج الدقيق لدراسة أدبية أو غيرها، فأقول للمستكثرين: مهما يكن لهذه المطالب من أثر يثقل خطانا ويؤخر أثمار دراستنا، ويشعرنا بالنقص، ويعود علينا باللائمة فإن هذه هي الحقيقة، وهذا هو الواجب، وأولى لنا أن نؤثر تقرير هذه الحقيقة على أن نكذب على أنفسنا وعلى الأجيال. فنزعم الكفاية الكاملة والقدرة الموفورة. ولئن لم يكن لنا من الكمال إلا الشعور بالنقص فذلك أجمل بنا من التزيد الزائف .. وليس الَّذي نبغيه من هذا المنهج مستحيلًا ولا بعيد التحقق؛ فقد شعر أسلافنا بجملته، وقاموا ببعضه للقرآن، ثم قام المحدثون به كله لكتبهم الأدبية والدينية، ولن نكون نحن بين هؤلاء وأولئك الضائعين العاجزين! !

وأخيرًا

هذا المقال - في أكثره - إنجاز مركز، وإجمال لامح، يغرى ذوي الشأن في التفسير بآفاق فسيحة من الدرس والبحث. وما على إذا لم يجد كل قارئ فيه حاجته" .. ليس هنا مجال الاستيفاء.

أمين الخولى

(1) مقدمة تفسير الفاتحة ص 16.

ص: 2349