الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث التاسع: الرد على من زعم أن الأنبياء والرسل ليسوا اليوم أنبياء ولا رسلا
حديث فرقة مبتدعة تزعم أن محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب صلى الله عليه وسلم ليس هو الآن رسول الله ولكنه كان رسول الله، وهذا قول ذهب إليه الأشعرية.
وأخبرني سليمان بن خلف الباجي وهو من مقدميهم اليوم أن محمد بن الحسن بن فورك الأصبهاني على هذه المسألة، قتله بالسم محمود بن سبكتكين صاحب ما دون وراء النهر من خراسان رحمه الله.
وهذه مقالة خبيثة مخالفة لله تعالى ولرسول صلى الله عليه وسلم ولما أجمع عليه جميع أهل الإسلام مذ كان الإسلام إلى يوم القيامة، وإنما حملهم على هذا قولهم الفاسد أن الروح عرض والعرض يفنى أبدا ويحدث ولا يبقى وقتين، فروح النبي صلى الله عليه وسلم عندهم قد فنيت وبطلت ولا روح له الآن عند الله تعالى، وأما جسده ففي قبره موات فبطلت نبوته بذلك ورسالته.
ونعوذ بالله من هذا القول فإنه كفر صراح لا ترداد فيه، ويكفي من بطلان هذا القول الفاحش الفظيع أنه مخالف لما أمر الله عز وجل به ورسوله صلى الله عليه وسلم واتفق عليه جميع أهل الإسلام من كل فرقة وكل نحلة من الأذان في الصوامع في كل يوم خمس مرات
…
أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله.
فالأذان كذب على قولهم، وهذا كفر مجرد. وسبب هذه المقولة من ابن فورك الأصل الفاسد عند المذهب الأشعري أن العرض لا يبقى زمانين، وأن النبوة والرسالة صفة للحي وصفات الحي أعراض، وهذه الأعراض تبقى مشروطة بالحياة قائمة بها تزول بزوالها، فكيف يكون رسولا نبياً بعد موته؟ فالتزموا بعد انتفاء حياة النبي صلى الله عليه وسلم انتفاء رسالته وزوالها، ثم رقعوا بدعتهم هذه ببدعة أخرى وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم حي في قبره حياة "دنيوية" وبهذا لا زالت رسالته. قال ابن حزم "وإنما وقع فيه – أي هذا القول – من ضل لقول فاسد وهو أن الروح عرض لا يبقى وقتين"(1).
فيجب على قول هؤلاء المحرومين أن هذا باطل وكذب وإنما كان يجب أن يكلفوا أن يقولوا "محمد كان رسول الله" وكذلك قوله تعالى وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ [النساء: 164] وكذلك قوله يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ [المائدة: 109] وقوله تعالى وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء [الزمر: 69] فسماهم الله رسلا وقد ماتوا وسماهم نبيين ورسلا وهم في القيامة.
وكذلك ما أجمع الناس عليه وجاء به النص من قول كل مصل فرضا أو نافلة: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته فلو لم يكن روحه عليه السلام موجوداً قائماً لكان السلام على العدم هدراً.
فإن قالوا كيف يكون ميتاً رسول الله وإنما هو الذي يخاطب عن الله بالرسالة؟
قيل لهم: نعم يكون من أرسله الله تعالى مرة واحدة فقط رسولاً لله تعالى أبداً لأنه حاصل على مرتبة جلالة لا يحطه عنها شيء أبداً، ولا يسقط عنه هذا الاسم أبداً ولو كان ما قلتم لوجب أن لا يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولاً إلى أهل اليمن في حياته، لأنه لم يكلمهم ولا شافهم ويلزم أيضاً أن لا يكون رسول الله إلا ما دام يكلم الناس فإذا سكت أو أكل أو نام أو جامع لم يكن رسول الله.
وهذا حمق مشوب بكفر وخلاف للإجماع المتيقن، ونعوذ بالله من الخذلان.
وأيضاً فإن خبر الإسراء الذي ذكره الله عز وجل في القرآن وهو منقول نقل التواتر وأحد أعلام النبوة ذكر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى الأنبياء عليهم السلام في سماءٍ فهل رأى أرواحهم التي هي أنفسهم؟
(1)((الردة فيما يجب اعتقاده)) (ص: 204).
ومن كذب بهذا أو بعضه فقد انسلخ عن الإسلام بلا شك ونعوذ بالله من الخذلان. وهذه براهين لا محيد عنها.
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن لله ملائكة يبلغون منا السلام، وأنه من رآه في النوم فقد رآه حقاً.
ولقد بلغني عن بعضهم أنهم يقولون إن أمهات المؤمنين رضوان الله عليهن لسن الآن أمهات المؤمنين، لكنهن كن أمهات المؤمنين، وهذا ضلال بحت وحماقة محضة، ولو كان هذا لوجب أن لا تكون أم المرء التي ولدته وأبوه الذي ولده أباه ولا أمه إلا في حين الولادة والحمل من الأم فقط، وفي حين الإنزال من الأب فقط لا بعد ذلك، وهذا من السخف الذي لا يرضى به لنفسه ذو مسكة.
فإن قالوا: أتقولون أن عمر أمير المؤمنين اليوم أو عثمان أيضاً كذلك؟ قلنا لهم: لا، وهذا إجماع لأنه لا يكون أميراً إلا من الائتمار لأمره واجب وليس هذا لأحد بعد موته إلا للنبي وإنما هو لخليفة بعد خليفة طول حياته فقط. فبطل أن يكون لها فيها متعلق. "الفصل 1/ 88 - 90".
فرق المقرين بملة الإسلام خمسة
وهم أهل السنة والمعتزلة والمرجئة والشيعة والخوارج، ثم افترقت كل فرقة من هذه على فرق، ثم سائر الفرق الأربعة التي ذكرنا ففيها ما يخالف أهل السنة الخلاف البعيد وفيهم ما يخالفهم الخلاف القريب:
فأقرب فرق المرجئة إلى أهل السنة من ذهب مذهب أبي حنيفة الفقيه إلى أن الإيمان هو التصديق باللسان والقلب معاً، وأن الأعمال إنما هي شرائع الإيمان وفرائضه فقط.
وأبعدها أصحاب جهم بن صفوان والأشعري ومحمد بن كرام السجستاني، فإن جهما والأشعري يقولون إن الإيمان عقد بالقلب فقط، وإن أظهر الكفر والتثليث بلسانه وعبد الصليب في دار الإسلام بلا تقيه.
أما المرجئية فعمدتهم التي يتمسكون بها الكلام في الإيمان والكفر ما هما والتسمية بهما والوعيد، واختلفوا فيما عدا ذلك كما اختلفت غيرهم، وأما المعتزلة فعمدتهم التي يتمسكون بها الكلام في التوحيد وما يوصف به الله تعالى ثم يزيد بعضهم الكلام في القدر والتسمية بالفسق أو الإيمان والوعيد وقد يشارك المعتزلة في الكلام فيما يوصف الله تعالى به جهم بن صفوان ومقاتل بن سليمان والأشعرية وغيرهم من المرجئية "الفصل 2/ 111 - 112".
المصدر:
موقف ابن حزم من المذهب الأشعري لعبد الرحمن دمشقية - ص 29