الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع: أفعال العباد عند الأشاعرة
وافق الأشاعرة أهل السنة في مسألة خلق أفعال العباد الاختيارية والاضطرارية فقالوا: إنها مخلوقة لله تعالى، ولم تختلف عبارتهم في ذلك.
قال صاحب الجوهرة:
فخالق لعبده وما عمل
…
موفق لمن أراد أن يصل (1)
وأقاموا الأدلة النقلية والعقلية على صحة هذا القول.
ولكنهم خالفوا أهل السنة في بعض فروع هذه المسألة، ومن ذلك: هل العبد فاعل لفعله حقيقة أو لا؟
فالأشعرية نسبوا فعل الإنسان الاختياري إليه كسباً لا خلقاً، وهذا صحيح، ولكنهم اضطربوا في هذا الكسب الذي أثبتوه للعبد واختلفت عبارتهم فيه. والتفسير المستقر عندهم الآن هو كما قال شارح أم البراهين:"والكسب مقارنة القدرة الحادثة للفعل من غير تأثير"(2).
وحاولوا بهذا التفسير التوسط بين الجبرية والمعتزلة، فقالوا بالكسب فراراً من قول الجبرية، وزعموا أنهم بهذا الكسب يثبتون للعبد اختياراً!، وقالوا بعدم تأثير قدرة العبد الحادثة في الفعل فراراً من قول المعتزلة وتحقيقاً تاماً لوحدانية الأفعال فلا مؤثر إلا الله وحده، ولا يوجد تأثير للأسباب في مسبباتها!!.
المناقشة: الأول: تفسيرهم الكسب بالاقتران مخالف للغة العرب واستعمال القرآن الكريم، فهو في اللغة بمعنى الطلب والجمع (3)، وهو في القرآن لم يخرج عن هذا المعنى، فمن ذلك قول الله تعالى: أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة: 267]، وهو يستعمل في فعل الصالحات والسيئات (4)، فمن الأول قوله تعالى: أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام: 158] ومن الثاني قوله تعالى: فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ [البقرة: 79] ومن الآيات التي تجمع بينهما قوله تعالى: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ [عمران: 161].فظهر مما تقدم أن الكسب يرجع إلى ما يكسبه الإنسان من عمل القلب أو عمل الجوارح وهو المعبر عنه بالاجتراح والعمل، وظهر أن تفسير الأشعرية للكسب بالمقارنة قول لم يسبقوا إليه (5).
(1)((جوهرة التوحيد للقاني مع شرحها تحفة المريد)) (ص: 99).
(2)
((شرح أم البراهين)) (ص: 45).
(3)
انظر ((القاموس المحيط)) (ص: 167). مادة (كسب).
(4)
انظر ((مفردات ألفاظ القرآن للراغب)) (ص: 709 - 710).
(5)
انظر ((الشرح الجديد على جوهرة التوحيد للعدوي)) (ص: 79).
الثاني: إثباتهم قدرة للعبد غير مؤثرة فراراً من القول بأن ذلك يفضي إلى إثبات مؤثر غير الله تعالى، فيستلزم القول بأن أفعال العباد مخلوقة لهم بقدرتهم قول تبين ضعفه فإنه إذا تبين أن الله قد خلق العبد وخلق صفاته التي بها يقع الفعل من القدرة والإرادة وهما من أسباب العمل، وخلق أيضاً عمله على وفق سنته من تأثير الأسباب في مسبباتها – على حسب ما تم تفصيله – فلا حرج بعد ذلك، ولا يلزم أن تكون الأسباب هي الخالقة للفعل. الثالث: إن بناء التكليف على هذه المقارنة غير معقول وينتهي إلى القول بتكليف العاجز، وهذا هو الذي دفع الإيجي إلى وصفه الأشعرية بأنهم مجبرة متوسطة (1)، ودفع التفتازاني إلى أن يقول:"فالإنسان مضطر في صورة المختار"(2)، ودفع الرازي بعد أن أورد إشكالات على كسب الأشعري:"وعند هذا التحقيق يظهر أن الكسب اسم بلا مسمى"(3).الرابع: إثبات مقارنة القدرة الحادثة للفعل قول عند التحقيق قصد به مخالفة الجبرية وهو ليس بشيء، كما تقدم في الفقرة السابقة، إذ يقال لهم: ما الداعي لذكرها إذاً إذا كانت لا تؤثر؟، وما المزية لها في الذكر إذا كانت لا تؤثر في الفعل؟. فإن قولكم: الفعل يقارن القدرة الحادثة قول لا طائل تحته إذ يمكن أن نقول: إنه يقارن العلم والسمع والبصر الحادث وغير ذلك من الصفات
…
فصار بهذا ذكرهم للقدرة لا معنى له وهو مجرد تمويه (4).
وقد تنازع الأشعرية في معنى قدرة العبد على الطاعة. فقال الأشعري: هي العرض المقارن للطاعة. وهذا فيما حكاه عنه الأشاعرة. وقال إمام الحرمين: هي سلامة السباب والآلات.
وأورد على كلام الأشعري الإلزام الذي تقدم، وهو أنه يلزم من هذا تكليف العاجز، لأن التكليف على قوله واقع قبل إقدراه على العمل.
وأجيب عن هذا الإيراد بجوابين بناء على أن العرض هل يبقى زمانين أو لا؟
فعلى قول الأشعري: إن العرض لا يبقى زمانين: فالجواب: إن العبد قادر بالقوة لما اتصف به من سلامة الأسباب والآلات. وهي التي عليها اعتبار التكليف. وعلى القول بأن العرض يبقى زمانين فإنه لا مانع من تقدم القدرة على الطاعة (5)، ولكن ما زال الإشكال باقياً عليه في عدم فائدة هذه القدرة غير المؤثرة!
وأما تفسير إمام الحرمين فأورد عليه: أن الكافر أيضاً يكون قادراً بهذا الاعتبار على الطاعة، فاحتاجوا إلى إدخال جملة أخرى تكون قيداً لكلامه وهي:"وتسهيل سبيل الخير إليه" وبهذا يخرج الكافر (6). مع ملاحظة أمرين: الأول: إن إمام الحرمين نص على مسألة تسهيل سبيل الخير في رسالته النظامية (7).الثاني: إن إمام الحرمين أثبت قدرة للعبد مؤثرة في مقدورها (8).ولكي يكون هذا القول صواباً لابد من تفسير التأثير تفسيراً صحيحاً وهو: أن خروج الفعل من العدم إلى الوجود كان بتوسط القدرة المحدثة لا أنها منفردة بالإيجاد سواء كان في صفة الفعل أو ذاته. ومع هذا فما خلقه الله فعلاً للعبد كان العبد هو الفاعل له حقيقة، لأنه قائم به، والشيء إنما يوصف به من قام به (9).
المصدر:
منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى لخالد عبداللطيف – 1/ 346
(1) انظر ((المواقف في علم الكلام)) (ص: 428)، وانظر ما تقدم في (ص: 218).
(2)
((شرح المقاصد للتفتازاني)) (4/ 263)). وانظر ((التنبيه)) (ص: 11).
(3)
((محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين)) (ص: 288).
(4)
انظر ((الشرح الجديد لجوهرة التوحيد)) للعدوي (ص: 80).
(5)
انظر ((تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد)) (ص: 100).
(6)
انظر ((تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد)) (ص: 100).
(7)
انظر ((الرسالة النظامية)) (ص: 52).
(8)
انظر ((الرسالة النظامية)) (ص: 43 - 50).
(9)
انظر ((مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية)) (8/ 389، 126، 129).