الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: موقف علماء أهل السنة من دعوى الأشاعرة أنهم أهل السنة
بتتبع كلام أهل العلم من علماء أهل السنة نجد أقوالهم في ذلك متفاوتة ما بين متشدد، دعاه لذلك ما وقف عليه من مخالفة القوم للسنة، وموافقتهم للجهمية والمعتزلة في بعض أقوالهم، فبدعهم وحذر منهم ولم ير استحقاقهم للقب "أهل السنة" الذي يدعونه.
وبين متساهل يعدهم من أهل السنة، لما رأى من موافقتهم للسنة في بعض المسائل.
وبين هؤلاء وهؤلاء حاول بعض من أهل العلم التدقيق في المسألة، والقول فيها بشيء من التفصيل.
وفرق بعض أهل العلم بين متقدميهم ومتأخريهم، فعد المتقدمين منهم أقرب إلى أهل الحديث والسنة، والمتأخرين أقرب إلى الجهمية والمعتزلة.
وإليك تفصيل أقوالهم مرتبة حسب التصنيف الذي ألمحنا إليه:
القول الأول:
قول بعض أهل العلم: أن الأشاعرة ليسوا من أهل السنة وإنما هم أهل كلام، عدادهم في أهل البدعة.
وممن ذهب إلى ذلك: الإمام أبو نصر السجزي "ت 444 هـ". حيث يرى أنهم محدثة وليسوا أهل سنة، فيقول في فصل عقده لبيان السنة ما هي؟ وبم يصير المرء من أهلها؟
"
…
فكل مدع للسنة يجب أن يطالب بالنقل الصحيح بما يقوله، فإن أتى بذلك علم صدقه، وقبل قوله، وإن لم يتمكن من نقل ما يقوله عن السلف، علم أنه محدث زائغ، وأنه لا يستحق أن يصغى إليه أو ينظر في قوله، وخصومنا المتكلمون معلوم منهم أجمع اجتناب النقل والقول به بل تمحينهم لأهله ظاهر، ونفورهم عنهم بين، وكتبهم عارية عن إسناد بل يقولون: قال الأشعري، وقال ابن كلاب، وقال القلانسي، وقال الجبائي
…
ومعلوم أن القائل بما ثبت من طريق النقل الصحيح عن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يسمى محدثاً بل يسمى سنياً متبعاً، وأن من قال في نفسه قولاً وزعم أنه مقتضى عقله، وأن الحديث المخالف لا ينبغي أن يلتفت إليه، لكونه من أخبار الآحاد، وهي لا توجب علماً، وعقله موجب للعلم يستحق أن يسمى محدثاً مبتدعاً، مخالفاً، ومن كان له أدنى تحصيل أمكنه أن يفرق بيننا وبين مخالفينا بتأمل هذا الفصل في أول وهلة، ويعلم أن أهل السنة نحن دونهم، وأن المبتدعة خصومنا دوننا" (1).بل يذهب رحمه الله أبعد من ذلك فيرى أن ضررهم أكثر من ضرر المعتزلة، فيقول: "ثم بلي أهل السنة بعد هؤلاء؛- أي: المعتزلة – بقوم يدعون أنهم من أهل الاتباع، وضررهم أكثر من ضرر المعتزلة وغيرهم وهم أبو محمد بن كلاب وأبو العباس القلانسي، وأبو الحسن الأشعري
…
" (2).معللاً رأيه هذا بقوله: "فهؤلاء يردون على المعتزلة بعض أقاويلهم ويردون على أهل الأثر أكثر مما ردوه على المعتزلة" (3). وقوله: "
…
لأن المعتزلة قد أظهرت مذهبها ولم تستقف (4) ولم تموه. بل قالت: إن الله بذاته في كل مكان وإنه غير مرئي، وإنه لا سمع له ولا بصر
…
فعرف أكثر المسلمين مذهبهم وتجنبوهم وعدوهم أعداء. والكلابية، والأشعرية قد أظهروا الرد على المعتزلة، والذب عن السنة وأهلها، وقالوا في القرآن وسائر الصفات ما ذكرنا بعضه" (5).وممن عدهم من أهل البدع محمد بن أحمد بن خويز منداد المصري المالكي، فقد روى عنه ابن عبدالبر: أنه قال في كتاب (الشهادات) من كتابه (الخلاف)، في تأويل قول مالك، لا تجوز شهادة أهل البدع وأهل الأهواء قال: "أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام، فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع أشعرياً كان أو غير أشعري، ولا تقبل له شهادة في الإسلام أبداً، ويهجر ويؤدب على بدعته
…
" (6).
ومن المتأخرين: الشيخ ابن سحمان، والشيخ عبدالله أبو بطين كما سيأتي ذكر قولهما في ذلك في معرض ردهما على السفاريني في اعتباره الأشاعرة والماتريدية من أهل السنة.
القول الثاني:
قول من عدهم من أهل السنة، ومن هؤلاء.
السفاريني "1114 - 1188"؛ حيث قسم أهل السنة إلى ثلاث فرق فقال: "أهل السنة والجماعة ثلاث فرق:
1) الأثرية: وإمامهم أحمد بن حنبل ....
(1) انظر: ((الرد على من أنكر الحرف والصوت)) (ص: 100 - 101).
(2)
انظر: ((الرد على من أنكر الحرف والصوت)) (ص: 222).
(3)
انظر: ((الرد على من أنكر الحرف والصوت)) (ص: 223).
(4)
الاستقفاء: الإتيان من الخلف يقال: اقفيته بالعصا، واستقفيته ضربت قفاه بها.
(5)
((الرد على من أنكر الحرف والصوت)) (ص: 177، 178).
(6)
انظر: ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 117)"ط. الثانية 1388، نشر: المكتبة السلفية بالمدينة المنورة".
2) والأشعرية: وإمامهم أبو الحسن الأشعري.3) والماتريدية: وإمامهم أبو منصور الماتريدي" (1).ولم يسلم ذلك له فقد تعقبه في الحاشية بعض أهل العلم ولعله الشيخ ابن سحمان فقال: "هذا مصانعة من المصنف رحمه الله تعالى في إدخاله الأشعرية والماتريدية في أهل السنة والجماعة، فكيف يكون من أهل السنة والجماعة من لا يثبت علو الرب سبحانه فوق سماواته، واستواءه على عرشه ويقول: حروف القرآن مخلوقة، وإن الله لا يتكلم بحرف وصوت، ولا يثبت رؤية المؤمنين ربهم في الجنة بأبصارهم، فهم يقرون بالرؤية ويفسرونها بزيادة علم يخلقه الله في قلب الرائي. ويقول: الإيمان مجرد التصديق وغير ذلك من أقوالهم المعروفة المخالفة لما عليه أهل السنة والجماعة" (2).كما علق على ذلك أيضاً الشيخ عبدالله بابطين "ت 1282هـ" بقوله: "تقسيم أهل السنة إلى ثلاث فرق فيه نظر، فالحق الذي لا ريب فيه أن أهل السنة فرقة واحدة، وهي الفرقة الناجية التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عنها بقوله:((هي الجماعة)) (3)، وفي رواية:((من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)) (4)،
…
قال: وبهذا عرف أنهم المجتمعون على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ولا يكونون سوى فرقة واحدة. – قال -: والمؤلف نفسه يرحمه الله لما ذكر في المقدمة هذا الحديث، قال في النظم:
وليس هذا النص جزماً يعتبر
…
في فرقة إلا على أهل الأثر
يعني بذلك: الأثرية. وبهذا عرف أن أهل السنة والجماعة هم فرقة واحدة الأثرية والله أعلم" (5).وممن ذهب مذهب السفاريني. الأستاذ: أحمد عصام الكاتب، فقال في بيان أهل السنة من هم: "وبالجملة فهم: أهل الحديث، والأشاعرة، والماتريدية؛ لأنهم جميعاً التزموا أسس العقيدة وأصولها
…
" (6).
ولا يخفى ما في هذا الكلام من تجوز وتساهل، فإن الخلاف بينهم ولا سيما بين أهل الحديث، وبين الأشعرية والماتريدية، هو في أسس العقيدة وأصولها، ومن أهم هذه الأسس مسألة النقل التي تقدم الحديث عنها.
ومن هؤلاء: الدكتور/ أحمد محمود صبحي. حيث قال في كتابه (في علم الكلام): "
…
ولكن ليس للأشعرية حق الادعاء أنها تعبر عن فرقة أهل السنة والجماعة، وإنما تجاذب هذه الفرقة فريقان:
(1)((لوامع الأنوار البهية)) (1/ 73).
(2)
((لوامع الأنوار البهية)) (1/ 73) حاشية رقم (4).
(3)
رواه أبو داود (4597) ، وأحمد (4/ 102)(16979) ، والدارمي (2/ 314)، والحاكم (1/ 218). والحديث سكت عنه أبي داود. وقال الحاكم: هذه أسانيد تقام بها الحجة في تصحيح هذا الحديث. ووافقه الذهبي. وصحح إسناده أبو الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (96) – كما أشار لهذا في المقدمة -. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): حسن. وانظر كلامه في ((السلسلة الصحيحة)) (204).
(4)
رواه الترمذي (2641) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال: هذا حديث مفسر غريب لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه، قال الحافظ العراقي في ((المغني)) (3/ 284): أخرجه من حديث عبد الله بن عمرو وحسنه، ولأبي داود من حديث معاوية، وابن ماجه من حديث أنس وعوف ابن مالك، (وهي الجماعة) وأسانيدها جياد، وحسنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)).
(5)
((لوامع الأنوار البهية)) (1/ 73) حاشية رقم (4) أيضاً.
(6)
((عقيدة التوحيد في فتح الباري)) (ص: 86)، "ط. الأولى 1403هـ. نشر: دار الأفاق الجديدة – بيروت".
1) مذهب السلف من أهل السنة منذ الإمام أحمد بن حنبل إلى أن بلغ به ابن تيمية ذروة التبلور والتماسك.2) مذهب الخلف من أهل السنة وتشارك الصفاتية والأشعرية فيه مذاهب أخرى أهمها الماتريدية" (1).
فعد الأشعرية من أهل السنة، وإن كان لا يرى انفرادها بذلك.
القول الثالث:
قول من يرى أنهم من أهل السنة فيما وافقوا فيه أهل السنة من أبواب الاعتقاد. وممن قال بذلك:
الشيخ عبدالعزيز بن باز حيث قال جواباً على قول الصابوني: "أن التأويل لبعض الصفات لا يخرج المسلم عن جماعة أهل السنة".
قال: "صحيح في الجملة فالمتأول لبعض الصفات كالأشعرية لا يخرج بذلك عن جماعة المسلمين ولا عن جماعة أهل السنة في غير باب الصفات، ولكنه لا يدخل في جماعة أهل السنة عند ذكر إثباتهم للصفات وإنكارهم للتأويل. فالأشاعرة وأشباههم لا يدخلون في أهل السنة في إثبات الصفات لكونهم قد خالفوهم في ذلك وسلكوا غير منهجهم، وذلك يقتضي الإنكار عليهم وبيان خطئهم في التأويل، وأن ذلك خلاف منهج الجماعة
…
كما أنه لا مانع أن يقال: إن الأشاعرة ليسوا من أهل السنة في باب الأسماء والصفات، وإن كانوا منهم في الأبواب الأخرى، حتى يعلم الناظر في مذهبهم أنهم قد أخطأوا في تأويل بعض الصفات وخالفوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان في هذه المسألة، تحقيقاً للحق وإنكاراً للباطل وإنزالاً لكل من أهل السنة والأشاعرة في منزلته التي هو عليها
…
" (2).وممن ذهب إلى ذلك الدكتور/ صالح الفوزان، حيث قال في تعقيبه على مقالات الصابوني: "نعم هم – يعني: الأشاعرة من أهل السنة والجماعة في بقية أبواب الإيمان والعقيدة التي لم يخالفوهم فيها، وليسوا منهم في باب الصفات وما خالفوا فيه، لاختلاف مذهب الفريقين في ذلك" (3).
القول الرابع:
اعتبارهم من أهل الإثبات والتفريق بين أئمتهم المتقدمين ومتأخريهم.
وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية الذي يرى: أنهم يعدون من أهل الإثبات؛ لكونهم يثبتون بعض الصفات، وأنهم أقرب إلى أهل السنة من باقي الطوائف، على أنه يفرق بين أئمتهم المتقدمين وبين متأخريهم فعد المتقدمين أقرب إلى السلف وأهل السنة، وجعل المتأخرين أقرب إلى الجهمية والمعتزلة، لعظم موافقتهم لهم في كثير من أقوالهم.
(1)((عقيدة التوحيد في فتح الباري)) (ص: 426 - 427)، "ط. الأولى 1403هـ. نشر: دار الأفاق الجديدة – بيروت".
(2)
((تنبيهات هامة على ما كتبه محمد علي الصابوني في صفات الله عز وجل)(ص: 37 – 38)، "الأولى 1404هـ. نشر الدار السلفية – الكويت".
(3)
((البيان لأخطاء بعض الكتاب)) (ص: 28).
يقول رحمه الله في معرض كلامه عن درجات الجهمية: "وأما الدرجة الثالثة فهم: الصفاتية المثبتون المخالفون للجهمية لكن فيهم نوع من التجهم كالذين يقرون بأسماء الله وصفاته في الجملة، لكن يردون طائفة من أسمائه وصفاته الخبرية، أو غير الخبرية ويتأولونها كما تأول الأولون صفاته كلها، ومن هؤلاء من يقر بصفاته الخبرية الواردة في القرآن دون الحديث كما عليه كثير من أهل الكلام. ومنهم من يقر بالصفات الواردة في الأخبار أيضاً في الجملة لكن مع نفي وتعطيل لبعض ما ثبت بالنصوص وبالمعقول وذلك كأبي محمد بن كلاب، ومن اتبعه وفي هذا القسم يدخل أبو الحسن الأشعري، وطوائف من أهل الفقه والكلام والحديث والتصوف، وهؤلاء إلى أهل السنة المحضة أقرب منهم إلى الجهمية والرافضة والخوارج، لكن انتسب إليهم طائفة هم إلى الجهمية أقرب منهم إلى أهل السنة المحضة، فإن هؤلاء ينازعون المعتزلة نزاعاً عظيماً فيما يثبتونه من الصفات
…
، وأما المتأخرون فإنهم والوا المعتزلة وقاربوهم وقدموهم على أهل السنة والإثبات وخالفوا أوليهم
…
" (1).وقال في (شرح الأصفهانية): "وأن الأشعرية أقرب إلى السلف والأئمة وأهل الحديث. – وقال -: عن متأخري الأشاعرة: فإن كثيراً من متأخري أصحاب الأشعري خرجوا عن قوله إلى قول المعتزلة أو الجهمية أو الفلاسفة
…
" (2).
والذي أراه أنه لابد من التفصيل التالي في اعتبار الأشاعرة من أهل السنة أو إخراجهم عنهم، ولا يطلق عليهم أنهم أهل السنة أو من أهل السنة بإطلاق؛ لأنهم ليسوا على السنة المحضة في كثير من أمور السنة في الاعتقاد، ولا يطلق أنهم ليسوا من أهل السنة؛ لأنهم يدخلون في مسمى أهل السنة بالاعتبارات الآتية:
1) هم من أهل السنة: بالمعنى العام لمصطلح أهل السنة، والذي يدخل فيه جميع المنتسبين إلى الإسلام عدى الرافضة. كما تقدم لنا في مبحث تعريف أهل السنة.
2) وهم من أهل السنة: في أمور العبادات والعمليات؛ لأن السنة تشمل أمور الاعتقاد والعبادة والأعمال. كما تقدم نقل قول شيخ الإسلام ابن تيمية وفيه: "ولفظ السنة في كلام السلف يتناول السنة في العبادات، وفي الاعتقادات
…
".
والأشاعرة في أمور العبادات ليس لهم من الأقوال ما يخرجهم عن أهل السنة في الجملة.
فبهذه الاعتبارات يعد: الأشاعرة من أهل السنة. ولكن لما كان اسم "أهل السنة" إذا أطلق فهم منه أمور العبادات والاعتقادات جميعاً، بل هو بأمور الاعتقاد أخص، كما قال شيخ الإسلام في معنى "أهل السنة":"وقد يراد به: أهل الحديث والسنة المحضة، فلا يدخل فيه إلا من يثبت الصفات لله، تعالى، ويقول القرآن غير مخلوق، وإن الله يرى في الآخرة، ويثبت القدر وغير ذلك من الأمور المعروفة عند أهل الحديث والسنة"(3).
ورأينا الأشاعرة ليسوا على السنة المحضة في كل أبواب الاعتقاد، ومسائله التي ذكرها الإمام أحمد طرفاً منها وبين أن من خالف فيها لا يعد من أهل السنة كما سيأتي فهل نقول: هم من أهل السنة؛ لأنهم وافقوا السنة في بعض أبواب ومسائل العقيدة، أم نسحب عنهم هذا الاسم لمخالفتهم للسنة في بعض المسائل والأبواب؟ هذا مناط الخلاف في كونهم من أهل السنة أو ليسوا من أهلها.
(1)((رسالة التسعينية ضمن المجلد الخامس من الفتاوى الكبرى)) (ص: 40 - 42)، "ط. كردستان العلمية بالقاهرة سنة 1329".
(2)
((شرح الأصفهانية)): بتقديم: حسنين محمد مخلوف (ص: 77 - 78)، نشر: دار الكتب الحديثة بمصر.
(3)
وانظر: ((منهاج السنة)) (2/ 163).
فمن تغاضى عن المسائل التي خالفوا فيها أهل السنة، قال هم من أهل السنة؛ لأنهم من أهل السنة في أبواب العبادات ولم يخرجوا عن اعتقاد أهل السنة في كل أبواب الاعتقاد. وعلى هذا يخرج عد السفاريني وغيره إياهم من أهل السنة.
ومن رأى أنه لا يستحق اسم "أهل السنة" إلا من وافق السنة في أمور العبادات والاعتقادات، ومن خالف مذاهب أهل السنة وسلف الأمة في شيء من ذلك ولا سيما في أبواب الاعتقاد، فإنه لا يستحق اسم "أهل السنة".
قال: ليس الأشاعرة من أهل السنة، وعلى هذا يخرج قول من قال: ليسوا من أهل السنة كالإمام السجزي والشيخ بابطين وغيرهما.
وربما وجد ما يؤيد هذا الاتجاه في كلام أئمة السلف، حيث عدد كثير منهم مسائل الاعتقاد التي يكون المرء إذا استكملها من أهل السنة، وإن أخل بشيء منها فليس هو من أهل السنة، وذلك مثل: قول الإمام أحمد: "هذه مذاهب أهل العلم، وأصحاب الأثر وأهل السنة المتمسكين بعروتها المعروفين بها، المقتدى بهم فيها من لدن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، وأدركت من علماء الحجاز، والشام وغيرهما عليها، فمن خالف شيئاً من هذه المذاهب أو طعن فيها، أو عاب قائلها فهو مخالف مبتدع وخارج عن الجماعة زايل عن منهج السنة وسبيل الحق، فكان قولهم: أن الإيمان قول وعمل ونية وتمسك بالسنة، والإيمان يزيد وينقص
…
" (1). ثم ذكر جملة اعتقاد أهل السنة. وقول علي بن المديني: " .. السنة اللازمة التي من ترك منها خصلة لم يقلها، أو يؤمن بها لم يكن من أهلها: الإيمان بالقدر خيره وشره ثم تصديق الأحاديث والإيمان بها
…
إلى آخر الاعتقاد" (2).
وقول عبدالله بن المبارك: "أصل اثنين وسبعين هوى: أربعة أهواء فمن هذه الأربعة الأهواء تشعبت الاثنان وسبعون هوى القدرية، والمرجئة والشيعة والخوارج.
فمن قدم أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتكلم في الباقين إلا بخير ودعا لهم، فقد خرج من التشيع أوله وآخره.
ومن قال: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص فقد خرج من الأرجاء أوله وآخره.
ومن قال الصلاة خلف كل بر وفاجر، والجهاد مع كل خليفة، ولم ير الخروج على السلطان بالسيف ودعا لهم بالصلاح فقد خرج من قول الخوارج أوله وآخره. ومن قال: المقادير كلها من الله عز وجل خيرها وشرها يضل من يشاء ويهدي من يشاء؛ فقد خرج من قول القدرية أوله وآخره، وهو صاحب سنة
…
" (3).وقول: عبيدالله بن بطة العكبري: "ونحن ذاكرون شرح السنة ووصفها، وما هي في نفسها، وما الذي إذا تمسك به العبد ودان الله به سمى بها واستحق الدخول في جملة أهلها، وما إن خالفه أو شيئاً منه دخل في جملة من عبناه وذكرناه وحذر منه من أهل البدع والزيع فما أجمع على شرحنا له أهل الإسلام وسائر الأمة منذ بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا هذا. – ثم ذكر الإيمان والصفات والقدر وغيرها من أمور الاعتقاد-
…
" (4).
فكلام هؤلاء الأئمة المعتبرين المقتدى بهم صريح في أن أحداً لا يرقى ولا يتأهل لحمل لقب "صاحب سنة" أو أنه "من أهل السنة"؛ إلا إذا تحققت فيه خصال السنة التي أجمعوا عليها.
(1)((السنة)) (ص: 33).
(2)
اللالكائي، ((شرح أصول أهل السنة)) (1/ 165).
(3)
ابن أبي يعلى، ((طبقات الحنابلة)) (2/ 40).
(4)
((الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة)) (175 - 176).
أما من رأى من أهل العلم أن من خالف السنة في باب من أبواب الاعتقاد ووافقها في باب آخر فهو من أهل السنة فيما وافق فيه السنة، وليس منهم فيما خالفهم فيه، وذلك من باب أن المرء يمدح بقدر ما فيه من موافقة السنة، ويذم بقدر ما فيه من مخالفتها، وأن إخراج قوم من مسمى "أهل السنة"؛ لأنهم خالفوا السنة في باب دون باب، فيه مجانبة للعدل والإنصاف، من رأى هذا الرأي قال مثلاً: الأشاعرة من أهل السنة في أبواب الإيمان والعقيدة التي لم يخالفوهم فيها، وليسوا منهم في باب الصفات وما خالفوا فيه.
والذي أميل إليه: أن لا يقال: "الأشاعرة من أهل السنة" إلا بقيد، فيقال: هم من أهل السنة في كذا، في الأبواب التي لم يخالفوا فيها مذهب أهل السنة.
لأننا إذا أطلقنا القول بأنهم من "أهل السنة" التبس الأمر وظن من لا دراية له بحالهم أنهم على مذهب أهل السنة والسلف في كل خصال السنة، والواقع أنهم ليسوا كذلك. بل في أقوالهم ما يخالف السنة في كثير من أبواب الاعتقاد. فليسوا على السنة المحضة في كل اعتقاداتهم.
وإذا أطلقنا القول بأنهم ليسوا من أهل السنة، كان ذلك حكماً بأنهم خالفوا السنة في كل أبواب الاعتقاد، والأمر ليس كذلك فقد وافقوا أهل السنة في أبواب الصحابة والإمامة وبعض السمعيات.
فالعدل والإنصاف يقتضي أن يحكم على كل بما يستحق على ضوء ما رضي لنفسه من قول واختط من نهج.
المصدر:
وسطية أهل السنة بين الفرق لمحمد باكريم - ص 41
هنالك لبس كبير يقع فيه بعض الناس قديما وحديثا، ذلكم هو دعوى الأشاعرة بأنهم أهل السنة، ووصفهم بذلك من غيرهم – أحيانا – وهذه دعوى عريضة فيها الكثير من الإيهام والخلط.
أولا: أن أهل السنة والجماعة: سموا بذلك لأنهم هم الذين على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الجماعة الذين ذكرهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
وعليه فأهل السنة: الصحابة والتابعون ومن تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين. ولم يبتدع ولم يغير، ومن غير أو بدل أو أحدث في الدين ما ليس منه وما لم يكونوا عليه في الاعتقاد والسنة فليس منهم فيما غير أو بدل.
ثانيا: أما الأشاعرة: فإنهم فرقة كلامية طارئة، نشأت بعد القرون الفاضلة فهي تنتسب إلى الإمام أبي الحسن علي ابن إسماعيل الأشعري المتوفى سنة (324هـ) رحمه الله وكان معتزليا، ثم تحول عن المعتزلة عام (300هـ) تقريبا، وصار يرد عليهم بأساليبهم الكلامية من جانب، وبنصوص الكتاب والسنة من جانب آخر، وبهذا وقف للمعتزلة وتصدى لهم وهو ومن نهج منهجه حتى أفحمهم وهذا عمل جليل يحمد له.
وفي هذا الجو نشأ مذهب عقدي تلفيقي مخضرم، لا هو سني خالص ولا كلامي عقلاني خالص، حتى هدأت العاصفة وانجلى غبار المعركة ضد المعتزلة، وقد أبلى فيها الإمام أبو الحسن الأشعري بلاء حسنا، وخرج منتصرا على المعتزلة والجهمية، ومن سلك سبيلهم، وهنا استبصر الأشعري الحق وعرف أنه إنما انتصر بتعويله على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونصره للسنة وأهلها، وقوفه مع أئمة السلف الآخرين.
ثم تراجع عن مقولاته في الصفات وغيرها التي سلك فيها مسلك التأويل والتعويل على العقل، والكلام في أمور الغيب والصفات والقدر فقرر أن يلحق بركب أهل السنة والجماعة فأبان عن ذلك في كتابه (الإبانة) ووفقه الله للتخلص من التلفيق العقدي فقال:" ..... وقولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها: التمسك بكتاب ربنا عز وجل وبسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وما روي عن الصحابة والتابعين، وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل – نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته – قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون ..... "(1).
لكن مذهبه الثاني: النقلة من الاعتزال إلى طريقة ابن كلاب الكلامية – بقي مذهبا يحتذى إلى اليوم، لأنه يشبع رغبات الفلاسفة والمتكلمين، وأهل التأويل.
فالأشاعرة تنتسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري قبل عودته إلى أهل السنة، وبعد فراره من الاعتزال، وبالرغم من أنه تخلى عن هذا المذهب، وكتب خلافه في (الإبانة) والمقالات، إلا أن الشاعرة لا يزالون يحملونه تبعته
…
فالأشاعرة مذهب طارئ ملفق بين أهل السنة وأهل الكلام، لذلك صاروا أقرب الفرق الكلامية إلى أهل السنة.
ومن جانب آخر فالأشعرية مرت بأطوار تاريخية في كل طور تزداد الشقة بينهم وبين أهل السنة ولا سيما بعد ما أدخل فيها زعماؤهم اللاحقون تلك الأسس والمعتقدات الدخيلة من: الفلسفة، والتصوف، والمنطق، والكلام، والجدل، حتى صارت عقيدة الأشاعرة مزيجا من تلك الأخلاط.
ومن أبرز أولئك: الباقلاني، المتوفى سنة (403هـ) والقشيري المتوفى سنة (465هـ) وأبو المعالي الجويني، المتوفى سنة (478هـ) ، وابن العربي المتوفى سنة (543هـ) ، والغزالي، المتوفى سنة (505) ، والفخر الرازي، المتوفى سنة (606هـ) ، والآمدي المتوفى سنة (682هـ) ، ونحوهم. غفر الله لنا ولهم
فأصبحت الأشاعرة اليوم مزيجا من المشارب والمعتقدات بين أهل السنة والفلسفة والتصوف، وعلم الكلام، لذلك نجدهم أكثر من ينتسبون للسنة وقوعا في المخالفات العقدية والعبادية (أي بدع العقائد والعبادات) وهذا بخلاف أهل السنة في كل زمان، كما نجد أن كثيرا من الأشاعرة (حاليا) منضوون تحت الطرق الصوفية البدعية. وتكثر فيهم بدع القبور والتبرك البدعي بالأشخاص والأشياء، وبدع العبادات والأذكار والموالد ونحوها. وهذه البدع هي التي تميزهم – حاليا – عن أهل السنة بوضوح.
فمن خلال الواقع اليوم، يندر أن ترى أحدا من الأشاعرة إلا ولديه شيء من البدع أو الميل إلى ذلك، أو التساهل وعدم الاكتراث بهذه المسألة الخطيرة، بينما العكس فيمن ينتسبون – حقا – لأهل السنة، فإنه يندر أن تجد فيهم من يتعرق بشيء من البدع، إلا عن جهل وهذا قليل جدا بحمد الله.
لذا يطلق الأشاعرة المعاصرون تبعا للرافضة وسائر الطوائف غير السنية على أهل السنة في سائر بلاد المسلمين اليوم (وهابية) نسبة إلى الداعي المصلح محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – كما أنهم قديما كانوا يطلقون على أهل السنة (الحنابلة) نسبة لإمام السنة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وما علموا أن نبذهم باسم هذين الإمامين أحمد بن حنبل ومحمد بن عبد الوهاب تزكية لهم وهو شرف وشهادة لهم بأنهم مقتدون بأئمة الهدى.
المصدر:
مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة وموقف الحركات الإسلامية المعاصرة منها لناصر العقل – ص54
(1) انظر: ((الإبانة عن أصول الديانة)) (ص: 52).
إن مصطلح أهل السنة والجماعة يطلق ويراد به معنيان: أ- المعنى الأعم: وهو ما يقابل الشيعة فيقال: المنتسبون للإسلام قسمان: أهل السنة والشيعة، مثلما عنون شيخ الإسلام كتابه في الرد على الرافضي (منهاج السنة) وفيه بين هذين المعنيين (1)، وصرح أن ما ذهبت إليه الطوائف المبتدعة من أهل السنة بالمعنى الأخص.
وهذا المعنى يدخل فيه كل من سوى الشيعة كالأشاعرة، لاسيما والأشاعرة فيما يتعلق بموضوع الصحابة والخلفاء متفقون مع أهل السنة وهي نقطة الاتفاق المنهجية الوحيدة كما سيأتي.
ب- المعنى الأخص: وهو ما يقابل المبتدعة وأهل الأهواء، وهو الأكثر استعمالاً في كتب الجرح والتعديل، فإذا قالوا عن الرجل أنه صاحب سنة أو كان سنياً أو من أهل السنة ونحوها، فالمراد أنه ليس من إحدى الطوائف البدعية كالخوارج والمعتزلة والشيعة، وليس صاحب كلام وهوى. وهذا المعنى لا يدخل فيه الأشاعرة أبداً، بل هم خارجون عنه وقد نص الإمام أحمد وابن المديني على أن من خاض في شيء من علم الكلام لا يعتبر من أهل السنة وإن أصاب بكلامه السنة حتى يدع الجدل ويسلم للنصوص، فلم يشترطوا موافقة السنة فحسب، بل التلقي والاستمداد منها (2)، فمن تلقى من السنة فهو من أهلها وإن أخطأ، ومن تلقى من غيرها فقد أخطأ وإن وافقها في النتيجة.
والأشاعرة – كما سترى – تلقوا واستمدوا من غير السنة ولم يوافقوها في النتائج فكيف يكونون من أهلها.
وسنأتي بحكمهم عند أئمة المذاهب الأربعة من الفقهاء فما بالك بأئمة الجرح والتعديل من أصحاب الحديث:
1 -
عند المالكية:
روى حافظ المغرب وعلمها الفذ ابن عبد البر بسنده عن فقيه المالكية بالمشرق ابن خويز منداد أنه قال في كتاب (الشهادات) شرحاً لقول مالك: لا تجوز شهادة أهل البدع والأهواء، وقال: " أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام، فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع أشعرياً كان أو غير أشعري، ولا تقبل له شهادة في الإسلام أبداً، ويهجر ويؤدب على بدعته، فإن تمادى عليها استتيب منها (3).
وروى ابن عبد البر نفسه في الانتقاء عن الأئمة الثلاثة " مالك وأبي حنيفة والشافعي " نهيهم عن الكلام وزجر أصحابه وتبديعهم وتعزيرهم، ومثله ابن القيم في (اجتماع الجيوش الإسلامية) فماذا يكون الأشاعرة إن لم يكونوا أصحاب كلام؟
2 -
عند الشافعية:
قال الإمام أبو العباس بن سريج الملقب بالشافعي الثاني، وقد كان معاصراً للأشعري:" لا نقول بتأويل المعتزلة والأشعرية والجهمية والملحدة والمجسمة والمشبهة والكرامية والمكيفة بل نقبلها بلا تأويل ونؤمن بها بلا تمثيل "
(1)(2/ 163) تحقيق محمد رشاد سالم.
(2)
انظر ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)). اللالكائي، تحقيق الأخ أحمد بن سعد بن حمدان:(1/ 157، 165).
(3)
((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 117) تحقيق عثمان محمد عثمان، وهو في (2/ 96) من الطبعة المنيرية.
قال الإمام أبو الحسن الكرجي من علماء القرن الخامس الشافعية ما نصه: " لم يزل الأئمة الشافعية يأنفون ويستنكفون أن ينسبوا إلى الأشعري ويتبرأون مما بنى الأشعري مذهبه عليه وينهون أصحابهم وأحبابهم عن الحوم حواليه على ما سمعت من عدة من المشايخ والأئمة "، وضرب مثالاً بشيخ الشافعية في عصره الإمام أبو حامد الإسفرائيني الملقب "الشافعي الثالث" قائلاً:" ومعلوم شدة الشيخ على أصحاب الكلام حتى ميز أصول فقه الشافعي من أصول الأشعري، وعلق عنه أبو بكر الراذقاني وهو عندي، وبه اقتدى الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في كتابيه (اللمع) و (التبصرة) حتى لو وافق قول الأشعري وجهاً لأصحابنا ميزه وقال: " هو قول بعض أصحابنا وبه قالت الأشعرية ولم يعدهم من أصحاب الشافعي، استنكفوا منهم ومن مذهبهم في أصول الفقه فضلاً عن أصول الدين " (1) أ. هـ. وبنحو قوله بل أشد منه قال شيخ الإسلام الهروي الأنصاري (2).3 - الحنفية: معلوم أن واضع الطحاوية وشارحها كلاهما حنفيان، وكان الإمام الطحاوي معاصراً للأشعري وكتب هذه العقيدة لبيان معتقد الإمام أبي حنيفة وأصحابه، وهي مشابهة لما في الفقه الأكبر عنه وقد نقلوا عن الإمام أنه صرح بكفر من قال إن الله ليس على العرش أو توقف فيه، وتلميذه أبو يوسف كفر بشراً المريسي، ومعلوم أن الأشاعرة ينفون العلو وينكرون كونه تعالى على العرش ومعلوم أيضاً أن أصولهم مستمدة من بشر المريسي (3).4 - الحنابلة: موقف الحنابلة من الأشاعرة أشهر من أن يذكر فمنذ بدّع الإمام أحمد " ابن كلاب " وأمر بهجره – وهو المؤسس الحقيقي للمذهب الأشعري – لم يزل الحنابلة معهم في معركة طويلة، وحتى في أيام دولة نظام الملك – التي استطالوا فيها – وبعدها كان الحنابلة يخرجون من بغداد كل واعظ يخلط قصصه بشيء من مذهب الأشاعرة، ولم يكن ابن القشيري إلا واحداً ممن تعرض لذلك، وبسبب انتشار مذهبهم وإجماع علماء الدولة سيما الحنابلة على محاربته أصدر الخليفة القادر منشور " الاعتقاد القادري " أوضح فيه العقيدة الواجب على الأمة اعتقادها سنة 433 هـ (4)(5).
وكذلك يفعل أتباعهم في عصرنا هذا بملء خطبهم الحماسية ومواعظهم وقصصهم وما يسمونه بالكتب الفكرية لثقة قرائهم - من الشباب المتحمس - العمياء بهم ولجهل أكثر هؤلاء الشباب بعقيدتهم الصحيحة التي كان عليها سلفهم الصالح من الصحابة ومن تبعهم بإحسان.
(1)((التسعينية)) (ص: 238 - 239) وانظر ((شرح الأصفهانية)) (5/ 31) من ((الفتاوى الكبرى)) نفسها وانظر عن الكرجي وعقيدته: ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) و ((مختصر العلو)) وله ترجمة في ((طبقات الشافعية)) لابن السبكي و ((طبقات الشافعية)) لابن كثير (مخطوط).
(2)
يلاحظ أن كلا من الشافعية والحنابلة يدعي الهروي لمذهبهم ورجح شيخ الإسلام أنه يأخذ من كليهما ويتبع الأثر. انظر ((شيخ الإسلام عبد الله الهروي)) (ص: 96) وقوله فيهم نقله في ((التسعينية)) (ص: 277) عن كتاب ((ذم الكلام)) "وهو يحقق بجامعة الإمام كما قرأت. وانظر أيضا عن موقف الشافعية ((درء التعارض)) (2/ 106).
(3)
انظر غير ما ذكر ((سير أعلام النبلاء)) ترجمة بشر (10/ 200 - 201) و ((الحموية)) (ص14 - 15) طبعة قصي الخطيب.
(4)
انظر ((المنتظم)) لابن الجوزي أحداث سنة: 433هـ، 469هـ، 475هـ، وغيرها (ج 8 وج 9).
(5)
(ص: 81 - 89 و 105 - 109).
هذا وليس ذم الأشاعرة وتبديعهم خاصة بأئمة المذاهب المعتبرين، بل هو منقول أيضاً عن أئمة السلوك الذين كانوا أقرب إلى السنة واتباع السلف، فقد نقل شيخ الإسلام في الاستقامة كثيراً من أقوالهم في ذلك، وأنهم يعتبرون موافقة عقيدة الأشعرية منافياً لسلوك طريق الولاية والاستقامة حتى أن عبد القادر الجيلاني لما سئل:" هل كان لله ولي على غير اعتقاد أحمد بن حنبل؟ قال: ما كان ولا يكون ".
هذا موجز مختصر جداً لحكم الأشاعرة في المذاهب الأربعة، فما ظنك بحكم رجال الجرح والتعديل مما يعلم أن مذهب الأشاعرة هو رد خبر الآحاد جملة، وأن في الصحيحين أحاديث موضوعة أدخلها الزنادقة، وغيرها من العوام، وانظر إن شئت ترجمة إمامهم المتأخر الفخر الرازي في الميزان ولسان الميزان.
فالحكم الصحيح في الأشاعرة أنهم من أهل القبلة لاشك في ذلك، أما أنهم من أهل السنة فلا، وسيأتي تفصيل ذلك في الموضوعات التالية:
وهاهنا حقيقة كبرى أثبتها علماء الأشعرية الكبار بأنفسهم – كالجويني وابن أبي المعالي والرازي والغزالي وغيرهم – وهي حقيقة إعلان حيرتهم وتوبتهم ورجوعهم إلى مذهب السلف، وكتب الأشعرية المتعصبة مثل طبقات الشافعية أوردت ذلك في تراجمهم أو بعضه فما دلالة ذلك؟
إذا كانوا من أصلهم على عقيدة أهل السنة والجماعة فعن أي شيء رجعوا؟ ولماذا رجعوا؟ وإلى أي عقيدة رجعوا؟ رابعاً: دعوى الأشاعرة أن أكثر أئمة المسلمين على مذهبهم دعوى عارية عن الدليل يكذبها الواقع التاريخي، وكتب الأشاعرة نفسها عند تعريف مذهبي السلف والخلف تقول إن مذهب السلف هو مذهب القرون الثلاثة وبعضها يقول إنه مذهب القرون الخمسة (1)، فما بقي بعد هذه القرون؟ وصدقوا فالثابت تاريخياً أن مذهب الأشاعرة لم ينتشر إلا في القرن الخامس إثر انتشار كتب الباقلاني (2).
ولولا ضيق المجال لسردت قائمة متوازية أذكر فيها كبار الأشاعرة ومن عاصرهم من كبار أهل السنة والجماعة الذين يفوقون أولئك عدداً وعلماً وفضلاً، وحسبك ما جمعه ابن القيم في (اجتماع الجيوش الإسلامية) والذهبي في (العلو)، وقبلهما اللالكائي.
أما عوام المسلمين فالأصل فيهم أنهم على عقيدة السلف؛ لأنها الفطرة التي يولد عليها الإنسان، وينشأ عليها المسلم، بلا تلقين ولا تعليم – من حيث الأصل – فكل من لم يلقنه المبتدعة بدعتهم ويدرسوه كتبهم، فليس من حق أي فرقة أن تدعيه إلا أهل السنة والجماعة.
ومن الأدلة على ذلك الإنسان الذي يدخل في الإسلام حديثاً، فهل تستطيع أي فرقة أن تقول أنه معتزلي أو أشعري؟ أما نحن فبمجرد إسلامه يصبح واحداً منا.
وإن شئت المثال على عقيدة العوام فاسأل الملايين من المسلمين شرقاً وغرباً هل فيهم من يعتقد أن الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته كما تقول الأشاعرة. أم أنهم كلهم مفطورون على أنه تعالى فوق المخلوقات، وهذه الفطرة تظل ثابتة في قلوبهم حتى وإن وجدوا من يلقنهم في أذهانهم تلك المقولة الموروثة عن فلاسفة اليونان (3).
(1) ومنها ((شرح الباجوري -أو البيجوري- على الجوهرة)) (1/ 82) طبعة محمد علي صبيح.
(2)
انظر ((الاستقامة)) (ص: 105) و ((تبيين كذب المفتري)) لابن عساكر (ص: 410) بتحقيق الكوثري.
(3)
بل إن متكلمي الأشاعرة الذين ينفون العلو بكل جرأة ويستندون إلى شبهات كثيرة، تجد في خبايا كلامهم إقرارا به دون أن يشعروا. لأن مغالبة الفطرة من أصعب الأمور. فالرازي مثلاً -مع إنكاره الشديد للعلو في ((التأسيس والتفسير)) قال في التفسير إن الله (خسف بقارون فجعل الأرض فوقه ورفع محمداً صلى الله عليه وسلم فجعله قاب قوسين تحته)(1/ 248). ط. بيروت. والرفع يدل على علو الله.
وقس على هذا نظرية الكسب والكلام النفسي ونفي التأثير وأشباهها مما سترى في عقائد الأشاعرة على أن الموضوع الذي يجب التنبه إليه هو التفريق بين متكلمي الأشاعرة كالرازي والآمدي والشهرستاني والبغدادي والإيجي ونحوهم وبين من تأثر بمذهبهم عن حسن نية واجتهاد أو متابعة خاطئة أو جهل بعلم الكلام أو لاعتقاده أنه لا تعارض بين ما أخذ منهم وبين النصوص، ومن هذا القسم أكثر الأفاضل الذين يحتج بذكرهم الصابوني وغيره وعلى رأسهم الحافظ ابن حجر – رحمه الله.
ولست أشك أن الموضوع يحتاج لبسط وإيضاح ومع هذا فإنني أقدم للقراء لمحة موجزة عن موقف ابن حجر من الأشاعرة:
من المعلوم أن إمام الأشعرية المتأخر الذي ضبط المذهب وقعد أصوله هو الفخر الرازي (ت 606 هـ) ثم خلفه الآمدي (631 هـ) والآرموي (682 هـ) فنشرا فكره في الشام ومصر واستوفيا بعض القضايا في المذهب (وفكر هؤلاء الثلاثة هو الذي كان الموضوع الرئيسي في كتاب (درء التعارض) وأعقبهم الإيجي صاحب (المواقف)(الذي كان معاصراً لشيخ الإسلام ابن تيمية) فألف (المواقف) الذي هو تقنين وتنظيم لفكر الرازي ومدرسته وهذا الكتاب هو عمدة المذهب قديماً وحديثاً
وقد ترجم الحافظ الذهبي – رحمه الله – في الميزان وغيره للرازي والآمدي بما هم أهله، ثم جاء ابن السبكي – ذلك الأشعري المتعصب – فتعقبه وعنف عليه ظلماً، ثم جاء ابن حجر – رحمه الله – فألف لسان الميزان فترجم لهما بطبيعة الحال – ناقلاً كلام ابن السبكي ونقده للذهبي (1) – ولم يكن بخاف عليه مكانتهما وإمامتهما في المذهب كما ذكر طرفاً من شنائع الآرموي ضمن ترجمة الرازي.
فإذا كان موقف ابن حجر لأن موقفه هو الذي يحدد انتماءه لفكر هؤلاء القوم أو عدمه؟ إن الذي يقرأ ترجمتيهما في اللسان لا يمكن أن يقول إن ابن حجر على مذهبهما أبداً، كيف وقد أورد نقولاً كثيرة موثقة عن ضلالهما وشنائعهما التي لا يقرها أي مسلم فضلاً عمن هو في علم الحافظ وفضله؟
على أنه قال في آخر ترجمة الرازي: " أوصى بوصية تدل على أنه حسّن اعتقاده ".
وهذه العبارة التي قد يفهم منها أنها متعاطفة مع الرازي ضد مهاجميه هي شاهد لما نقول نحن هنا، فإن وصية الرازي التي نقلها ابن السبكي نفسه صريحة في رجوعه إلى مذهب السلف.
فبعد هذا نسأل:
أكان ابن حجر يعتقد أنه يؤيد عقيدة الرازي التي في كتبه أم عقيدته التي في وصيته؟
الإجابة واضحة من عبارته نفسها.
هذه واحدة. والأخرى: أن الحافظ في الفتح قد نقد الأشاعرة باسمهم الصريح وخالفهم فيما هو من خصائص مذهبهم، فمثلاً خالفهم في الإيمان، وإن كان تقريره لمذهب السلف فيه يحتاج لتحرير، ونقدهم في مسألة المعرفة وأول واجب على المكلف في أول كتابه وآخره (2).كما أنه نقد شيخهم في التأويل " ابن فورك " في تأويلاته التي نقلها عنه في (شرح كتاب التوحيد في الفتح وذم التأويل والمنطق) مرجحاً منهج الثلاثة القرون الأولى كما أنه يخالفهم في الاحتجاج بحديث الآحاد في العقيدة (3) وغيرها من الأمور التي لا مجال لتفصيلها هنا. والذي أراه أن الحافظ – رحمه الله – أقرب شيء إلى عقيدة مفوضة الحنابلة كأبي يعلى ونحوه ممن ذكرهم شيخ الإسلام في (درء تعارض العقل والنقل)(4) ووصفهم بمحبة الآثار والتمسك بها، لكنهم وافقوا بعض أصول المتكلمين وتابعوهم ظانين صحتها عن حسن نية.
(1)((ترجمة الرازي)) (4/ 426) و ((الآمدي)) (6/ 134).
(2)
انظر ((فتح الباري)) (1/ 46، 3/ 357 - 361، 13/ 347 - 350).
(3)
انظر ((فتح الباري)) (1/ 46، 3/ 357 - 361، 13/ 347 - 350).
(4)
((فتح الباري)): (13/ 253، 259، 407) وغيرها كثير.
ولو قيل إن الحافظ رحمه الله كان متذبذبا في عقيدته لكان ذلك أقرب إلى الصواب كما يدل عليه شرحه لكتاب (التوحيد) والله أعلم.
وقد كان من الحنابلة من ذهب إلى أبعد من هذا كابن الجوزي وابن عقيل وابن الزاغوني، ومع ذلك فهؤلاء كانوا أعداء ألداء للأشاعرة، ولا يجوز بحال أن يعتبروا أشاعرة فما بالك بأولئك.
والظاهر أن سبب هذا الاشتباه في نسبة بعض العلماء للأشاعرة أو أهل السنة والجماعة هو أن الأشاعرة فرقة كلامية انشقت عن أصلها " المعتزلة " ووافقت السلف في بعض القضايا وتأثرت بمنهج الوحي، في حين أن بعض من هم على مذهب أهل السنة والجماعة في الأصل تأثروا بسبب من الأسباب بأهل الكلام في بعض القضايا وخالفوا فيها مذهب السلف.
فإذا نظر الناظر إلى المواضع التي يتفق فيها هؤلاء وهؤلاء ظن أن الطائفتين على مذهب واحد، فهذا التداخل بينهما هو مصدر اللبس.
وكثيراً ما تجد في كتب الجرح والتعديل – ومنها لسان الميزان للحافظ ابن حجر – قولهم عن الرجل أنه وافق المعتزلة في أشياء من مصنفاته أو وافق الخوارج في بعض أقوالهم وهكذا، ومع هذا لا يعتبرونه معتزلياً أو خارجياً، وهذا المنهج إذا طبقناه على الحافظ وعلى النووي وأمثالهما لم يصح اعتبارهم أشاعرة وإنما يقال وافقوا الأشاعرة في أشياء، مع ضرورة بيان هذه الأشياء واستدراكها عليهم حتى يمكن الاستفادة من كتبهم بلا توجس في موضوعات العقيدة.
المصدر:
منهج الأشاعرة في العقيدة لسفر الحوالي
أود أن أقف وقفة لا بد منها مع قول البزدوي: "الإيمان لا يزيد ولا ينقص عند أهل السنة والجماعة وقال أصحاب الحديث والشافعي إنه يزيد وينقص" فإن فيه من الغلط ما يقتضي الوقوف عنده والتنبيه عليه لزوما.
فإنه كما ترى جعل أهل الحديث قسيما لأهل السنة والجماعة وليسوا هم، وأن أهل السنة والجماعة إنما هم جماعته المتكلمون من أشاعرة وماتريدية، وكم في هذا الكلام من الغلط والجور على أئمة الدين وعلماء السلف الأولين، ومن الإجحاف حقا وهضم الحقوق أن ينتزع هذا الاسم من أهله الذين هم أحق به وهم أهل الحديث ويعطى لغيرهم ممن ليس لهم فيه حق.
وهذه دعوى عريضة يدعيها دوما أهل البدع والأهواء على حد قول القائل:
وكل يدعى وصلا لليلى [وليلى لا تقر لهم بذاك] ومن هذا القبيل قول يوسف عبد الرزاق أحد علماء الأزهر في تحقيقه لكتاب (إشارات المرام) من عبارات الإمام بتقديم الكوثري: "إذا أطلق أهل السنة والجماعة فالمراد بهم الأشاعرة والماتريدية"(1).وكذلك من جنسه زعم الصابوني المعاصر في مقاله المنشور في مجلة المجتمع أن الأشاعرة هم أهل السنة والجماعة (2).
قلت: لا ريب أن قولهم وادعائهم هذا باطل غير صحيح فإن الأشاعرة والماتريدية لا يصح إطلاق هذا اللقب الجليل عليهم فضلا عن أن يكونوا أهله المختصين به.
(1) حاشية ((إشارات المرام)) ((ص: 298)) ومن هذا القبيل أيضا تسمية بعض هؤلاء مؤلفاتهم في العقيدة بـ ((عقيدة أهل السنة والجماعة)) ونحو ذلك ككتاب الماتريدي ((تأويلات أهل السنة)) وكتاب الجكني الشنقيطي ((إضاءة الدجنة في عقيدة أهل السنة)) وكتاب محمد بن درويش البيروتي ((رسائل في بيان عقائد أهل السنة والجماعة)) وغيرها كثير.
(2)
انظر ما كتبه الشيخ سفر الحوالي ردا عليه في رسالته ((منهج الأشاعرة في العقيدة)) فقد أحسن فيها وأجاد وأفاد وفقه الله.
فإن المراد بالسنة الطريقة المحمدية التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام وتابعوهم بإحسان قبل ظهور البدع وفشوها، فمن تأثر بشيء من الأهواء واستمسك بها لم يصح إطلاق هذا الوصف الجليل عليه. فإنه لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ((أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة)) (1)، وفي حديث آخر أنه قال:((هم من كان مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)) (2). صار المتمسكون بالإسلام الخالص من الشوائب والأهواء هم أهل السنة والجماعة ومن سواهم أهل البدعة والضلالة. قال شيخ الإسلام: "وأئمة السنة ليسوا مثل أئمة البدعة، فإن أئمة السنة تضاف السنة إليهم لأنهم مظاهر بهم ظهرت، وأئمة البدعة تضاف إليهم لأنهم مصادر عنهم صدرت
…
" (3)
وبهذا يعلم أن الأشاعرة والماتريدية ليسوا من أهل السنة والجماعة، كيف ومذاهبهم مخالفة لأهل السنة والجماعة في أمور كثيرة خطيرة، فهم مخالفون لأهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات وفي الإيمان وفي القدر وغير ذلك من كبار مسائل الاعتقاد، وإنما هم يعدون من مبتدعة أهل القبلة ومن محدثة المسلمين وعندهم من الخير والموافقة لأهل السنة والجماعة في بعض المسائل ما كانوا به أقرب من غيرهم ممن توغل في الإحداث والابتداع كالجهمية والمعتزلة وغيرهم.
هدانا الله وإياهم وجميع المسلمين إلى الحق بإذنه إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
ثم إن هذه المسألة على الخصوص جرى فيها مناظرة بين شيخ الإسلام ابن تيمية وبين خصومه الأشاعرة، حيث أنكروا عليه قوله في العقيدة الواسطية:"ومن أصول الفرقة الناجية: أن الإيمان والدين قول وعمل يزيد وينقص قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح".
قالوا: فإذا قيل إن هذا من أصول الفرقة الناجية خرج عن الفرقة الناجية من لم يقل بذلك مثل أصحابنا المتكلمين الذين يقولون إن الإيمان هو التصديق ومن يقول الإيمان هو التصديق والإقرار، وإذا لم يكونوا من الناجين لزم أن يكونوا هالكين. فأجابهم رحمه الله بقوله: "إن قولي اعتقاد الفرقة الناجية هي الفرقة التي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بالنجاة حيث قال: ((تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)) (4).
(1) رواه أبو داود (4597) ، وأحمد (4/ 102)(16979) ، والدارمي (2/ 314)، والحاكم (1/ 218). والحديث سكت عنه أبي داود. وقال الحاكم: هذه أسانيد تقام بها الحجة في تصحيح هذا الحديث. ووافقه الذهبي. وصحح إسناده أبو الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (96) – كما أشار لهذا في المقدمة -. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): حسن. وانظر كلامه في ((السلسلة الصحيحة)) (204).
(2)
رواه الترمذي (2641) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال: هذا حديث مفسر غريب لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه، قال الحافظ العراقي في ((المغني)) (3/ 284): أخرجه من حديث عبد الله بن عمرو وحسنه، ولأبي داود من حديث معاوية، وابن ماجه من حديث أنس وعوف ابن مالك، (وهي الجماعة) وأسانيدها جياد، وحسنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)).
(3)
((درء التعارض)(5/ 5، 6)
(4)
رواه الترمذي (2641) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال: هذا حديث مفسر غريب لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه، قال الحافظ العراقي في ((المغني)) (3/ 284): أخرجه من حديث عبد الله بن عمرو وحسنه، ولأبي داود من حديث معاوية، وابن ماجه من حديث أنس وعوف ابن مالك، (وهي الجماعة) وأسانيدها جياد، وحسنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)).
فهذا الاعتقاد: هو المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم وهم ومن اتبعهم الفرقة الناجية، فإنه قد ثبت عن غير واحد من الصحابة أنه قال: الإيمان يزيد وينقص، وكل ما ذكرته في ذلك فإنه مأثور عن الصحابة بالأسانيد الثابتة لفظه ومعناه وإذا خالفهم من بعدهم لم يضر في ذلك. ثم قلت لهم: وليس كل من خالف في شيء من هذا الاعتقاد يجب أن يكون هالكا فإن المنازع قد يكون مجتهدا مخطئا يغفر الله خطأه، وقد لا يكون بلغه في ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجة، وقد يكون له من الحسنات ما يمحو الله به سيئاته، وإذا كانت ألفاظ الوعيد المتناولة له لا يجب أن يدخل فيها المتأول والقانت وذو الحسنات الماحية، والمغفور له وغير ذلك فهذا أولى، بل موجب هذا الكلام أن من اعتقد ذلك نجا في هذا الاعتقاد، ومن اعتقد ضده فقد يكون ناجيا، وقد لا يكون ناجيا، كما يقال من صمت نجا" (1).
قلت: وفي كلام شيخ الإسلام هذا أبلغ جواب لما قد يستشكله الكثير في مسألة إخراج الأشاعرة أو غيرهم من أهل البدع من الفرقة الناجية ومن أهل السنة والجماعة، وأن ذلك يلزم منه أن يكونوا من أهل النار حتما ومن الهالكين يقينا.
ولا تلازم بين الأمرين على ما بينه شيخ الإسلام هنا إذ النص المتقدم ونحوه من نصوص الوعيد لا يدخل فيها من لم تبلغه الحجة ولم يتبين له السبيل مع إرادته للحق وتحريه له وقد يكون معه حسنات ماحية أو يكون متأولا أو يكون جاهلا معذورا أو نحو ذلك من الأعذار وعلى كل فحكمهم في الدنيا أنهم من أهل البدع والأهواء وأما يوم القيامة فمرجعهم إلى الله يحكم فيهم بمقتضى عدله وحكمته ولا يظلم ربك أحدا.
ثم يقال لمعشر الأشاعرة على الخصوص، أما لكم اسوة بإمامكم وشيخكم ومؤسس مذهبكم، ومن تدعون أنكم أتباعه وعلى طريقته فقد أبان الله له الجادة وهداه إلى الحق، وترك ما أنتم عليه الآن إلى مذهب أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل قائل، فدونكم إن شئتم كتبه الثلاثة الأخيرة لتروا فيها رجوعه إلى الحق وتمسكه به.
قال رحمه الله وغفر له في كتابه (الإبانة): "فإن قال لنا قائل قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحلولية والرافضة والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون. قيل له: قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها التمسك بكتاب ربنا عز وجل وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون ولمن خالف قوله مجانبون لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق ودفع به الضلال وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم وجليل معظم وكبير مفخم وعلى جميع أئمة المسلمين"(2).
فيقال للأشاعرة هذا إمامكم المقدم وشيخكم المبجل يسجل لكم رجوعه إلى الحق وتمسكه به في ورق مسطر وكلام محرر فهلا بكلام إمامكم اقتديتم وبما هدي إليه اهتديتم.
المصدر:
زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه لعبد الرزاق البدر – ص 362
(1)((الفتاوى)) (3/ 179).
(2)
((الإبانة)) (ص52).